شرح العقيدة الطّحاويّة

ابن أبي العزّ الحنفي

شرح العقيدة الطّحاويّة

المؤلف:

ابن أبي العزّ الحنفي


المحقق: الشيخ محمّد ناصر الدين الألباني
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بغداد
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٧٤

قوله : (خلق الخلق بعلمه)

ش : خلق : أي : أوجد وأنشأ وأبدع. ويأتي خلق أيضا بمعنى : قدر. والخلق : مصدر ، وهو هنا بمعنى المخلوق. وقوله : «بعلمه» في محل نصب على الحال ، أي : خلقهم عالما بهم ، قال تعالى : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) الملك : ١٤. وقال تعالى : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ. وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) الانعام : ٥٩ ـ ٦٠. وفي ذلك رد على المعتزلة.

قال الامام عبد العزيز المكي صاحب الامام الشافعي رحمه‌الله وجليسه ، في كتاب «الحيدة» ، (٨٥) ، الذي حكى فيه مناظرته بشرا المريسي عند المأمون حين سأله عن علمه تعالى : فقال بشر : أقول : لا يجهل ، فجعل يكرر السؤال عن صفة العلم ، تقريرا له ، وبشر يقول : لا يجهل ، ولا يعترف له أنه عالم بعلم ، فقال الامام عبد العزيز : نفي الجهل لا يكون صفة مدح ، فان هذه الاسطوانة لا تجهل ، وقد مدح الله تعالى الأنبياء والملائكة والمؤمنين بالعلم ، لا بنفي الجهل. فمن أثبت العلم فقد نفى الجهل ، ومن نفى الجهل لم يثبت العلم ، وعلى الخلق أن يثبتوا ما أثبته الله تعالى لنفسه ، وينفوا ما نفاه ، ويمسكوا عما أمسك عنه.

والدليل العقلي على علمه تعالى : أنه يستحيل ايجاده الاشياء مع الجهل ، ولأن ايجاده الاشياء بإرادته ، والإرادة تستلزم تصور المراد ، وتصور المراد : هو العلم بالمراد ، فكان الايجاد مستلزما للارادة ، والإرادة مستلزمة للعلم ، فالايجاد مستلزم للعلم. ولان المخلوقات فيها من الاحكام والاتقان ما يستلزم علم الفاعل لها ، لأن الفعل المحكم المتقن يمتنع صدوره عن غير علم (٨٦) ، ولأن من المخلوقات ما هو عالم ، والعلم صفة كمال ، ويمتنع أن لا يكون الخالق عالما. وهذا له طريقان :

أحدهما : أن يقال : نحن نعلم بالضرورة أن الخالق أكمل من المخلوق ، وأن

__________________

(٨٥) قلت : في ثبوت نسبة الكتاب للمكي نظر ، راجع (الحاشية : ١٤٢).

(٨٦) في الاصل : العالم.

١٤١

الواجب أكمل من الممكن ، ونعلم ضرورة أنا لو فرضنا شيئين ، أحدهما عالم والآخر غير عالم ـ كان العالم أكمل ، فلو لم يكن الخالق عالما لزم أن يكون الممكن أكمل منه ، وهو ممتنع. الثاني : أن يقال : كل علم في الممكنات ، التي هي المخلوقات ـ فهو منه ، ومن الممتنع أن يكون فاعل الكمال ومبدعه عاريا منه بل هو أحق به. والله تعالى له المثل الاعلى ، ولا يستوي هو والمخلوقات ، لا في قياس تمثيلي ، ولا في قياس شمولي ، بل كل ما ثبت للمخلوق من كمال فالخالق به أحق ، وكل نقص تنزه عنه مخلوق ما فتنزيه الخالق عنه أولى.

قوله : (وقدر لهم اقدارا).

ش : قال تعالى : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً)

وقال تعالى : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) القمر : ٤٩. وقال تعالى : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً قْدُوراً) الاحزاب : ٣٨. وقال تعالى : (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) الاعلى : ٢ ـ ٣. وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «قدّر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والارض بخمسين ألف سنة ، وكان عرشه على الماء» (٨٧).

قوله : (وضرب لهم آجالا)

ش : يعني : أن الله سبحانه وتعالى قدر آجال الخلائق ، بحيث اذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون. قال تعالى : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) النحل : ٦١. وقال تعالى : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً) آل عمران : ١٤٥. وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود قال : «قالت أم حبيبة زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورضي الله عنها : اللهم أمتعني بزوجي رسول الله ، وبأبي سفيان ، وبأخي معاوية ، قال : فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قد سألت الله لآجال مضروبة ، وأيام معدودة ، وأرزاق مقسومة ، لن يفعل شيئا قبل أجله ، ولن يؤخر شيئا عن أجله ، ولو كنت سألت الله أن يعيذك من عذاب في النار

__________________

(٨٧) صحيح بسند حديث (رقم ٨٠)

.

١٤٢

وعذاب في القبر ـ : كان خيرا وأفضل» (٨٨) فالمقتول ميت بأجله ، فعلم الله تعالى وقدّر وقضى أن هذا يموت بسبب المرض ، وهذا بسبب القتل ، وهذا بسبب الهدم ، وهذا بسبب الحرق ، وهذا بالغرق ، الى غير ذلك من الاسباب. والله سبحانه خلق الموت والحياة ، وخلق سبب الموت والحياة. وعند المعتزلة : المقتول مقطوع عليه أجله ، ولو لم يقتل لعاش الى أجله فكأن له أجلان وهذا؟؟ ، لأنه لا يليق أن ينسب الى الله تعالى أنه جعل له أجلا يعلم أنه لا يعيش إليه البتة ، أو يجعل أجله أحد الامرين ، كفعل الجاهل بالعواقب ، ووجوب القصاص والضمان على القاتل ، لارتكابه المنهي عنه ومباشرته السبب المحظور. وعلى هذا يخرج قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صلة الرحم تزيد في العمر» (٨٩) أي : سبب طول العمر. وقد قدّر الله أن هذا يصل رحمه فيعيش بهذا السبب الى هذه الغاية ، ولو لا ذلك السبب لم يصل الى هذه الغاية ، ولكن قدر هذا السبب وقضاه ، وكذلك قدر أن هذا يقطع رحمه فيعيش الى كذا ، كما قلنا في القتل وعدمه.

فإن قيل : هل يلزم من تأثير صلة الرحم في زيادة العمر ونقصانه تأثير الدعاء في ذلك أم لا؟

فالجواب : أن ذلك غير لازم ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأم حبيبة رضي الله عنها : «قد سألت الله تعالى لآجال مضروبة» الحديث ، كما تقدم. فعلم أن الاعمار مقدرة ، لم يشرع الدعاء بتغيرها ، بخلاف النجاة من عذاب الآخرة. فان الدعاء مشروع له نافع فيه ، ألا ترى أن الدعاء بتغيير العمر لما تضمن النفع الاخروي ـ شرع كما في الدعاء رواه النسائي من حديث عمار بن ياسر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما كانت الحياة خيرا لي ، وتوفني اذا كانت

__________________

(٨٨) صحيح ، وهو عند مسلم في «القدر» واحمد في المسند (١ / ٣٩٠ ، ٤١٣ ، ٤٣٣ ، ٤٤٥ ، ٤٤٦ ،) وابن أبي عاصم في «السنة» رقم (٢٦٢ ـ ٢٦٣).

(٨٩) صحيح ، وهو قطعة من حديث رواه أبو يعلى عن أنس بسند ضعيف ، لكن معناه صحيح ، يشهد له احاديث كثيرة منها حديث انس أيضا مرفوعا : «من أحب أن يبسط له في رزقه ويسأله في أثره ، فليصل رحمه». متفق عليه.

١٤٣

الوفاة خيرا لي» (٩٠) ، الى آخر الدعاء. ويؤيد هذا ما رواه الحاكم في صحيحه (٩١) من حديث ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يرد القدر الا الدعاء ، ولا يزيد في العمر الا البر ، وان الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه» (٩٢). وفي الحديث رد على من يظن أن النذر سبب في دفع البلاء وحصول النعماء ، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه نهى عن النذر ، وقال : «انه لا يأتي بخير ، وانما يستخرج به من البخيل» (٩٣).

واعلم أن الدعاء يكون مشروعا نافعا في بعض الاشياء دون بعض ، وكذلك هو. ولهذا لا يجيب الله المعتدين في الدعاء. وكان الامام أحمد رحمه‌الله يكره أن يدعى له بطول العمر ، ويقول : هذا أمر قد فرغ منه.

وأما قوله تعالى : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ) فاطر : ١١ ، فقد قيل في الضمير المذكور في قوله تعالى : (مِنْ عُمُرِهِ) أنه بمنزلة قولهم : عندي درهم ونصفه ، أي : ونصف درهم آخر ، فيكون المعنى : ولا ينقص من عمر معمر آخر ، وقيل : الزيادة والنقصان في الصحف التي في أيدي الملائكة ، وحمل قوله تعالى : (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) الرعد : ٣٨ ـ ٣٩ ، [على أن المحو والاثبات من الصحف التي في أيدي الملائكة ، وأن قوله : (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ)]. اللوح المحفوظ. ويدل على هذا

__________________

(٩٠) صحيح ، وقد تقدم بتمامه (برقم ٣٨).

(٩١) اطلاق لفظة الصحيح على المستدرك فيه تسامح ظاهر ، لكثرة الاحاديث الضعيفة والمنكرة الواقعة فيه ، بل وبعض الموضوعات. ولذلك تجد الحذاق من المحدثين يقولون : رواه الحاكم في «المستدرك».

(٩٢) حسن ، دون قوله : «وان الرجل ليحرم ...» وقد صححه الحاكم ووافقه الذهبي ، وفيه راو مجهول ، لكن له شاهد دون الزيادة المذكورة فالحديث حسن بدونها ، وقد تكلمت على الحديث في «الاحاديث الصحيحة» رقم (١٥٤) طبع المكتب الاسلامي.

(٩٣) أخرجاه من حديث ابن عمر ، ورواه مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ «لا تنذروا فإن النذر لا يغني من القدر شيئا وانما يستخرج به من البخيل». وقد خرجته في «كتاب السنة» لابن ابي عاصم برقم (٣١٢ ـ ٣١٤) و «الإرواء» (٢٥٨٥).

١٤٤

الوجه سياق الآية ، وهو قوله : (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) ، ثم قال : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) الرعد : ٣٩ ، أي : من ذلك الكتاب ، (وَعِنْدَهُ ، أُمُّ الْكِتابِ) ، أي : أصله ، وهو اللوح المحفوظ. وقيل : يمحو الله ما يشاء من الشرائع وينسخه ويثبت ما يشاء فلا ينسخه ، والسياق أدل على هذا الوجه من الوجه الاول ، وهو قوله تعالى : (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ). فأخبر تعالى أن الرسول لا يأتي بالآيات من قبل نفسه ، بل من عند الله ، ثم قال : (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) الرعد : ٣٨ ـ ٣٩ ، أي : أن الشرائع لها أجل وغاية تنتهي إليها ، ثم تنسخ بالشريعة الاخرى ، فينسخ الله ما يشاء من الشرائع عند انقضاء الاجل ، ويثبت ما يشاء. وفي الآية أقوال أخرى ، والله أعلم بالصواب.

قوله : (ولم يخف عليه شيء قبل أن يخلقهم ، وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم).

ش : فإنه سبحانه يعلم ما كان وما يكون [و] ما لم يكن أن لو كان كيف يكون ، كما قال تعالى : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) الانعام : ٢٨. وان كان يعلم أنهم لا يردون ، ولكن أخبر أنهم لو ردوا لعادوا ، كما قال تعالى : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) الانفال : ٢٣. وفي ذلك رد على الرافضة والقدرية ، والذين قالوا : انه لا يعلم الشيء قبل أن يخلقه ويوجده. وهي من فروع مسألة القدر ، وسيأتي لها زيادة بيان ، ان شاء الله تعالى.

قوله : (وأمرهم بطاعته ، ونهاهم عن معصيته).

ش : ذكر الشيخ الامر والنهي ، بعد ذكره الخلق والقدر ، اشارة الى أن الله تعالى خلق الخلق لعبادته ، كما قال تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الذاريات : ٥٦ ، وقال تعالى : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) الملك : ٢.

قوله : (وكل شيء يجري بتقديره ومشيئته ، ومشيئته تنفذ ، لا مشيئته للعباد ، الا ما شاء لهم ، فما شاء لهم كان ، وما لم يشأ لم يكن)

ش : قال تعالى : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً)

١٤٥

الدهر : ٣ وقال : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) التكوير : ٢٩. وقال تعالى : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) الانعام : ١١١. وقال تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ) الانعام : ١١٢. وقال تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) يونس : ٩٩ وقال تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) الانعام : ١٢٥. وقال تعالى حكاية [عن] نوح عليه‌السلام اذ قال لقومه : (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) هود : ٣٤. وقال تعالى : (مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) الانعام : ٣٩. الى غير ذلك من الادلة على أنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. وكيف [يكون] في ملكه ما لا يشاء! ومن أضل سبيلا وأكفر ممن يزعم أن الله شاء الايمان من الكافر والكافر شاء الكفر فغلبت مشيئة الكافر مشيئة الله!! تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.

فإن قيل : يشكل على هذا قوله تعالى : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا) ، الانعام : ١٤٨ ، الآية. وقوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) النحل : ٣٥ ، الآية. وقوله تعالى : (وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) الزخرف : ٢٠. فقد ذمهم الله تعالى حيث جعلوا الشرك كائنا منهم بمشيئة الله ، وكذلك ذم ابليس حيث أضاف الاغواء الى الله تعالى ، اذ قال : (رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) الحجر : ٣٩.

قيل : قد أجيب على هذا بأجوبة ، من أحسنها : أنه أنكر عليهم ذلك لانهم احتجوا بمشيئته على رضاه ومحبته ، وقالوا : لو [كره] ذلك وسخطه لما شاءه ، فجعلوا مشيئته دليل رضاه ، فرد الله عليهم ذلك. أو أنه أنكر عليهم اعتقادهم أن مشيئة الله دليل على أمره به. أو أنه أنكر عليهم معارضته شرعه وأمره الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه بقضائه وقدره ، فجعلوا المشيئة العامة دافعة للامر ، فلم يذكروا المشيئة على جهة التوحيد ، وانما ذكروها معارضين بها لأمره ، دافعين بها لشرعه ،

١٤٦

كفعل الزنادقة ، والجهال إذا أمروا أو نهوا احتجوا بالقدر. وقد احتج سارق على عمر رضي الله عنه بالقدر ، فقال : وأنا أقطع يدك بقضاء الله وقدره. يشهد لذلك قوله تعالى في الآية : (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) الانعام : ١٤٨. فعلم أن مرادهم التكذيب ، فهو من قبل الفعل ، من أين له أن الله لم يقدره؟ أطّلع الغيب؟

فان قيل : فما يقولون في احتجاج آدم على موسى عليهما‌السلام بالقدر ، اذ قال له : أتلومني على أمر قد كتبه الله عليّ قبل أن أخلق بأربعين عاما؟ وشهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن آدم حج موسى ، أي : غلب عليه بالحجة؟

قيل : تتلقاه بالقبول والسمع والطاعة ، لصحته عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا تتلقاه بالرد والتكذيب لرواية ، كما فعلت القدرية ، ولا بالتأويلات الباردة. بل الصحيح أن آدم لم يحتجّ بالقضاء والقدر على الذنب ، وهو كان أعلم بربه وذنبه ، بل آحاد بنيه من المؤمنين لا يحتجّ بالقدر ، فإنه باطل. وموسى عليه‌السلام كان أعلم بأبيه وبذنبه [من] أن يلوم آدم على ذنب قد تاب منه وتاب الله عليه واجتباه وهداه ، وانما وقع اللوم على المصيبة التي أخرجت أولاده من الجنة ، فاحتج آدم بالقدر على المصيبة ، لا على الخطيئة ، فان القدر يحتج به عند المصائب ، لا عند المعايب. وهذا المعنى أحسن ما قيل في الحديث. فما قدّر من المصائب يجب الاستسلام له ، فإنه من تمام الرضى بالله ربّا ، وأما الذنوب فليس للعبد أن يذنب ، واذا أذنب فعليه أن يستغفر ويتوب. فيتوب من المعايب ، ويصبر على المصائب. قال تعالى : (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) المؤمن : ٥٥. وقال تعالى : (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) آل عمران : ١٢٠.

وأما قول ابليس : (رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي) ، انما ذم على احتجاجه بالقدر ، لا على اعترافه بالمقدر واثباته له. ألم تسمع قول نوح عليه‌السلام : (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) هود : ٣٤. ولقد أحسن القائل :

فما شئت كان [و] إن لم أشأ

وما شئت إن لم تشأ لم يكن

وعن وهب بن منبه ، أنه قال : نظرت في القدر فتحيرت ، ثم نظرت فيه

١٤٧

فتحيرت ، ووجدت أعلم الناس بالقدر أكفّهم عنه ، وأجهل الناس بالقدر أنطقهم به.

قوله : (يهدي من يشاء ، ويعصم ويعافي ، فضلا. ويضل من يشاء ، ويخذل ويبتلي ، عدلا).

ش : هذا رد على المعتزلة في قولهم بوجوب فعل الاصلح للعبد على الله ، وهي مسألة الهدى والضلال. قالت المعتزلة : الهدى من الله : بيان طريق الصواب ، والاضلال : تسمية العبد ضالا ، وحكمه تعالى على العبد بالضلال عند خلق العبد الضلال في نفسه. وهذا مبني على أصلهم الفاسد : أن أفعال العباد مخلوقة لهم. والدليل على ما قلناه قوله تعالى : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) القصص : ٥٦. ولو كان الهدى بيان الطريق ـ لما صح هذا النفي عن نبيه ، لانه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين الطريق لمن أحب وأبغض. وقوله تعالى : (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) السجدة : ١٣. (يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) المدثر : ٣١. ولو كان الهدى من الله البيان ، وهو عام في كل نفس ـ لما صح التقييد بالمشيئة. وكذلك قوله تعالى : (وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) الصافات : ٥٧. وقوله ؛ (مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) الانعام : ٣٩.

قوله : (وكلهم يتقلبون في مشيئته ، بين فضله وعدله).

ش : فانهم كما قال تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) التغابن : ٢. فمن هداه الى الايمان فبفضله ، وله الحمد ، ومن أضله فبعدله ، وله الحمد. وسيأتي لهذا المعنى زيادة إيضاح ، ان شاء الله تعالى ، فان الشيخ رحمه‌الله لم يجمع الكلام في القدر في مكان واحد ، بل فرقه ، فأتيت به على ترتيبه.

قوله : (وهو متعال عن الاضداد والانداد).

ش : الضد : المخالف ، والنّد : المثل. فهو سبحانه لا معارض له ، بل ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، ولا مثل له ، كما قال تعالى : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) الاخلاص : ٤. ويشير الشيخ رحمه‌الله ـ بنفي الضد والند ـ الى الرد على المعتزلة ، في زعمهم أن العبد يخلق فعله.

١٤٨

قوله : (لا راد لقضائه ، ولا معقب لحكمه ، ولا غالب لأمره).

ش : أي : لا يرد قضاء الله راد ، ولا يعقب ، أي لا يؤخر حكمه ، مؤخر ، ولا يغلب أمره غالب ، بل هو الله الواحد القهار.

قوله : (آمنا بذلك كله ، وأيقنا أن كلا من عنده)

ش : أما الايمان فسيأتي الكلام عليه ان شاء الله تعالى. والايقان : الاستقرار ، من قر الماء في الحوض اذا استقر. والتنوين في «كلا» بدل الاضافة (٩٤) ، أي : كل كائن محدث من عند الله ، أي : بقضائه وقدره [وارادته] ومشيئته وتكوينه. وسيأتي الكلام على ذلك في موضعه ، ان شاء الله تعالى.

قوله : (وإن محمدا عبده المصطفى ، ونبيه المجتبى ، ورسوله المرتضى).

ش : الاصطفاء والاجتباء والارتضاء : متقارب المعنى. واعلم أن كمال المخلوق في تحقيق عبوديته لله تعالى. وكلما ازداد العبد تحقيقا للعبودية ازداد كماله وعلت درجته ومن توهم أن المخلوق يخرج عن العبودية بوجه من الوجوه ، وأن الخروج عنها أكمل ، فهو [من] أجهل الخلق وأضلهم ، قال تعالى : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) الأنبياء : ٢٦. الى غير ذلك من الآيات. وذكر الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم باسم العبد في أشرف المقامات ، فقال في ذكر الاسراء : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ) الاسراء : ١. وقال تعالى : (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ) الجن : ١٩. وقال تعالى : (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) النجم : ١٠. وقال تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) البقرة : ٢٣. وبذلك استحق التقديم على الناس في الدنيا والآخرة. ولذلك يقول المسيح عليه‌السلام يوم القيامة ، اذا طلبوا منه الشفاعة بعد الأنبياء عليهم‌السلام ـ : «اذهبوا الى محمد ، عبد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر» (٩٥). فحصلت له تلك المرتبة بتكميل عبوديته لله تعالى.

__________________

(٩٤) في المطبوعة : اضافي.

(٩٥) متفق عليه وهو قطعة من حديث سيأتي بطوله في الكتاب (رقم ٢١٠)

.

١٤٩

وقوله : «وإن محمدا» بكسر الهمزة ، عطفا على قوله : «ان الله واحد لا شريك له». لأن الكل معمول القول ، أعني : قوله «نقول في توحيد الله».

والطريقة المشهورة عند أهل الكلام والنظر ، تقرير نبوة الأنبياء بالمعجزات ، لكن كثير منهم لا يعرف نبوّة الأنبياء الا بالمعجزات ، وقرروا (٩٦) ذلك بطرق مضطربة ، والتزم كثير منهم انكار خرق العادات لغير الأنبياء ، حتى انكروا كرامات الاولياء والسحر ، ونحو ذلك.

ولا ريب أن المعجزات دليل صحيح ، لكن الدليل غير محصور في المعجزات ، فان النبوة انما يدعيها أصدق الصادقين أو أكذب الكاذبين ، ولا يلتبس هذا بهذا الا على أجهل الجاهلين. بل قرائن أحوالهما تعرب عنهما ، وتعرّف بهما والتمييز (٩٧) بين الصادق والكاذب له طرق كثيرة فيما دون دعوى النبوة ، فكيف بدعوة النبوة؟ وما أحسن ما قال حسان رضي الله عنه :

لو لم يكن فيه آيات مبيّنة

كانت بديهته تأتيك بالخبر

وما من أحد ادعى النبوة من الكذابين الا وقد ظهر عليه من الجهل والكذب والفجور واستحواذ الشياطين عليه ـ ما ظهر لمن له أدنى تمييز. فان الرسول لا بد أن يخبر الناس بأمور ويأمرهم بأمور ، ولا بد أن يفعل أمورا [يبين بها صدقه]. والكاذب يظهر في نفس ما يأمر به ويخبر عنه وما يفعله ما يبين به كذبه من وجوه كثيرة. والصادق ضده. بل كل شخصين ادعيا أمرا : أحدهما صادق والآخر كاذب ـ لا بد أن يظهر صدق هذا وكذب هذا ولو بعد مدة ، اذ الصدق مستلزم للبر ، والكذب مستلزم للفجور ، كما في الصحيحين عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم انه قال : «عليكم بالصدق ، فإن الصدق يهدي الى البر ، [وان] البر يهدي الى الجنة ، وما يزال الرجل يصدق [ويتحرى الصدق] ، حتى يكتب عند الله صديقا ، واياكم والكذب فان الكذب يهدي الى الفجور ، وان الفجور يهدي الى النار ، وما يزال

__________________

(٩٦) في المطبوعة : وقد روي. وهو خطأ.

(٩٧) في الاصل : التميز.

١٥٠

الرجل يكذب ويتحرى الكذب ، حتى يكتب عند الله كذابا» (٩٨). ولهذا قال تعالى : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ. وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ) الشعراء : ٢٢١ ـ ٢٢٦. فالكهان ونحوهم ، وان كانوا أحيانا يخبرون بشيء من المغيبات ، ويكون صدقا ـ فمعهم من الكذب والفجور ما يبين (٩٩) ان الذي يخبرون به ليس عن ملك ، وليسوا بأنبياء (١٠٠) ولهذا لما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لابن صيّاد : «قد خبأت لك خبأ ، فقال : [هو] الدّخّ» ـ قال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اخسأ ، فلن تعدو قدرك» (١٠١) يعني : إنما أنت كاهن. وقد قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يأتيني صادق وكاذب» (١٠٢). وقال : «أرى عرشا على الماء» (١٠٣) ، وذلك هو عرش الشيطان وبين ان الشعراء يتبعهم الغاوون ، والغاوي : الذي يتبع هواه وشهوته ، وان كان ذلك مضرا له في العاقبة.

__________________

(٩٨) قال الشيخ أحمد شاكر : الزيادتان ثابتتان في رواية مسلم ٢ : ٢٨٩ ، وكان في المطبوعة «ولا يزال» في الموضعين ، وأثبتنا ما في مسلم أيضا ، لأن الرواية التي نقلها المؤلف أقرب الالفاظ الى رواية مسلم ، من طريق وكيع وأبي معاوية ، كلاهما عن الاعمش. وكذلك رواه احمد : ٤١٠٨ ، عن وكيع وأبي معاوية ، بنحوه. وقد تساهل المؤلف في نسبة الحديث بهذا اللفظ للصحيحين. لان البخاري انما روى بعضه بنحو معناه مختصرا. من طريق آخر. ولعله تبع في ذلك المنذري في الترغيب والترهيب ٤ : ٢٦ ـ ٢٧ ، فقد تساهل أيضا ونسبه للبخاري. انظر فتح الباري ١٠ : ٤٢٢ ـ ٤٢٣.

قال ناصر الدين : صحيح ، وهو في «الادب» من صحيح البخاري مختصرا ، كما ذكر الشيخ شاكر رحمه‌الله تعالى ، لكنه في «الادب المفرد» له رقم (٣٨٦) أتم منه.

(٩٩) في الاصل : بين.

(١٠٠) الجملة في الاصل : يخبرونه وليس عن ملك وامسوا بأنبياء.

(١٠١) صحيح ، وهو من حديث ابن عمر اخرجاه في الصحيحين.

(١٠٢) صحيح ، وهو قطعة من حديث ابن عمر ، الذي قبله.

(١٠٣) صحيح ، أخرجه مسلم (٨ / ١٩٠) من حديث ابي سعيد الخدري ، وفيه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له : «ترى عرش ابليس على البحر».

١٥١

فمن عرف الرسول وصدقه ووفاءه ومطابقة قوله لعمله (١٠٤) ـ علم علما يقينا أنه ليس بشاعر ولا كاهن.

والناس يميزون بين الصادق والكاذب بأنواع من الادلة ، حتى في المدعي للصناعات والمقالات ، كمن يدعي الفلاحة والنساجة والكتابة ، وعلم النحو والطب والفقه وغير ذلك. والنبوة مشتملة على علوم وأعمال لا بد أن يتصف الرسول بها ، وهي أشرف العلوم وأشرف الاعمال. فكيف يشتبه الصادق فيها بالكاذب؟ ولا ريب أن المحققين على أن خبر الواحد والاثنين والثلاثة ـ : قد يقترن به من القرائن ما يحصل معه العلم ضروري ، كما يعرف الرجل رضى الرجل وحبه [وبغضه] وفرحه وحزنه وغير ذلك مما في نفسه ، بأمور تظهر على وجهه ، قد لا يمكن التعبير عنها ، كما قال تعالى : (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ) محمد : ٣٠ ثم قال : (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) محمد : ٣٠. وقد قيل : ما أسرّ أحد سريرة الا أظهرها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه. فاذا كان صدق المخبر وكذبه يعلم بما يقترن من القرائن ، فكيف بدعوى المدعي أنه رسول الله ، كيف يخفى صدق هذا من كذبه؟ وكيف لا يتميز الصادق في ذلك من الكاذب بوجوه من الادلة؟

ولهذا لما كانت خديجة رضي الله عنها تعلم من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه الصادق البار ، قال لها لما جاءه الوحي : «إني قد خشيت على نفسي» (١٠٥) ،

فقالت : كلا ـ والله لا يخزيك الله ، إنك لتصل الرحم ، وتصدق الحديث ، وتحمل الكل ، وتقري الضيف ، وتكسب المعدوم ، وتعين على نوائب

__________________

(١٠٤) في الاصل : العلم والتصحيح من مطبوعة دار المعارف.

(١٠٥) صحيح ، وهو قطعة من حديث بدء الوحي الطويل في أول «صحيح البخاري» (رقم ٣ ـ مختصر البخاري طبع المكتب الاسلامي) ، وكان في الاصل وفي مطبوعة مكة «على عقلي»! وقد قال الشيخ أحمد شاكر في ذلك : «هو خطأ فاحش ، لعله من الناسخ. بل هو كلام غير معقول. وحاشا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول هذا. بل ان بعض العلماء فسر خشيته على نفسه ، في هذا الحديث ، بأنه خشي الجنون! واستنكره الحافظ في الفتح ١ : ٢٣ ، قال : «وأبطله أبو بكر ابن العربي ، وحق له أن يبطل. ا. ه ـ».

١٥٢

الحق» (١٠٦). فهو لم يخف من تعمد الكذب ، فهو يعلم من نفسه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه لم يكذب ، وإنما خاف أن يكون [قد] عرض له عارض سوء ، وهو المقام الثاني ، فذكرت خديجة ما ينفي هذا ، وهو ما كان مجبولا عليه من مكارم الاخلاق ومحاسن الشيم ، وقد علم من سنة الله أن من جبله على الاخلاق المحمودة ونزهه عن الاخلاق المذمومة ـ : فانه لا يخزيه.

وكذلك قال النجاشي لما استخبرهم عما يخبر به واستقرأهم القرآن فقرءوا عليه : «إن هذا والذي جاء به موسى عليه‌السلام ليخرج من مشكاة واحدة» (١٠٧). وكذلك ورقة ابن نوفل ، لما أخبره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما رآه ، وكان ورقة [قد] تنصّر ، وكان بكتب الإنجيل بالعربية ، فقالت له خديجة : «أي : عم ، اسمع من ابن أخيك ما يقول ، فأخبره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما رأى فقال : هذا [هو] الناموس الذي كان يأتي موسى» (١٠٨).

وكذلك هرقل ملك الروم ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما كتب إليه كتابا يدعوه فيه الى الاسلام ، طلب من كان هناك من العرب ، وكان أبو سفيان قد قدم في طائفة من قريش في تجارة الى الشام ، وسألهم عن أحوال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسأل أبا سفيان ، وأمر الباقين إن كذب أن يكذبوه ، فصاروا بسكوتهم موافقين له في الاخبار ، سألهم : هل كان في آبائه من ملك؟ فقالوا : لا ، قال : هل قال هذا القول أحد قبله؟ فقالوا : لا ، وسألهم : أهو ذو نسب فيكم؟ فقالوا : نعم ، وسألهم : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فقالوا : لا ، ما جربنا عليه كذبا ، وسألهم : هل اتبعه ضعفاء الناس أم أشرافهم؟ فذكروا أن الضعفاء اتبعوه؟ وسألهم : هل يزيدون أم ينقصون؟ فذكروا أنهم يزيدون ، وسألهم : هل يرجع

__________________

(١٠٦) اخرجه البخاري من حديث عائشة ، وهو طرف من الحديث الذي قبله.

(١٠٧) حسن ، وهو طرف من حديث أم سلمة في هجرتها الى الحبشة الهجرة الأولى. أخرجه ابن إسحاق في «السيرة» (١ / ٣٥٧ ـ ٣٦٣ ابن هشام) وعنه أحمد (١ / ٢٠١ ـ ٢٠٣) ؛ وسنده حسن.

(١٠٨) أخرجه البخاري ، وهو من تمام حديث عائشة الذي قبله.

١٥٣

أحد منهم عن دينه سخطة له بعد أن يدخل فيه؟ فقالوا : لا ، وسألهم : هل قاتلتموه؟ قالوا : نعم ، وسألهم عن الحرب بينهم وبينه؟ فقالوا : يدال علينا مرة وندال عليه أخرى ، وسألهم : هل يغدر؟ فذكروا أنه لا يغدر ، وسألهم : بما ذا يأمركم؟ فقالوا : يأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا ، وينهانا عما كان يعبد آباؤنا ، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة. وهذه أكثر من عشر مسائل ، ثم بين لهم ما في هذه المسائل من الادلة ، فقال : سألتكم هل كان في آبائه من ملك؟ فقلتم : لا ، قلت : لو كان في آبائه [من] ملك لقلت : رجل يطلب ملك أبيه ، وسألتكم هل قال هذا القول [فيكم] أحد قبله؟ فقلتم : لا ، فقلت : لو قال هذا القول أحد [قبله] لقلت : رجل ائتم بقول قيل قبله ، وسألتكم هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فقلتم : لا ، فقلت ؛ قد علمت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على الله تعالى ، وسألتكم أضعفاء الناس يتبعونه أم أشرافهم؟ فقلتم : ضعفاؤهم وهم أتباع الرسل ، يعني في أول أمرهم ، ثم قال : وسألتكم هل يزيدون أم ينقصون؟ فقلتم ؛ بل يزيدون ، وكذلك الايمان حتى يتم ، وسألتكم هل يرتد أحد منهم عن دينه سخطة له بعد أن يدخل فيه؟ فقلتم : لا ، وكذلك الايمان ، اذا خالطت بشاشة القلوب لا يسخطه أحد (١٠٩).

وهذا من أعظم علامات الصدق والحق ، فان الكذب والباطل لا بد أن ينكشف في آخر الامر ، فيرجع عنه أصحابه ، ويمتنع عنه من لم يدخل فيه ، والكذب لا يروج الا قليلا ثم ينكشف.

وسألتكم كيف الحرب بينكم وبينه؟ فقلتم : انها دول ، وكذلك الرسل تبتلى وتكون العاقبة لها ، قال : وسألتكم هل يغدر؟ فقلتم : لا ، وكذلك الرسل لا تغدر ، وهو لما كان عنده من علمه بعادة الرسل وسنة الله فيهم أنه تارة ينصرهم وتارة يبتليهم وأنهم لا يغدرون ـ علم أن هذه علامات الرسل ، وأن سنة الله في الأنبياء

__________________

(١٠٩) البخاري من حديث ابي سفيان بطوله ، وله عنده تتمة.

١٥٤

والمؤمنين أن يبتليهم بالسراء والضراء ، لينالوا درجة الشكر والصبر (١١٠).

كما في «الصحيح» عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «والذي نفسي بيده ، لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خير له ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ، إن أصابته سراء شكر ، فكان خيرا له ، وان أصابته ضراء صبر ، فكان خيرا له» (١١١).

والله تعالى قد بين في القرآن ما في إدالة العدو عليهم يوم أحد من الحكمة فقال : (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) آل عمران : ١٣٩ ، الآيات. وقال تعالى : (الم. أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) العنكبوت : ١ ـ ٢ ، الآيات. الى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على سنته في خلقه وحكمته التي بهرت العقول.

قال : وسألتكم عما يأمر به؟ فذكرتم أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف والصلة ، وينهاكم عما كان يعبد آباؤكم ، وهذه صفة نبي ، وقد كنت أعلم أن نبيا يبعث ، ولم أكن أظنه منكم ، ولوددت أني أخلص إليه ، ولو لا ما أنا فيه من الملك لذهبت إليه ، وإن يكن ما تقول حقّا فسيملك موضع قدميّ هاتين. وكان المخاطب بذلك أبو سفيان بن حرب ، وهو حينئذ كافر من أشد الناس بغضا وعداوة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال أبو سفيان بن حرب : فقلت (١١٢) لأصحابي ونحن خروج ، لقد أمر أمر ابن أبي كبشة ، إنه ليعظمه ملك بني الأصفر ، وما زلت موقنا بأن أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سيظهر ، حتى أدخل الله عليّ الاسلام وأنا كاره.

__________________

(١١٠) في الاصل : البصر.

(١١١) صحيح مسلم (٨ / ٢٢٧) وأحمد (٤ / ٣٣٢ ، ٣٣٣ ، ٦ / ١٥ ، ١٦) بلفظ : «عجبا لأمر المؤمن ، ان أمره كله خير ، وليس ذلك لأحد» ، الحديث والباقي مثله سواء ، وفي رواية لأحمد : «بينما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع أصحابه اذ ضحك فقال : ألا تسألوني مم أضحك؟ قالوا : يا رسول الله ومم تضحك ، قال : عجبت لأمر المؤمن ...» الحديث وسنده صحيح على شرط مسلم وله شاهد مختصر ، خرجته في «الصحيحة» (١٤٧)

(١١٢) في الاصل : قلت.

١٥٥

ومما ينبغي أن يعرف : أن ما يحصل في القلب بمجموع أمور ، قد لا يستقل بعضها به ، بل ما يحصل للانسان ـ من شبع وري (١١٣) وشكر وفرح وغم ـ فأمور مجتمعة ، لا يحصل ببعضها (١١٤) ، لكن ببعضها قد يحصل بعض الأمر (١١٥).

وكذلك العلم بخبر من الاخبار ، فان خبر الواحد يحصّل للقلب نوع ظن ، ثم الآخر يقويه ، الى أن ينتهي الى العلم ، حتى يتزايد ويقوى. وكذلك الادلة على الصدق والكذب ونحو ذلك.

وأيضا : فإن الله سبحانه أبقى في العالم الآثار الدالة على ما فعله بأنبيائه والمؤمنين من الكرامة ، وما فعله بمكذبيهم من العقوبة ، كثبوت الطوفان ، وإغراق فرعون وجنوده ، ولما ذكر سبحانه قصص الأنبياء نبيّا بعد نبي ، في سورة الشعراء ، كقصة موسى وابراهيم ونوح ومن بعده ، يقول في آخر كل قصة : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).

وبالجملة : فالعلم بأنه كان في الارض من يقول إنه رسول الله ، وأن أقواما اتبعوهم ، وأن أقواما خالفوهم ، وأن الله نصر الرسل والمؤمنين ، وجعل العاقبة لهم ، وعاقب أعداءهم ـ : هو من أظهر العلوم المتواترة وأجلاها. ونقل أخبار هذه الامور أظهر وأوضح من نقل أخبار من مضى من الامم من ملوك الفرس وعلماء الطب ، كبقراط وجالينوس وبطليموس وسقراط وأفلاطون وأرسطو وأتباعه.

ونحن اليوم اذا علمنا بالتواتر من أحوال الأنبياء وأوليائهم وأعدائهم ـ علمنا يقينا أنهم كانوا صادقين على الحق من وجوه متعددة : منها : أنهم أخبروا الامم بما سيكون من انتصارهم وخذلان أولئك وبقاء العاقبة لهم ومنها : ما أحدثه الله لهم من نصرهم وإهلاك عدوهم ، إذا عرف الوجه الذي حصل عليه ، ـ كغرق فرعون وغرق قوم نوح وبقية أحوالهم ـ عرف صدق الرسل. ومنها : أن من عرف ما جاءت به الرسل من الشرائع وتفاصيل أحوالها ، تبين له أنهم أعلم الخلق ، وأنه

__________________

(١١٣) في المطبوعة : شفيع ووزير وهو خطأ ، وبهذا تصحح الجملة ويستقيم الكلام.

(١١٤) في الاصل : بعضها.

(١١٥) في الاصل : الامور

.

١٥٦

لا يحصل مثل ذلك من كذاب جاهل ، وأن فيما جاءوا به من المصلحة والرحمة والهدى والخير ودلالة الخلق على ما ينفعهم ومنع ما يضرهم ـ ما يبين أنه لا يصدر إلا عن راحم برّ يقصد غاية الخير والمنفعة للخلق.

ولذكر دلائل نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المعجزات وبسطها موضع آخر ، وقد أفردها الناس بمصنفات ، كالبيهقي وغيره.

بل إنكار رسالته صلى‌الله‌عليه‌وسلم طعن في الرب تبارك وتعالى ، ونسبة له الى الظلم والسفه ، تعالى الله عن ذلك (١١٦) علوّا كبيرا ، بل جحد للرب بالكلية وإنكار.

وبيان ذلك : أنه إذا كان محمد عندهم ليس بنبي صادق ، بل ملك ظالم ، فقد تهيأ له أن يفتري على الله ويتقول عليه ، ويستمر حتى يحلل (١١٧) ويحرم ، ويفرض الفرائض ، ويشرع الشرائع وينسخ الملل ، وبضرب الرقاب ، ويقتل أتباع الرسل [وهم] أهل الحق ، ويسبي نساءهم ويغنم أموالهم وذراريهم وديارهم ، ويتم له ذلك حتى يفتح الارض ، وينسب ذلك كله الى أمر الله له به ومحبته له ، والرب تعالى يشاهده وهو يفعل بأهل الحق ، وهو مستمر في الافتراء عليه ثلاثا وعشرين سنة ، وهو مع ذلك كله يؤيده وينصره ، ويعلي أمره ، ويمكّن له من أسباب النصر الخارجة عن عادة البشر ، وأبلغ من ذلك أنه يجيب دعواته ، ويهلك أعداءه ، ويرفع له ذكره ، هذا وهو عندهم في غاية الكذب والافتراء والظلم ، فانه لا أظلم ممن كذب على الله وأبطل شرائع أنبيائه وبدّلها وقتل أولياءه ، واستمرت نصرته عليهم دائما ، والله تعالى يقره على ذلك ، ولا يأخذ منه باليمين ، ولا يقطع منه الوتين فيلزمهم أن يقولوا : لا صانع للعالم ولا مدبر ، ولو كان له مدبر قدير حكيم ، لأخذ على يديه ولقابله أعظم مقابلة ، وجعله نكالا للصالحين. إذ لا يليق [بالملوك : غير ذلك ، فكيف بملك الملوك وأحكم الحاكمين؟ ولا ريب أن الله [تعالى] قد رفع له ذكره ، وأظهر دعوته والشهادة له بالنبوة على رءوس الاشهاد في سائر البلاد ، ونحن لا ننكر أن كثيرا من الكذابين قام في الوجود ، وظهرت له شوكة ، ولكن لم يتم أمره ، ولم تطل مدته ، بل سلط الله

__________________

(١١٦) في الاصل : ذكر.

(١١٧) في الاصل : يتحلل.

١٥٧

عليه رسله وأتباعهم ، وقطعوا دابره واستأصلوه. هذه سنة الله التي قد خلت من قبل ، حتى إن الكفار يعلمون ذلك. قال تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ. قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ) الطور : ٣٠ ـ ٣١. أفلا تراه يحبر أن كماله وحكمته وقدرته تأبى أن يقر من تقوّل عليه بعض الاقاويل ، لا بد أن يجعله عبرة لعباده كما جرت بذلك سنته في المتقولين (١١٨) عليه. وقال تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) الشورى : ٢٤. وهنا انتهى جواب الشرط ، ثم أخبر خبرا جازما غير معلق : أنه يمحو الباطل ويحق الحق. وقال تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) الانعام : ٩١. فأخبر سبحانه أن من نفى عنه الإرسال والكلام لم يقدره حق قدره.

وقد ذكروا فروقا بين النبي والرسول ، وأحسنها : أن من نبّأه الله بخبر السماء ، إن أمره أن يبلغ غيره ، فهو نبي رسول ، وان لم يأمره أن يبلغ غيره ، فهو نبي وليس برسول. فالرسول أخص من النبي ، فكل رسول نبي ، وليس كل نبي رسولا ، ولكن الرسالة أعم من جهة نفسها ، فالنبوة جزء من الرسالة ، إذ الرسالة تتناول النبوة وغيرها ، بخلاف الرسل ، فإنهم لا يتناولون الأنبياء وغيرهم ، بل الامر بالعكس. فالرسالة أعم من جهة نفسها ، وأخص من جهة أهلها.

وإرسال الرسل من أعظم نعم الله على خلقه ، وخصوصا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما قال [تعالى] : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) آل عمران : ١٦٤. وقال تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) الأنبياء : ١٠٧.

قوله : (وانه خاتم الأنبياء)

ش : قال تعالى : (وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) الاحزاب : ٤٠. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مثلي ومثل الأنبياء كمثل قصر أحسن بناؤه ، وترك منه موضع لبنة ، فطاف

__________________

(١١٨) في الاصل : المقتولين.

١٥٨

به النظار يتعجبون من حسن بنائه ، إلا موضع تلك اللبنة ، لا يعيبون سواها ، فكنت أنا سددت موضع تلك اللبنة ختم بي البنيان وختم بي الرسل» (١١٩) ، أخرجاه في الصحيحين. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن لي أسماء : أنا محمد ، وأنا أحمد ، وأنا الماحي ، يمحو الله بي الكفر ، وأنا الحاشر ، الذي يحشر الناس على قدمي ، وأنا العاقب ، والعاقب الذي ليس بعده نبي» (١٢٠) ، [وفي صحيح مسلم عن ثوبان ، قال : قال رسول الله : «وإنه سيكون في أمتي ثلاثون كذابون ، كلهم يزعم أنه نبي] ، وأنا خاتم النبيين ، لا نبي بعدي» (١٢١) ، الحديث. ولمسلم : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «فضلت على الأنبياء بست : أعطيت جوامع الكلم ، ونصرت بالرعب ، وأحلّت لي الغنائم ، وجعلت لي الارض مسجدا وطهورا ، وأرسلت [الى] الخلق كافة ، وختم بي النبيون» (١٢٢).

قوله : (وامام الاتقياء)

ش : هو صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ الإمام الذي يؤتم به ، أي : يقتدون به. والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم انما بعث للاقتداء به ، لقوله تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) آل عمران : ٣١. وكل من اتبعه واقتدى به فهو من الاتقياء.

قوله : (وسيد المرسلين)

ش : قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ، وأول من ينشق عنه القبر ،

__________________

(١١٩) صحيح ، غير أن عزوه بهذا اللفظ للصحيحين ، وهم ، وانما هو عند ابن عساكر في «تاريخ دمشق» من حديث ابي هريرة كما في «الجامع الكبير» للسيوطي (٢ / ٢٠٣ / ١) ، وأخرجه الشيخان عنه وعن جابر نحوه. وكذا رواه أحمد (٢ / ٢٤٤ ، ٢٥٦ ، ٣١٢ و ٣٩٨ ، ٤١٢ ، ٣ / ٣٦١) ورواه أيضا (٣ / ٩) عن أبي سعيد الخدري.

(١٢٠) اخرجه الشيخان من حديث جبير بن مطعم.

(١٢١) وأخرجه ابو داود أيضا وأحمد وغيرهما.

(١٢٢) صحيح ، وهو من حديث أبي هريرة وأخرجه الترمذي أيضا (١ / ٢٩٣) وقال : «حديث حسن صحيح» وأحمد (٢ / ٤١٢) وله عنده طرق بألفاظ أخرى ، وهو مخرج في «الارواء» (٢٨٥).

١٥٩

وأول شافع ، وأول مشفّع» (١٢٣). رواه مسلم. وفي أول حديث الشفاعة : «أنا سيد الناس يوم القيامة» (١٢٤). [و] روى مسلم والترمذي عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه ، قال ؛ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله اصطفى كنانة من ولد اسماعيل ، واصطفى قريشا من كنانة ، واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم» (١٢٥).

فإن قيل : يشكل على هذا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تفضلوني على موسى ، فإن الناس يصعقون يوم القيامة ، فأكون أول من يفيق ، فأجد موسى باطشا بساق العرش ، فلا أدري هل أفاق قبلي ، أو كان ممن استثنى الله؟» (١٢٦) خرجاه في الصحيحين ، فكيف يجمع بين هذا وبين قوله «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» (١٢٧).

__________________

(١٢٣) مسلم (٧ / ٥٩) وكذا أبو داود (٣ / ٤٦٧) وابن سعد في «الطبقات» (١ / ٢٠) وأحمد (٢ / ٥٤٠) : من حديث ابي هريرة. وله شواهد كثيرة ، خرجت بعضها في «ظلال الجنة» (٧٩٢ ـ ٧٩٦).

(١٢٤) مسلم (١ / ١٢٧) وكذا البخاري (٢ / ٣٣٤ ، ٣ / ٢٧٢) وأحمد (٢ / ٤٣٥) من حديث أبي هريرة أيضا ، والدارمي (١ / ٢٧ ـ ٢٨) وأحمد (٣ / ١٤٤) بسند صحيح عن انس ، وزاد : «ولا فخر» والترمذي عن أبي سعيد وسيأتي.

(١٢٥) وقال الترمذي (٢ / ٢٨١) : «حديث حسن صحيح» واللفظ لمسلم ولفظ الترمذي اتم ، لكن فيه من هو كثير الغلط ، كما بينته في «الصحيحة» (٣٠٢).

(١٢٦) البخاري في «الخصومات» (٢ / ٨٩) و «الأنبياء» (١٢ / ٣٥٩) و «الرقاق» (٤ / ٢٣٤) و «التوحيد» (٤ / ٤٧٤) ومسلم في «الفضائل» (٧ / ١٠١) وكذا أحمد (٢ / ٢٦٤) من حديث ابي سلمة عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ «لا تخيروني» ، وأما لفظ «لا تفضلوني» فانما هو عند الشيخين من طريق الاعرج عنه في سياق آخر يأتي بعد حديث. وفي حديث ابي سلمة : «فاذا موسى باطش بجانب العرش» ، وقال الاعرج «فاذا موسى آخذ بالعرش» ورواية أحمد من طريق الاعرج وأبي سلمة معا «فأجد موسى ممسكا بجانب العرش».

(١٢٧) صحيح ، اخرجه الترمذي (٢ / ٢٨٢) وابن ماجه (٤٣٠٨) واحمد (٣ / ٢) من حديث ابي سعيد الخدري ، وقال الترمذي : «حديث حسن صحيح» ورواه احمد (١ / ٢٨١ ، ٢٩٥) من هذا الوجه عن ابن عباس. وله شاهد من حديث ابي هريرة بلفظ «انا سيد ولد آدم يوم ـ

١٦٠