المعجزة القرآنيّة

الدكتور محمد حسن هيتو

المعجزة القرآنيّة

المؤلف:

الدكتور محمد حسن هيتو


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٤٢

جاءوني ، فقالوا لي كذا وكذا ، فأخبرته بما قالوا ، وقد أبى الله إلا أن أسمعني منك ما تقول ، وقد وقع في نفسي أنه حق ، فأعرض علي دينك ، فعرض على الإسلام ، فأسلمت (١).

عمر بن الخطاب :

وما حدث للطفيل بن عامر الدوسي ، من التأثر بكلام الله ، وإعلان الإسلام ، حدث لمن هو أشدّ منه بأسا ، وأكبر قوة ، وأكثر إيذاء للمسلمين ، ألا وهو عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه وأرضاه ـ إذ دفعه حقده وحدته لأن يعزم على قتل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد بلغه أنه مجتمع مع أصحابه في بيت عند الصفا.

فلقيه نعيم بن عبد الله ، فقال له : أين تريد يا عمر؟ فقال : أريد محمدا ، هذا الصابئ ، الذي فرق أمر قريش ، وسفه أحلامها ، وعاب دينها ـ فأقتله.

فقال له نعيم : والله لقد غرتك نفسك من نفسك يا عمر! أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمدا ..؟ أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم ...؟.

قال : وأي أهل بيتي ..؟.

قال : ختنك ، وابن عمك سعيد بن زيد ، واختك فاطمة بنت الخطاب .. ، فقد والله أسلما.

فرجع عمر إلى أخته وختنه ـ أي زوجها ـ وعندهما خباب بن الأرت ، معه صحيفة فيها «سورة طه» يقرئهما إياها.

فلما سمعوا حسّ عمر ، اختبأ خباب في بعض البيت ، وخبأت فاطمة الصحيفة ، وكان عمر قد سمع شيئا من القراءة حين دنا من البيت.

فلما دخل قال : ما هذه الهينمة التي سمعت ...؟.

قالا له : ما سمعت شيئا.

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ٢ / ٣٤٤.

٤١

قال : بلى ... ولقد أخبرت أنكما تابعتما محمدا على دينه ، وبطش بسعيد ، فقامت إليه اخته تدافع عن زوجها ، فلطمها وأدماها ، فلما فعل ذلك قالا له : نعم لقد أسلمنا ... فاصنع ما بدا لك ..

ثم طلب من أخته الصحيفة التي سمع قراءتها ، ووعدهما أن يردها عليهما إذا قرأها.

فلما طمعت أخته في إسلامه ، قالت له : يا أخي إنك نجس ، على شركك ، وإنه لا يمسها إلّا طاهر.

فقام عمر ، واغتسل ، فأعطته الصحيفة ، وفيها :

بسم الله الرحمن الرحيم ، (طه ، ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى ، إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى ، تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى ، الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ، لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى).

فلما قرأ عمر صدر السورة ، هدأت ثورته ، وذابت حدته ، وسطع أمامه نور المعجزة بما لا يستطيع دفعه.

إنه الكلام الذي تترنم به السموات والأرض ، ويتفاخر به الإنس والجن ، وتغبط الملائكة به بني آدم ...

وانفعلت نفس عمر بهذا الكلام ...

كيف لا ...؟ وهو العربي القرشي الذي يتذوق العربية ، ويتمايل لسماعها طربا ...

فما كان منه إلا أن قال : «ما أحسن هذا الكلام وأكرمه».

وما كان منه إلّا أن ذهب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ... ولكن ... لا ليقتله هذه المرة .. وإنما ليعلن إسلامه وليضيف إلى التاريخ حادثا من أهم الحوادث في تاريخ المعجزة القرآنية ، إذ كان اعترافه بها ، وإيمانه بصاحبها ، مغيرا لمجرى الحوادث في حياة المسلمين ، وتاريخ الرسالة .. بل كان مغيرا لمجرى الحياة الإنسانية كلها.

٤٢

لبيد بن ربيعة :

وما حدث لعمر ، والطفيل بن عامر الدوسي ، حدث لكثير من المشركين مما دفعهم للدخول في الإسلام.

بل جعل كثيرا منهم يذهل عن كل صورة من صور الجمال الفني في لغة العرب أمام بلاغة القرآن ، وجماله وإعجازه.

فهذا لبيد بن ربيعة العامري ، أحد أصحاب المعلقات السبعة ، الذين سارت بشعرهم الركبان ، ومن أشراف الشعراء المجيدين الفرسان ، يفد على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويسمع كلامه ، ويسلم ، ولكن .. ما ذا فعل بالشعر ، الذي جرى في كيانه مجرى الدم من عروقه ، وجبلت به نفسه ، وعرفت به حياته ، وتناقله الناس عنه ، يتفاخرون به ، ويتمايلون طربا لسماعه ، بل يصل بهم الأمر لدرجة الجنون لأجله ، كما فعل الفرزدق حين مر بمسجد لبني أقيصر بالكوفة ، وسمع رجلا ينشد قول لبيد :

وجلا السيول عن الطلول كأنها

زبر تجدّ متونها أقلامها

فما كان من الفرزدق إلا أن سجد ..

فقيل له : ما هذا يا أبا فراس ..؟.

فقال : أنتم تعرفون سجدة القرآن ، وأنا أعرف سجدة الشعر (١) ..

لقد وصل الأمر بالفرزدق ، وهو أحد فحول الشعراء الذين لا ينازعون ولا يدافعون ، وصل الأمر به لدرجة الافتتان بشعر لبيد ...

فما هو حال لبيد في الإسلام أمام القرآن ...؟.

لقد ذهل هذا الرجل الفصيح البليغ ، الذي فتن الناس بشعره ، لقد ذهل عن نفسه وشعره ، فلم يعد يتمكن من قول الشعر ، إذ أفحمته عظمة القرآن وبلاغته ، فلم يقل بعد إسلامه إلّا بيتا واحدا ، وهو قوله :

الحمد لله إذ لم يأتني أجلي

حتى لبست من الإسلام سربالا

__________________

(١) مختارات ابن منظور ٩ / ٣٤٠.

٤٣

وها هو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يقول له يوما ما : أنشدني من شعرك .. فيقرأ سورة البقرة ، ويقول له : ما كنت لأقول الشعر بعد أن علمني الله سورة البقرة ..؟ (١).

لقد أذهلته سورة البقرة عن الشعر وقوله ، وحق له هذا ، إنه شعور العظماء عند معاينتهم الحقائق.

إنه اعتراف أهل الفضل بالفضل وإذعانهم له.

إن الفنان العادي ليفخر بفنه أمام من هم أقل منه شأنا ، وأدنى منه منزلة ، إلّا أنه عند ما يكون منصفا عاقلا ، يتصاغر أمام عباقرة الفن وعظمائه ، ويستحيي من عرض إنتاجه أمام إنتاجهم ، وفنه أمام فنهم ، لأنه يدرك بملكته الفرق الشاسع بينه وبينهم ، ويعلم أنه مهما حاول فلن يصل لدرجتهم ، ولذلك يحتفظ بكرامته ، وينسحب إلى حيث يضمن لها المدح والتكريم.

وهكذا كان شأن لبيد بن ربيعة ، لقد أذهلته بلاغة القرآن وفصاحته ، ورأى فيه الإعجاز الذي لا يستطيع أحد أن يدانيه أو يقاربه ، وما شعره مهما بلغ من الدقة والبلاغة ، والعظمة والروعة ، إلّا من سقط القول أمام هذا القرآن المعجز.

ولذلك كان من إكرام لبيد لنفسه أن لا يقول شيئا من الشعر بعد أن قرأ القرآن.

تأثر حسان بن ثابت :

وما حدث للبيد بن ربيعة ، حدث لغيره من الشعراء ، فها هو حسان بن ثابت ، وهو من فحول شعراء الجاهلية المعمرين ، يسلم ، فيقرأ القرآن ، ويتأثر ببلاغته وفصاحته ، مما أذهله عن كثير من المعاني الشعرية التي كان يجيدها في الجاهلية ويفخر بها ، مما جعل مستواه في الشعر يهبط في الإسلام ، عما كان عليه في الجاهلية.

__________________

(١) دائرة المعارف ٨ / ٢٨٢.

٤٤

فقد أجمع نقاد الشعر على أن شعر حسان بن ثابت قد تأثر في الإسلام ، وتراجع أمام عظمة القرآن وإعجازه.

لم يمتنع حسان من قول الشعر في الإسلام ، بل أمره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول الشعر ، ويرد به على المشركين ما كانوا يهجون به الإسلام والمسلمين.

ولكن حسانا لم يمكنه أبدا أن يتناسى هذا الصرح البلاغي المعجز ، الذي عصف بكل بلاغة وفصاحة وشهرة أمام بلاغته وفصاحته ، مما يجعل عند الإنسان عجزا باطنيا خفيا يفرض عليه التراجع والاستسلام ، ولا سيما بعد أن يئس كل من في الأرض عن الوصول إلى أدنى مراتب بلاغته.

وهذا ما جعل شعر حسان يتراجع ويضعف إذا ما قيس بشعره الذي كان يقوله في الجاهلية قبل أن يسمع القرآن.

* * *

وما حدث للبيد وحسان ، حدث لكثير من شعراء العرب وفصحائهم ، مما يدل على مدى التأثير القرآني في نفوسهم ، وعلى كلامهم.

لما ذا لم يسلم جميع العرب ممن أدرك معجزة القرآن؟ :

بعد هذا الذي قدّمناه من تأثر العرب بالمعجزة القرآنية ، واعترافهم بها ... ، وما رافق ذلك من إعراض بعضهم عن قول الشعر أو تأثر شعره أمام الإعجاز القرآني ، قد يثار سؤال ، ألا وهو :

ما دام القرآن قد وصل لهذا الحد من الإعجاز والتأثير ، فلما ذا وجدنا كثيرا من العرب ، ممن مهر في العربية وأتقنها ، وبلغ الذروة العليا فيها ، كالوليد بن المغيرة ، وأبي جهل ، وأبي لهب ، وعتبة بن ربيعة ، وغيرهم كثير ، ممن لا يخفى مكانهم على أحد ، لما ذا لم يسلموا وقد سمعوا القرآن ..؟!.

إن الجواب على هذا السؤال سهل ميسور ، وذلك أن الناس على مر العصور ، وكر الدهور ، لم تخل ساحتهم يوما ما من جاحد معاند ، أو متكبر

٤٥

بطر ، أو حاسد حاقد ، أو كذاب أشر.

وإن نظرة سريعة خاطفة عبر التاريخ إلى علاقة الإنسان بالحقائق ، مع الأنبياء والرسل وغيرهم ، لتدلنا على هذه الحقيقة دلالة قاطعة.

ولا أريد أن استطرد في ذكر الأمثلة ، بل سأكتفي بمثالين يقينيين من التاريخ ، الأول في العناد مع الرسل ، والثاني في العناد مع الحقائق العلمية.

عناد قوم إبراهيم عليه‌السلام :

وهذا هو المثال الأول الذي سأتكلم عليه ، وهو عناد الناس مع الرسل.

وهو يتمثل لنا جليا واضحا في قصة إبراهيم عليه‌السلام مع قومه ، حينما كسر أصنامهم ، وأقام عليهم الحجة في عدم صلاحية الحجارة للعبادة ، وأنها لا تملك لنفسها ضرا ولا نفعا ، علاوة عن أن تملك هذا للآخرين ، ولذلك لم تستطع أن تمنع نفسها من الأذى الذي ألحقه بها إبراهيم عليه‌السلام.

وآمن قومه بهذه الحقيقة ، وأن هذه الحجارة لا تصلح للعبادة ، إلا أنهم أخذتهم العزة بالإثم ، فعادوا ثانية يناقضون أنفسهم ، بالتنكر للحقائق التي لا سبيل إلى إنكارها ، وأجمعوا على الباطل لنصرة تلك الحجارة ، رغم ما آمنوا به من حقيقة حالها.

ولنستمع إلى القرآن يقص علينا قصتهم ، قال تعالى :

(وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ ، إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ : ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ؟ قالُوا : وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ ، قالَ : لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ، قالُوا : أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ؟ قالَ : بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ ، وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ، وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ ، فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ ، قالُوا : مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ ، قالُوا : سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ ، قالُوا : فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ ، قالُوا : أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ؟ قالَ : بَلْ فَعَلَهُ

٤٦

كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ ، فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ ، فَقالُوا : إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ ، ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ ، لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ ، قالَ : أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ ، أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ، أَفَلا تَعْقِلُونَ؟ قالُوا : حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ).

إنهم لم يجتمعوا على إحراقه لأنه أخطأ ، ولا لأنه فشل في إقامة الحجة ، ولا لأنه أتى بما لا يعقل ولا يفهم.

إن ما ادّعاه أمر مفهوم ومعقول لكل ذي عقل ، وإنما هو الجحود والعناد ، والكبر والاستبداد ..

فلا يمكن أن يقال : إن ما ادّعاه إبراهيم عليه‌السلام من عدم صلاحية الحجارة للعبادة ، وأنها لا تضر ولا تنفع ، شيء باطل ، لأن قومه لم يسلموا له ، ولم يؤمنوا به.

وذلك لأن عدم إيمانهم جحود منهم وعناد ، باعترافهم بألسنتهم.

وما جرى من العناد مع إبراهيم عليه‌السلام ، جرى مع غيره من الأنبياء والرسل ، مما لا يخفى على أحد ، وهو عينه ما جرى مع النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، على ما سنبينه أيضا بأقوالهم بعد قليل إن شاء الله.

وهذا العناد ليس مع الأنبياء والرسل فقط ، وإنما هو عناد مع كل حقيقة من الحقائق عبر التاريخ.

فالعناد هو العناد ، لا يختلف باختلاف الزمان ، ولا المكان ، ولا الأشخاص.

وهذا يظهر جليا واضحا في المثال الثاني الذي سنضربه الآن ، وهو عناد الكنيسة في العصور الوسطى في أوروبا ، مع الحقائق العلمية.

عناد الكنيسة مع الحقائق العلمية :

لقد مارست الكنيسة باسم الدين أبشع أنواع الطغيان والاستبداد ، مع

٤٧

العلماء ، والمفكرين ، محاربة كل الحقائق العلمية الحسية اليقينية ، والنظرية المظنونة ، خشية على سلطانها الباطل ، فقتلت وأحرقت كل من أتى بأي حقيقة علمية ما دامت لا توافق عقل القس أو الراهب ، فقتلت وأحرقت ما يزيد عن ثلاثمائة وخمسين ألفا من العلماء والمفكرين ، عنادا وطغيانا ، على ما يقوله مؤرخو الغرب.

مما ملأ القلوب بالحقد ، واستفز النفوس للثورة ، فكانت الثورة على الكنيسة ، وعلى الدين ، وكان الشعار الرهيب «اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس».

فعند ما وقفت الكنيسة في وجه الحقائق العلمية ، لم تقف في وجهها لأنها أمور باطلة ، ولم تقتل العلماء والمفكرين لأنهم أتوا بمفاهيم لا برهان عليها ، وإنما فعلت ما فعلت جحودا وعنادا.

فلا يمكن أن يقال أبدا ، وفي أي حال من الأحوال ، لما ذا لم يؤمن الرهبان بالحقائق العلمية ، والنظريات الفكرية ، فإن عدم إيمانهم دليل على بطلان ما أتى به العلماء والمفكرون ..؟.

وذلك لأن ما أتى به العلماء والمفكرون حقائق علمية ، ثابتة بالبرهان اليقيني ، ولا سبيل إلى إنكاره ، وإنما أنكرته الكنيسة وأربابها جحودا وعنادا ، وخشية على سلطانها الباطل ، الذي بدأ يترنح تحت صدمات تلك الحقائق ، بينما آمنت بها جماهير الناس ، التي رأت فيها البرهان الساطع ، والدليل القاطع ، مما جعلها تستسلم لها ، وتؤمن بمضمونها.

وهذا عينه هو ما حدث لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما سنعرفه الآن.

عناد الوليد بن المغيرة :

فها هو الوليد بن المغيرة يأتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويسمع منه القرآن ، ويرق له قلبه ، ويتأثر به.

ويبلغ ذلك أبا جهل ، فيأتي الوليد ويقول له : يا عم ، إن قومك يريدون

٤٨

أن يجمعوا لك مالا ليعطوكه ، لئلا تأتي محمدا لتعرض لما قاله.

فيقول الوليد : قد علمت قريش أني أكثرها مالا.

قال أبو جهل : فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك كاره له.

قال الوليد : وما ذا أقول فيه؟ فو الله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني ، ولا برجزه ولا بقصيدته ، ولا بأشعار الجن ، والله ما يشبه الذي يقوله شيئا من هذا ، وو الله إن لقوله حلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإنه لمثمر أعلاه ، مغدق أسفله ، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه ، وإنه ليحطم ما تحته.

قال أبو جهل : لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه.

قال : فدعني حتى أفكر ، فلما فكر قال : هذا سحر يؤثر.

* * *

ولما اجتمعت قريش عند حضور الموسم ، قال لهم الوليد : إن وفود العرب ترد ، فأجمعوا في محمد رأيا ، لا يكذب بعضكم بعضا ، فقالوا : نقول : كاهن.

قال : والله ما هو بكاهن ، ولا هو بزمزمته ولا سجعه.

قالوا : مجنون.

قال : ما هو بمجنون ، ولا بخنقه ، ولا وسوسته.

قالوا : فنقول : شاعر.

قال : ما هو بشاعر ، قد عرفنا الشعر كله ، رجزه وهزجه ، وقريضه ، ومبسوطه ، ومقبوضه.

قالوا : فنقول ساحر.

قال : ما هو بساحر ، ولا نفثه ولا عقده.

قالوا : فما نقول؟.

قال : ما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلّا وأنا أعرف أنه لا يصدق ، وإن أقرب القول فيه أنه ساحر ، وأنه سحر ، يفرق بين المرء وابنه ، والمرء وأخيه ، والمرء وزوجته ، والمرء وعشيرته.

فتفرقوا ، وجلسوا على السبل ، يحذرون الناس.

٤٩

إذن فهم يعلمون أن ما أتى به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس من صنع البشر ، ولا قبل للبشر بالإتيان بمثله ، والذي دفعهم إلى عدم الإيمان به ، ليس عدم ظهور الإعجاز فيه ، وإنما هو الكبر والعناد ، والأنانية والأثرة والاستبداد.

عناد الأخنس بن شريق صراحة :

جاء الوليد بن المغيرة إلى الأخنس بن شريق فقال : ما تقول فيما سمعت من محمد؟.

فقال الأخنس : ما ذا أقول؟ قال بنو عبد المطلب : فينا الحجابة ، قلنا : نعم.

قالوا : فينا السدانة ، قلنا : نعم.

قالوا : فينا السقاية ، قلنا : نعم.

يقولون : فينا نبي ينزل عليه الوحي؟! والله لا آمنت فيه أبدا ..

فعدم الإيمان إذا ليس للحق الذي جاء به رسول الله ، وإنما هو الأنانية والأثرة ، والحقد والحسد ...؟!.

إعلان المشركين أن كفرهم كبر وعناد :

لما قامت الحجة على المشركين ، وأسقطوا في أيديهم ، ورأوا أنه لم ينفعهم كذبهم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومحاولة تشويه دعوته ، قالوا : إننا لا نعارض في أمر النبوّة والرسالة ، ولا في أمر القرآن والإعجاز ، وإنما نعارض أن يكون المرسل محمد بن عبد الله ، ولو كان من عظماء مكة ، كالوليد بن المغيرة ، أو عظماء الطائف كمسعود بن عمر الثقفي لآمنا به ، (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ).

* * *

وبهذا الذي ذكرناه يتبيّن لنا أن عدم إيمان المشركين بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لم يكن لعدم صلاحية ما جاء به من المعجزة الدالة على نبوته ، وإنما كان جحودا وعنادا ، مع تسليمهم أن ما جاء به الحق ، وأنه ليس من صنع البشر.

٥٠

ولذلك قال تعالى مسليا لنبيه عليه الصلاة والسلام ، وكاشفا لحقيقة القوم : (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ ، فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ ، وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ).

وقال تعالى : (وَجَحَدُوا بِها ، وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا).

وقال : (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ).

إذن فليست المسألة مسألة حق وباطل ، وإنما هي مسألة جحود وعناد.

والذي يهمنا نحن هنا في ظاهرة الإعجاز هو اعتراف الجميع بأن هذا القرآن ليس من صنع البشر ، وإنما هو من عند الله.

وما علينا بعد ذلك آمن الناس أم كفروا ، فلا يضر الحق قلة المؤيدين ، كما لا يفيد الباطل كثرتهم.

فالحقائق لا تتغير بكثرة الأتباع وقلتهم.

على أنه ـ ومما لا شك فيه ـ أن الذين جحدوا ولم يؤمنوا ، لا يشكلون أية نسبة أمام الذين دخلوا في دين الله ، وآمنوا بمعجزته ، ولا سيما أن الجميع قد اعترفوا بإعجاز القرآن ، وعلى رءوسهم بلغاء العرب وفصحاؤهم ، من الشعراء ، والخطباء ، والحكماء.

* * *

الدليل على عدم وقوع معارضة القرآن :

والآن ، وبعد أن أثبتنا إعجاز القرآن لبلغاء العرب عن التحدّي ، يمكن أن يتساءل أهل العصر ويقولوا : إنك أثبت إعجاز القرآن بالتحدّي وعدم إمكان المعارضة.

أما التحدّي فهو مسلم ، وما زال قائما.

وأما عدم إمكان المعارضة فلا ، فما هو الدليل عليه؟ أليس من الجائز أن يكون القرآن قد تحدّي ، وبطلت المعجزة ، إلّا أن هذا التحدّي لم ينقل إلينا ، بل كتمه المسلمون عصبية ..؟.

٥١

فما الدليل على عدم وقوع المعارضة ..؟.

إنه سؤال يطرح لأحد أمرين ، ومن قبل رجلين ، فهو إما أن يطرح من قبل جاحد للتشكيك ، وهذا منهج معروف ، وإما أن يطرح من قبل جاهل للاستفهام ، وعلى كلا الحالين فلا بد من الجواب ، وأظن أنه السؤال يجيب عن نفسه بنفسه ، وذلك لما يلي :

التحدي لم يكن خاصا بالعرب بل كان شاملا لجميع الأمم ، في كل زمان ومكان ، ولكل جيل من الأجيال ، ممن يصل إلى سمعهم ذلك الكتاب ، من العرب والعجم ، والإنس والجن ، كما كان تحديا للمشركين ، واليهود ، والنصارى ، والمجوس ، وكل ذي شرعة أو منهاج.

قال تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ، وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً).

وقال تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ، قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ ، وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

وقال جلّ ذكره : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ، قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ، وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

وقال تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ، وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

فإننا نرى في هذه الآيات أن التحدّي لم يكن للعرب فقط ، وإنما كان لكل من في الأرض ، ممن يبلغه هذا الكتاب ..

وقد كرّر الله هذا المعنى في كل آية من آيات التحدّي ، ليرسخ في النفوس ، ويستقر في القلوب ، وليكون البرهان أوضح ، والحجة أبلغ ، ليعلم كل إنسان ، في كل زمان ومكان ، أن هذا الكتاب برهان ساطع ، ودليل قاطع على أنه من عند الله ، وليس من قبل البشر.

٥٢

التحدي ليس مقصورا على اللغة :

ويضاف إلى هذا الذي ذكرناه ، أن التحدّي لم يكن في أن يأتي العرب بنظم كنظم القرآن ، في البلاغة والفصاحة ، والدقة والجمال فقط ، بل كان في كل جانب من الجوانب التي خاض فيها القرآن ، من الأحكام ، والحلال والحرام ، والأخبار عن المغيبات ، والخوض في العلوم ، والدقة المتناهية في كل سور القرآن ، إذ أن الله وصفه بأنه (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) وأن الفرق بينه وبين ما يعمله البشر ، أنه لا يوجد فيه اختلاف كما يوجد في ما يصنعه البشر ، (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً).

فالتحدّي لم يكن قاصرا على جانب اللغة فقط ، لأن هذا خاص بالعرب ، ومن أتقن العربية من غيرهم ، بل كان عاما لكل جانب من جوانب القرآن ، لأنه كان تحدّيا لكل من في الأرض ، من كل الأمم ، من عرب وغيرهم ، ولذلك كان ومن البديهي أن يتظاهر كل من في الأرض ، ممن يخالف الدين الجديد ، على أن يعمل عقله ، ويبذل جهده ، ويستنفد طاقته ، من أجل إبطاله ، بإظهار العجز والتناقض فيه ، أو بمعارضته ، أو بتكذيبه في إخباره ، أو غير ذلك من وجوه المعارضة والتحدّي.

استنفار كل من تحد للمعارضة :

ولذلك استنفر كل من بلغهم هذا الكتاب ـ من المشركين ، واليهود ، والنصارى ، وغيرهم ـ استنفروا كل طاقاتهم وإمكانياتهم من أجل هذا الأمر ، وأخذوا يرمون القرآن بكل وصف يمكن أن ينفر الناس منه.

فقالوا : (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا ، إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (١).

وقالوا : (ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً ، وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) (٢).

__________________

(١) سورة الأنفال : آية ٣١.

(٢) سورة القصص : آية ٣٦.

٥٣

وقالوا : (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) (١).

وقالوا : (أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ) (٢).

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ ، وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ ، فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً ، وَقالُوا : أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (٣).

و (قالَ الظَّالِمُونَ : إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) (٤).

إلى آيات كثيرة حكاها الله عنهم ، تزيد من أمر التحدّي ، وتدل على حيرتهم واضطرابهم أمام القرآن.

فإنهم ما فزعوا إلى ما فزعوا إليه من هذه الأقوال الباطلة المتناقضة ، إلّا لعجزهم عن معارضته والإتيان بمثله ، ولتنفير الناس منه ، وإبعادهم عنه.

ولو تمكّنوا من معارضة القرآن ، لما كانوا بحاجة إلى مثل هذه الأقوال ، ولكفتهم المعارضة في إبطال المعجزة عن مثل هذه التهم التي هذوا بها ، لا لتدل على بطلان المعجزة ، بل لتدل على عجزهم وانهيارهم.

محاولة المشركين في المعارضة :

لم يقف المشركون عند هذا الحد من الهذيان في التهم الباطلة ، بل حاولوا المعارضة وإبطال المعجزة بإيجاد التناقض في القرآن.

فلما نزل قوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) (٥) شق ذلك على كفار قريش ، وقالوا : شتم آلهتنا ، ولجئوا إلى ابن الزّبعرى ، وكان من أشد الناس على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن يسلم ، وكان من أشعر

__________________

(١) سورة الحجر : آية ٦.

(٢) سورة الصافات : آي ٣٦.

(٣) سورة الفرقان : آية ٤ ، ٥.

(٤) سورة الفرقان : آية ٨.

(٥) سورة الأنبياء : آية ٩٨.

٥٤

الناس وأطبعهم ، ويقولون : إنه أشعر قريش قاطبة (١).

فقال ابن الزّبعرى : والله لأخصمنّ محمدا ، ثم أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له : «ألست تزعم أن عيسى عبد صالح ، وأن الملائكة صالحون؟» ، قال : «بلى» ، قال : فهذه النصارى تعبد عيسى ، وهذه اليهود تعبد عزيزا ، وهذه بنو مليح تعبد الملائكة؟».

فضج أهل مكة ، وفرحوا ظنا منهم أنه أحرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأبطل معجزته.

وذلك أن القرآن يثني على أولئك العباد الصالحين ، من عيسى وعزير والملائكة ، ثم بعد ذلك يقول : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) ـ أي العابد والمعبود ـ في النار ، وعيسى ، وعزير ، والملائكة ، قد عبدوا ، إذن فهم في جهنم مع من عبدهم ، وهذا فيما يزعمون تناقض في القرآن ، ولذلك فرحوا به ، وظن ابن الزبعرى أنه قد خصم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وعند ذلك نزل قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) (٢) ، (٣) ، فبيّن أن أمثال هؤلاء الصالحين ليس داخلا في عموم الآية السابقة ، لأنهم لم يعبدوا برضاهم ، ولا تناقض في كتاب الله ، فبهت ابن الزبعرى والمشركون ، إذ تبيّن لهم فشل محاولتهم.

وما فعله المشركون قد فعل مثله اليهود ، لأن التحدّي شامل لهم ، وهم أحرص من غيرهم على إبطال المعجزة على ما ستراه.

محاولة اليهود في المعارضة :

لم تقتصر محاولة المعارضة وإظهار التناقض في القرآن على المشركين ، بل

__________________

(١) شرح أبيات المفتي البغدادي ٤ / ٢٥٦.

(٢) سورة الأنبياء : آية ١٠١.

(٣) الدر المنثور ٤ / ٣٣٨ ، والقرطبي ١١ / ٣٤٣.

٥٥

تعدتهم إلى اليهود ، وذلك لما كان من التحدّي العام لجميع من في الأرض.

فعند ما نزل قوله تعالى : (فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) (١) جاء ناس من اليهود إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليحرجوه ، فقالوا : يا محمد ..! أفي الجنة فاكهة ..؟.

قال : نعم فيها فاكهة ونخل ورمان.

قالوا : أفيأكلون كما يأكلون في الدنيا؟.

قال : نعم ، وأضعافه.

قالوا : أفيقضون حوائجهم؟.

قالا : لا ، ولكنهم يعرقون ويرشحون (٢).

وفي بعض الروايات أنهم قالوا : من يأكل تكون له الحاجة ، فكيف يقضون حوائجهم ..؟.

فقال : مسك يرشح من جنوبهم.

فهم أرادوا بسؤالهم هذا إثبات التناقض بزعمهم ، وذلك أن الآكل يريد قضاء الحاجة ، وقضاء الحاجة من المستقبحات التي تتنافى مع نعيم الجنة ، فكيف يتفق نعيم الجنة مع هذا؟.

فكان الجواب الحكيم أنه يصير عرقا كالمسك يفيض من جنوبهم.

استعانة المشركين باليهود على المعارضة :

لم يقف الأمر عند فشل محاولة المشركين ، ومحاولة اليهود ، بل تعداه إلى طور آخر ، وهو استعانة المشركين بغيرهم من اليهود والنصارى ، ليكون بعضهم ظهيرا لبعض ، ليتحقق التحدّي في قوله تعالى : (وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) ، فطلبوا منهم أن يكتبوا لهم بأشياء ، يسألون عنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، عسى أن يحرجوه في جوابها.

__________________

(١) سورة الرحمن : آية.

(٢) الدر المنثور ٦ / ١٥٠.

٥٦

فكتب إليهم اليهود أن يسألوه عن أمر أصحاب الكهف ، وذي القرنين ، والروح. (١)

فلما أتى ذلك قريشا أتى الظفر في أنفسها ، فقالوا : يا محمد قد رغبت عن ديننا ودين آبائك ، فحدثنا عن أمر أصحاب الكهف ، وذي القرنين ، والروح ، فقال ائتوني غدا ، ولم يستثن ـ أي لم يقل إن شاء الله ـ فمكث عنه جبريل ما شاء الله لا يأتيه ، ثم أتاه ، فقال : سألوني عن أشياء لم يكن عندي بها علم فأجيب ، حتى شق ذلك علي ، فنزل ما ذكر من أصحاب الكهف ، وذي القرنين ، و (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ، قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ، وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) (٢).

استعانة المشركين بالنصارى :

وكما استعان المشركون باليهود ، حاولوا أن يستعينوا بالنصارى على الإسلام والمسلمين وإبطال الدعوة والمعجزة ، فعند ما هاجر المسلمون الهجرة الأولى إلى الحبشة ، فرارا بدينهم من الفتن ، أرسل المشركون خلفهم وفدا منهم ، يحمل معه الهدايا والتحف للنجاشي وبطارقته.

وبعد مفاوضات فاشلة معه ، ليردّ المسلمين إلى مكة ، قال عمرو بن العاص ـ وكان رئيس الوفد ـ والله لآتينه غدا بما أستأصل به خضراءهم ، والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد!.

ثم غدا عليه من الغد ، فقال له : أيها الملك ، إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولا عظيما ، فأرسل إليهم فسلهم عما يقولون فيه.

فأرسل إليهم الملك ليسألهم ، فلما دخلوا عليه قال لهم : ما ذا تقولون في عيسى بن مريم؟.

__________________

(١) الدر المنثور ٤ / ٢١٧ بالمعنى.

(٢) سيرة ابن هشام ، ومختصر السيرة ص ٧٦.

٥٧

فقال جعفر بن أبي طالب : نقول فيه الذي جاءنا به نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يقول : هو عبد الله ورسوله وروحه ، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول.

فأغضب هذا الكلام البطارقة الذين كانوا حول النجاشي ، ونخروا نخرة رجل واحد ، وكادت تقع الكارثة.

إلا أن النجاشي ضرب بيده إلى الأرض ، فأخذ منها عودا ثم قال : والله ما عدا عيسى بن مريم مما قلت هذا العود.

وجه الاستدلال على عدم المعارضة بما ذكرناه :

فهذا غيض من فيض ، وقليل من كثير ، من المحاولات التي لا سبيل إلى حصرها ، والتي كانت تهدف إلى إيجاد التناقض أو الخلل في القرآن ، وإحراج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لإبطال دعوته ، من المشركين على حدة ، واليهود على حدة ، والنصارى على حدة ، ومن المشركين واليهود ، أو المشركين والنصارى معا.

محاولات يائسة ، وأوهام باطلة ، كلها تهدف إلى التشكيك في أمر القرآن والدين الجديد.

فلو كان القرآن قد عورض من قبل فصحاء العرب ، لشاع هذا الأمر وذاع ، وملأ الفيافي والبقاع ، ولقال كل مشرك ، وكل يهودي ، وكل نصراني ، وكل معارض لهذا الدين : إن معجزة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد بطلت ، وقد أتى العرب بكلام هو أفصح من القرآن وأبلغ ، وهذا يدل على بطلان دينه.

لأن هذا من أهم الأمور التي تتوفر الدواعي على نقلها وإشاعتها ، بل يتهافت الناس عليها تهافت الفراش على النار ، ومن المستحيل كتمانها.

وإذا كان المشركون يفرحون بالأمور التافهة ، التي ذكرنا بعض أمثلتها ، والتي كانوا يظنون أنها سوف توجد التناقض أو الخلل في القرآن ، ويشيعونها ويذيعونها ، فكيف يكون حالهم لو أن القرآن عورض حقا.

٥٨

إنه لأمر ـ لو وقع ـ يستدعي من أعداء الدين والمتربصين أن يجعلوا منه تاريخا وعيدا.

فكونه لم ينقل إلينا عن واحد من المشركين ، أو اليهود ، أو النصارى ، أو غيرهم من أعداء الدين ، على كثرتهم ، واهتمامهم بالأمر ، وتوفر دواعيهم على إشاعته ونقله ، كونه لم ينقل عن واحد منهم أنه قد وقعت المعارضة ، يدلنا دلالة قاطعة لا تردد فيها أن القرآن لم يعارض ، ولو عورض لنقلت إلينا معارضته ، ولملأ المشركون بها الدنيا ، ولما كان هناك من سبيل لكتمانها ، علما بأن القرآن كان يقرع أسماعهم صباح مساء بآيات التحدّي تتلى على رءوس الأشهاد.

ومما اتفق عليه العقلاء أن الأمر إذا كان مما تتوفر الدواعي على نقله وإشاعته ، كهذا الأمر الخطير ، ثم لم ينقل إلينا إلّا من قبل رجل واحد ، أو آحادا ، فإننا نقطع بكذبه ، فكيف يكون الحال فيما إذا لم ينقله إلينا أحد ...؟؟.

إنه يدل على عدم وقوعه دلالة قاطعة ، وهذا شأن معارضة القرآن التي لم ينقلها إلينا أحد مع توفر الدواعي على نقلها لو وقعت ، ولا سيما والتحدّي قائم على مر العصور وكر الدهور ، يطلب المعارضة ، ويعلن عجزهم عنها قبل أن يفعلوها ، ويهددهم بوخيم العقاب ، وأليم العذاب (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) مما يثير حفيظتهم ، ويبعث هممهم على فعلها ، فكونها رغم كل هذا لم ينقل إلينا أنها فعلت ، يدل دلالة قاطعة على عدم وقوعها.

استدلال آخر على فشل المشركين في المعارضة :

قد عرفنا في الأمثلة السابقة ما بذله المشركون لإبطال المعجزة ، فلو حدث أن عورضت ، لشاع وذاع ، واشتهر وانتشر ، فكونه لم ينقله إلينا أحد ، رغم توفر الدواعي على نقله ، يدل دلالة قاطعة على عدم وقوعه.

ولا سيما أن المشركين قطعوا الأرحام ، وأراقوا الدماء ، وهجروا المؤمنين

٥٩

وهجّروهم ، وشنوا عليهم الحروب والغارات ، من أجل القضاء عليهم ، ولو كان بإمكانهم أن يبطلوا نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدون هذا ، عن طريق معارضة المعجزة ، لما لجئوا إليه ، فإن الإنسان لا يلجأ إلى الحرب ، التي ربما استأصلت شأفته ، وأبادت قومه ، إلّا عند ما يعجز عن غيرها من الوسائل التي هي أبسط منها وأيسر.

قال الإمام أبو بكر الباقلاني : «وقد علم منهم أنهم ناصبوه الحرب ، وجاهدوه ونابذوه ، وقطعوا الأرحام ، وأخطروا بأنفسهم ، وطالبوه بالآيات ، والإتيان بالملائكة ، وغير ذلك من المعجزات ، يريدون تعجيزه ، ليظهروا عليه بوجه من الوجوه.

فكيف يجوز أن يقدروا على معارضته القريبة السهلة عليهم ـ وذلك يدحض حجته ، ويفسد دلالته ، ويبطل أمره ـ فيعدلون عن ذلك ، إلى سائر ما صاروا إليه من الأمور ، التي ليس عليها مزيد من المنابذة والمعاداة ، ويتركون الأمر الخفيف ..؟!.

هذا مما يمتنع وقوعه في العادات ، ولا يجوز اتفاقه من العقلاء» (١).

* * *

بعض المحاولات اليائسة في المعارضة

إلّا أننا رغم هذا لم نعدم بعض السفهاء المشعوذين الذين تفوهوا ببعض الكلمات ، زاعمين أنها معارضة للقرآن ، إلّا أنها كانت الدليل على عجزهم وسخفهم ، والبرهان على إعجاز القرآن وعظمته ، وذلك كمسيلمة.

محاولة مسيلمة الكذاب :

لقد زعم مسيلمة أنه أوحي إليه قرآن كقرآن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأتى بسقط من القول يدل على جهله وسخفه ، وضعف عقله ورأيه ، مما أصبح نادرة يتندر بها أهل المجالس ، وأنموذجا للهزء والسخرية على مدى التاريخ.

__________________

(١) إعجاز القرآن للباقلاني ص ٢٢.

٦٠