شرح العقيدة الطّحاويّة

ابن أبي العزّ الحنفي

شرح العقيدة الطّحاويّة

المؤلف:

ابن أبي العزّ الحنفي


المحقق: الشيخ محمّد ناصر الدين الألباني
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بغداد
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٧٤

أنه ليس العلم كالعلم ، ولا القوة كالقوة ، ونظائر هذا كثيرة. وهذا لازم لجميع العقلاء. فإن من نفى صفة من صفاته التي وصف الله بها نفسه ، كالرضى والغضب ، والحب والبغض ، ونحو ذلك ، ورغم أن ذلك يستلزم التشبيه والتجسيم! قيل له : فأنت تثبت له الإرادة والكلام والسمع والبصر ، مع أن ما تثبته له ليس مثل صفات المخلوقين ، فقل فيما نفيته وأثبته الله ورسوله مثل قولك فيما أثبتّه ، اذ لا فرق بينهما.

فإن قال : أنا لا أثبت شيئا من الصفات! قيل له : فأنت تثبت له الاسماء الحسنى ، مثل : عليم ، حي ، قادر. والعبد يسمى بهذه الاسماء ، وليس ما يثبت للرب من هذه الاسماء مماثلا لما يثبت للعبد فقل في صفاته نظير قولك في مسمى أسمائه.

فان قال : وأنا لا أثبت له الاسماء الحسنى ، بل أقول : هي مجاز ، وهي أسماء لبعض مبتدعاته ، كقول غلاة الباطنية والمتفلسفة!

قيل له : فلا بد أن تعتقد أنه موجود وحق (٣٩) قائم بنفسه ، والجسم موجود قائم بنفسه ، وليس هو مماثلا له.

فان قال : أنا لا أثبت شيئا ، بل أنكر وجود الواجب.

قيل له : معلوم بصريح العقل أن الموجود اما واجب بنفسه ، واما غير واجب بنفسه ، واما قديم أزلي ، واما حادث كائن بعد أن لم يكن ، واما مخلوق مفتقر الى خالق ، واما غير مخلوق ولا مفتقر الى خالق ، واما فقير الى ما سواه ، واما غني عما سواه. وغير الواجب بنفسه لا يكون الا بالواجب بنفسه ، والحادث لا يكون الا بقديم ، والمخلوق لا يكون الا بخالق ، والفقير لا يكون الا بغني عنه ، فقد لزم على تقدير النقيضين وجود موجود واجب بنفسه قديم أزلي خالق [غني] عما سواه ، وما سواه بخلاف ذلك. وقد علم بالحس والضرورة وجود موجود حادث كائن بعد أن لم يكن ، والحادث لا يكون واجبا بنفسه ، ولا قديما أزليا ، ولا خالقا لما سواه ، ولا غنيّا عما سواه ، فثبت بالضرورة وجود موجودين : أحدهما واجب ، والآخر ممكن ،

__________________

(٣٩) كذا الاصل ، ولعله : حي.

١٠١

أحدهما قديم ، والآخر حادث ، احدهما غني ، والاخر فقير ، أحدهما خالق ، والاخر مخلوق. وهما متفقان في كون كل منهما شيئا موجودا ثابتا ، ومن المعلوم أيضا أن أحدهما ليس مماثلا للآخر في حقيقته ، اذ لو كان كذلك لتماثلا فيما يجب ويجوز ويمتنع ، وأحدهما يجب قدمه وهو موجود بنفسه ، والآخر لا يجب قدمه ولا هو موجود بنفسه ، وأحدهما خالق والاخر ليس بخالق ، وأحدهما غني عما سواه ، والاخر فقير.

فلو تماثلا للزم أن يكون كل منهما واجب القدم ليس بواجب القدم ، موجودا بنفسه غير موجود بنفسه ، خالقا ليس بخالق ، غنيا غير غني ، فيلزم اجتماع الضدين على تقدير تماثلهما. فعلم أن تماثلهما منتف بصريح العقل ، كما هو منتف بنصوص الشرع.

فعلم بهذه الادلة اتفاقهما من وجه ، واختلافهما من وجه. فمن نفى ما اتفقا فيه كان معطلا قائلا بالباطل ، ومن جعلهما متماثلين كان مشبها قائلا بالباطل ، والله أعلم. وذلك. لانهما وان اتفقا في مسمى ما اتفقا فيه ، فالله [تعالى] مختص بوجوده وعلمه وقدرته وسائر صفاته ، والعبد لا يشركه في شيء من ذلك ، والعبد أيضا مختص بوجوده وعلمه ، وقدرته ، والله تعالى منزه عن مشاركة العبد في خصائصه.

واذا اتفقا في مسمى الوجود والعلم والقدرة ، فهذا المشترك مطلق كلي يوجد في الاذهان لا في الاعيان ، والموجود في الاعيان مختص لا اشتراك فيه.

وهذا موضع اضطراب فيه كثير من النظار ، حيث توهموا ان الاتفاق في مسمى هذه الاشياء يوجب أن يكون الوجود الذي للرب كالوجود الذي للعبد.

وطائفة ظنت أن لفظ الوجود يقال بالاشتراك اللفظي ، وكابروا عقولهم ، فان هذه الاسماء عامة قابلة للتقسيم ، كما يقال : الموجود ينقسم الى واجب وممكن ، وقديم وحادث. ومورد التقسيم مشترك بين الاقسام ، واللفظ المشترك كلفظ المشتري الواقع على المبتاع والكوكب ، لا ينقسم معناه ، ولكن يقال : لفظ المشتري يقال على كذا [أو على كذا] ، وأمثال هذه المقالات التي قد بسط الكلام عليها في موضعه.

١٠٢

وأصل الخطأ والغلط : توهمهم أن هذه الاسماء (٤٠) العامة الكلية يكون مسماها المطلق الكلي هو بعينه ثابتا في هذا المعين وهذا المعين ، وليس كذلك ، فان ما يوجد في الخارج لا يوجد مطلقا كليا ، [بل] لا يوجد الا معينا مختصا ، وهذه الاسماء اذا سمي الله بها كان مسماها معيّنا مختصا به ، فاذا سمي بها العبد كان مسماها مختصا به. فوجود الله وحياته لا يشاركه فيها غيره ، بل وجود هذا الموجود المعين لا يشركه فيه غيره ، فكيف بوجود الخالق؟ ألا ترى أنك تقول : هذا هو ذاك ، فالمشار إليه واحد لكن بوجهين مختلفين.

وبهذا ومثله يتبين لك أن المشبهة أخذوا هذا المعنى وزادوا فيه على الحق فضلّوا ، وأن المعطلة أخذوا نفي المماثلة بوجه من الوجوه. وزادوا فيه على الحق حتى ضلوا. وأن كتاب الله دل على الحق المحض الذي تعقله العقول السليمة الصحيحة ، وهو الحق المعتدل الذي لا انحراف فيه.

فالنفاة أحسنوا في تنزيه الخالق سبحانه عن التشبيه بشيء من خلقه ، ولكن أساءوا في نفي المعاني الثابتة لله تعالى في نفس الامر.

والمشبهة أحسنوا في اثبات الصفات ، ولكن أساءوا بزيادة التشبيه.

واعلم أن المخاطب لا يفهم المعاني المعبر عنها باللفظ الا أن يعرف عنها أو ما يناسب عينها ، ويكون بينها قدر مشترك ومشابهة في أصل المعنى ، وإلا فلا يمكن تفهيم المخاطبين بدون هذا قط ، حتى في أول تعليم معاني الكلام بتعليم معاني الالفاظ المفردة ، مثل تربية الصبي الذي يعلم البيان واللغة ، ينطق له باللفظ المفرد ويشار له الى معناه ان كان مشهودا بالاحساس الظاهر أو الباطن ، فيقال له : لبن ، خبز ، أم ، أب ، سماء ، أرض ، شمس ، قمر ، ماء ، ويشار له مع العبارة الى كل مسمى من هذه المسميات ، والا لم يفهم معنى اللفظ ومراد الناطق به ، وليس أحد من بني آدم يستغني عن التعليم السمعي ، كيف وآدم أبو البشر وأول ما علمه الله تعالى أصول الادلة السمعية وهي الاسماء كلها ، وكلمه وعلمه بخطاب الوحي ما لم يعلمه بمجرد العقل.

__________________

(٤٠) في الاصل : الاشياء. والصواب ما اثبتنا.

١٠٣

فدلالة اللفظ على المعنى هي بواسطة دلالته على ما عناه المتكلم وأراده ، وارادته وعنايته في قلبه ، فلا يعرف باللفظ ابتداء ، ولكن [لا] يعرف المعنى بغير اللفظ حتى يعلم أولا أن هذا المعنى المراد هو الذي يراد بذلك اللفظ ويعنى به ، فاذا عرف ذلك ثم سمع اللفظ مرة ثانية ، عرف المعنى المراد بلا اشارة. إليه. وان كانت الاشارة الى ما يحس بالباطن ، مثل الجوع والشيع والري والعطش والحزن والفرح ، فانه لا يعرف اسم ذلك حتى يجده من نفسه ، فاذا وجده أشير له إليه ، وعرف أن اسمه كذا ، والاشارة تارة تكون الى جوع نفسه أو عطش نفسه ، مثل أن يراه أنه قد جاع فيقول له : جعت ، أنت جائع ، فيسمع اللفظ ويعلم ما عينه بالاشارة أو ما يجري مجراها من القرائن التي تعين المراد ، مثل نظر أمه إليه في حال جوعه وادراكه بنظرها أو نحوه جنها تعني جوعه ، أو يسمعهم يعبرون بذلك عن جوع غيره.

اذا عرف ذلك فالمخاطب المتكلم اذا أراد بيان معان ، فلا يخلو اما أن يكون مما أدركها المخاطب المستمع باحساسه وشهوده ، أو بمعقوله ، واما أن لا يكون كذلك. فان كانت من القسمين الاولين لم يحتج الا الى معرفة اللغة ، بأن يكون قد عرف معاني الالفاظ المفردة ومعنى التركيب ، فاذا قيل له بعد ذلك : (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ. وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ) البلد ٨ ـ ٩ ، أو قيل له : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) النحل : ٧٨. ونحو ذلك ، فهم المخاطب بما أدركه بحسه ، وان كانت المعاني التي يراد تعريفه بها ليست مما أحسه وشهده بعينه ، ولا بحيث صار له معقول كلي يتناولها حتى يفهم به المراد بتلك الالفاظ ، بل هي مما [لا] يدركه بشيء من حواسه الباطنة والظاهرة ، فلا بد في تعريفه من طريق القياس والتمثيل والاعتبار بما بينه وبين معقولات الامور التي شاهدها من التشابه والتناسب ، وكلما كان التمثيل أقوى ، كان البيان أحسن ، والفهم أكمل.

فالرسول صلوات الله وسلامه عليه لما بين لنا أمورا لم تكن معروفة قبل ذلك ، وليس في لغتهم لفظ يدل عليها بعينها ، أتى بألفاظ تناسب معانيها تلك المعاني ، وجعلها أسماء لها ، فيكون بينها قدر مشترك ، كالصلاة ، والزكاة ، والصوم ، والايمان ، والكفر. وكذلك لما أخبرنا بأمور تتعلق بالايمان بالله وباليوم الآخر ، وهم

١٠٤

لم يكونوا يعرفونها قبل ذلك حتى يكون لهم ألفاظ تدل عليها بعينها ، أخذ من اللغة الالفاظ المناسبة لتلك بما تدل عليه من القدر المشترك بين تلك المعاني الغيبية ، والمعاني الشهودية التي كانوا يعرفونها ، وقرن بذلك من الاشارة ونحوها ما يعلم به حقيقة المراد ، كتعليم الصبي ، كما قال ربيعة ابن أبي عبد الرحمن (٤١) : الناس في حجور علمائهم كالصبيان في حجور آبائهم.

وأما ما يخبر به الرسول من الامور الغائبة ، فقد يكون مما أدركوا نظيره بحسهم وعقلهم ، كإخبارهم بأن الريح قد أهلكت عادا ، فان عادا من جنسهم والريح من جنس ريحهم ، وان كانت أشد. وكذلك غرق فرعون في البحر ، وكذا بقية الاخبار عن الامم الماضية. ولهذا كان الاخبار بذلك فيه عبرة لنا ، كما قال تعالى : (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ) يوسف : ١١١. وقد يكون الذي يخبر به الرسول ما لم يدركوا مثله الموافق له في الحقيقة من كل وجه لكن في مفرداته ما يشبه مفرداتهم من بعض الوجوه. كما اذا اخبرهم عن الامور الغيبية المتعلقة بالله واليوم الآخر ، فلا بد أن يعلموا معنى مشتركا وشبها بين مفردات تلك الالفاظ وبين مفردات ما علموه في الدنيا بحسهم وعقلهم. فاذا كان ذلك المعنى الذي في الدنيا لم يشهدوه بعد ، ويريد أن يجعلهم يشهدونه مشاهدة كاملة ليفهموا به القدر المشترك بينه وبين المعنى الغائب ، أشهدهم اياه ، وأشار لهم إليه ، وفعل قولا يكون حكاية له وشبها ، به يعلم المستمعون أن معرفتهم بالحقائق المشهودة هي الطريق التي يعرفون بها الامور الغائبة.

فينبغي أن يعرف هذه الدرجات : أولها : ادراك الانسان المعاني الحسية المشاهدة. وثانيها : عقله لمعانيها الكلية. وثالثها : تعريف الالفاظ الدالة على تلك المعاني الحسية والعقلية. فهذه المراتب الثلاث لا بد منها في كل خطاب. فاذا أخبرنا عن الامور الغائبة فلا بد من تعريفنا المعاني المشتركة بينها وبين الحقائق المشهودة والاشتباه الذي بينهما ، وذلك بتعريفنا الامور المشهودة. ثم إن كانت مثلها

__________________

(٤١) هو ربيعة بن فروخ المدني ابو عثمان امام حافظ فقيه مجتهد كان صاحب الفتوى في المدينة وبه تفقه الامام مالك ويلقب بربيعة الرأي.

١٠٥

لم يحتج الى ذكر الفارق ، كما تقدم في قصص الامم ، وان لم يكن مثلها بيّن ذلك بذكر الفارق ، بأن يقال : ليس ذلك مثل هذا ، ونحو ذلك. واذا تقرر انتفاء المماثلة كانت الاضافة وحدها كافية في بيان الفارق ، وانتفاء التساوي لا يمنع وجود القدر المشترك الذي هو مدلول اللفظ المشترك ، وبه صرنا نفهم الامور الغائبة ولو لا المعنى المشترك ما أمكن ذلك قط.

قوله : (ولا شيء يعجزه).

ش : لكمال قدرته. قال تعالى : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) البقرة : ٢٠. (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً) الكهف : ٤٥. (وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً) فاطر : ٤٤ (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) البقرة : ٢٥٥. «لا يؤده» أي : لا يكرثه (٤٢) ولا يثقله ولا يعجزه. فهذا النفي لثبوت كمال ضده ، وكذلك كل نفي يأتي في صفات الله تعالى في الكتاب والسنة إنما هو لثبوت كمال ضده ، كقوله تعالى : (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) الكهف : ٤٩ ، لكمال عدله. (لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) سبأ : ٣ ، لكمال علمه. وقوله تعالى : (وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) ق : ٣٨ ، لكمال قدرته. (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) البقرة : ٢٥٥ لكمال حياته وقيّوميته. (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) الانعام : ١٠٣ ، لكمال جلاله وعظمته وكبريائه ، والا فالنفي الصّرف لا مدح فيه ، ألا ترى أن قول الشاعر :

قبيلة لا يغدرون بذمة

ولا يظلمون الناس حبّة خردل

لما اقترن بنفي الغدر والظلم عنهم ما ذكره قبل هذا البيت وبعده ، وتصغيرهم بقوله «قبيلة» علم أن المراد عجزهم وضعفهم ، لا كمال قدرتهم. وقول الآخر :

لكنّ قومي وان كانوا ذوي عدد

لسوا من الشّر في شيء وان هانا

__________________

(٤٢) في «القاموس» : كرثه الغم يكرثه ويكرثه بكسر الراء وضمها. اشتد عليه ، كأكرثه.

١٠٦

لما اقترن بنفي الشر عنهم ما يدل على ذمهم ، علم أن المراد عجزهم وضعفهم أيضا.

ولهذا يأتي الاثبات للصفات في كتاب الله مفصلا ، والنفي مجملا ، عكس طريقة أهل الكلام المذموم : فانهم يأتون بالنفي المفصل والاثبات المجمل ، يقولون : ليس بجسم ولا شبح ولا جثة ولا صورة ولا لحم ولا دم ولا شخص ولا جوهر ولا عرض ولا بذي لون ولا رائحة ولا طعم ، ولا مجسّة (٤٣) ولا بذي حرارة ولا برودة ولا رطوبة ولا يبوسة ولا طول ولا عرض ولا عمق ولا اجتماع ولا افتراق ، ولا يتحرك ولا يسكن ولا يتبعض ، وليس بذي أبعاض وأجزاء وجوارح وأعضاء ، وليس بذي جهات ، ولا بذي يمين ولا شمال وأمام وخلف وفوق وتحت ، ولا يحيط به مكان ولا يجري عليه زمان ولا يجوز عليه المماسة ولا العزلة ولا الحلول في الاماكن ، ولا يوصف بشيء من صفات الخلق الدالة على حدوثهم ، ولا يوصف بأنه متناه ، ولا يوصف بمساحة ولا ذهاب في الجهات وليس بمحدود ، ولا والد ولا مولود ، ولا تحيط به الاقدار ولا تحجبه الاستار الى آخر ما نقله أبو الحسن الاشعري رحمه‌الله عن المعتزلة.

وفي هذه الجملة حق وباطل. ويظهر ذلك لمن يعرف الكتاب والسنة. وهذا النفي المجرّد مع كونه لا مدح فيه ، [فيه] اساءة أدب ، فانك لو قلت للسلطان : أنت لست بزبال ولا كساح ولا حجام ولا حائك! لأدبك على هذا الوصف وان كنت صادقا ، وانما تكون مادحا اذا أجملت النفي فقلت : انت لست مثل أحد من رعيتك ، أنت أعلى منهم وأشرف وأجل. فاذا أجملت في النفي اجملت في الادب.

والتعبير عن الحق بالالفاظ الشرعية النبوية الإلهية هو سبيل أهل السنة والجماعة. والمعطلة يعرضون عما قاله الشارع من الاسماء والصفات ، ولا يتدبرون معانيها ، ويجعلون ما ابتعدوه من المعاني والالفاظ هو المحكم الذي يجب اعتقاده واعتماده. [وأمه أهل الحق والسنة والايمان فيجعلون ما قاله الله ورسوله هو الحق

__________________

(٤٣) في الاصل مجنسة ويبدو ان النقط سهو من الناسخ وفي النسخ المطبوعة (بجثة) ويظهر أن الذي صححها كذا غفل عن ورودها في السطر السابق

.

١٠٧

الذي يجب اعتقاده واعتماده]. والذي قاله هؤلاء اما أن يعرضوا عنه اعراضا جمليّا ، أو يبينوا حاله تفصيلا ، ويحكم عليه بالكتاب والسنة ، [لا يحكم به على الكتاب والسنة].

والمقصود : أن غالب عقائدهم السلوب ، ليس بكذا ، ليس بكذا ، وأما الاثبات فهو قليل ، وهي أنه عالم قادر حي ، وأكثر النفي المذكور ليس متلقى عن الكتاب والسنة ، ولا عن الطرق العقلية التي سلكها غيرهم من مثبتة الصفات ، فان الله تعالى قال : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) الشورى : ١١. ففي هذا الاثبات ما يقرر معنى النفي. ففهم أن المراد انفراده سبحانه بصفات الكمال ، فهو سبحانه وتعالى موصوف بما وصف به نفسه ، ووصفه به رسله ، ليس كمثله شيء في صفاته ولا في أسمائه ولا في أفعاله ، مما أخبرنا به من صفاته ، وله صفات لم يطلع عليها أحد من خلقه ، كما قال رسوله الصادق صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دعاء الكرب : «اللهم اني أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك ، أن تجعل القرآن [العظيم] ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذاب همي وغمي» (٤٤). وسيأتي التنبيه على فساد طريقتهم في الصفات ان شاء الله تعالى.

وليس قول الشيخ رحمه‌الله تعالى «ولا شيء يعجزه» من النفي المذموم ، فأن الله تعالى قال : (وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً) فاطر : ٤٤ ، فنبه سبحانه وتعالى في آخر الآية على دليل انتفاء العجز ، وهو كمال العلم والقدرة ، فان العجز انما ينشأ إما من الضعف عن القيام بما يريده الفاعل ، واما من عدم علمه به ، والله تعالى لا يعزب عنه مثقال ذرة ، وهو على كل شيء قدير ، وقد علم ببدائه العقول والفطر كمال قدرته وعلمه ، فانتفى العجز ، لما

__________________

(٤٤) صحيح ، وان اعله الذهبي بجهالة ابي سلمة ، وتبعته عليه برهة من الزمن ، فقد تبين لي فيما بعد أن أبا سلمة هذا ثقة معروف ، وان اسناده متصل صحيح ، في تحقيق اجريته عليه ، لا اظن أحدا سبقني إليه ، أودعته في «الاحاديث الصحيحة» (١٩٩).

١٠٨

بينه وبين القدرة من التضاد ، ولان العاجز لا يصلح أن يكون إلها ، تعالى الله عن ذكر ذلك علوّا كبيرا.

قوله : (ولا إله غيره).

ش : هذه كلمة التوحيد التي دعت إليها الرسل كلهم ، كما تقدم ذكره. واثبات التوحيد بهذه الكلمة باعتبار النفي والاثبات المقتضي للحصر ، فان الاثبات المجرد قد يتطرق إليه الاحتمال. ولهذا ـ والله أعلم ـ لما قال تعالى : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) البقرة : ١٦٣ ، قال بعده : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) البقرة : ١٦٣. فانه قد يخطر ببال أحد خاطر شيطاني : هب أن الهنا واحد ، فلغيرنا إله غيره ، فقال تعالى : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ [الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ]).

وقد اعترض صاحب «المنتخب» على النحويين في تقدير الخبر في «لا إله الا هو» (٤٤١) ـ فقالوا : تقديره : لا إله في الوجود الا الله ، فقال : يكون ذلك نفيا لوجود

__________________

(٤٤١) كتب سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز ، جزاه الله كل خير ـ على هذا الموضع ، بالتعليق التالي :

ما قاله صاحب المنتخب ليس بجيد وهكذا ما قاله النحاة وأيده الشيخ أبو عبد الله المرسي من تقدير الخبر بكلمة (في الوجود) ليس بصحيح ، لأن الآلهة المعبودة من دون الله كثيرة وموجودة وتقدير الخبر بلفظ «في الوجود لا يحصل به المقصود من بيان احقية ألوهية الله سبحانه وبطلان ما سواها» لأن لقائل أن يقول : كيف تقولون «لا إله في الوجود الا الله»؟ وقد اخبر الله سبحانه عن وجود آلهة كثيرة للمشركين ، كما في قوله سبحانه : (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) وقوله سبحانه : (فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً) الآية.

فلا سبيل الى التخلص من هذا الاعتراض وبيان عظمة هذه الكلمة وانها كلمة التوحيد المبطلة لآلهة المشركين وعبادتهم من دون الله ، الا بتقدير الخبر بغير ما ذكره النحاة ، وهو كلمة (حق) لأنها هي التي توضح بطلان جميع الآلهة وتبين أن الا له الحق والمعبود بالحق هو الله وحده كما نبه على

١٠٩

الا له. ومعلوم أن نفي الماهية أقوى في التوحيد الصرف من نفي الوجود ، فكان إجراء الكلام على ظاهره والاعراض عن هذا الاضمار أولى.

وأجاب أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي (٤٥) في «ريّ الظمآن» فقال : هذا كلام من لا يعرف لسان العرب ، فإن «إله» في موضع المبتدأ على قول

__________________

ـ ذلك جمع من أهل العلم منهم ابو العباس ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم وآخرون رحمهم‌الله.

ومن ادلة ذلك قوله سبحانه : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ) فأوضح سبحانه في هذه الآية أنه هو الحق وان ما دعاه الناس من دونه هو الباطل ، فشمل ذلك جميع الآلهة المعبودة من دون الله من البشر والملائكة والجن وسائر المخلوقات ، واتضح بذلك انه المعبود بالحق وحده ، ولهذا انكر المشركون هذه الكلمة وامتنعوا من الاقرار بها لعلمهم بأنها تبطل آلهتهم لأنهم فهموا ان المراد بها نفي الالوهية بحق عن غير الله سبحانه ولهذا قالوا جوابا لنبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لما قال لهم : قولوا ، لا إله الا الله (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) ، وقالوا أيضا : (أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ) ، وما في معنى ذلك من الآيات.

وبهذا التقدير يزول جميع الأشكال ويتضح الحق المطلوب.

والله ولي التوفيق.

عبد العزيز بن عبد الله بن باز

(٤٥) في الاصل : المرشي ، وقال الاستاذ أحمد شاكر رحمه‌الله والمرسي هذا : هو شرف الدين محمد بن عبد الله بن محمد بن أبي الفضل المرسي الاندلسي ، «الاديب النحوي المفسر المحدث الفقيه» ، كما وصفه ياقوت. لقيه ياقوت بمصر سنة ٦٢٤ ، وأخبره أن مولده سنة ٥٧٠ ، وذكر كثيرا من مؤلفاته : منها : «تفسير القرآن ، سماه : ري الظمآن في تفسير القرآن ، كبير جدا ، قصد فيه ارتباط الآي بعضها ببعض». انظر ترجمته في «معجم الادباء» ٧ : ١٦ ـ ١٧. وتوفي شرف الدين هذا في طريق العريش سنة ٦٥٥. وترجمه ابن كثير في التاريخ ١٣ : ١٩٧ ، وابن العماد في «الشذرات» ٥ : ٢٦٩. وهو الذي سمع منه رضي الدين الطبري «صحيح ابن حبان» ، كما أثبتنا ذلك في مقدمة «صحيح ابن حبان» ص : ٢٧. ومما يستغرب من شأنه ، ما ذكره ياقوت : انه «كانت له كتب في البلاد التي ينتقل فيها ، بحيث لا يستصحب كتبا في سفره ، اكتفاء بما له من الكتب في البلد الذي يسافر إليه» رحمه‌الله.

١١٠

سيبويه ، وعند غيره اسم «لا» ، وعلى التقديرين فلا بد من خبر المبتدأ ، والا فما قاله من الاستغناء عن الاضمار فاسد. وأما قوله : اذا لم يضمر يكون نفيا للماهية ـ فليس بشيء ، لأن نفي الماهية هو نفي الوجود ، لا تتصور الماهية الا مع الوجود ، فلا فرق بين «لا ماهية» و «لا وجود». وهذا مذهب أهل السنة ، خلافا للمعتزلة ، فانهم يثبتون ماهية عارية عن الوجود ، و «الا الله» ـ مرفوع ، بدلا من «لا إله» لا يكون خبرا ل «لا» ، ولا للمبتدإ. وذكر الدليل على ذلك.

وليس المراد هنا ذكر الاعراب ، بل المراد رفع الاشكال الوارد على النحاة في ذلك ، وبيان أنه من جهة المعتزلة. وهو فاسد : فان قولهم : نفي الوجود ليس تقييدا ، لأن العدم ليس بشيء ، قال تعالى : (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) مريم : ٩. ولا يقال : ليس قوله : غيره كقوله : الا الله ، لأن غير تعرب باعراب الاسم الواقع بعد الا. فيكون التقدير للخبر فيهما واحدا. فلهذا ذكرت هذا الاشكال وجوابه هنا.

قوله : (قديم بلا ابتداء ، دائم بلا انتهاء)

ش : قال الله تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) الحديد : ٣. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم أنت الاول فليس قبلك شيء ، وأنت الآخر فليس بعدك شيء» (٤٦). فقول الشيخ قديم بلا ابتداء ، دائم بلا انتهاء هو معنى اسمه الاول والاخر. والعلم بثبوت هذين الوصفين مستقر في الفطر ، فان الموجودات لا بد أن تنتهي الى واجب الوجود لذاته ، قطعا للتسلسل. فإنا نشاهد حدوث الحيوان والنبات والمعادن وحوادث الجو كالسحاب والمطر وغير ذلك ، وهذه الحوادث وغيرها ليست ممتنعة ، فإن الممتنع لا يوجد ، ولا واجبة الوجود بنفسها ، فإن واجب الوجود بنفسه لا يقبل العدم ، وهذه كانت معدومة ثم وجدت ، فعدمها ينفي وجودها ، ووجودها ينفي امتناعها ، وما كان قابلا للوجود والعدم لم يكن وجوده بنفسه ، كما قال تعالى :

__________________

(٤٦) أخرجه مسلم (٨ / ٧٨ ـ ٧٩) في حديث أوله : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأمرنا اذا أخذنا مضجعنا أن نقول ..» فذكره.

١١١

(أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) الطور : ٣٥. يقول سبحانه : أحدثوا من غير محدث أم هم أحدثوا أنفسهم؟ ومعلوم أن الشيء المحدث لا يوجد نفسه ، فالممكن الذي ليس له من نفسه وجود ولا عدم لا يكون موجودا بنفسه ، بل ان حصل ما يوجده والا كان معدوما ، وكل ما أمكن وجوده بدلا عن عدمه وعدمه بدلا عن وجوده ، فليس له من نفسه وجود ولا عدم لازم له.

واذا تأمل الفاضل غاية ما يذكره المتكلمون والفلاسفة من الطرق العقلية ، وجد الصواب منها يعود الى بعض ما ذكر في القرآن من الطرق العقلية بأفصح عبارة وأوجزها ، وفي طرق القرآن من تمام البيان والتحقيق ما لا يوجد عندهم مثله ، قال تعالى : (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) الفرقان : ٣٣.

ولا نقول : لا ينفع الاستدلال بالمقدمات الخفية والادلة النظرية ـ : فان الخفاء والظهور من الامور النسبية ، فربما ظهر لبعض الناس ما خفي على غيره ، ويظهر للانسان الواحد في حال ما خفي عليه في حال أخرى. وأيضا فالمقدمات وان كانت خفية فقد يسلمها بعض الناس وينازع فيما هو أجلى منها ، وقد تفرح النفس بما علمته من البحث والنظر ما لا تفرح بما علمته من الأمور الظاهرة. ولا شك أن العلم بإثبات الصانع ووجوب وجوده أمر ضروري فطري ، وان كان يحصل لبعض الناس من الشبه ما يخرجه الى الطرق النظرية.

وقد أدخل المتكلمون في أسماء الله تعالى القديم ، وليس هو من الاسماء الحسنى ، فان القديم في لغة العرب التي نزل بها القرآن : هو المتقدم على غيره ، فيقال : هذا قديم ، للعتيق ، وهذا حديث ، للجديد. ولم يستعملوا هذا الاسم الا في المتقدم على غيره ، لا فيما [لم] يسبقه عدم ، كما قال تعالى : (حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) يس : ٣٩. والعرجون القديم : الذي يبقى الى حين وجود العرجون الثاني ، فاذا وجد الجديد قيل للاول : قديم ، وقال تعالى : (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) الاحقاف : ١١ ، أي متقدم في الزمان. وقال تعالى : (أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ. أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ) الشعراء : ٧٥ ، ٧٦. فالاقدم مبالغة في القديم ، ومنه : القول القديم والجديد للشافعي رحمه‌الله تعالى. وقال تعالى : (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ) هود : ٩٨ ، أي

١١٢

يتقدمهم. ويستعمل منه الفعل لازما ومتعديا ، كما يقال : أخذت ما قدّم وما حدث ، ويقال : هذا قدم هذا وهو يقدمه. ومنه سميت القدم قدما ، لانها تقدم بقية بدن الانسان وأما ادخال القديم في أسماء الله تعالى ، فهو مشهور عند أكثر أهل الكلام. وقد أنكر ذلك كثير من السلف والخلف ، منهم ابن حزم. ولا ريب أنه اذا كان مستعملا في نفس التقدم ، فان ما تقدم على الحوادث كلها فهو أحق بالتقدم من غيره. لكن أسماء الله تعالى هي الاسماء الحسنى التي تدل [على] خصوص ما يمدح به ، والتقدم في اللغة مطلق لا يختص بالتقدم على الحوادث كلها ، فلا يكون من الاسماء الحسنى. وجاء الشرع باسمه الاول. وهو أحسن من القديم ، لانه يشعر بأن ما بعده آئل إليه وتابع له ، بخلاف القديم. والله تعالى له الاسماء الحسنى لا الحسنة.

قوله : (لا يفنى ولا يبيد).

ش : اقرار بدوام بقائه سبحانه وتعالى ، قال عز من قائل : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ. وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) الرحمن : ٢٦ ـ ٢٧. والفناء والبيد متقاربان في المعنى ، والجمع بينهما في الذكر للتأكيد ، وهو أيضا مقرّر ومؤكّد لقوله : دائم بلا انتهاء.

قوله : (ولا يكون الا ما يريد).

ش : هذا رد لقول القدرية والمعتزلة ، فانهم زعموا أن الله أراد الايمان من الناس كلّهم والكافر أراد الكفر. وقولهم فاسد مردود ، لمخالفته الكتاب والسنة والمعقول الصحيح ، وهي مسألة القدر المشهورة ، وسيأتي لها زيادة بيان ان شاء الله تعالى.

وسموا قدرية لانكارهم القدر ، وكذلك تسمى الجبرية المحتجون بالقدر قدرية أيضا. والتسمية على الطائفة الاولى أغلب.

أما أهل السنة [فيقولون] : ان الله وان كان يريد المعاصي قدرا ـ فهو لا يحبهما ولا يرضاها ولا يأمر بها ، بل يبغضها ويسخطها ويكرهها وينهى عنها. وهذا قول

١١٣

السلف قاطبة ، فيقولون : ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن. ولهذا اتفق الفقهاء على أن الحالف لو قال : والله لأفعلن كذا ان شاء الله ـ لم يحنث ـ اذا لم يفعله وان كان واجبا أو مستحبا. ولو قال : ان أحب الله ـ حنث ـ اذا كان واجبا أو مستحبا.

والمحققون من أهل السنة يقولون : الإرادة في كتاب الله نوعان : إرادة قدرية كونية خلقية ، وإرادة دينية أمرية شرعية ، فالإرادة الشرعية هي المتضمنة للمحبة والرضى ، والكونية هي المشيئة الشاملة لجميع الموجودات.

وهذا كقوله تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) الانعام : ١٢٥. وقوله تعالى عن نوح عليه‌السلام : (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) هود : ٣٤. وقوله تعالى : (وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) البقرة : ٢٥٣.

وأما الإرادة الدينية الشرعية الامرية ، فكقوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) البقرة : ١٨٥ ، وقوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) النساء : ٢٦. (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً. يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) النساء : ٢٧ ، ٢٨. وقوله تعالى : (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) المائدة : ٦. وقوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) الاحزاب : ٣٣.

فهذه الإرادة هي المذكورة في مثل قول الناس لمن يفعل القبائح : هذا يفعل ما لا يريده الله ، أي : لا يحبه ولا يرضاه ولا يأمر به.

واما الإرادة الكونية فهي الإرادة المذكورة في قول المسلمين : ما شاء الله كان ولم يشأ لم يكن.

والفرق ثابت بين إرادة المريد أن يفعل ، وبين ارادته من غيره أن يفعل. فاذا أراد الفاعل أن يفعل فعلا فهذه الإرادة معلقة بفعله ، واذا أراد من غيره أن يفعل فعلا

١١٤

فهذه الإرادة لفعل الغير ، وكلا النوعين معقول للناس ، والامر يستلزم الإرادة الثانية دون الاولى ، فالله تعالى اذا أمر العباد بأمر فقد يريد اعانة المأمور على [ما] أمر به وقد لا يريد ذلك ، وان كان مريدا منه فعله.

وتحقيق هذا مما يبين فصل النزاع في أمر الله تعالى : هل هو مستلزم لإرادته أم لا؟ فهو سبحانه أمر الخلق على ألسن رسله عليهم‌السلام بما ينفعهم ونهاهم عما يضرهم ، ولكن منهم من أراد أن يخلق فعله ، فأراد سبحانه أن يخلق ذلك الفعل ويجعله فاعلا له. ومنهم من لم يرد أن يخلق فعله ، فجهة خلقه سبحانه لأفعال العباد وغيرها من المخلوقات ، غير جهة أمره للعبد على وجه البيان لما هو مصلحة للعبد أو مفسدة ، وهو سبحانه ـ اذ أمر فرعون وأبا لهب وغيرهما بالايمان ـ كان قد بيّن لهم ما ينفعهم ويصلحهم اذا فعلوه ، ولا يلزم اذا أمرهم أن يعينهم ، بل قد يكون في خلقه لهم ذلك الفعل واعانتهم عليه وجه مفسدة من حيث هو فعل له ، فإنه يخلق ما يخلق لحكمة ، ولا يلزم اذا كان الفعل المأمور به مصلحة للمأمور ، اذا فعله ـ أن يكون مصلحة للامر اذا فعله هو أو جعل المأمور فاعلا له. فأين جهة الخلق من جهة الأمر؟ فالواحد من الناس يأمر غيره وينهاه مريدا النصيحة ومبينا لما ينفعه ، وان كان مع ذلك لا يريد أن يعينه على ذلك الفعل ، اذ ليس كل ما كان مصلحتي في أن آمر به غيري وأنصحه ـ يكون مصلحتي في أن أعاونه أنا عليه ، بل قد تكون مصلحتي إرادة ما يضاده. فجهة أمره لغيره نصحا غير جهة فعله لنفسه ، واذا أمكن الفرق في حق المخلوقين فهو في حق الله أولى بالامكان.

والقدرية تضرب مثلا بمن أمر غيره بأمره ، فإنه لا بد أن يفعل ما يكون المأمور أقرب الى فعله ، كالبشر والطلاقة وتهيئة المساند والمقاعد ونحو ذلك.

فيقال لهم : هذا يكون على وجهين : أحدهما : أن تكون مصلحة الامر تعود الى الآمر ، كأمر الملك جنده بما يؤيد ملكه ، وأمر السيد عبده بما يصلح ملكه ، وأمر الانسان شريكه بما يصلح الامر المشترك بينهما ، ونحو ذلك.

الثاني : أن يكون الآمر يرى الاعانة للمأمور مصلحة له ، كالأمر بالمعروف ، واذا أعان المأمور على البر والتقوى فإنه قد علم أن الله يثيبه على اعانته على الطاعة ، وأنه في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه. فأما اذا قدر ان الآمر انما أمر المأمور

١١٥

لمصلحة المأمور ، لا لنفع يعود على الآمر من فعل المأمور ، كالناصح المشير ، وقدر أنه اذا أعانه لم يكن ذلك مصلحة للآمر ، وأن في حصول مصلحة المأمور مضرة على الآمر ، مثل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى وقال لموسى عليه‌السلام : (إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) القصص : ٢٠. فهذا مصلحته في أن يأمر موسى عليه‌السلام بالخروج ، لا [في] أن يعينه على ذلك ، اذ لو أعانه لضره قومه. ومثل هذا كثير.

واذا قيل : ان الله أمر العباد بما يصلحهم ، لم يلزم من ذلك أن يعينهم على [ما] أمرهم به ، لا سيما وعند القدرية لا يقدر أن يعين أحدا على ما به يصير فاعلا. واذا عللت أفعاله بالحكمة ، فهي ثابتة في نفس الامر ، وان كنا نحن لا نعلمها. فلا يلزم اذا كان نفس الآمر له حكمة في الامر أن يكون في الاعانة على فعل المأمور به حكمة ، بل قد تكون الحكمة تقتضي ان لا يعينه على ذلك ، فإنه اذا أمكن في المخلوق أن يكون مقتضى الحكمة والمصلحة أن يأمر لمصلحة المأمور ، وأن تكون الحكمة والمصلحة للآمر أن لا يعينه على ذلك ـ : فإمكان ذلك في حق الرب أولى وأخرى.

والمقصود : أنه يمكن في حق المخلوق الحكيم أن يأمر غيره بأمر ولا يعينه عليه ، فالخالق أولى بإمكان ذلك في حقه مع حكمته. فمن أمره وأعانه على فعل المأمور كان ذلك المأمور به قد تعلق به خلقه وأمره إنشاء وخلقا ومحبة ، فكان مرادا بجهة الخلق ومرادا بجهة الأمر. ومن لم يعنه على فعل المأمور كان ذلك المأمور قد تعلق به أمره ولم يتعلق به خلقه ، لعدم الحكمة المقتضية لتعلق الخلق به ، ولحصول الحكمة المقتضية لخلق ضده. وخلق أحد الضدين ينافي خلق الضد الآخر ، فإن خلق المرض ـ الذي يحصل به ذل العبد لربه ودعاؤه وتوبته وتكفير خطاياه ويرق به قلبه ويذهب عنه الكبرياء والعظمة والعدوان ـ يضاد خلق الصحة التي لا تحصل معها هذه المصالح. ولذلك [كان] خلق ظلم الظالم ـ الذي يحصل به للمظلوم من جنس ما يحصل بالمرض ـ يضاد خلق عدله الذي لا يحصل به هذه المصالح ، وان كانت مصلحته هو في أن يعدل.

وتفصيل حكمة الله عزوجل في خلقه وأمره ، يعجز عن معرفته عقول البشر ،

١١٦

والقدرية دخلوا في التعليل (٤٧) على طريقة فاسدة : مثّلوا الله فيها يخلقه ، ولم يثبتوا حكمة تعود إليه.

قوله : (لا تبلغه الاوهام ، ولا تدركه الافهام)

ش : قال الله تعالى : (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) طه : ١١٠ قال في «الصحاح» : توهمت الشيء : ظننته ، وفهمت الشيء : علمته. فمراد الشيخ رحمه‌الله : أنه لا ينتهي إليه وهم ، ولا يحيط به علم. قيل : الوهم ما يرجى كونه ، أي : يظن انه على صفة كذا ، والفهم : هو ما يحصله العقل ويحيط به. والله تعالى لا يعلم كيف هو الا هو سبحانه وتعالى ، وانما نعرفه سبحانه بصفاته ، وهو أنه أحد ، صمد ، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا احد ، (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) البقرة : ٢٥٥. (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ. هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) الحشر : ٢٣ ـ ٢٤.

قوله : (ولا يشبهه الانام).

ش : هذا رد لقول المشبّهة ، الذين يشبهون الخالق بالمخلوق ، سبحانه وتعالى ، قال عزوجل : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) الشورى : ١١. وليس المراد نفي الصفات كما يقول أهل البدع فمن كلام أبي حنيفة رحمه‌الله في «الفقه الاكبر» : لا يشبه شيئا من خلقه ولا يشبهه شيء من خلقه. ثم قال بعد ذلك : وصفاته كلها خلاف صفات المخلوقين ، يعلم لا كعلمنا ، ويقدر لا كقدرتنا ، ويرى لا كرؤيتنا. انتهى. وقال نعيم بن حماد (٤٨) : من شبه الله بشيء من خلقه فقد كفر ،

__________________

(٤٧) في المطبوعة : التعطيل وهو خطأ لأن السياق يأباه.

(٤٨) هو نعيم بن حماد الخزاعي المروزي أبو عبد الله أول من جمع المسند في الحديث ، كان من أعلم الناس بالفرائض ، أقام مدة في العراق والحجاز يطلب الحديث ثم سكن مصر. قال الحافظ في «التقريب» : صدوق يخطئ كثيرا. مات سنة ثمان وعشرين ومائتين.

١١٧

ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر ، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه. وقال اسحاق بن راهويه (٤٩) : من وصف الله فشبّه صفاته بصفات احد من خلق الله فهو كافر بالله العظيم. وقال : علامة جهم وأصحابه ؛ دعواهم على أهل السنة والجماعة ما أولعوا به من الكذب ـ : أنهم مشبّهة ، بل هم المعطلة. وكذلك قال خلق كثير من أئمة السلف : علامة الجهمية تسميتهم أهل السنة مشبهة ، فانه ما من أحد من نفاة شيء من الاسماء والصفات الا يسمي المثبت لها مشبها ، فمن أنكر أسماء الله بالكلية من غالية الزنادقة ؛ القرامطة والفلاسفة ، وقال : ان الله لا يقال له : عالم ولا قادر ـ : يزعم أن من سماه بذلك فهو مشبه ، لأن الاشتراك في الاسم يوجب الاشتباه في معناه ، ومن أثبت الاسم وقال : هو مجاز ، كغالية الجهمية ، يزعم أن من قال : ان الله عالم حقيقة ، قادر حقيقة ـ : فهو مشبه ، ومن أنكر الصفات وقال : ان الله ليس له علم ولا قدرة ولا كلام ولا محبة ولا إرادة ـ قال لمن أثبت الصفات : أنه مشبه ، وانه مجسم. ولهذا كتب نفاة الصفات ، من الجهمية والمعتزلة والرافضة ونحوهم ، كلها مشحونة بتسمية مثبتة الصفات مشبهة ومجسمة ، ويقولون في كتبهم : ان من جملة المجسمة قوما يقال لهم : المالكية ، ينسبون الى رجل يقال له : مالك بن أنس ، وقوما يقال لهم الشافعية ، ينسبون الى رجل يقال له : محمد بن ادريس!! حتى الذين يفسرون القرآن منهم ، كعبد الجبار ، والزمخشري ، وغيرهما ، يسمّون كل من أثبت شيئا من الصفات وقال بالرؤية ـ مشبّها ، وهذا الاستعمال قد غلب عند المتأخرين من غالب الطوائف.

ولكن المشهور من استعمال هذا اللفظ عند علماء السنة المشهورين : أنهم لا يريدون بنفي التشبيه نفي الصفات ، ولا يصفون به كل من أثبت الصفات. بل

__________________

(٤٩) هو اسحاق بن ابراهيم التميمي المروزي ابو يعقوب عالم خراسان في عصره قال فيه الخطيب البغدادي : اجتمع له الحديث والفقه والحفظ والصدق والورع والزهد. روى عنه البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم.

١١٨

مرادهم أنه لا يشبه المخلوق في أسمائه وصفاته وأفعاله ، كما تقدم من كلام أبي حنيفة رحمه‌الله أنه تعالى يعلم ا كعلمنا ، ويقدر لا كقدرتنا ، ويرى لا كرؤيتنا. وهذا معنى قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) الشورى : ١١. فنفى المثل وأثبت الصفة.

وسيأتي في كلام الشيخ اثبات الصفات ، تنبيها على أنه ليس نفي التشبيه مستلزما لنفي الصفات.

ومما يوضح هذا أن العلم الالهي لا يجوز أن يستدل فيه بقياس تمثيلي يستوي فيه الاصل والفرع ، ولا بقياس شمولي يستوي أفراده ، فان الله سبحانه ليس كمثله شيء ، فلا يجوز أن يمثل بغيره ، ولا يجوز أن يدخل هو وغيره تحت قضية كلية يستوي أفرادها. ولهذا لما سلكت طوائف من المتفلسفة والمتكلمة مثل هذه الاقيسة في المطالب الالهية ـ لم يصلوا بها الى اليقين ، بل تناقضت أدلتهم ، وغلب عليهم بعد التناهي الحيرة والاضطراب ، لما يرونه من فساد أدلتهم أو تكافيها (٥٠)

ولكن يستعمل في ذلك قياس الأولى ، سواء كان تمثيلا أو شمولا ، كما قال تعالى : (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى) النحل : ٦٠. مثل أن يعلم أن كل كمال للممكن أو للمحدث ، لا نقص فيه بوجه من الوجوه ، وهو ما كان كمالا للوجود غير مستلزم للعدم بوجه ـ : فالواجب القديم أولى به. وكل كمال لا نقص فيه بوجه من الوجوه ، ثبت نوعه للمخلوق والمربوب المدبّر ـ : فانما استفاده من خالقه وربه ومدبّره ، وهو أحق به منه. وأن كل نقص وعيب في نفسه ، وهو ما تضمن سلب هذا الكمال ، اذا وجب نفيه عن شيء من أنواع المخلوقات والممكنات والمحدثات ـ : فانه يجب نفيه عن الرب تعالى بطريق الاولى.

ومن أعجب العجب : أن من غلاة نفاة الصفات الذين يستدلون بهذه الآية الكريمة على نفي الصفات والاسماء ، ويقولون : واجب الوجود لا يكون كذا ولا يكون كذا ـ ثم يقولون : أصل الفلسفة هي التشبيه بالإله على قدر الطاقة ،

__________________

(٥٠) أصل هذه الكلمة تكافئها ، وتسهيل الهمزة حولها الى ما ترى ومعناها : تساويها.

١١٩

ويجعلون هذا غاية الحكمة ونهاية الكمال الانساني ، ويوافقهم على ذلك بعض من يطلق هذه العبارة. ويروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «تخلّقوا بأخلاق الله» (٥١) ، فاذا كانوا ينفون الصفات ، فبأي شيء يتخلق العبد على زعمهم؟! وكما أنه لا يشبه شيئا من مخلوقاته تعالى ، لا يشبهه شيء من مخلوقاته ، لكن المخالف في هذا النصارى والحلولية والاتحادية لعنهم الله تعالى. ونفي مشابهة شيء من مخلوقاته له ، مستلزم لنفي مشابهته لشيء من مخلوقاته. فلذلك اكتفى الشيخ رحمه‌الله بقوله ولا يشبهه الانام. والانام : الناس ، وقيل ؛ كل ذي روح ، وقيل : الثقلان. وظاهر قوله تعالى : (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) الرحمن : ١٠ ـ يشهد للأول أكثر من الباقي. والله أعلم.

قوله : (حي لا يموت قيوم لا ينام).

ش : قال تعالى : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) البقرة : ٢٥٥ ، فنفي السّنة والنوم دليل على كمال حياته وقيّوميته. وقال تعالى : (الم. اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ. نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) آل عمران : ١ ـ ٣. وقال تعالى : (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) طه : ١١١. وقال تعالى : (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) الفرقان : ٥٨ وقال تعالى : (هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) غافر : ٦٥ وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ان الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام» (٥٢) ، الحديث.

لما نفى الشيخ رحمه‌الله التشبيه ، أشار الى ما تقع به التفرقة بينه وبين خلقه ، بما يتصف به تعالى دون خلقه : فمن ذلك : أنه حي لا يموت ، لأن صفة الحياة الباقية مختصة به تعالى ، دون خلقه ، فإنهم يموتون. ومنه : أنه قيوم لا ينام ، اذ هو مختص

__________________

(٥١) لا نعرف له أصلا في شيء من كتب السنة ، ولا في «الجامع الكبير» للسيوطي ، نعم أورده في كتابه «تأييد الحقيقة العلية» (ق ٨٩ / ١) ، لكنه لم يعزه لأحد!

(٥٢) رواه مسلم وابن ماجه وأبو سعيد الدارمي في «الرد على الجهمية» وقد قام بطبعه المكتب الاسلامي ، وهو طرف من حديث ابي موسى الاشعري ، وسيأتي بتمامه (رقم ١٧١).

١٢٠