المعجزة القرآنيّة

الدكتور محمد حسن هيتو

المعجزة القرآنيّة

المؤلف:

الدكتور محمد حسن هيتو


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٤٢

ما سمعه إنسان إلّا وحمد الله على ما أنعم عليه من العقل والفهم.

فمما كان يزعم أنه أنزل عليه من السماء «والليل الأطخم ، والذئب الأدلم ، والجذع الأزلم ، ما انتهكت أسيد من محرم».

وقال :

«والليل الدامس ، والذئب الهامس ، ما قطعت أسيد من رطب ولا يابس».

وقال :

«والشاء وألوانها ، وأعجابها السود وألبانها ، والشاة السوداء ، واللبن الأبيض ، إنه لعجب محض ، وقد حرم المذق ، فما لكم لا تجتمعون».

وقال :

«ضفدع بنت ضفدعين ، نقي ما تنقين ، أعلاك في الماء ، وأسفلك في الطين ، لا الشارب تمنعين ، ولا الماء تكدرين ، لنا نصف الأرض ، ولقريش نصفها ، ولكن قريشا قوم يعتدون».

وقال :

«والمبديات زرعا ، والحاصدات حصدا ، والذاريات قمحا ، والطاحنات طحنا ، والخابزات خبزا ، والثاردات ثردا ، واللاقمات لقما ، إهالة وسمنا ، لقد فضلتم على أهل الوبر ، وما سبقكم أهل المدر ، ريفكم فامنعوه ، والمعترّ فآووه ، والباغي فناوئوه».

وقالت سجاح بنت الحارث بن عقبان ، وكانت تتنبأ كمسيلمة ، فاجتمعت به ، فقالت : ما أوحي إليك؟

فقال : «ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى ، أخرج منها نسمة تسعى ، من بين صفاق وحشا».

قالت : فما بعد ذلك؟

٦١

قال : «إن الله خلق النساء أفواجا ، وجعل الرجال لهن أزواجا ، فينتجن لنا سخالا إنتاجا».

فقالت : أشهد أنك نبي (١).

إلى آخر ما نقل عن مسيلمة من مثل هذا الهزء ، مما لا داعي للإطالة به ، ومما يدل على فساده بنفسه.

ولذلك لم يشتغل الناس به ، ولم يلتفتوا إليه.

أين هذا الكلام من كلام الله الذي يكشف أسرار الكون ، ويزيل ألغاز الحياة ، ويضع للإنسان أعظم المبادي التي تضمن له السعادة والطمأنينة والاستقرار ، بأسلوب سبى العقول ، وأثر في القلوب ، وأذهل فحول الشعراء والبلغاء والعظماء ..؟!.

ولذلك روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه سأل أقواما قدموا عليه من بني حنيفة ، سألهم عما يقوله مسيلمة ، فحكوا له بعض ما ذكرناه عنه في الأسطر السابقة ، فقال رضي الله عنه : سبحان الله ، ويحكم إن هذا الكلام لم يخرج عن إلّ ، فأين كان يذهب بكم؟.

يريد بذلك أنه لم يخرج عن ربوبية.

لقد أدرك ـ رضي الله عنه ـ بسليقته العربية ، كما يدرك كل متذوق للغة ، أدرك أن هذا الكلام لا يمكن أن يخرج عن الربوبية ، لما فيه من الركة والسخف ، والعجز والضعف ..

أو يقال بعد هذا : إن القرآن عورض ..؟ اللهم لا ..

إلا أنه قد يقال : هب أن العرب قد عجزوا عن معارضة القرآن ، أو ليس من الممكن أن يكون غير العرب من الأمم الأخرى قد عارضوه ، ولا سيّما أنه لم يقصر التحدّي على العرب فقط ، بل كان شاملا لجميع من في الأرض؟.

__________________

(١) إعجاز القرآن للباقلاني ١ / ١٥٦.

٦٢

احتمال المعارضة من غير العرب والرد على كتاب ماني وزرادشت

قد ذكرنا في الفقرة الماضية احتمال إثارة سؤال حول إمكانية معارضة القرآن من غير العرب ، من الأمم الأخرى ، التي تحداها القرآن أيضا ، إذ لم يكن الخطاب موجها للعرب فقط ، وإنما كان موجها لكل من في الأرض من العرب والعجم ، والإنس والجن.

والجواب على هذا : هو ما ذكرناه من عدم النقل إلينا ، مع توفر الدواعي ، وذلك أن الاهتمام بإبطال النبوّة لم يكن من قبل العرب فقط ، بل من قبلهم وقبل غيرهم ، كما رأينا في الفقرات الماضية ، ومع هذا لم ينقل إلينا عن واحد من أهل الأرض ، لا من العرب ، ولا من غيرهم أنهم عارضوه ، ولو عورض لنقل ، على ما ذكرناه سابقا.

وثانيا : إذا كان العرب وهم أهل اللسان ، وفرسان البلاغة والبيان ، قد عجزوا عن المعارضة ، فلا شك أن غيرهم من الأمم الأخرى التي لا تعرف اللسان العربي ، لا شك أنها تكون أعجز.

قال الإمام الباقلاني : فإن قيل : إن المجوس تزعم أن كتاب زرادشت وكتاب ماني معجزات ..؟.

قيل : الذي يتضمنه كتاب ماني من طرق السحر ، وضروب الشعوذة ، لا يقع فيها إعجاز ، ويزعمون أن في الكتاب الحكم ، وهي حكم منقولة ، متداولة على الألسن ، لا تختص بها أمة دون أمة ، وإن كان بعضهم أكثر اهتماما بها ، وتحصيلا لها ، وجمعا لأبوابها.

دعوى معارضة ابن المقفع

قال الباقلاني : وقد ادّعى قوم أن ابن المقفع عارض القرآن ، ثم قال : وليس يوجد له كتاب يدّعي مدع أنه عارض فيه القرآن ، بل يزعمون أنه اشتغل بذلك مدة ، ثم فرق ما جمع واستحيا لنفسه من إظهاره ، فإن كان كذلك ، فقد

٦٣

أصاب وأبصر القصد ، ولا يمتنع أن يشتبه عليه الحال في الابتداء ، ثم يلوح له رشده ، ويتبيّن له أمره ، وينشكف له عجزه.

دعوى المعارضة في أهل الأعصار التالية للعصر الأول

قال الباقلاني : فإن قال قائل : قد يجوز أن يكون أهل عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد عجزوا عن الإتيان بمثل القرآن ، وإن كان من بعدهم من أهل الأعصار لم يعجزوا.

قيل : هذا سؤال معروف ، وقد أجيب عنه بوجوه.

منها : أنا إذا علمنا أن أهل ذلك العصر كانوا عاجزين عن الإتيان بمثله ، فمن بعدهم أعجز.

لأن فصاحة أولئك في وجوه ما كانوا يتفننون فيه من القول ، مما لا يزيد عليه فصاحة من بعدهم ، وأحسن أحوالهم أن يقاربوهم أو يساووهم ، فأما أن يتقدموهم أو يسبقوهم ، فلا.

ومنها : أنا قد علمنا عجز سائر أهل الأعصار كعلمنا بعجز أهل العصر الأول.

والطريق في العلم بكل واحد من الأمرين طريق واحد ، لأن التحدّي في الكل على جهة واحدة ، والتنافس في الطباع على حد واحد ، وكذلك قال الله تبارك وتعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (١) (سورة الإسراء : آية ٨٨).

لما ذا لا ندرك إعجاز القرآن في هذا العصر

بقي عندنا سؤال مهم ، يتردد على ذهن كل إنسان من أبناء العصر ، ألا وهو ، ما دام القرآن معجزا بلغته وأسلوبه ، يسبي العقول ، ويملك القلوب ،

__________________

(١) إعجاز القرآن ص ٢٥٠.

٦٤

ويؤثر في النفوس ، ويملي على كل إنسان إعجازه ، ليعترف كل من سمعه أنه ليس من صنع البشر ، وإنما هو كلام الله ، ما دام القرآن كذلك ، لما ذا لا ندرك نحن أهل هذا العصر إعجازه .. ، ولما ذا لا نجد أثر فصاحته وبلاغته في قلوبنا كما وجدها أهل العصر الأول ، بل ربما لا يفرق الواحد منا بين كلام الله وكلام كثير من الناس ، وربما أعرض عن سماعه أو تلاوته ..؟.

إنه لكلام حق ، وأمر واقع ، لم يعد أكثر الناس في عصرنا يدركون وجه الإعجاز في القرآن ، ولم يعودوا يرون فيه ما رآه سلف هذه الأمة وأولها ، ولا يكاد يميّز قارئ القرآن اليوم بينه وبين غيره من أساليب الكلام ، بل ربما تأثر بغير القرآن أكثر من تأثره بالقرآن.

ولكن .. ليس السبب في هذا هو عدم وجود الإعجاز في كتاب الله ، فكتاب الله ما زال هو الكتاب المعجز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ولقد تكفل الله بحفظه وبقائه إلى يوم القيامة (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ).

ولكن السبب في ذلك هو جهلنا بلغتنا العربية ، لغة القرآن ، التي لم نعد نعرف منها القليل ولا الكثير ، وإن كنا نسمى عربا ، وننطق العامية العربية.

وإذا جهل الإنسان هذه اللغة ، فإنه لن يستطيع أن ينطق بها ، علاوة عن أن يفهمها ويتذوقها.

ولذلك نجد معظم أهل العصر لا يستطيعون أن يتكلموا العربية دون أن يلحنوا بها ، ومن كان هذا شأنه ، فإنه من المحال عليه أن يدرك إعجاز القرآن أو يضع يده على بلاغته.

إن العربي المعاصر اليوم ليس فقط لا يستطيع أن يدرك إعجاز القرآن ، بل إنه لعاجز أن يفهم الكثير من تراكيب العربية بصورها البيانية والبلاغية ، ولو قرأنا عليه شيئا من الشعر الذي سجد لمثله الفرزدق ، لما كان منه إلّا النفار والإعراض ، لا لأن الشعر ليس جميلا ، ولكن لأنه ليس في مقدوره فهم ذلك الشعر.

٦٥

ومن كان بهذا الوصف لا يجوز له أن يقول : لما ذا لا أدرك إعجاز القرآن ..؟ ومن ثم فليس في القرآن إعجاز.

إن الأعمى الذي لا يبصر الضياء أو الألوان ، لا يجوز له أن يقول : ما دمت لا أرى الضياء والألوان فلا ضياء ولا ألوان.

وما مثل من يقول مثل هذا إلّا كما قال المتنبي :

وكم من عاتب قولا صحيحا

وآفته من الفهم السقيم

إن العيب ليس في بلاغة القرآن ، وإنما هو في جهلنا بلغة القرآن ، ومن ثم فلن يضير القرآن جهلنا.

ومن يك ذا فم مر مرير

يجد مرا به الماء الزلالا

على أن من درس هذه اللغة ، وتعمّق فيها ، يستطيع أن يضع يده ، في كل زمان ومكان ، على كثير من وجوه الإعجاز اللغوي في القرآن.

هل معنى هذا أن أهل العصر فقدوا إعجاز القرآن

بناء على ما ذكرناه ، من أن أهل العصر الحاضر قد عجزوا عن تذوق وفهم وإدراك الإعجاز في القرآن ، لجهلهم بلغة القرآن .. فهل معنى هذا أنهم أصبحوا اليوم بدون وسيلة يعرفون بها إعجاز القرآن ..؟؟.

إذن فمعجزة نبينا كمعجزة غيره من الأنبياء؟.

أم أنه توجد في القرآن وجوه أخرى من الإعجاز ، نتمكن من خلالها من الوقوف على أنه من عند الله ، وليس من عند البشر؟ فإذا ما فاتنا الإعجاز اللغوي فلن يفوتنا والحالة هذه تلك الوجوه الأخرى من الإعجاز؟.

والجواب ... بلى .. إن في القرآن لوجوها كثيرة من الإعجاز سوى الإعجاز اللغوي ، كل واحد منها يدل على أنه من عند الله ، ويستطيع أهل العصر ، كأهل العصر الأول ، وأهل العصور القادمة ، يستطيعون أن يدركوها

٦٦

إدراكا بيّنا ، بحيث يستدلون من خلالها على إعجازه ، ليكون القرآن المعجزة الناطقة لكل إنسان ، في كل زمان ومكان ، مهما تطاولت الأيام ، وتطورت العلوم ، وارتقت الحضارة ، وتباينت الشعوب والأمم.

الفرق بين معجزة نبينا عليه‌السلام ومعجزة غيره من الأنبياء

إن ما ذكرناه من وجوه الإعجاز الكثيرة الموجودة في القرآن ، سوى الإعجاز اللغوي ، مما سنذكره قريبا بالتفصيل ، إن هذا هو الفرق الجوهري بين معجزة نبينا محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومعجزة غيره من الأنبياء السابقين.

فقد كانت معجزة الأنبياء السابقين معجزة مؤقتة ، باقية ببقاء النبي أو الرسول ، فإذا ما مات ، انقضى عهد معجزته ، ولم يبق منها إلّا تاريخها ووصفها.

وذلك لأنها معجزة مادية ، لا تظهر إلّا على يد النبي أو الرسول ، وبناء على ذلك لا يستطيع أهل العصر الثاني مشاهدتها ، ولا يبقى لديهم إلا تاريخها ووصفها ، وهذا ليس له من الأثر في النفس ما للمعجزة نفسها ، ولذلك يضعف تأثيره في النفوس مع تطاول الأزمان ، ولا سيما إذا صحبها الاضطراب في النقل ، كما وقع للأنبياء السابقين في الأمم الخالية.

وعلى افتراض أنه نقل نقلا متواترا لا خلاف فيه ، ويدل على وجود المعجزة دلالة يقينية ، فإنه لا يفيد شيئا ، لأن المستدل عليه بهذه المعجزة ، وهو الدين ، قد بدّل وغيّر وحرّف.

وعلى افتراض عدم التحريف ، فإن الرسالات السابقة كانت خاصة بأمم معينة ، كما كانت مؤقتة بزمان معين.

وأما رسالتنا الإسلامية فهي رسالة خالدة على الأزمان إلى يوم القيامة ، وعامة لجميع بني الإنسان ، من كل أمة ، وفي كل مكان ، (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ).

ولذلك كان من الضروري أن تكون هناك وسيلة تدل أهل كل جيل على

٦٧

صدق هذه الرسالة ، وتعتبر معجزة لكل من نظر فيه ، وتكون باقية ببقائه.

من أجل هذا وجدت وجوه كثيرة من الإعجاز ، إذا فات أهل العصر بعضها ، لسبب من الأسباب ، فلن يفوتهم بعضها الآخر.

وهذه الوجوه لا يمكن التحكم بحصرها ، لأنها خاضعة لدقة النظر في كتاب الله ، واختلاف الأشخاص ، والأحوال ، والعلوم ، والمكتشفات ، فربما اكتشف أهل الأجيال القادمة ، بما يتوصلون إليه من العلوم والمكتشفات ، ربما وضعوا أيدهم على وجوه جديدة من الإعجاز ، لم يستطع أهل جيلنا ، ولا أهل الأجيال السابقة معرفتها ، أو وضع أيديهم عليها.

وهذا في رأيي نوع من أعظم أنواع الإعجاز في القرآن الكريم ، الذي لا تفنى غرائبه ، ولا تنتهي عجائبه ، كما سأشير إليه في الفقرات القادمة إن شاء الله.

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من الأنبياء نبي إلّا أعطي ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» (١).

فهذا الوحي هو معجزة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي آمن عليها الناس في الصدر الأول ، وقد تكفل الله بحفظها إلى يوم القيامة : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ ، وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) حتى تراها الأجيال التي جاءت بعد الجيل الأول إلى يوم القيامة ، وترى فيها ما يدل على صدق الرسول والرسالة ، ومن ثم يؤمن عليها.

فهي معجزة خالدة خلود الزمان ، يجد فيها أهل كل جيل من الإعجاز ما يدل على صدق الرسول والرسالة ، ليؤمنوا بالله عن بينة حية ماثلة بين أيديهم ، لا عن أمر نظري تاريخي قابل لكثير من أنواع الاحتمال.

وهذا هو السر في دخول الآلاف المؤلفة من الناس في الإسلام ، على مر

__________________

(١) البخاري ٦٦ ، كتاب فضائل القرآن باب كيف نزول الوحي ، ومسلم ١ / ٩١ ـ ٩٢.

٦٨

التاريخ الإسلامي الطويل ، وفي أيامنا المعاصرة ، من العامة والعلماء ، ومن جميع الأمم والنحل والمبادي.

فإنه ما من عالم منصف ينظر في القرآن نظرة تأمل وإنصاف ، إلا ويجد فيه من الآيات الناطقة ما يدل على أنه من عند الله ، مما يفرض عليه أن يحني رأسه مهما كان شامخا ، وأن يعلن استسلامه مهما كان معاندا جبارا ، وأن يدخل في دين الله عن رضى وقناعة.

إنه الإعجاز الحي الناطق ، لكل زمان ومكان ، والذي لا يموت ولا يبلى ، ولا تزيده الأيام إلّا شدة وقوة ، وظهورا ووضوحا.

وجوه الاعجاز في القرآن الكريم

إن وجوه الإعجاز في القرآن الكريم ـ سوى الإعجاز اللغوي ـ كثيرة ومتعددة ، وكما ذكرت في الفقرة السابقة لا يستطيع الإنسان حصرها في جانب أو عدد معين بحيث لا يمكن الخروج عنه ، وذلك لأن الواقع علمنا أن هذا غير ممكن ، لما نجده كل يوم من الوجوه الجديدة في الإعجاز ، مما كان خافيا على أهل العصر السابق ، ومما عرفنا اليوم بتقدم العلوم ، وتطور الحضارات.

وكما ذكرت قبل قليل هذا نوع من أهم أنواع الإعجاز في القرآن ، إذ أن من أعظم ما يلفت النظر عند الإنسان المنصف ما يجده من الآيات المعجزات التي تتماشى مع أعظم ما وصل إليه الإنسان من تطور وعلم وحضارة.

إلّا أنه رغم هذا يمكننا أن نحصر أهم وجوه الإعجاز التي تكلم عنها العلماء قديما وحديثا بما يلي :

أولا : وجوه الإعجاز التي لا تخفى على أحد في أي عصر من العصور أو أي مكان من الأمكنة ، وإن كان الناس يتفاوتون في مدى إدراكها بسبب تفاوت معارفهم وحضاراتهم ، وتتلخص في وجهين مهمين هما :

١ ـ الإعجاز الغيبي.

٦٩

٢ ـ الإعجاز العلمي.

ثانيا : وجوه أخرى من الإعجاز ، أشار إليها العلماء قديما وحديثا ، تتفاوت في ظهورها وخفائها ، ويتداخل بعضها في بعض ، وربما كان وجه الإعجاز في بعضها غير ظاهر ، ولذلك فهي تنقسم إلى قسمين :

القسم الأول : وجوه يظهر فيها الإعجاز ، وإن كان متفاوتا ، بل ربما كان في بعضها خفيا ، وهي :

١ ـ التناسب في جميع ما تضمنه القرآن ظاهرا وباطنا ، بحيث خلا عن التعارض والتناقض.

وهذا من وجوه الإعجاز العظيمة في القرآن ، على ما سنبينه في مكانه إن شاء الله.

٢ ـ قوة تأثيره في النفوس ، بحيث جعلت كل من يسمعه يتأثر به ، على ما ذكرناه من أحوال المشركين حينما كانوا يسمعون القرآن الكريم.

٣ ـ أنه توجد فيه روحانية جديدة تدب في جسد المؤمن ، فتحركه تحريك الروح للأجساد ، وتجعل منه إنسانا جديدا ، بعقل جديد ، وفهم جديد ، وطاقة جديدة (١).

٤ ـ عدم ملال السمع له ، مهما تكرر عليه ، أو تردد أمامه (٢).

٥ ـ هدايته للنفوس ، وإيجاده للديانة الجديدة بقهر الديانة القديمة (٢).

القسم الثاني : وجوه من الإعجاز أشار إليها بعض العلماء ، إلا أنها لا إعجاز فيها ، فيما ظهر لي من الرأي والله أعلم ، وهي :

١ ـ احتواء القرآن على أساليب القرآن المنطقية.

__________________

(١) وجدي ٧ / ٦٧٧ دائرة المعارف.

(٢) محاسن التأويل ٢ / ٧٧ ـ ٧٩.

٧٠

٢ ـ تضمنه علوم الحلال والحرام وسائر الأحكام.

٣ ـ احتواؤه على الحكم البالغة.

ثالثا : وجوه باطلة ، زعم أنها معجزة ، وليس الأمر كذلك قطعا ، وذلك كالإعجاز العددي الذي ادّعاه رشاد خليفة ، على ما سنذكره ونبيّنه في مكانه بالتفصيل ، وذلك بعد الانتهاء من الإعجاز العلمي ، لعلاقة هذا النوع بالعلوم والمكتشفات الحديثة فيما زعم قائله.

رابعا : القول بالإعجاز عن طريق الصرفة ، وهو المنسوب إلى بعض المعتزلة.

وسنتكلم إن شاء الله على كل نوع من أنواع الإعجاز التي أشار إليها العلماء بالتفصيل ، مع النقد والتأييد ، وبيان وجه القوة في كل منها ، مع بيان ما يؤخذ عليها إن وجد.

ثم نعقب هذا كله ببيان رأينا في موضوع الإعجاز.

وسنبدأ أولا وقبل كل شيء ببيان بعض الوجوه التي أشار إليها بعض العلماء على أنها معجزة ، وهي لا إعجاز فيها.

وتقديم الكلام عليها إنما هو لقلتها ويسر موضوعها.

ثم نتكلم على الإعجاز بالصرفة ، لكونه أيضا من الأباطيل في موضوع الإعجاز.

ثم ننتقل إلى الكلام على الإعجاز الغيبي والإعجاز العلمي ، الذين اعتبرهما ذروة الإعجاز لكل أمة وزمان ومكان ، بعد الإعجاز اللغوي الذي تحدى به العرب ، وهما من أنواع الإعجاز التي لا تخفى على أحد.

وبعد ذلك نعرض إن شاء الله للإعجاز العددي الذي ادّعاه رشاد خليفة ، ونبيّن وجه بطلانه والكذب فيه ، وهو وإن كان من الوجوه الباطلة التي كان يجب أن نقدمها الآن إلّا أنني سأضطر لتأخيره لما له من علاقة بالعلوم الحديثة

٧١

والحاسب الآلي ـ الكمبيوتر ـ كما زعمه قائله ، وسأذكره إن شاء الله بعد الانتهاء من الإعجاز العلمي.

وفي النهاية نذكر بعض وجوه الإعجاز التي أشرنا إليها مع بيان رأينا في موضوع الإعجاز.

وأما الإعجاز اللغوي ، فسأفرد له بحثا مستقلا إن شاء الله في المستقبل مكتفيا هنا بما ذكرته من الوجهة النظرية ، وذلك لما للإعجاز اللغوي من الأهمية ، ولما للبحث فيه من الدقة والتشعب ، مما يحتاج معهما لبحث مستقل ، ولا يمكن أبدا أن يكون الإعجاز اللغوي فصلا من كتاب ، والله الموفق.

٧٢

المبحث الأوّل

في

بعض الوجوه التي لا إعجاز فيها

٧٣
٧٤

ما لا إعجاز فيه

قبل أن نخوض في وجوه الإعجاز الرئيسية والفرعية في القرآن ، أود أن أنبه إلى أنه قد ذكر كثير من العلماء وجوها من الإعجاز في زعمهم ، إلا أننا حينما ندقق النظر فيها ، نجد أنها لا تعدو المزية والفضيلة للقرآن على غيره من الكتب ، إلّا أنها ليست من الإعجاز في شيء.

فالمعجزة هي ما يعجز البشر عن الإتيان بمثله وتحديه ، على ما بيناه في أولى فقرات هذا البحث.

فليس كل ما يكون فضيلة للقرآن يكون معجزة ، وإلا فكلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم له فضيلة على غيره من الكلام لكنه ليس معجزا.

كما أن كلام كثير من الفصحاء والبلغاء والحكماء جاهلية وإسلاما له فضل على غيره من الكلام ، لكنه ليس بمعجز ، ولم يزعم أحد من الناس أنه معجز.

وسنضرب على ذلك عددا من الأمثلة يتضح بها المقال ، ويزول الإشكال.

١ ـ زعم بعضهم أن من وجوه الإعجاز احتواؤه على أساليب الكلام المنطقية.

وأنا لا أدري ما وجه الإعجاز في احتوائه على هذه الأساليب ، مع أنها علوم مدونة عند اليونان وغيرهم ، بل هي على الجملة من المعارف العامة عند أرباب العقول السليمة.

فكيف تكون من وجوه الإعجاز وهي مستعملة من قبل الكفرة قبل أن تستعمل من قبل المؤمنين ..؟.

٧٥

إلا إذا كان مراد القائل أن القرآن استعمل هذه الأساليب المنطقية بأسلوب بلاغي واضح ، على خلاف العادة في استعمال مثل هذه الأساليب ، وعند ذلك نرد هذا النوع إلى النوع الأول من أنواع الإعجاز الرئيسية ، ألا وهو الإعجاز اللغوي.

٢ ـ تضمنه للحلال والحرام :

فقد ذكر الإمام القرطبي في مقدمة تفسيره (١) أن من وجوه الإعجاز في القرآن ، ما تضمنه من العلم في الحلال والحرام ، وفي سائر الأحكام.

وهذا أيضا لا إعجاز فيه ، وذلك لأن مسألة الأحكام ، والحلال والحرام ، ليست مما امتاز به القرآن ، بل هي مما عرفته كل الأمم ، قديما وحديثا ، على تفاوت بينهم في نوع الحلال والحرام ، وبغض النظر عن كون ما حللوه أو حرموه مستندا إلى شرع أو عقل ، أو كانوا مصيبين فيه أم مخطئين.

فكل أمة ، وكل أصحاب دين أو نحلة ، يزعمون أن عندهم حراما وحلالا ، ينبني عليهما الثواب والعقاب ، في الدنيا عند الماديين ، والدنيا والآخرة عند المتدينين.

ومسألة الحلال والحرام في القرآن مبنية على الإيمان بالله ، فالمؤمن يسلم بها ، والكافر ينكرها ، ويزعم بطلانها.

ولكن المعجزة لا يمكن لإنسان ما أن ينكرها ، فمن سمع اليوم شيئا من الإعجاز الغيبي في القرآن ، أو الإعجاز العلمي ، لا بد له ـ مهما بلغ عناده في الكفر ـ أن يقف ، ويتردد في مصدر القرآن ، بل لا بد له أن يذعن في نهاية المطاف أنه ليس من عند البشر ، إذ لا يمكن للبشر أن يأتوا بمثل هذا ، كما سنشير إليه قريبا إن شاء الله.

على أن مسألة الحلال والحرام ـ قبل هذا كله ـ مبنية على الإيمان بالله ،

__________________

(١) ١ / ٧٥.

٧٦

فمن آمن به قبلها ، ومن جحده كفر بها وردها ، فلا يمكن أن يكون الإيمان بالله متوقفا عليها.

فلا يمكن أن نقول لجاحد : إن تحريم الزنا ، وإباحة النكاح ، وحل البيع ، وحرمة الربا ، معجزة دالة على صدق الرسول ووجود الله ... ، لأنه هو أيضا يوجد عنده ممنوع وجائز وواجب ، وهو من صنعه ، وقد يوافقنا في بعض التشريعات ، ومع ذلك فما وجد فيها لا الإعجاز ولا غيره.

٣ ـ احتواؤه على الحكم :

وقد ذكر القرطبي أيضا أن من وجوه الإعجاز في القرآن الكريم احتواؤه على الحكم البالغة التي لم تجر العادة بأن تصدر في كثرتها وشرفها من آدمي.

وهذا أيضا بعيد من الإعجاز كل البعد ، وهو أبعد من المثالين السابقين.

وذلك لأن كتب الحكمة أيضا كانت قديمة ، عرفها العرب وغيرهم من الأمم.

أما العرب ، فلا يخفى على أحد ما كان عندهم من الحكمة التي انتشرت في شعرهم ونثرهم ، حتى بلغوا بها الذروة العليا بين الأمم.

وأما غير العرب ، فقد فخر الهنود بكتاب «كليلة ودمنة» الذي كان خاصا بملوكهم ، لما فيه من الحكمة ، ثم انتقل إلى الفرس ، وصار مقصورا على ملوك الهند والفرس ، إلى أن جاءهم قدر الله بالإسلام ، وترجم الكتاب ، ليكون من المعارف العامة عند كل الناس ، من مسلمين وغيرهم.

كما فخر الفرس بعهد أردشير ، الذي امتلأ بالحكمة ، وازدان بها ، ولا أريد أن استطرد بسرد الكتب التي اشتملت على الحكمة ، فهي كثيرة ، ولم نسمع أبدا أن أحدا قال : إن هذه الكتب معجزة ، لاحتوائها على ذلك القدر الكبير من الحكمة.

بل لو جاء إنسان ، وجمع كل الحكمة الموجودة في الكتب السابقة ، مع

٧٧

الحكمة الموجودة في القرآن ، وفي العصر الحديث ، وأدركها وحفظها ، لما قيل : إنه أتى بالمعجزة أو قاربها.

فالمعجزة شيء ، وإدراك الحكمة والإحاطة بها شيء آخر.

نعم ... لا شك في كثرة الحكمة البالغة في القرآن تجعل له مزية ، ولكنها ليست معجزة ...

٧٨

الاعجاز بالصرفة

والإعجاز بالصرفة ليس نوعا من الإعجاز ، كالذي سبق ذكره وبيان بطلانه ، وإلا لهان الخطب ، وإنما هو في الحقيقة شبهة حول إعجاز القرآن.

وخلاصة هذا القول أن القرآن الكريم ليس بمعجزة في ذاته ، وأنه إنما صار معجزة بإعجاز الله الخلق عن تحديه ومعارضته.

وذلك أنهم قالوا : إن القرآن مؤلف من كلام العرب وتراكيبهم ، ولم يخرج عن أساليبهم وصورهم ، بل هو جار على منوالهم ، سالك سبيلهم ، ولذلك فإنه لا يزيد بفصاحته عن فصاحة بعض الفحول من شعراء الجاهلية ، أو أن فصاحة بعض الفحول من شعراء الجاهلية لا يكون دون فصاحته (١).

أي أن العرب كانوا قادرين بما عندهم من الفصاحة والبلاغة التي لم يخرج القرآن عن طورها ـ كانوا قادرين على معارضة القرآن والإتيان بمثله ، أو بمثل بعض سوره ، فهو في ذاته لا إعجاز فيه.

وإنما صار القرآن معجزا ، لأن الله تعالى أعجز الخلق بمنعهم من الإتيان بمثله ، مع قدرتهم عليه.

وإني لا زلت منذ أن سمعت هذا القول في أوائل طلبي للعلم ، إلى هذا اليوم ، لا زلت أستغرب من هذا القول وقائله ، ولا سيما بعد أن اطلعت على ما اطلعت عليه من ضروب الإعجاز الغيبي والعلمي في القرآن ، مما سنذكره إن شاء الله في الصفحات القادمة.

__________________

(١) القواطع ص ٢٥٤.

٧٩

وإني لأظن أن كل من يسمع هذا القول ، وإن لم يكن على معرفة بلغة العرب وبلاغتها ـ سوف تأخذه الدهشة ، ويملكه العجب ، إذ يسمع أن قائل هذا القول يسوي بين قدرة الله ، وقدرة البشر في الكلام ، فلا يرى لكلام الله مزيد فضل على كلام الفحول من شعراء الجاهلية.

وسوف تزيد دهشته ، وتتسع دائرة تعجبه حينما يعلم العارف بلغة العرب وأساليبها أن قائل هذا القول هو من أكبر أدباء العربية وعلمائها ، ألا وهو الجاحظ ، وأنه ينسب أيضا للنظام وبعض المعتزلة ، والمرتضى من الشيعة ، وأبي إسحاق الأسفراييني من أهل السنة.

أما نسبته إلى النظام فإنها قريبة وليست ببعيدة ، لما كان يعرف عن النظام من الكفر والإلحاد والزندقة ، حتى صنف كتاب «نصر التثليث على التوحيد» على ما قاله ابن السبكي.

ولكن العجب من نسبته إلى المرتضى والأسفراييني ، وإني لعلى شك من صحة هذه النسبة إليهما.

وأما نسبته للجاحظ فقد قال الإمام أبو مظفر بن السمعاني بعد أن ذكر هذا الكلام عن الإعجاز في القرآن ، قال :

وهذا قول باطل ، وزعم كاذب. وسمعت والدي ـ رحمه‌الله ـ يقول : إن هذا قول اخترعه الجاحظ ، ولم يسبقه إليه أحد ، ومن قاله بعده فإياه اتبع ، وعلى منواله نسج ، وهو في نفسه مستثمج مستهجن.

والتأمل في نظم القرآن ، وجزالته وفصاحته ، وعرضه على كل نظم عرف من أساليب كلام العرب ، وكل كلام فصيح عرف من كلامهم ، ثم امتيازه عن الكل ـ بروائه وبهائه ، وطلاوته وحلاوته وإعراقه وإيناقه ، وإعجازه ـ ظاهر لكل ذي لب من الناس ، لو لا خذلان يلحق بعض القوم ، ونسأل الله العصمة بمنه (١) ا ه.

٨٠