المعجزة القرآنيّة

الدكتور محمد حسن هيتو

المعجزة القرآنيّة

المؤلف:

الدكتور محمد حسن هيتو


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٤٢

والخلاصة أن قائل هذا القول ، والآتي بهذه الفرية ، يزعم أن القرآن لم يصل بذاته إلى حد الإعجاز الذي لا يستطيع البشر معارضته به ، بل إن الإعجاز فيه كان عارضا له بصرف الله الناس عن معارضته ، وذلك لأحد الأسباب الآتية : ـ

١ ـ إن بواعث معارضة القرآن ودواعيها لم تتوفر عند العرب ، ولو توفرت عندهم دواعي المعارضة وبواعثها لعارضوه ، إذن فقدرة الله تعلقت بالبواعث التي تبعث على المعارضة ، فلم توجدها ، حتى لا توجد المعارضة وتسلم المعجزة.

٢ ـ إن البواعث والدواعي قد وجدت ، إلا أن الله تعالى صرفهم عن المعارضة بتزهيدهم بها ، وعدم اهتمامهم لها ، ولذلك تقاعسوا وقعدوا عن المعارضة ، فقدرة الله صرفتهم عن المعارضة بتزهيدهم فيها.

٣ ـ إن البواعث وجدت ، والدواعي توفرت ، والهمم استوفزت ، والرغبة في المعارضة ظهرت ، وكانوا يريدون هذا ، إلا أن الله عطل مواهبهم ، وأذهب قدرتهم ، فلم يستطيعوا معارضة القرآن.

«وإذا تأملنا هذه الفروض الثلاثة التي التمسوها ، أو التمست لهم ، علمنا أن عدم معارضة العرب للقرآن لم تجيء من ناحية إعجازه البلاغي في زعمهم ، بل جاءت على الفرضين الأولين من ناحية عدم اكتراث العرب بهذه المعارضة ، ولو أنهم حاولوها لنالوها ، وجاءت على الفرض الثالث من ناحية عجزهم عنها ، لكن بسبب خارجي عن القرآن ، وهو وجود مانع منعهم منها قهرا ، وذلك المانع هو حماية الله لهذا الكتاب ، وحفظه إياه من معارضة المعارضين ، وإبطال

__________________

(١) القواطع ٢٥٤.

٨١

المبطلين ، ولو أن هذا المانع زال ، لجاء الناس بمثله ، لأنه لا يعلو على مستواهم في بلاغته ونظمه» (١).

وسوف نتكلم إن شاء الله على كل واحد من هذه الاحتمالات التي توهموها بما يوضح المقال ، ويزيل الإشكال ، ويبين الحقيقة ، ونبدأ بالكلام على الاحتمال الأول الذي فرضوه لتعليل الصرفة ، وهو عدم وجود الدواعي التي تدعو إلى معارضة القرآن ، ولذلك صرفت هممهم عنها فنقول :

إن هذا زعم باطل ، ووهم كاذب ، وخروج عن طور النقاش والجدل ، إلى طور العناد والبهتان ، وإعراض عن الواقع البين الصريح إلى الخيال العاجز القبيح.

وذلك أن الخيال يقبل من الإنسان إذا كان له إلى التصديق سبيل ، ولو كان هذا السبيل من قبيل الاحتمال المرجوح الضعيف ، أما إذا وصل الخيال لدرجة لا يمكن فيها أن يصدق ولو على سبيل الاحتمال المرجوح ، فإن الأمر في هذه الحالة يرجع إلى العجز والضعف ، والسفسطة والسخف ،

وكيف يجوز لعاقل أن يفرض مثل هذا الاحتمال ، وآيات القرآن الكريم تتلى صباح مساء ، تقرع أسماع العرب بفصحائهم ، وشعرائهم ، وبلغائهم ، وسادتهم ، وسوقتهم ، تقرع أسماعهم بعبارات التحدي ، الذي بدأ بكل القرآن ، ثم نزل إلى عشر سور منه ، ثم نزل إلى سورة واحدة ، كما بينا ذلك مفصلا في أول البحث (٢).

ثم بعد ذلك وصل ذروته حينما أخبرهم القرآن بأنهم لن يستطيعوا ذلك إلى يوم القيامة ، في قوله جلّ ذكره : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا ، وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ) (سورة البقرة : آية ٢٤).

__________________

(١) مناهل العرفان ٢ / ٤١٤.

(٢) انظر : ص ٣٣.

٨٢

أو يقال بعد هذا : إن الدواعي التي تدعو إلى المعارضة لم توجد؟ على ما هو معروف للعامة والخاصة من حمية العرب ، وأنفتهم ، وعدم صبرهم على ما هو دون هذه التحديات بكثير؟.

ومتى تتوفر الدواعي إذا لم تتوفر ساعة التحدي ..؟؟.

ولا سيما أن القرآن لم يكتف بالتحدي في مجال المعارضة فحسب ، بل أثار حفائظ العرب ، واستنفر كل طاقاتهم لتحديه ، وذلك بتسفيهه لأحلامهم ، وتشويهه لمعتقداتهم ، وتغييره لعاداتهم ، ولا يمكن للإنسان أن يستثار أبدا استثارة أقوى وأعنف من استثارته في مجال عقيدته ، عند ما تهان ، أو يعتدى عليها.

فكيف يمكن أن يقال : إن بواعث المعارضة لم توجد رغم هذا التحدي لهم؟.

إن البواعث بلا ريب قد وجدت ، وكانت كافية لا لإثارة الإنسان العربي فقط ، بل لإثارة كل من قرع سمعه ذلك التحدي الرهيب في أعظم وأبلغ معانيه ، مما أثار الحفائظ ، وأضرم نار الحقد والتحدي عند كل المعارضين لهذا الدين ، والواقع أكبر شاهد على هذا ودليل.

وذلك بإعلان العداء الصريح لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولأصحابه ، من كل من آمن معه ، من وجوه العرب وغيرهم.

فآذوه بكل أنواع الأذى حتى هموا في نهاية المطاف بقتله.

وآذوا أصحابه أشد أنواع الأذى ، وساموهم أبشع أنواع العذاب ، من رجال ونساء حتى وصل الأمر ببعضهم إلى الموت في أبشع صوره وألوانه ، على أيدي الحاقدين من رجال قريش وساداتهم.

ولم يقف الأمر عند حد العداء في مكة بل تابعوا أصحاب رسول الله في

٨٣

مهاجرهم ، فتبعوهم إلى الحبشة ، يحرضون عليهم النجاشي ، ويطالبونه بتسليمهم.

وناصبوهم العداء بعد الهجرة إلى المدينة ، فشنوا عليهم الحروب والغارات ، حتى بلغت المواقع بينهم وبين المسلمين خمسا وسبعين موقعة كانوا حريصين فيها كل الحرص على القضاء على كل ما له علاقة بهذا الدين.

ورصدوا الجوائز العظيمة لمن يقتل محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورموه بكل عظيمة ، فرموه بالجنون ، ورموه بالسحر ، ورموه بالكهانة ، ورموا القرآن بأنه شعر ، وأنه أساطير الأولين اكتتبها ، وأنه يمليه عليه رجل ، إلى غير ذلك من الأقاويل والأباطيل التي حاولوها لتشويه القرآن.

أو يقال بعد هذا : إن البواعث والدواعي لم تتوفر ليثور الناس إلى المعارضة ، أو أن البواعث وجدت ، إلا أن العرب زهدوا فيها ، وأعرضوا عنها ..؟!.

إن من يشن الحرب ، ويستنفر كل ما لديه من قوة ، للوقوف في وجه القرآن ، والقضاء على الإسلام ، لا يمكن أن يلجأ إلى هذه الوسيلة التي يحتمل أن تذهب به ، إلا بعد العجز عما دونها من الوسائل والأسباب ، وما إعلان الحرب إلا الدليل الساطع ، والبرهان القاطع ، على اعترافهم بإعجاز القرآن وفشلهم في معارضته.

وأما الاحتمال الثالث ، وهو أن الله تعالى قد أعجزهم عن معارضة القرآن بتعطيل مواهبهم ، وإذهاب بلاغتهم ، فإنه لا يقل ركة وضعفا ، وسفسطة وسخفا ، عن الاحتمالين السابقين.

وذلك أن التحدي لم يكن موجها إلى جيل واحد من البشر ، وإنما هو موجه لكل أمة ، ولكل جيل ، في كل زمان ومكان ، فإذا كان هذا القائل قد يتبين له أن مواهب الأولين قد تعطلت عن المعارضة ، فلما ذا لم يعارضه أهل الجيل الثاني أو الثالث ، بل لما ذا لم يعارضه هو نفسه؟ ولا سيما أنه قد وجد في

٨٤

الإسلام من فحول الشعراء والبلغاء العدد الكبير ، والجم الغفير ، كجرير ، والفرزدق ، والأخطل ، وأبي تمام ، والبحتري ، والمتنبي ، وأبي علاء المعري ، وابن المقفع ، إلى جانب الكثير من أمثال هذه الطبقة؟.

ولم يبلغنا عن واحد منهم أنه قال : إن مواهبه معطلة ، بل كلنا نعلم أنهم كانوا على رهان دائم في ميدان البلاغة والبيان ، في الشعر والنثر ، حتى خيل لبعضهم أنه يلقى عليه الإلهام الشعري ، مما برّز فيه من البيان الفني.

وما يقال فيمن عاصر القائل بالصرفة من الشعراء ، يقال فيمن عاصر نزول القرآن منهم ، فلقد قيل الشعر في كل الأغراض الشعرية في زمن نزول القرآن ، كما كان الحال قبل القرآن ، ولم تتغير في شاعر ممن لم يسلم ملكته ، بل كانوا ما زالوا متمتعين بها ، ولكنهم كانوا يعترفون بإعجاز القرآن ، على ما عرفناه في هذا البحث أيضا بالتفصيل والبيان.

ولنفترض جدلا أن مواهبهم قد تعطلت عن المعارضة ، ولكن لننظر في كلامهم السابق الذي كان لا يقل ـ في زعم القائل بالصرفة ـ عن القرآن بلاغة ، هل كان يجاري القرآن في بلاغته وإعجازه ...؟.

إذا كان كذلك ، فالقرآن إذن لم يأت بشيء معجز جديد ، وبناء على ذلك فلا تحدي ، ولا داعي للتحدي.

إلا أن الواقع يقول : إن الأمر ليس كذلك ، وذلك أنه ما من عربي سمع القرآن ، إلا وأدرك الفرق الشاسع بين كلام كل من نطق بالعربية من شاعر وناثر ، وبين كلام القرآن ، وأسلوبه ، وبلاغته ، مما هو معروف بالتواتر ، ومما جعل فحول شعراء الجاهلية ، وأعظم العارفين بشعر العرب ونثرهم ، يقر بهذه الحقيقة ، ويعترف بأن أسلوب القرآن وبلاغته مما لم ينظم العرب على منواله ، ولا اقتربوا من بيانه وإعجازه ، على ما نقلناه وبيناه في مكانه.

ومما يبين هذا ، ويجعله يقينيا هو أنه ما من شاعر إلا وقد عيب عليه شيء من شعره ، إما في قوانين الشعر ، وإما في صوره وخيالاته ، وتعليلاته وتحليلاته ،

٨٥

وإما في بنية الكلمة وفصاحتها ، ودقتها ومناسبتها ، أو في تركيب الجملة من الفصاحة والبلاغة وغير ذلك من العيوب الكثيرة.

ومن كان يريد الوقوف على هذا فليرجع إلى كتب النقد في الأدب العربي ، ليرى من ذلك العجب العجاب.

وليرجع بصورة خاصة إلى معلقة امرئ القيس أمير شعراء الجاهلية ، ولينظر ما فيها مما قاله الإمام الباقلاني ، من نقد واعتراض ووهم وتناقض ، وغير ذلك من العيوب التي لا تليق بفصاحة امرئ القيس وبلاغته ، إذ أبدى فيها الباقلاني العشرات والعشرات من العيوب.

وإذا كان هذا شأن امرئ القيس سيد شعراء الجاهلية ، في خير شعره وأبلغه ، فما هو شأن غيره ، ممن لم يبلغ مبلغه؟.

فأين هذا من كلام القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وهو في الذروة العليا ، من الدقة والإحكام ، والتناسق والترابط ، وعدم التناقض والاضطراب ، في كل باب طرقه ، من كل شئون الكون والحياة؟!.

إن التحدي لم يكن فقط بأن يأتي العرب بمثل القرآن ، بل كان بأن يوجد البشر فيه أي نوع من أنواع الخلل أو الخطأ ، أو الاضطراب والتناقض فقال تعالى : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً).

وإن هذا التحدي ما زال قائما ، وسيبقى إلى يوم القيامة ، فمن عرف في القرآن تناقضا أو خللا فليوجدناه ، وليخبرنا به ، في كل جانب من جوانب العلم ، وفي كل شأن من شئون الكون والحياة التي ذكرها القرآن ، وإن كل من في الأرض من أهل الكفر والشقاق مدعوون إلى هذا ، وإنهم لإلى الوقوف عليه بالأشواق ... ، إلا أن الواقع أنه لا تناقض فيه ولا خلل ، في كل ما عرض له أو خاض فيه ، باعتراف كل عاقل في الأرض.

على أنني أريد أن أختم هذا الموضوع بقولي : إن من زعم أن إعجاز القرآن كان بالصرفة ، إنما هو إنسان ساذج ، ولئن كان بحاجة للرد عليه في الماضي ، فهو ليس بحاجة للرد عليه في وقتنا الحاضر ، في عصر الاكتشافات

٨٦

العلمية التي فاقت الخيال ، ولم تخطر للإنسان يوما على بال ، والتي وجد فيها أصحابها ـ على ما سنذكره في الإعجاز العلمي ـ أنهم على أعتاب القرآن ، الذي كان قد سبقهم إليها ، وأخبر عنها ، قبل أن يضع الإنسان اللبنة الأولى في صرح حضارته العلمية الحديثة بقرون طويلة.

إن التحدي بالقرآن لم يكن أبدا بالموضوع اللغوي فقط ، بل كان بكل ما في القرآن من إعجاز لغوي ، وغيبي ، وعلمي ، وغير ذلك.

فعلى افتراض أن بعض العرب كان قادرا على الإتيان بما يشبه القرآن في أسلوبه ، فأنى له ، بل لكل من في الأرض من إنس وجن أن يأتوا بمثل القرآن في غيوبه وعلومه؟ على ما سنبينه ونوضحه؟.

وإني لعلى يقين بأن من قال بالصرفة يوما ما ، لو وجد في عصرنا ، ورأى إعجاز القرآن العلمي والغيبي ، لذهل ، ولعلم أنه حينما قال قالته تلك ، كان في غاية الغفلة والسذاجة والبعد عن الواقع ...

لقد كان الملاحدة يوما ما يتناقلون فيما بينهم أن أحدهم ـ فيما يزعمون ـ قد عارض القرآن ، ولما قيل له : لما ذا لا يترنم الناس بكتابك حينما يقرءونه؟ قال لهم : لم تصقله المحاريب خمسة قرون ... أي أن الترنم بكتاب الله كان لما للقرآن من كثرة التلاوة في المحاريب في الصلاة وغيرها ، مما جعله سهلا على الألسن ، لذيذا في القلوب ... ولو أن كتابه تردد على ألسنة الناس كما تردد القرآن لاستعذبوه كما استعذبوا القرآن إن هذا الكلام يكون صحيحا لو كان الأمر في التحدي أمر ترنم واستعذاب ، إلا أن التحدي لم يكن بهذا ، وإعجاب الناس بالقرآن قديما وحديثا لم يكن أبدا لهذا ، بل إننا نرى كثيرا من الناس ينكر أن يقرأ القرآن بالألحان.

إن إعجاب الناس بكتاب الله لما ذكرناه وسنذكره من احتوائه على أنواع وأنواع من الإعجاز التي تفرض على كل من يقف عليها أن يحني أمام القرآن هامته ، ويعلن بين يدي الله عجزه وعبوديته.

٨٧

إن التحدي يكون بالاستعذاب حينما يكون أغنية أو ترنيمة نصرانية في كنيس ، ولم ولن يكون أبدا في كتاب أحكمت آياته وفصلت ليكون للبشرية نبراسا وهاديا ، وللمجد سائقا وحاديا ، وشتان بين أغنية للطرب ، وترنيمة للهو ، وآية معجزة تكشف حجب الغيب ، وتضع أسس الحياة الفاضلة ، وتشير إلى أدق وأبلغ قوانين العلم ، وتحل ألغاز الكون والحياة ...

٨٨

المبحث الثاني

في

الإعجاز الغيبيّ

في

القرآن الكريم

٨٩
٩٠

لقد أخبرنا الله تعالى في كتابه الكريم عن بعض الأمور الغيبية ، وأخبرنا أنها ستقع ، ووقعت هذه الأمور التي أخبر القرآن عنها على نحو ما أخبر ، مما يعرفه المؤمن والكافر ، والبر والفاجر.

وليست الغرابة في الإخبار عن أمر ، ووقوع الأمر على نحو ما جاء به الخبر ، ففي كل زمان ومكان نجد من الناس من يتنبأ ، ويخبر عن أمور ستقع في المستقبل ، وقد تقع الأمور على نحو ما أخبر به ، وقد لا تقع.

فإذا وقعت على نحو ما أخبر به ذلك المتنبّئ عزاها الناس إلى الصدفة في كثير من الأحيان ، ولا سيما إذا كان ما تنبأ به المتنبّئ بعيد الوقوع ، أو مستحيله عادة ، فلم لا يقال : إن الأمور التي أخبر عنها القرآن ، ووقعت على نحو ما أخبر به ، إنما كانت من قبيل المصادفات التي تقع لكل متنبئ في الحياة ...؟.

سؤال يطرح نفسه ، ويطرحه الماديون ، على أنه الجواب لما وقع في القرآن من ظاهرة الإخبار عن الغيب.

إلا أنه توجد أمور ، تفرض علينا القول بأن تحقق الأشياء التي أخبر عنها القرآن لم يكن من قبيل الصدفة ، التي تحققت بها نبوءات كثير من المتنبئين في العالم ، بل لأن الإخبار من الله ، خالق الكون ومدبره ، وعالم سره وعلنه ، والعالم بما جرى فيه ، ويجري ، وسيجري إلى يوم القيامة ، أخبر بما سيقع في المستقبل ليقع على وفق الخبر الذي أخبر به ، وليكون المعجزة الناطقة الدالة على صدق الرسول فيما جاء به ، وإن هذا القرآن من عند الله ، وليس من صنع البشر.

٩١

أما هذه الأمور التي تفرض علينا هذه النتيجة الحتمية ، فإننا نستطيع أن نوجزها فيما يلي :

إن من طبيعة الإنسان أن يتنبأ لمستقبله ، وكلما كبرت آماله وطموحاته ، كثر تنبؤه لمستقبله ، وزادت اهتماماته به.

وإنه عند ما يتنبأ يبني نبوءته على طبيعة الواقع الذي يعيش فيه ، والطاقة التي يستطيع أن ينطلق من خلالها ، والاحتمالات التي يمكن أن يحققها.

ولذلك لا بد أن تكون نبوءته متمشية مع طاقاته وإمكانياته ، وإلا كانت ضربا من الخيال الساذج ، الذي لا يغني ولا يسمن ، بل سرعان ما يصحو منه صاحبه على حقيقة واقعه الباسم أو اليائس ، وسرعان ما ينهار ذلك الصرح الخيالي الشامخ الذي بناه بعيدا عن حقيقة طاقاته وإمكانياته.

ولذلك نجد الناس جميعا يهللون لبطل من أبطال العالم ، في أي نوع من أنواع الرياضة ولتكن الملاكمة مثلا ، نجدهم يهللون لبطلها ، عند ما يعلن لهم أنه سيهزم خصمه في الجولة الثانية أو الثالثة ... نجد الآذان صاغية ، والقلوب واعية ، لكل كلمة يقولها لهم قبل موعد مباراته مع خصمه ، وذلك لأنه يقولها من منطق القوة التي يتمتع بها ، والحقيقة التي يعيش فيها.

ومع ذلك نجد كل سامع وهاتف يضع احتمال الهزيمة لذلك البطل ، مع أنه في ذروة قوته ، وأوج عظمته ، ولذلك يتريث كثيرا في مراهناته ، ويضع القيود والضوابط لتحدياته.

ولكن .. متى تكون الغرابة ، وتتعالى صيحات الإنكار ...؟!

تكون الغرابة بالغة ، والإنكار قويا ، عند ما يعلن صعلوك ضعيف ، لا يتماسك حينما يقوم من مقامه ، ولا يمكنه أن يدافع عن نفسه أمام عاجز من العجزة ، ومع ذلك نجد أنه يعلن أمام الناس جميعا أنه يريد أن يتحدى بطل العالم في الملاكمة ، وأنه سيهزمه في الجولة الثانية أو الثالثة ...؟!.

إنها كلمات لا تلفت الأنظار ، وتثير الاستنكار فقط ، بل هي كلمات تدفع

٩٢

كل من يسمعها إلى الهزء والسخرية من قائلها ، لأنه إنما يقول وهو في واقع وحقيقة لا يمكنانه من مثل هذا القول الساخر الهازئ.

ولذلك لا تأخذ كلماته طريقها إلى الآذان والقلوب ، بل تأخذ طريقها إلى السقوط في سجلات العابثين الساخرين ، أو الحمقى المغفلين.

ومن خلال هذه المقدمة البديهية المسلمة ، سننظر إلى نبوءات الزعامات السياسية ، والقيادات الحربية في العالم ، وننظر إلى مصيرها.

كما أننا من خلال هذه المقدمة سننظر إلى نبوءات القرآن ، وننظر إلى نهايتها ومصيرها ، ليرى كل ذي عقل سليم الفرق بين نبوءات البشر ونبوءات القرآن وليؤمن بأن نبوءات القرآن ، إنما هي إخبار من خالق الكون والحياة ، وعالم السر والعلن ، وأنها المعجزة الدالة على صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما جاء به من عند ربه.

٩٣

نبوءات عظماء العالم

إنه ـ كما ذكرنا ـ ما من عظيم من عظماء العالم إلا وتنبأ لمستقبله ، ومستقبل حروبه وحياته ، وكانت نبوءاته وهو في ذروة مجده ، وأوج عظمته ، وكل الظروف من سياسية ، وعسكرية ، توافقه وتؤيده ، ولذلك كان لنبوءاته الأثر البالغ في النفوس ، مع احتمال الفشل.

ولذلك كثرت المراهنات عليها ، وتحزب الناس لها ، ولكنها رغم هذا كانت في كثير من الحالات ـ إن لم أقل في كل الحالات ـ كانت يصاحبها الفشل الذريع ، والهزيمة المرة ، رغم كل ما كان يحيط بها من الظروف التي تساعد على التكهن بمثلها.

نبوءة نابليون :

فهذا نابليون بونابرت ... من أعظم قواد الجيوش الذين عرفهم العالم في عصره ، وقد سمت به فتوحاته التي أحرزها لدرجة أنه صار يتكهن بأنه سيكون ندا للإسكندر المقدوني ، وأخذ الغرور مأخذه من رأس نابليون حتى أصبح يتوهم أنه مالك لقدره ، فقال : لا يوحد في قدري إلا الغلبة والنصر ...؟!.

لقد قال بونابرت هذا الكلام وكل الظروف المحيطة به تساعده على أن يقول مثل هذا الكلام ، ويتنبأ مثل هذه النبوءة.

إنه القائد الذي هز العالم ، وهتفت له الجماهير ، وحيكت حوله القصص والأساطير ، وكل من يسمع كلامه هذا يقول : إنه يحق له أن يتنبأ مثل هذه النبوءة ...

ولكن ... ما هو مصير هذه النبوءة ...؟.

٩٤

بل ما هو مصير نابليون نفسه ...؟

لا داعي للإطالة بسرد الوقائع التي هزم فيها ، بل يكفينا أن نعرف أنه بعد أن هزمه «دوق ولنجتون» شر هزيمة في «ووترلو» بأراضي بلجيكا ، وأيقن من مصيره المحتوم ، فر هاربا من القيادة الفرنسية ، متوجها إلى أمريكا ، حيث القي عليه القبض ، وانتهى به قدره إلى أن نفي في جزيرة «سانت هيلانة» حيث مات بعد معانات سنوات طويلة من البؤس والشقاء ، مع آماله المحطمة ونبوءاته الفاشلة ..!!.

لا نستطيع أن نقول : إن نبوءته ساذجة ، فإن كل الظروف كانت تساعد على مثل تلك النبوءة.

ولكنا نستطيع أن نقول : إنها نبوءة فاشلة ، بعد أن عرفنا المصير الذي صارت إليه مع قائدها.

نبوءة ماركس :

وها هو كارل ماركس يتنبأ سنة ١٨٤٩ بأن الجمهورية الحمراء ستبزغ في سماء باريس.

إلا أنه رغم مرور قرن وثلث قرن على هذه النبوءة ، لم نر شمس الجمهورية الحمراء تسطع في سماء باريس.

كما تنبأ البيان الشيوعي الصادر سنة ١٨٤٨ بأن أول البلاد التي ستقود الثورة الشيوعية هي ألمانيا.

إلا أنه رغم مضي ما يقارب القرن ونصف القرن على هذه النبوءة لا تزال ألمانيا بعيدة كل البعد عن هذا النبوءة ، وخالية من مثل تلك الثورة.

نبوءة هتلر :

وها هو هتلر القائد الألماني الشهير ، الذي هز العالم بأسره ، وقد اجتاحت قواته معظم دول أوروبا في أيام ، خلال الحرب العالمية الثانية ، يقول في خطابه

٩٥

الشهير الذي ألقاه في ميونخ ، في مارس سنة ١٩٣١.

«إنني سائر في طريقي ، واثق تمام الثقة بأن الغلبة والنصر قد كتبا لي».

كما قال في خطابه الشهير الذي ألقاه في المجلس النيابي الألماني ، في ١ أيلول سبتمبر ١٩٣٩ ، قال :

«هناك لفظة ما عرفتها في حياتي قط ، ألا وهي الهزيمة».

ولكن ... ما هو مصير ألمانيا ... بل ما هو مصير هتلر نفسه ..؟.

لقد قال كلماته هذه وهو في أوج عظمته ، وكل الظروف تساعده لقول مثل تلك الكلمة ...

ولكنها النبوءة الفاشلة ، التي أدركناها بعد أن رأينا ألمانيا مقسمة أسيرة في أيدي الحلفاء ... عند ما بحث الناس عن هتلر فلم يعثروا له على أثر ..؟!.

* * *

إنها نبوءات كبار قواد العالم في أحسن الظروف التاريخية ، وهم في قمم مجدهم ، وكل من يسمع نبوءاتهم يقول : إن الظروف مواتية لهم ، وربما تحقق ما يطمعون إليه ، بل ربما جزم بما تنبئوا به ...

* * *

إلا أنه الواقع المرير الذي كشف لنا عن غرورهم ، وأبان لنا عجزهم ، بعد أن مرغ كرامتهم بالهزائم ، ودفن أحلامهم ونبوءاتهم تحت أنقاض بلادهم المدمرة ...؟.

الفرق بين نبوءات البشر ونبوءات القرآن

وإننا إذ نسوق هذا الكلام ، لا نسوقه لنتكلم عن تاريخ العالم ، وتاريخ المغامرين فيه.

كما أننا لا نسوقه لنتشفى من أولئك القادة ، فإن من حق كل إنسان أن

٩٦

يتنبأ ، والقدر إما أن يصدق نبوءته ، وإما أن يكذبها.

ولكننا نسوقه لنبين الفرق بين نبوءات البشر ، ونبوءات القرآن الكريم .. التي تحققت حرفا حرفا ، رغم أنها نزلت في أقسى الظروف وأعتاها على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعلى المسلمين معه ... والتي كانت من أكثر الأمور إثارة للدهشة ، وسببا للاستغراب .. إذ كانت من النوع الذي لا يمكن صدوره عمن عقل حقائق الأشياء ، وأدرك حقيقة الواقع ، بل كانت من أبعد الأمور التي يمكن للعقل السليم أن يتصورها.

إلا أنها رغم هذا كله ... وفي هذه الظروف الحرجة تلاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير عائب بكل الحقائق التاريخية التي كانت تحيط به ، ولا بالواقع الذي كان يعيش فيه .. وجاءت الأيام ، لتثبت كل ما تلاه من القرآن الكريم حرفا حرفا ، دون أن يتخلف منها خبر واحد ، وليثبت للناس جميعا أن هذا القرآن من كلام الله ... وليس من صنع البشر ، وليكون المعجزة الناطقة الدالة على صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دعواه ، على مر الأيام والأعوام ، إلى قيام الساعة ..

٩٧

نبوءات القرآن

لنستمع الآن إلى نبوءات القرآن .. وإخباره عن الأمور الغيبية في المستقبل ، والظروف التي جاءت فيها تلك الأخبار ، لنعرف بعد ذلك أن مثل تلك الأخبار ، يستحيل أن يكون من قبل البشر ، وإنما هو من قبل الله.

١ ـ التنبؤ بانتصار المسلمين

وسيادتهم

لقد بدأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعوته ، وكل من في الأرض يخالفه ، المشركون في مكة ، واليهود في المدينة ، والنصارى في الشام ، والفرس في العراق ، وكل أصحاب الملل والنحل في كافة أصقاع الأرض.

بدأت الدعوة ، وبدأ التصدي لها ، وبدأ العناد والتحدي ، وبدأ الضر والأذى ينصبان على الضعفاء من المسلمين ، الذين ساروا في ركب هذه الدعوة الجديدة الضعيفة.

وما زالت الأحقاد تنمو ، والأذى يكبر ، إلى أن وصل لدرجة السجن ، والتنكيل ، والقتل ...

وحوصر المسلمون في الشعب ، حتى وصل بهم الضر لأن يأكلوا الأخضر واليابس ، بل ما تعافه النفس وتأباه.

وخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الطائف ، لعله يجد فيها ما يسري عنه ، من بعض الأتباع الجدد ، في بعض بيوتات ثقيف وهوازن ، إلا أن الأمر كان على

٩٨

خلاف ما توقع ، صد وطرد ، استكبار وهزء ، وعاد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى مكة ، ولكنه لم يستطع أن يدخلها كما كان يدخلها سابقا ، مما اضطره لأن يدخلها في جوار أحد المشركين ، ألا وهو المطعم بن عدي.

فالتحدي على أشده ، والأذى في أوجه ، والمؤامرات تحاك من قبل سادة قريش ، لإيقاع الأذى ببعض المسلمين في هذه المرة ، بل للقضاء على الدعوة الجديدة بأسرها.

فلقد أخذت العزة بالإثم قريشا ، فأنفقت الأموال ، ورسمت الخطط ، وأعلنت العداء السافر ، وهددت بإبادة كل من يعتنق الدين الجديد.

في هذه الظروف الحرجة الصعبة من مسيرة الدعوة الجديدة ، وفي هذه الحالة التي تشبه ساعات ما قبل النهاية المحتومة ، بين قوي جبار عنيد ، وضعيف مضطهد مغلوب ، في هذه الحالة البائسة اليائسة في ميزان العقل المادي حينما ينظر إلى جوع المسلمين وفقرهم ، واضطهادهم وتعذيبهم ، وتشريدهم وقتلهم ، في هذه الحالة يخرج رسول الله ليقول قولة القوي المنتصر ، وهو في أوج سلطانه وذروة انتصاراته ، يخرج ليقول للمشركين ، وكأنه هو القوي وهم الضعفاء ، يخرج ليقول لهم : «لقد جئتكم بالذبح» .. وينزل قول الله تعالى ، ردا على خيلاء قريش وغرورها ، ينزل متهددا متوعدا ، ومعلنا لأغرب خبر يمكن للإنسان أن يسمعه في مثل هذه الحالة ... (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ ، سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ، بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ).

وينزل قوله تعالى : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ، وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ ، فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ ، وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ») (سورة الصافات : آية ١٧١ ـ ١٧٥).

وينزل قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ، فَسَيُنْفِقُونَها ، ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ، ثُمَّ يُغْلَبُونَ ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) (سورة الأنفال : آية ٣٦).

٩٩

إنه لأغرب خبر يمكن للإنسان أن يسمعه في مثل ذلك الظرف وتلك الحالة ، وبين فئتين لا تكافأ بينهما ، فئة تملك كل وسائل البطش والقوة ، وفئة ضعيفة لا تملك شيئا لا لغيرها ولا لنفسها .. وهي في حالة اضطهاد وتشرد واستعباد ، ومع ذلك يأتي هذا الخبر المرعب المفزع ، الغريب المستنكر في ميزان جميع العقول المادية ، وجميع الاحتمالات والتقديرات ... ، فإنه لا يمكن لأي عاقل أن يتنبأ مثل هذا النبأ في مثل ذلك الظرف.

ويهلل المسلمون لهذا الخبر ، وترتسم على وجوههم علامة الفرح بهذه البشارة ، وكأنهم يرونها رأي العين .. ويحيى الأمل في نفوسهم .. وتغمر الطمأنينة قلوبهم ، ويعدون الأيام والليالي لاستقبال ذلك اليوم الذي يتحقق فيه هذا الخبر الذي أيقنوا به ...

ويزداد بأس قريش ، ويتضاعف أذاها ، وتطارد ضعاف المسلمين في كل ناحية وصوب .. مما دفع المسلمين للهجرة إلى الحبشة.

ويهاجر المسلمون إلى الحبشة ، وتطاردهم قريش فيها ، تريد استئصال شأفتهم ، وتبديد شملهم.

ويأبى الله إلا أن يتم نوره ، ويحقق وعده ، فتقوم دولة الإسلام الأولى في المدينة المنورة ، على عاتق أولئك الضعفاء من المهاجرين والأوفياء من الأنصار ، وسرعان ما تدور الدائرة على المشركين في مكة ، وتتغير الموازين عندهم ، وتتلاشى طموحاتهم وأحلامهم ، إذ أعلنوا النفير العام ، ولكن ليس للهجوم في هذه المرة .. وإنما للدفاع عن تجارتهم القادمة من الشام مع أبي سفيان ، والتي عزم المسلمون على مهاجمتها.

وتتطور الأمور ، لتنكشف عن أعظم معركة في التاريخ ، وأغرب معركة في ميزان العقل المادي .. إذ هزم أولئك الضعفاء المهاجرون ، والفقراء الجياع ، هزموا جيش المشركين في بدر ، وقد بلغ في العدد ثلاثة أضعافهم ، مع ما لديهم من العدد ، وكان أول إعلان عن تحقيق وعد الله ، وصدق نبوءة القرآن.

١٠٠