شرح العقيدة الطّحاويّة

ابن أبي العزّ الحنفي

شرح العقيدة الطّحاويّة

المؤلف:

ابن أبي العزّ الحنفي


المحقق: الشيخ محمّد ناصر الدين الألباني
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بغداد
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٧٤

بعدم النوم والسّنة ، دون خلقه ، فانهم ينامون. وفي ذلك اشارة الى [أن] نفي التشبيه ليس المراد منه نفي الصفات ، بل هو سبحانه موصوف بصفات الكمال ، لكمال ذاته. فالحي بحياة باقية لا يشبه الحي بحياة زائلة ، ولهذا كانت الحياة الدنيا متاعا ولهوا ولعبا وان الدار الآخرة لهي الحيوان ، فالحياة الدنيا كالمنام ، والحياة الآخرة كاليقظة ، ولا يقال : فهذه الحياة الآخرة كاملة ، وهي للمخلوق ـ : لأنا نقول : الحي الذي الحياة من صفات ذاته اللازمة لها ، هو الذي وهب المخلوق تلك الحياة الدائمة ، فهي دائمة بإدامة الله لها ، لا أن الدوام وصف لازم لها لذاتها ، بخلاف حياة الرب تعالى. وكذلك سائر صفاته ، فصفات الخالق كما يليق به ، وصفات المخلوق كما يليق به.

واعلم أن هذين الاسمين ، أعني : الحي القيوم مذكوران في القرآن معا في ثلاث سور كما تقدم ، وهما من أعظم أسماء الله الحسنى ، حتى قيل : انهما الاسم الاعظم ، فانهما يتضمنان اثبات صفات الكمال أكمل تضمن وأصدقه ، ويدل القيوم على معنى الازلية والابدية ما لا يدل عليه لفظ القديم. ويدل أيضا على كونه موجودا بنفسه ، وهو معنى كونه واجب الوجود. والقيوم أبلغ من «القيّام» لان الواو أقوى من الألف ، ويفيد قيامه بنفسه ، باتفاق المفسرين وأهل اللغة ، وهو معلوم بالضرورة. وهل تفيد اقامته لغيره وقيامه عليه؟ فيه قولان ، أصحهما : انه يفيد ذلك. وهو يفيد دوام قيامه [وكل (٥٣) قيامه] ، لما فيه من المبالغة ، فهو سبحانه لا يزول [و] لا يأفل ، فإن الآفل قد زال قطعا ، أي : لا يغيب ولا ينقص ولا يفنى ولا يعدم ، بل هو الدائم الباقي الذي لم يزل ولا يزال ، موصوفا بصفات الكمال. واقترانه بالحي يستلزم سائر صفات الكمال ، ويدل على دوامها وبقائها ، وانتفاء النقص والعدم عنها أزلا وأبدا. ولهذا كان قوله : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) البقرة : ٢٥٥. أعظم آية في القرآن ، كما ثبت ذلك في «الصحيح» عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٥٤). فعلى هذين الاسمين مدار الاسماء الحسنى كلها ، وإليهما ترجع معانيها.

__________________

(٥٣) كذا في النسخ المطبوعة ولعل الاجود : وكمال قيامه.

(٥٤) رواه مسلم (٢ / ١٩٩) عن أبي بن كعب

.

١٢١

فإن الحياة مستلزمة لجميع صفات الكمال ، فلا يتخلف عنها صفة منها إلا لضعف الحياة ، فاذا كانت حياته تعالى أكمل حياة وأتمها ، استلزم اثباتها اثبات كل كمال يضاد نفيه كمال الحياة. وأما القيوم فهو متضمن كمال غناه وكمال قدرته ، فإنه القائم بنفسه ، فلا يحتاج الى غيره بوجه من الوجوه. المقيم لغيره ، فلا قيام لغيره الا بإقامته. فانتظم هذان الاسمان صفات الكمال أتم انتظام.

قوله : (خالق بلا حاجة ، رازق بلا مئونة)

ش : قال تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ. ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ. إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) الذاريات : ٥٦ ـ ٥٨. (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ [الْحَمِيدُ]) فاطر : ١٥. ([وَاللهُ الْغَنِيُ] وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) محمد : ٣٨. (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) الانعام : ١٤. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من حديث أبي ذر رضي الله عنه : «يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وانسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا ، [يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وانسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك في ملكي شيئا] ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وانسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد ، فسألوني ، فأعطيت كل انسان مسألته ـ ما نقص ذلك مما عندي الا كما ينقص (٥٥) المخيط اذا أدخل البحر» الحديث. رواه مسلم (٥٦). وقوله بلا مئونة : بلا ثقل ولا كلفة.

قوله : (مميت بلا مخافة ، باعث بلا مشقة)

ش : الموت صفة وجودية ، خلافا للفلاسفة ومن وافقهم. قال تعالى : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) الملك : ٢. والعدم لا

__________________

(٥٥) نقص يأتي لازما مثل نقص المال ، ومتعديا كما هو هنا ، والمفعول به محذوف ، وتقديره : ينقص المخيط ماء البحر.

(٥٦) «صحيح مسلم» (٨ / ١٧) ، ورواه احمد أيضا (٥ / ١٦٠).

١٢٢

يوصف بكونه مخلوقا. وفي الحديث : أنه «يؤتى بالموت يوم القيامة على صورة كبش أملح ، فيذبح بين الجنة والنار» (٥٧). وهو وان كان عرضا فالله تعالى بقلبه عينا ، كما ورد في العمل الصالح : «أنه يأتي صاحبه في صورة الشاب الحس ، والعمل القبيح على أقبح صورة» (٥٨). وورد في القرآن : «أنه يأتي على صورة الشاب الشاحب اللون» (٥٩) ، الحديث. أي قراءة القارئ. وورد في الاعمال : «أنها توضع في الميزان» (٦٠) ، والاعيان هي التي تقبل الوزن دون الاعراض. وورد في سورة البقرة وآل عمران : أنهما يوم القيامة «يظلّان صاحبهما كأنهما غمامتان أو غيايتان (٦١) أو فرقان (٦٢) من طير صواف (٦٣)» (٦٤). وفي الصحيح : «أن أعمال العباد تصعد الى السماء» (٦٥) وسيأتي الكلام على البعث والنشور. ان شاء الله تعالى.

__________________

(٥٧) متفق عليه من حديث ابي سعيد الخدري وغيره.

(٥٨) يشير الى حديث البراء في عذاب القبر ونعيمه وسؤال الملكين ، وهو حديث طويل سيأتي في آخر الكتاب بتمامه في بحث عذاب القبر ص ٣٩٦.

(٥٩) رواه الدارمي (٢ / ٤٥٠ ـ ٤٥١) وابن ماجه (٣٧٨١) وأحمد (٥ / ٣٤٨ و ٣٥٢) وابن عدي في «الكامل» (٣٥ / ١) والحاكم (١ / ٢٥٦) من حديث بريدة بن الحصيب مرفوعا تلفظ : «يجيء القرآن يوم القيامة كالرجل الشاحب فيقول لصاحبه : انا الذي اسهرت ليلك ، وأظمأت هواجرك». وقال الحاكم : «صحيح على شرط مسلم» وبيض له الذهبي. وقال البوصيري في «الزوائد» : «اسناده صحيح».

قلت : لا ، فإن فيه بشير بن المهاجر ، وهو صدوق لين الحديث ، كما قال الحافظ في «التقريب» فمثله يحتمل حديثه التحسين ، اما التصحيح فهو بعيد.

(٦٠) فيه أحاديث كثيرة ، سيذكرها المؤلف في آخر الكتاب.

(٦١) الغيايتان : أدون من الغمامتان في الكثافة ، وأقرب الى رأس صاحبهما.

(٦٢) الفرقان بكسر الفاء : طائفتان.

(٦٣) أي : باسطات أجنحتها متصلا بعضها ببعض.

(٦٤) رواه مسلم عن أبي إمامة ، والحاكم عن بريدة.

(٦٥) روى البخاري (١ / ٢٠٥ ـ طبع أوروبا) عن رفاعة بن رافع الزرقي قال : كنا نصلي يوما وراء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما رفع رأسه من الركعة قال : سمع الله لمن حمده ، قال رجل وراءه : ربنا

١٢٣

قوله : (ما زال بصفاته قديما قبل خلقه ، لم يزدد بكونهم شيئا لم يكن قبلهم من صفته ، وكما كان بصفاته أزليا ، كذلك لا يزال عليها أبديا.).

ش : أي : أن الله سبحانه وتعالى لم يزل متصفا بصفات الكمال : صفات الذات وصفات الفعل. ولا يجوز أن يعتقد أن الله وصف بصفة بعد أن لم يكن متصفا بها ، لان صفاته سبحانه صفات كمال ، وفقدها صفة نقص ، ولا يجوز أن يكون قد حصل له الكمال بعد أن كان متصفا بضده. ولا يرد على هذه صفات الفعل والصفات الاختيارية ونحوها ، كالخلق والتصوير ، والاماتة والاحياء ، والقبض والبسط والطي ، والاستواء والاتيان والمجيء والنزول ، والغضب والرضى ، ونحو ذلك مما وصف به نفسه ووصفه به رسوله ، وان كنا لا ندرك كنهه وحقيقته التي هي تأويله ، ولا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا ، ولا متوهمين بأهوائنا ، ولكن أصل معناه معلوم لنا ، كما قال الامام مالك رضي الله عنه ، لما سئل عن قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) الاعراف : ٥٤ وغيرها : كيف استوى؟ فقال : الاستواء معلوم ، والكيف مجهول (٦٦). وان كانت هذه الاحوال تحدث في وقت دون وقت ، كما في حديث الشفاعة : «ان ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله» (٦٧). لأن هذا الحدوث بهذا

__________________

ـ لك الحمد ، حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه ، فلما انصرف قال : من المتكلم؟ قال : أنا ، قال : رأيت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها أيهم يكتبها أول. ورواه الترمذي (٢ / ٢٥٤ ـ ٢٥٥) والنسائي (١ / ١٤٧) من طريق أخرى عن رفاعة به نحوه بلفظ : «لقد ابتدرها بضعة وثلاثون ملكا أيهم يصعد بها» وقال الترمذي : حديث حسن. قلت : واسناده جيد. وله شاهد من حديث عبد الله ابن أبي أوفى نحوه وفيه : «والله لقد رأيت كلامك يصعد في السماء حتى فتح باب فدخل فيه» ، أخرجه أحمد (٤ / ٣٥٥ و ٣٥٦) وابنه في زوائده ، ورجاله ثقات غير عبد الله بن سعيد ، ذكره ابن حبان في «الثقات» (١ / ١٠٤ ـ ١٠٥).

(٦٦) اقتصر المؤلف من جواب الامام مالك على هذا ، وتتمته : «والايمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة». يعني السؤال عن كيفية الاستواء. وقوله : «معلوم» هذا هو الثابت في جواب مالك رحمه‌الله ، وأما ما يلهج به بعض المبتدعة انه بلفظ : «مذكور فلا اصل له ، كما بينته في «مختصر العلو» (ص ١٤٢ ـ طبع المكتب الاسلامي).

(٦٧) هو في «الصحيحين» وغيرهما وسيأتي بتمامه. ص ٢٢٩.

١٢٤

الاعتبار غير ممتنع ، ولا يطلق [عليه] أنه حدث بعد أن لم يكن ، ألا ترى أن من تكلم اليوم وكان متكلما بالامس لا يقال : أنه حدث له الكلام ، ولو كان غير متكلم ، لأنه لآفة كالصغر (٦٨). والخرس ، ثم تكلم يقال ـ : حدث له الكلام ، فالساكت لغير آفة يسمى متكلما بالقوة ، بمعنى أنه يتكلم اذا شاء ، وفي حال تكلمه يسمى متكلما بالفعل ، وكذلك الكاتب في حال الكتابة هو كاتب بالفعل ، ولا يخرج عن كونه كاتبا في حال عدم مباشرته الكتابة.

وحول الحوادث بالرب تعالى ، المنفي في علم الكلام المذموم ، لم يرد نفيه ولا اثباته في كتاب ولا سنة ، وفيه اجمال : فان أريد بالنفي أنه سبحانه لا يحل في ذاته المقدسة شيء من مخلوقاته المحدثة ، أو لا يحدث له وصف متجدد لم يكن ـ فهذا نفي صحيح. وان أريد [به] نفي الصفات الاختيارية ، من أنه لا يفعل ما يريد ، ولا يتكلم بما شاء اذا شاء ، ولا أنه يغضب ويرضى لا كأحد من الورى ، ولا يوصف بما وصف به نفسه من النزول والاستواء والاتيان كما يليق بجلاله وعظمته ـ فهذا نفي باطل.

وأهل الكلام المذموم يطلقون نفي حلول الحوادث ، فيسلم السني للمتكلم ذلك ، على ظن أنه نفى عنه سبحانه ما لا يليق بجلاله ، فاذا سلم له هذا النفي ألزمه نفي الصفات الاختيارية وصفات الفعل ، وهو [غير] لازم له. وانما أتي السني من تسليم هذا النفي المجمل ، والا فلو استفسر واستفصل لم ينقطع معه.

وكذلك مسألة الصفة : هل هي زائدة على الذات أم لا؟ لفظها مجمل ، وكذلك لفظ الغير ، فيه اجمال ، فقد يراد [به] ما ليس هواياه ، وقد يراد به ما جاز مفارقته له.

ولهذا كان أئمة السنة رحمهم‌الله تعالى لا يطلقون على صفات الله وكلامه أنه غيره ، ولا أنه ليس غيره. لان اطلاق الاثبات قد يشعر أن ذلك مباين له ، واطلاق النفي قد يشعر بأنه هو هو ، اذا كان لفظ الغير فيه اجمال ، فلا يطلق الا مع البيان والتفصيل : فان أريد به أن هناك ذاتا مجردة قائمة بنفسها منفصلة عن الصفات الزائدة عليها ـ فهذا غير صحيح ، وان أريد به أن الصفات زائدة على الذات التي

__________________

(٦٨) في المطبوعة كالصغير.

١٢٥

يفهم من معناها غير ما يفهم من معنى الصفة ـ فهذا حق ، ولكن ليس في الخارج ذات مجردة عن الصفات ، بل الذات الموصوفة بصفات الكمال الثابتة لها لا تنفصل عنها ، وانما يفرض الذهن (٦٩) ذاتا وصفة ، كلا وحده ، ولكن ليس في الخارج ذات غير موصوفة ، فإن هذا محال. ولو لم يكن الا صفة الوجود ، فانها لا تنفك عن الموجود ، وان كان الذهن يفرض ذاتا ووجودا ، يتصور هذا وحده ، وهذا وحده ، لكن لا ينفك أحدهما عن الآخر في الخارج.

وقد يقول بعضهم : الصفة لا عين الموصوف ولا غيره. هذا له معنى صحيح ، وهو : أن الصفة ليست عين ذات الموصوف التي يفرضها الذهن مجردة بل هي غيرها ، وليست غير الموصوف ، بل الموصوف بصفاته شيء واحد غير متعدد. فاذا قلت : أعوذ بالله فقد عذت بالذات المقدسة الموصوفة بصفات الكمال المقدسة الثابتة التي لا تقبل الانفصال بوجه من الوجوه.

واذا قلت : أعوذ بعزة الله ، فقد عذت بصفة من صفات الله تعالى ، ولم أعذ بغير الله. وهذا المعنى يفهم من لفظ الذات ، فان ذات في أصل معناها لا تستعمل الا مضافة ، أي : ذات وجود ، ذات قدرة ، ذات عز ، ذات علم ، ذات كرم ، الى غير ذلك من الصفات. فذات كذا بمعنى صاحبة كذا : تأنيث ذو. هذا أصل معنى الكلمة ، فعلم أن الذات لا يتصور انفصال الصفات عنها بوجه من الوجوه ، وان كان الذهن قد يفرض ذاتا مجردة عن الصفات ، كما يفرض المحال. و [قد] قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر» (٧٠). وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعوذ

__________________

(٦٩) في المطبوعة وانما يعرض للذهن ذات وهو خطأ.

(٧٠) صحيح ، أخرجه مسلم رقم (٢٢٠٢) ونصه بتمامه : عن عثمان ابن ابي العاص الثقفي أنه شكا الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجعا في جسده منذ أسلم. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ضع يدك على الذي تألم من جسدك وقل : بسم الله ثلاثا وقل سبع مرات : أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر» ورواه مالك في «الموطأ» (٢ / ٩٤٢ / ٩) وعنه أبو داود رقم (٣٨٩١) والترمذي وقال : حديث حسن صحيح. بلفظ «أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد» دون لفظة «وأحاذر» وكذلك رواه احمد (٤ / ٢١٧ و ٦ / ٣٩٠) والحاكم (١ / ٣٤٣) وزاد «في كل مسحة وقال : «صحيح الاسناد» وهو كما قال.

١٢٦

بكلمات الله التامات من شر ما خلق» (٧١). ولا يعوذ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بغير الله. وكذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم اني أعوذ برضاك من سخطك ، وبمعافاتك من عقوبتك ، وأعوذ بك منك» (٧٢). وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ونعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا» (٧٣). وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات» (٧٤).

وكذلك قولهم : الاسم عين المسمى أو غيره؟ وطالما غلط كثير من الناس في ذلك ، وجهلوا الصواب فيه : فالاسم يراد به المسمى تارة ، [و] يراد به اللفظ الدال عليه أخرى ، فاذا قلت ؛ قال الله كذا ، أو سمع الله لمن حمده ، ونحو ذلك ـ فهذا المراد به المسمّى نفسه ، واذا قلت : الله اسم عربي ، والرحمن اسم عربي ، والرحيم من أسماء الله تعالى ونحو ذلك ـ فالاسم هاهنا [هو المراد لا] المسمى ، ولا يقال غيره ، لما في لفظ الغير من الاجمال : فان أريد بالمغايرة أن اللفظ غير المعنى فحق ، وان أريد أن الله سبحانه كان ولا اسم له ، حتى خلق لنفسه أسماء ، أو حتى سماه خلقه بأسماء من صنعهم ـ : فهذا من أعظم الضلال والالحاد في أسماء الله تعالى.

والشيخ رحمه‌الله أشار بقوله : ما زال بصفاته قديما قبل خلقه الى آخر كلامه ـ الى الرد على المعتزلة والجهمية ومن وافقهم من الشيعة. فإنهم قالوا : انه تعالى صار قادرا على الفعل والكلام بعد أن لم يكن قادرا عليه ، لكونه صار الفعل والكلام ممكنا بعد أن كان ممتنعا ، وانه انقلب من الامتناع الذاتي الى الامكان الذاتي! وعلي ابن كلاب والاشعري ومن وافقهما ، فإنهم قالوا : ان الفعل صار ممكنا له بعد أن

__________________

(٧١) صحيح. أخرجه مسلم (٢٧٠٨) ، وأبو داود (٣٨٩٨ و ٣٨٩٩) وغيره ، وسنده صحيح.

(٧٢) رواه مسلم وغيره ، وهو من أدعية السجود.

(٧٣) صحيح أخرجه أبو داود (٥٠٧٤) وأحمد (٢ / ٥٢) بسند صحيح ، وهو من أدعية الصباح والمساء.

(٧٤) ضعيف ، رواه ابن اسحاق بسند ضعيف معضل. وقد رواه بعضهم عنه بإسناده موصولا ، لكن فيه عنعنته ، وهو مخرج في «تخريج فقه السيرة» (ص ١٣٢) ، وفي «الضعيفة» (٢٩٣٣).

١٢٧

كان ممتنعا منه. وأما الكلام عندهم فلا يدخل تحت المشيئة والقدرة ، بل هو شيء واحد لازم لذاته.

وأصل هذا الكلام من الجهمية ، فانهم قالوا : ان دوام الحوادث ممتنع ، وانه يجب أن يكون للحوادث مبدأ ، لامتناع حوادث لا أول لها ، فيمتنع أن يكون الباري عزوجل لم يزل فاعلا متكلما بمشيئة ، بل يمتنع أن يكون قادرا على ذلك ، لان القدرة على الممتنع ممتنعة! وهذا فاسد ، فانه يدل على امتناع حدوث العالم وهو حادث ، والحادث اذا حدث بعد أن لم يكن محدثا فلا بد أن يكون ممكنا ، والامكان ليس له وقت محدود ، وما من وقت يقدر الا والامكان ثابت فيه ، وليس لامكان الفعل وجوازه وصحته مبدأ ينتهي إليه ، فيجب أنه لم يزل الفعل ممكنا جائزا صحيحا ، فيلزم أنه لم يزل الرب قادرا عليه ، فيلزم جواز حوادث لا نهاية لأولها.

قالت الجهمية ومن وافقهم : نحن لا نسلم أن امكان الحوادث لا بداية له ، لكن نقول ؛ امكان الحوادث بشرط كونها مسبوقة بالعدم لا بداية له ، وذلك لأن الحوادث عندنا تمتنع أن تكون قديمة النوع ، [بل] يجب حدوث نوعها ويمتنع قدم نوعها ، لكن لا يجب الحدوث في وقت بعينه ، فامكان الحوادث شروط كونها مسبوقة بالعدم لا أول له ، بخلاف جنس الحوادث.

فيقال لهم : هب انكم تقولون ذلك ، لكن يقال : امكان جنس الحوادث عندكم له بداية ، فانه صار جنس الحدوث عندكم ممكنا بعد أن لم يكن ممكنا ، وليس لهذا الامكان وقت معين ، بل ما من وقت يفرض الا والامكان ثابت قبله ، فيلزم دوام الامكان ، والا لزم انقلاب الجنس من الامتناع الى الامكان من غير حدوث شيء. ومعلوم أن انقلاب حقيقة جنس الحدوث أو جنس الحوادث ، أو جنس الفعل ، أو جنس الاحداث ، أو ما أشبه هذا من العبارات ـ من الامتناع الى الامكان ، وهو مصيّر ذلك ممكنا جائزا بعد أن كان ممتنعا من غير سبب تجدد ، وهذا ممتنع في صريح العقل ، وهو أيضا انقلاب الجنس من الامتناع الذاتي الى الامكان الذاتي ، فان ذات جنس الحوادث عندهم تصير ممكنة بعد أن كانت ممتنعة ، وهذا الانقلاب لا يختص بوقت معين ، فانه ما من وقت يقدّر الا والامكان ثابت قبله ، فيلزم أنه لم يزل هذا الانقلاب ممكنا ، فيلزم أنه لم يزل الممتنع ممكنا! وهذا أبلغ في

١٢٨

الامتناع من قولنا : لم يزل الحادث ممكنا ، فقد لزمهم فيما فروا إليه أبلغ مما لزمهم فيما فروا منه! فانه يعقل كون الحادث ممكنا ، ويعقل ان هذا الامكان لم يزل ، وأما كون الممتنع ممكنا فهو ممتنع في نفسه ، فكيف اذا قيل : لم يزل امكان هذا الممتنع؟! وهذا مبسوط في موضعه.

فالحاصل : أن نوع الحوادث هل يمكن دوامها في المستقبل والماضي أم لا؟ أو في المستقبل فقط؟ أو الماضي فقط؟

فيه ثلاثة أقوال معروفة لأهل النظر من المسلمين وغيرهم :

أضعفها : قول من يقول ؛ لا يمكن دوامها لا في الماضي ولا في المستقبل ، كقول جهم بن صفوان وأبي الهديل العلاف.

وثانيها قول من يقول : يمكن دوامها في المستقبل دون الماضي ، كقول كثير من أهل الكلام ومن وافقهم من الفقهاء وغيرهم.

والثالث : قول من يقول : يمكن دوامها في الماضي والمستقبل ، كما يقوله أئمة الحديث ، هي [من] المسائل الكبار. ولم يقل أحد يمكن دوامها في الماضي دون المستقبل.

ولا شك أن جمهور العالم من جميع الطوائف يقولون : ان كل ما سوى الله تعالى مخلوق كائن بعد أن لم يكن ، وهذا قول الرسل وأتباعهم من المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم :

ومن المعلوم بالفطرة أن كون المفعول مقارنا لفاعله لم يزل ولا يزال معه ـ ممتنع [محال] ، ولما كان تسلسل الحوادث في المستقبل لا يمنع أن يكون الرب سبحانه هو الآخر الذي ليس بعده شيء ، فكذا تسلسل الحوادث في الماضي لا يمنع أن يكون سبحانه وتعالى هو الأول الذي ليس قبله شيء. فان الرب سبحانه وتعالى لم يزل ولا يزال ، يفعل ما يشاء ويتكلم إذا يشاء. قال تعالى : (قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) آل عمران : ٤٠. وقال تعالى : (وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) البقرة : ٢٥٣. وقال تعالى : (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ. فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) البروج : ١٥ ـ ١٦. وقال تعالى : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) لقمان : ٢٧. وقال تعالى : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي

١٢٩

لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً) الكهف : ١٠٩.

والمثبت انما هو الكمال (٧٥) الممكن الوجود ، وحينئذ فاذا كان النوع دائما فالممكن والاكمل هو التقدم (٧٦) على كل فرد من الافراد بحيث لا يكون في أجزاء العالم شيء يقارنه بوجه من الوجوه.

وأما دوام الفعل فهو أيضا من الكمال ، فان الفعل اذا كان صفة كمال فدوامه دوام كمال.

قالوا : والتسلسل لفظ مجمل ، لم يرد بنفيه ولا اثباته كتاب ولا سنة ، ليجب مراعاة لفظه ، وهو ينقسم الى واجب وممتنع وممكن : فالتسلسل في المؤثرين محال ممتنع لذاته ، وهو أن يكون مؤثرون كل واحد منهم استفاد تأثيره مما قبله لا الى غاية.

والتسلسل الواجب : ما دل عليه العقل والشرع ، من دوام أفعال الرب تعالى في الابد ، وانه كلما انقضى لاهل الجنة نعيم أحدث لهم نعيما آخر لا نفاد له ، وكذلك التسلسل في أفعاله سبحانه من طرف الازل ، وأن كل فعل مسبوق بفعل آخر ، فهذا واجب في كلامه ، فانه لم يزل متكلما اذا شاء ، ولم تحدث له صفة الكلام في وقت ، وهكذا أفعاله التي هي من لوازم حياته ، فان كل حي فعّال ، والفرق بين الحي والميت : الفعل ، ولهذا قال غير واحد من السلف : الحي الفعّال ، وقال عثمان بن سعيد : كل حي فعّال ، ولم يكن ربنا تعالى قط في وقت من الاوقات معطّلا عن كماله ، من الكلام والإرادة والفعل.

وأما التسلسل الممكن : فالتسلسل في مفعولاته من هذا الطرف ، كما تتسلسل في طرف الابد ، فانه اذا لم يزل حيّا قادرا مريدا متكلما ، وذلك من لوازم ذاته ـ فالفعل ممكن له بموجب هذه الصفات له ، وأن يفعل أكمل من أن لا يفعل ، ولا يلزم من هذا أنه لم يزل الخلق معه ، فانه سبحانه متقدم على كل فرد من مخلوقاته تقدما لا أول له ، فلكل مخلوق أول ، والخالق سبحانه لا أول له ، فهو وحده الخالق ، وكل ما سواه مخلوق كائن بعد أن لم يكن.

__________________

(٧٥) في المطبوعة : الكلام وهو خطأ.

(٧٦) في المطبوعة : هو القديم وهو خطأ.

١٣٠

قالوا : وكل قول سوى هذا فصريح العقل يردّه ويقضي ببطلانه ، وكل من اعترف بأن الرب تعالى لم يزل قادرا على الفعل لزمه أحد أمرين ، لا بد له منهما : أما أن يقول بأن الفعل لم يزل ممكنا ، واما أن يقول لم يزل واقعا ، والا تناقض تناقضا بينا ، حيث زعم أن الرب تعالى لم يزل قادرا على الفعل ، والفعل محال ممتنع لذاته ، لو أراده لم يمكن وجوده ، بل فرض ارادته عنده محال وهو مقدور له. وهذا قول ينقض بعضه بعضا.

والمقصود : أن الذي دل عليه الشرع والعقل ، أن كل ما سوى الله تعالى محدث كائن بعد أن لم يكن. أما كون الرب تعالى لم يزل معطّلا عن الفعل ثم فعل ، فليس في الشرع ولا في العقل ما يثبته ، بل كلاهما يدل على نقيضه.

وقد أورد أبو المعالي في «ارشاده» وغيره من النظار على التسلسل في الماضي ، فقالوا : انك لو قلت : لا أعطيك درهما الا أعطيك بعده درهما ، كان هذا ممكنا ، ولو قلت : لا أعطيك درهما حتى أعطيك قبله درهما ، كان هذا ممتنعا.

وهذا التمثيل والموازنة غير صحيحة ، بل الموازنة الصحيحة أن تقول : ما أعطيتك درهما الا أعطيتك قبله درهما ، فتجعل ماضيا قبل ماض ، كما جعلت هناك مستقبلا بعد مستقبل. وأما قول القائل : لا أعطيك حتى أعطيك قبله ، فهو نفي للمستقبل حتى يحصل في المستقبل ويكون قبله. فقد نفى المستقبل حتى يوجد المستقبل ، وهذا ممتنع. أما نفي الماضي حتى يكون قبله ماض ، فان هذا ممكن.

والعطاء المستقبل ابتداؤه من المستقبل (٧٧). والمعطى (٧٨) الذي له ابتداء وانتهاء لا يكون قبله ما لا نهاية له ، فان ما لا نهاية له فيما يتناهى ممتنع.

قوله : (ليس بعد خلق الخلق استفاد اسم «الخالق» ولا بأحداثه البرية استفاد اسم «الباري»)

ش : ظاهر كلام الشيخ رحمه‌الله أنه يمنع تسلسل الحوادث في الماضي ، ويأتي في

__________________

(٧٧) في المطبوعة : ايتاؤه من المعطي.

(٧٨) في المطبوعة : والمستقبل.

١٣١

كلامه ما يدل على أنه لا يمنعه في المستقبل ، وهو قوله «والجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان أبدا ولا تبيدان» ، وهذا مذهب الجمهور كما تقدم. ولا شك في فساد قول من منع ذلك في الماضي والمستقبل ، كما ذهب إليه الجهم وأتباعه ، وقال بفناء الجنة والنار ، لما يأتي من الادلة ان شاء الله تعالى.

وأما قول من قال بجواز حوادث لا أول لها ، من القائلين بحوادث لا آخر لها ـ فأظهر في الصحة من قول من فرق بينهما ، فانه سبحانه لم يزل حيّا ، والفعل من لوازم الحياة ، فلم يزل فاعلا لما يريد ، كما وصف بذلك نفسه ، حيث يقول : (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ. فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) البروج : ١٥ ، ١٦.

والآية تدل على أمور :

أحدها : أنه تعالى يفعل بإرادته ومشيئته.

الثاني : أنه لم يزل كذلك ، لانه ساق ذلك في معرض المدح والثناء على نفسه ، [و] أن ذلك من كماله سبحانه ، ولا يجوز أن يكون عادما لهذا الكمال في وقت من الاوقات. وقد قال تعالى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) النحل :

١٧. ولما كان من أوصاف كماله ونعوت جلاله لم يكن حادثا بعد أن لم يكن.

الثالث : أنه اذا أراد شيئا فعله ، فان «ما» موصوله عامة ، أي : يفعل كل ما يريد أن يفعله ، وهذا في ارادته المتعلقة بفعله. وأما ارادته المتعلقة بفعل العبد فتلك لها شأن آخر : فان اراد فعل العبد ولم يرد من نفسه أن يعينه عليه ويجعله فاعلا لم يوجد الفعل وان أراده حتى يريد من نفسه أن يجعله فاعلا. وهذه هي النكتة التي خفيت على القدرية والجبرية ، وخبطوا في مسألة القدر ، لغفلتهم عنها ، وفرق بين ارادته أن يفعل العبد وإرادة أن يجعله فاعلا ، وسيأتي الكلام على مسألة القدر في موضعه ان شاء الله تعالى.

الرابع : أن فعله وارادته متلازمان ، فما أراد أن يفعل فعل ، وما فعله فقد اراده. بخلاف المخلوق ، فانه يريد ما لا يفعل ، [وقد يفعل] ما لا يريده. فما ثمّ فعّال لما يريد الا الله وحده.

الخامس : اثبات ارادات متعددة بحسب الافعال ، وأن كل فعل له إرادة

١٣٢

تخصه ، هذا هو المعقول في الفطر ، فشأنه سبحانه أنه يريد على الدوام ويفعل ما يريد.

السادس : أن كل ما صح أن تتعلق به ارادته جاز فعله ، فاذا أراد أن ينزل كل ليلة الى سماء الدنيا ، وأن يجيء يوم القيامة لفصل القضاء ، وأن يري عباده نفسه ، وأن يتجلى لهم كيف شاء ، ويخاطبهم ، ويضحك إليهم ، وغير ذلك مما يريد سبحانه ـ لم يمتنع عليه فعله ، فانه تعالى فعّال لما يريد. وانما يتوقف صحة ذلك على اخبار الصادق به ، فاذا أخبر وجب التصديق ، وكذلك محو ما يشاء ، واثبات ما يشاء ، كل يوم هو في شأن ، سبحانه وتعالى.

والقول بأن الحوادث لها أول ، يلزم منه التعطيل قبل ذلك ، وأن الله سبحانه وتعالى لم يزل غير فاعل ثم صار فاعلا. ولا يلزم من ذلك قدم العالم ، لان كل ما سوى الله تعالى محدث ممكن الوجود ، موجود بايجاد الله تعالى له ، ليس له من نفسه الا العدم ، والفقر والاحتياج وصف ذاتي لازم لكل ما سوى الله تعالى ، والله تعالى واجب الوجود لذاته ، غني لذاته ، والغنى وصف ذاتي لازم له سبحانه وتعالى.

والناس قولان في هذا العالم : هل هو مخلوق من مادة أم لا؟ واختلفوا في أول هذا العالم ما هو؟ وقد قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) هود : ٧.

وروى البخاري وغيره عن عمران بن حصين رضي الله عنه ، قال : «قال أهل اليمن لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : جئناك لنتفقه في الدين ، ولنسألك عن [أول] هذا الامر ، فقال : كان الله ولم يكن شيء قبله» (٧٩) وفي رواية : «ولم يكن شيء معه» ،

__________________

(٧٩) صحيح. ورواية «معه» لم أجدها عند البخاري ، وقد أخرج الحديث في موضعين من «صحيحه» : «بدء الخلق» و «التوحيد» بالروايتين الاخيرتين : «قبله» و «غيره» ، وبالأخرى منهما أخرجه البيهقي في «الاسماء والصفات» (٦ و ٢٧٠) ، ورواه أحمد (٤ / ٤٣١) بالرواية الاولى منهما ، لكن بلفظ «كان الله تبارك وتعالى قبل كل شيء» ، وعزاه الذهبي في «مختصر العلو» (٩٨ / ٤٠) للبخاري وقال «حديث صحيح»! انظر المقدمة (ص ٢٧). وكلام الحافظ ابن حجر في شرحه للحديث يشعر بأن هذه الرواية «معه» لم يقف عليها ، فقد قال (٦ / ٢٠٦) : «تنبيه» : وقع في بعض الكتب في هذا الحديث : «كان الله ولا شيء معه ، وهو ـ

١٣٣

وفي رواية «غيره» : «وكان عرشه على الماء ، وكتب في الذكر كل شيء ، وخلق السموات والارض» ، وفي لفظ : «ثم خلق السموات والارض». فقوله «كتب في الذكر» [، يعني اللوح المحفوظ ، كما قال تعالى : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) الأنبياء : ١٠٥ يسمى ما يكتب في الذكر ذكرا ،] كما يسمى ما يكتب في الكتاب كتابا.

والناس في هذا الحديث على قولين : منهم من قال : ان المقصود اخباره بأن الله كان موجودا وحده ولم يزل كذلك دائما ، ثم ابتدأ احداث جميع الحوادث ، فجنسها وأعيانها مسبوقة بالعدم ، وأن جنس الزمان حادث لا في زمان ، وأن الله صار فاعلا بعد أن لم يكن يفعل شيئا من الازل الى حين ابتداء الفعل كان الفعل ممكنا. والقول الثاني : المراد إخباره عن مبدأ خلق هذا العالم المشهود الذي خلقه الله في ستة أيام ثم استوى على العرش ، كما أخبر القرآن بذلك في غير موضع ، وفي «صحيح مسلم» عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «قدر الله تعالى مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والارض بخمسين ألف سنة ، وكان عرشه على الماء» (٨٠). فأخبر صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أن تقدير هذا العالم المخلوق في ستة أيام كان قبل خلقه السموات بخمسين ألف سنة ، وأن عرش الرب تعالى كان حينئذ على الماء».

دليل صحة هذا القول الثاني من وجوه : أحدها : أن قول أهل اليمن

__________________

ـ الآن على ما عليه كان» وهي زيادة ليست في شيء من كتب الحديث ، نبه على ذلك العلامة تقي الدين ابن تيمية ، وهو مسلم في قوله : «وهو الآن الى آخره» ، وأما لفظ : «ولا شيء معه» : فرواية الباب بلفظ «ولا شيء غيره بمعناها». قلت : فلو كان عند الحافظ علم بهذه الرواية لذكرها ، واستغنى بذلك عن الاحتجاج عليها بمعنى الرواية التي ذكرها ، كما هو ظاهر. والله أعلم.

(٨٠) صحيح. وأخرجه أيضا احمد (٢ / ١٦٩) والترمذي ، وصححه دون قوله «وكان عرشه ...» وهو رواية لمسلم ، ورواه البيهقي في «الاسماء» (٢٦٩) ، وفي رواية له ، «فرغ الله عزوجل من المقادير وامور الدنيا قبل أن يخلق السموات والأرض وعرشه على الماء بخمسين الف سنة».

١٣٤

«جئناك لنسألك عن أول هذا الامر» ، وهو اشارة الى حاضر مشهود موجود ، والامر هنا بمعنى المأمور ، أي الذي كوّنه الله بأمره. وقد أجابهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن بدء. هذا العالم الموجود ، لا عن جنس المخلوقات ، لأنهم لم يسألوه عنه ، وقد أخبرهم عن خلق السموات والارض حال كون عرشه على الماء ، ولم يخبرهم عن خلق العرش ، وهو مخلوق قبل خلق السموات والارض. وأيضا فانه قال : «كان الله ولم يكن شيء قبله» ، وقد روي «معه» ، وروي «غيره» ، والمجلس كان واحدا ، فعلم أنه قال أحد الالفاظ والآخران رؤيا بالمعنى ، ولفظ «القبل» ثبت عنه في غير هذا الحديث. ففي حديث مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه كان يقول في دعائه : «اللهم أنت الاول فليس قبلك شيء» (٨١) ، الحديث. واللفظان الآخران لم يثبت واحد منهما في موضع آخر ، ولهذا كان كثير من أهل الحديث انما يرويه بلفظ القبل ، كالحميدي والبغوي وابن الاثير. واذا كان كذلك لم يكن في هذا اللفظ تعرض لابتداء الحوادث ، ولا لاول مخلوق. وأيضا : فانه يقال : «كان الله ولم يكن شيء قبله» أو «معه» أو «غيره» ، «وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء». فأخبر عن هذه الثلاثة بالواو ، و «خلق السموات والارض» روي بالواو وبثم ، فظهر أن مقصوده اخباره اياهم ببدء خلق السموات والارض وما بينهما ، وهي المخلوقات التي خلقت في ستة أيام ، لا ابتداء خلق ما خلقه الله قبل ذلك ، وذكر السموات والارض بما يدل على خلقهما ، وذكر ما قبلهما بما يدل على كونه ووجوده ، ولم يتعرض لابتداء خلقه له. وأيضا : فانه اذا كان الحديث قد ورد بهذا وهذا ، فلا يجزم بأحدهما الا بدليل ، فاذا رجح أحدهما فمن جزم بأن الرسول أراد المعنى الآخر فهو مخطئ قطعا ، ولم يأت في الكتاب ولا في السنة ما يدل على المعنى الآخر ، فلا يجوز اثباته بما يظن أنه معنى الحديث ، ولم يرد «كان الله ولا شيء معه» مجردا ، وانما ورد على السياق المذكور ، فلا يظن أن معناه الاخبار بتعطيل الرب تعالى دائما عن الفعل حتى خلق السموات والارض. وأيضا : فقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كان الله ولا شيء قبله ، أو معه ، أو غيره ، وكان عرشه على

__________________

(٨١) صحيح ، وتقدم (برقم ٤٦)

.

١٣٥

الماء» ، لا يصح أن يكون المعنى أنه تعالى موجود وحده لا مخلوق معه أصلا ، لان قوله «وكان عرشه على الماء». يرد ذلك ، فان هذه الجملة وهي «وكان عرشه على الماء» اما حالية ، أو معطوفة ، وعلى كلا التقديرين فهو مخلوق موجود في ذلك الوقت ، فعلم أن المراد ولم يكن شيء من هذا العالم المشهود.

قوله : (له معنى الربوبية ولا مربوب ، ومعنى الخالق ولا مخلوق).

ش : يعني أن الله تعالى موصوف بأنه «الرب» قبل أن يوجد مربوب ، وموصوف بأنه «خالق» قبل أن يوجد مخلوق. قال بعض المشايخ الشارحين : وانما قال : «له معنى الربوبية ومعنى الخالق» دون الخالقية ، لان الخالق هو المخرج للشيء من العدم الى الوجود لا غير ، والرب يقتضي معاني كثيرة ، وهي : الملك والحفظ والتدبير والتربية وهي تبليغ الشيء كماله بالتدريج ، فلا جرم أتى بلفظ يشمل هذه المعاني ، وهي الربوبية. انتهى. وفيه نظر ، لأن الخلق يكون بمعنى التقدير أيضا.

قوله : (وكما أنه محيي الموتى بعد ما أحيا استحق هذا الاسم قبل احيائهم ، كذلك استحق اسم الخالق قبل انشائهم).

ش : يعني : أنه سبحانه وتعالى موصوف بأنه محيي الموتى قبل احيائهم ، فكذلك يوصف بأنه خالق قبل خلقهم ، الزاما للمعتزلة ومن قال بقولهم ، كما حكينا عنهم فيما تقدم. وتقدم تقرير أنه تعالى لم يزل يفعل ما يشاء.

قوله : (ذلك بأنه على كل شيء قدير ، وكل شيء إليه فقير ، وكل أمر عليه يسير ، لا يحتاج الى شيء ، ليس كمثله شيء ، وهو السميع البصير).

ش : ذلك اشارة الى ثبوت صفاته في الازل قبل خلقه. والكلام على كل وشمولها وشمول كل [في كل] مقام بحسب ما يحتف به من القرائن ، يأتي في مسألة الكلام ان شاء الله تعالى.

وقد حرّفت المعتزلة المعنى المفهوم من قوله تعالى : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) البقرة : ٢٨٤ ، فقالوا : انه قادر على كل ما هو مقدور له ، وأما نفس أفعال العباد

١٣٦

فلا يقدر عليها عندهم ، وتنازعوا : هل يقدر على مثلها أم لا؟! ولو كان المعنى على ما قالوا لكان هذا بمنزلة أن يقال : هو عالم بكل ما يعلمه وخالق لكل ما يخلقه ونحو ذلك من العبارات التي لا فائدة فيها. فسلبوا صفة كمال قدرته على كل شيء.

وأما أهل السنة ، فعندهم أن الله على كل شيء قدير ، وكل ممكن فهو مندرج في هذا. وأما المحال لذاته ، مثل كون الشيء الواحد موجودا معدوما في حال واحدة ، فهذا لا حقيقة له ، ولا يتصور وجوده ، ولا يسمى شيئا ، باتفاق العقلاء. ومن هذا الباب : خلق مثل نفسه ، واعدام نفسه وأمثال ذلك من المحال.

وهذا الاصل هو الايمان بربوبيته العامة التامة ، فانه لا يؤمن بأنه رب كل شيء الا من آمن أنه قادر على تلك الاشياء ، ولا يؤمن بتمام ربوبيته وكمالها الا من آمن بأنه على كل شيء قدير. وانما تنازعوا في المعدوم الممكن : هل هو شيء أم لا؟ والتحقيق : أن المعدوم ليس بشيء في الخارج ، ولكن الله يعلم ما يكون قبل أن يكون ، ويكتبه ، وقد يذكره ويخبر به ، كقوله تعالى : (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) الحج : ١ ، فيكون شيئا في العلم والذكر والكتاب ، لا في الخارج ، كما قال تعالى : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) يس : ٨٢ ، قال تعالى : (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) مريم : ٩ ، أي : لم تكن شيئا في الخارج وان كان شيئا في علمه تعالى. وقال تعالى : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) الدهر : ١.

وقوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ، رد على المشبهة. وقوله تعالى : (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) الشورى : ١١ ، رد على المعطّلة ، فهو سبحانه وتعالى موصوف بصفات الكمال ، وليس له فيها شبيه. فالمخلوق وان كان يوصف بأنه سميع بصير ـ فليس سمعه وبصره كسمع الرب وبصره ، ولا يلزم من اثبات الصفة تشبيه ، اذ صفات المخلوق كما يليق به ، وصفات الخالق كما يليق به.

ولا تنف (٨٢). «عن الله ما وصف به نفسه وما وصفه به أعرف الخلق بربه وما يجب

__________________

(٨٢) في المطبوعة : تنفي.

١٣٧

له وما يمتنع عليه ، وأنصحهم لأمته ، وأفصحهم وأقدرهم على البيان. فانك ان نفيت شيئا من ذلك كنت كافرا بما أنزل [على] محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واذا وصفته بما وصف به نفسه فلا تشبهه بخلقه ، فليس كمثله شيء ، فاذا شبهته بخلقه كنت كافرا به. قال نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري : من شبه الله [بخلقه] فقد كفر ، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر ، وليس ما وصف الله به نفسه ولا ما وصفه به رسوله تشبيها. وسيأتي في كلام الشيخ الطحاوي رحمه‌الله «ومن لم يتوقّ النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه».

وقد وصف الله تعالى نفسه بأن له المثل الاعلى ، فقال تعالى : (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) النحل : ٦٠ ، وقال تعالى : (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) الروم : ٢٧. فجعل سبحانه مثل السّوء ـ المتضمن للعيوب والنقائص وسلب الكمال ـ لاعدائه المشركين وأوثانهم ، وأخبر أن المثل الاعلى ـ المتضمن لاثبات الكمال كله ـ لله وحده. فمن سلب صفة الكمال عن الله تعالى فقد جعل له مثل السّوء ، ونفى عنه ما وصف به نفسه من المثل الاعلى ، [و] ، هو الكمال المطلق ، المتضمن للامور الوجودية ، والمعاني الثبوتية ، التي كلما كانت أكثر في الموصوف وأكمل ـ كان بها أكمل وأعلى من غيره.

ولما كانت صفات الرب [سبحانه] وتعالى أكثر وأكمل ، كان له المثل الاعلى ، وكان أحقّ به من كل ما سواه. بل يستحيل أن يشترك في المثل الاعلى المطلق اثنان ، لانهما أن تكافئا من كل وجه ، لم يكن أحدهما أعلى من الآخر ، وان لم يتكافئا ، فالموصوف به أحدهما وحده ، فيستحيل أن يكون لمن له المثل الاعلى مثل أو نظير.

واختلفت عبارات المفسرين في المثل الاعلى. ووفق بين أقوالهم من وفقه الله وهداه ، فقال : المثل الاعلى يتضمن : الصفة العليا ، وعلم العالمين بها ، ووجودها العلمي ، والخبر عنها وذكرها ، وعبادة الرب تعالى بواسطة العلم والمعرفة القائمة بقلوب عابديه وذاكريه.

فهاهنا أمور أربعة :

١٣٨

الاول (٨٣) : ثبوت الصفات العليا لله سبحانه وتعالى ، سواء علمها العباد أو لا ، وهذا معنى قول من فسرها بالصفة.

الثاني : وجودها في العلم والشعور ، وهذا معنى قول من قال من السلف والخلف : انه ما في قلوب عابديه وذاكريه ، من معرفته وذكره ، ومحبته وجلاله ، وتعظيمه ، وخوفه ورجائه ، والتوكل عليه والانابة إليه. وهذا الذي في قلوبهم من المثل الاعلى لا يشركه فيه غيره أصلا ، بل يختص به في قلوبهم ، كما اختص به في ذاته. وهذا معنى قول من قال من المفسرين : ان معناه : أهل السموات يعظمونه ويحبونه ويعبدونه ، وأهل الارض كذلك ، وان أشرك [به من أشرك] ، وعصاه من عصاه ، وجحد صفاته من جحدها ، فأهل الارض معظّمون له ، مجلّون ، خاضعون لعظمته ، مستكينون لعزته وجبروته. قال تعالى : (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) الروم : ٢٦.

الثالث : ذكر صفاته والخبر عنها وتنزيهها من العيوب والنقائص والتمثيل.

الرابع : محبة الموصوف بها وتوحيده ، والاخلاص له ، والتوكل عليه ، والانابة إليه. وكلما كان الايمان بالصفات أكمل كان هذا الحب والاخلاص [أقوى].

فعبارات السلف كلها تدور على هذه المعاني الاربعة. فمن أضل ممن يعارض بين قوله تعالى : (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى) الروم : ٢٧ وبين قوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) الشورى : ١١؟ ويستدل بقوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) على نفي الصفات ويعمى عن تمام الآية وهو قوله : (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) الشورى : ١١! حتى أفضى هذا الضلال ببعضهم ، وهو أحمد بن أبي دؤاد القاضي ، الى أن أشار على الخليفة المأمون أن يكتب على ستر الكعبة : ليس كمثله شيء وهو العزيز الحكيم ، حرّف كلام الله لينفي (٨٣١) وصفه تعالى بأنه السميع البصير كما قال الضال الآخر ، جهم بن صفوان : وددت أني أحكّ من المصحف قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) الاعراف : ٥٤ فنسأل الله العظيم السميع البصير أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، بمنه وكرمه.

__________________

(٨٣) هذه الزيادة غير موجودة في الاصل ولا المطبوعة ، ونظم الكلام يقتضيها.

(٨٣١) في المطبوعة : بنفي.

١٣٩

وفي اعراب «كمثله» ـ وجوه ؛ أحدها : [أن] الكاف صلة زيدت للتأكيد ، قال أوس بن حجر :

ليس كمثل الفتى زهير

خلق يوازيه في الفضائل

وقال آخر : ما أن كمثلهم في الناس من بشر

وقال آخر : وقتلى كمثل جذوع النخيل

فيكون «مثله» خبر «ليس» واسمها «شيء». وهذا وجه قوي حسن ، تعرف العرب معناه في لغتها ، ولا يخفى عنها اذا خوطبت به ، وقد جاء عن العرب أيضا زيادة الكاف للتأكيد في قول بعضهم :

وصاليات ككما يؤثفين (٨٤)

وقول الآخر : فأصبحت مثل كعصف مأكول

الوجه الثاني : أن الزائد مثل أي : ليس كهو شيء ، وهذا القول بعيد ، لان مثل اسم والقول بزيادة الحرف للتأكيد أولى من القول بزيادة الاسم.

الثالث : أنه ليس ثم «زيادة أصلا ، بل هذا من باب قولهم : مثلك لا يفعل كذا ، أي : أنت لا تفعله ، وأتى بمثل للمبالغة ، وقالوا في معنى المبالغة هنا : أي : ليس كمثله مثل لو فرض المثل ، فكيف ولا مثل له. وقيل غير ذلك ، والاول أظهر.

__________________

(٨٤) رجز لخطام المجاشعي ، كما في «اللسان» ثفا. والصاليات : الحجارة المحترقة. و «يؤثفين» : بضم الياء وسكون الهمزة وفتح الثاء المثلثة والفاء وسكون الياء والنون. قال في «اللسان» : «جاء به على الاصل ضرورة. ولو لا ذلك لقال : يثفين. قال الازهري : اراد يثفين ، من أثفى يثفي ، فلما اضطره بناء الشعر رده الى الاصل ، فقال : يؤثفين. لانك اذا قلت : افعل يفعل ـ علمت انه كان في الاصل : يؤفعل ، فحذفت الهمزة لثقلها ، كما حذفوا ألف رأيت من : أرى ، وكان في الأصل : أرأى ، فكذلك من : يرى ، وترى ، ونرى. الاصل فيها : يرأى ، وترأى ، ونرأى. فاذا جاز طرح همزتها وهي اصلية ـ كانت همزة يؤفعل اولى بجواز الطرح ، لأنها ليست من بناء الكلمة في الاصل. وأثفى القدر : جعلها على الاثافي ، وهي الحجارة التي تنصب وتجعل القدر عليها.

١٤٠