المعجزة القرآنيّة

الدكتور محمد حسن هيتو

المعجزة القرآنيّة

المؤلف:

الدكتور محمد حسن هيتو


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٤٢

معنى قولنا : إن المعجزة أمر خارق للعادة ، مقرون بالتحدي ، سالم عن المعارضة ، مما أغفلنا شرحه عند الكلام على تعريف المعجزة في الفقرات الماضية.

لأن معرفته متوقفة على ما ذكرناه الآن من أمر الكرامة وغيرها من الخوارق الأخرى.

وأما قولنا : إنها أمر خارق للعادة ، إنما هو إشارة إلى أن المعجزة إنما تخرق حكم العادة ، لا حكم العقل.

وذلك لأن أحكام العقل إما أن تكون مستحيلة ، وإما أن تكون واجبة ، وإما أن تكون جائزة.

والقدرة الإلهية لا تتعلق بالواجب ، ولا بالمستحيل ، وإنما تتعلق بالجائز.

والمحال العادي من مجوزات العقول.

ولذلك شرط العلماء في المعجزة أن تكون من متعلقات القدرة الإلهية.

تنوع المعجزة باعتبار المرسل إليهم :

إنه من الضروري أن تكون المعجزة من نوع ما يتعارف عليه القوم الذين أرسل إليهم الرسول ، أو بعث فيهم النبي ، حتى يتمكّنوا من تصورها تصوّرا صحيحا ، ليصدروا عليها الحكم الصحيح ، فالحكم على الشيء فرع عن تصوره.

فلو كانت المعجزة من نوع ما يجهله القوم المرسل إليهم ، ومما لا يعرفون عنه شيئا ، لما كان بإمكانهم تصورها التصور الصحيح ، ومن ثم لما كان بإمكانهم أن يحكموا عليها بالصدق أو الكذب ، ولئن حكموا فسيكون حكمهم ساذجا ، صادرا عن عاطفة وعصبية ، لا عن علم وخبرة.

ويمكن أن نزيد هذا الكلام وضوحا ببعض الأمثلة البسيطة الآتية :

إذا جاء إنسان عبقري في فن الهندسة ، مبدع في تصاميمها ، وعرض

٢١

بعض تصاميمه الهندسية البديعة على أناس يجهلون هذا الفن ، فإننا على يقين بأنهم سوف لا يقيمون لهذه الخطوط التي رسمها في أوراقه أي معنى من المعاني ، بل ربما استهتروا به وهزءوا منه ، وربما قال له بعضهم : إنني أستطيع أن أصمم أبدع من تصميمك ـ وهو لمّا يعرف إمساك القلم بعد ـ وما ذاك إلّا لجهلهم بفن الهندسة ، وعدم تمكنهم من تصورها.

ولكن هذا المهندس البارع لو ذهب فعرض تصاميمه في أمة قد برعت في فن الهندسة ، فإننا على يقين بأنهم سوف يبهرون لتصاميمه الدقيقة ، ويعجبون بفنه البديع المتناسق ، ويعترفون له بالتفوّق والتقدم ، ويجعلون منه استاذا لهم ، ومحاضرا فيهم.

وما ذاك إلّا لأنهم عرفوا الفن الذي جاءهم به ، ولذلك تمكّنوا من تصوّره ، وكانت أحكامهم عليه صحيحة قويمة.

ولو أن إنسانا كان شاعرا ملهما ، فأنشأ قصيدة ، تعتبر من أبدع ما نظم في الشعر العربي ، وذهب بها إلى قوم حديثي عهد بلغة العرب وآدابها ، فألقاها على مسامعهم فإنا على يقين بأنهم سوف لا يلقون لهذه القصيدة بالا ، ولأعرضوا عنه وطالبوه أن يكلمهم بما يتناسب مع قدرتهم على الفهم والاستيعاب بلغة العرب.

إلّا أن هذا الإنسان ، لو ذهب إلى جماعة من الشعراء أو الأدباء ، المتمرسين بالعربية ، المطّلعين على فنونها ، وقرأ عليهم قصيدته ، لوجدهم يتمايلون طربا لمعانيها ، ويذعنون له بالبراعة في الشعر ، والدقة في التعبير ، والصدق في التصوير ، والسمو في الخيال ، ولجعلوا من نديه مكانا تهوي إليه أفئدتهم ، وترتاح به نفوسهم وقلوبهم.

وما ذاك إلّا لأنهم عرفوا العربية ، وتمرسوا بفنونها ، وتذوقوا بلاغتها.

ولذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يعرف الفضل لأهل الفضل إلّا أهل الفضل».

ونزيد مثالا آخر أشد التصاقا بموضوعنا فنقول :

لو أن موسى عليه‌السلام ذهب إلى فرعون وقومه بمعجزة لغوية ، كمعجزة

٢٢

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في القرآن ، وقرأها عليهم ، لقالوا له : إن ما جئتنا به كلام عادي ، ليس فيه إعجاز ، ولا يدل على صدقك ، ولو كنا نعرف العربية ، أو نتقنها كالعرب ، لأتيناك بكلام أبلغ من الكلام الذي جئتنا به ، ولما أفلحت معهم معجزته البلاغية.

وما ذاك إلّا لأنهم لا يعرفون العربية ، ولو عرفوها لكانت معرفتهم لها معرفة بسيطة ، لا تمكنهم من الوقوف على وجه الإعجاز في القرآن ، ولذلك كان لا بدّ له من معجزة تتناسب مع معارفهم وعلومهم.

وعلى العكس من ذلك ، لو أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ذهب أول الأمر إلى العرب في الجزيرة العربية بمعجزة مادية ، كمعجزة موسى عليه‌السلام ، بأن يلقي عصاه في الأرض ، فتنقلب إلى حية تسعى ـ والعرب أمة أميّة لا تعرف طبا ولا سحرا ـ لو فعل في بداية الأمر مثل هذا ، لقال العرب قولا واحدا لا يختلف : إن ما جئتنا به السحر ، ولو كنا نعرف السحر ، لتمكّنا من إبطال معجزتك التي أتيت بها.

وما ذاك إلّا لجهلهم بحقيقة السحر ، وحقيقة ما ظهر أمامهم من قلب العصا إلى حية تسعى.

ففي تصوّرهم أن كل عمل من هذا القبيل ، إنما هو من قبيل السحر ، وحق لهم أن يتصوروا هذا التصور ، لأنهم لا يعرفون السحر ليميزوا بينه وبين المعجزة.

ولذلك كان لا بدّ من معجزة تتناسب مع معارفهم وعلومهم ، يتمكنون بواسطتها أن يدركوا أنها ليست من صنع البشر ، وإنما هي من أمر الله ، ليستدلوا بها على صدق الرسول في دعواه.

ومن أجل هذا ما أرسل الله رسولا إلّا بلغة قومه ، وما أرسله إلّا بمعجزة تدركها عقولهم ، وتألفها طباعهم ، ليكون ذلك ادعى إلى تسليمهم وإيمانهم ، فالغرض من المعجزة تصديق الرسل ، وإيمان الناس ، وليس إعجازهم عن الإتيان بمثل المعجزة فقط ، على ما سنراه من معجزات الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

٢٣

معجزة موسى عليه‌السلام :

لقد اشتهر قوم فرعون بالسحر ، وعرفوا به ، ولذلك كان لا بدّ لمعجزة موسى عليه‌السلام ، أن تكون من نوع ما تعارفوا عليه ، حتى يتم إفحامهم ، وتثبت المعجزة لديهم ، فذهبعليه‌السلام إليهم بمعجزة من نوع عملهم ، وهي : أنه يلقي عصاه في الأرض ، فتنقلب إلى حية تسعى ، ويدخل يده في جيبه ، فتخرج بيضاء من غير مرض ولا عاهة ، في تسع آيات أعطاه الله إياها.

ولنستمع إلى القرآن الكريم يقصّ علينا قصة العصا ، قال تعالى : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى ، قالَ : هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها ، وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي ، وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى ، قالَ : أَلْقِها يا مُوسى ، فَأَلْقاها ، فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى ، قالَ : خُذْها وَلا تَخَفْ ، سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى ، وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ، آيَةً أُخْرى ، لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى ، اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى).

فذهب موسى عليه‌السلام إلى فرعون ، يدعوه إلى الإيمان ، فما كان من فرعون إلّا أن كذب وأبى ، وقال لموسى عليه‌السلام : (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ، قالَ : أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ) ـ (أي بالمعجزة) ـ (قالَ : فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ، فَأَلْقى عَصاهُ ، فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ ، وَنَزَعَ يَدَهُ ، فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ).

فما كان من فرعون لما رأى العصا قد انقلبت إلى ثعبان يتحرك إلا أن زعم أن ما جاء به موسى إنما هو سحر يريد به أن يخرج الناس من أرضهم ، وأن يستبد بأمرهم ، وقال لمن كان حوله من قومه : (إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ ، يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ ، فَما ذا تَأْمُرُونَ).

وعرض عليه موسى عليه‌السلام ـ بقية آياته ، إلّا أنه زاد كفرا واستكبارا ، وأراد أن يعارض موسى عليه‌السلام بمثل سحره فيما زعم ، قال تعالى : (وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى ، قالَ : أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا

٢٤

مُوسى ، فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ ، فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً ، قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى).

وأرسل فرعون رسله في المدائن يحشرون له فحول السحرة وعلماءهم ، ليبطل ـ بزعمه ـ معجزة موسى ، ويظهر له أنه قادر على الإتيان بمثل ما أتى به من سحر في زعمه.

وجمع السحرة لميعاد اليوم الذي اتفقوا عليه ، وهم لما يعلموا بعد حقيقة ما جاء به موسى ، وظنّوا أنه من قبيل سحرهم.

ولما حان وقت التحدي (قالُوا : يا مُوسى ، إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى).

فقال لهم موسى عليه‌السلام : (بَلْ أَلْقُوا ، فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى).

لقد انقلبت حبال السحرة الطويلة إلى ثعابين تتحرك ، وكل ثعبان منها يبلغ من الطول أضعاف عصا موسى عليه‌السلام.

وموسى عليه‌السلام ليس بساحر ، ولذلك خيّل إليه أنها ثعابين ، وإن كانت في الحقيقة ليست بثعابين ، وإنما هي من تخييلات السحرة ومكرهم ، (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى) ، ما ذا يعمل أمام هذه الثعابين الطويلة العريضة التي يخيّل للناظر إليها أنها ستلتهم كل شيء أمامها؟ ، وهنا جاء اليقين الإلهي ، (قُلْنا : لا تَخَفْ ، إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى ، وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا ، إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ ، وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى).

فألقى موسى عصاه التي انقلبت إلى ثعبان حقيقي ، ومن ثم دبّ إلى جميع تلك الثعابين الموهومة والتقفها ، واحدا بعد الآخر إلى أن أتى عليها.

إنها المعجزة .. التي انبهر عليها السحرة ..

إن ما أتى به موسى ليس من قبيل الخداع والتمويه ، وليس من قبيل السحر ، ولو كان سحرا لكشفه السحرة وعرفوه ، ولما استطاع أن يأكل كل تلك

٢٥

الثعابين الموهومة .. وإنما هو ثعبان حقيقي ، انقلب عن العصا الجامدة ، التي لا روح فيها ولا حياة ...

وهذا ليس في طوق البشر ، وليس في وسعهم ..

إن أقصى ما يمكن أن يفعله الساحر هو التخييل للناظر بأن العصا قد انقلبت إلى ثعبان ، ولكنه لا يمكنه أبدا أن يجعلها ثعبانا حقيقيا.

ولذلك من المحال أن يكون ما أتى به من قبيل السحر ، أو من قبيل الطاقة الإنسانية .. إنه عمل الخالق القادر الحكيم.

فما كان من السحرة أمام هذه المعجزة اليقينية التي رأوها بأعينهم ، وعاينوها بحواسهم ، وكشفوها بعلمهم ـ ما كان منهم إلّا أن أذعنوا لموسى عليه‌السلام ـ وآمنوا بما أرسل به ، وأعلنوا ذلك أمام فرعون وقومه ، الذين اجتمعوا من كل حدب وصوب ، ليروا بطلان معجزة موسى ، (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً ، قالُوا : آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى) متحدين بذلك طغيان فرعون ، وألوهيته الكاذبة ، صابرين على كل ما توعّدهم به من العذاب والنكال ، إذ قال لهم : (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ ، فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ، وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ، وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى ، قالُوا : لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا ، فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ ، إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا ، إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ ، وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى).

وهكذا يتبيّن لنا كيف تعمل المعجزة عند ما يكون القوم عالمين بما هو من قبيلها.

فلو أن موسى عليه‌السلام أتى بما أتى به أمام قوم لا يعلمون السحر ، لما كان له هذا الأثر الذي ظهر أمام السحرة ، الذين أدركوا حق الإدراك الفرق بين السحر والمعجزة ، بين عمل الخلق الزائف ، وعمل الله اليقيني ...

لو أن موسى عليه‌السلام ألقى عصاه هذه أمام العرب في جزيرة العرب

٢٦

مثلا ، وهم لا يعرفون السحر ، لما كان عندهم إلّا قول واحد ، ألّا وهو ما قاله فرعون : إن ما فعلته سحر ليس إلّا ...

من أجل هذا وجب أن تكون المعجزة من نوع ما يتعارف عليه الناس الذين أرسل إليهم الرسول.

وهذا الذي رأيناه في معجزة موسى عليه‌السلام ، نراه في معجزة غيره من الأنبياء والرسل.

معجزة عيسى عليه‌السلام :

لقد بعث الله عيسى عليه‌السلام في بني إسرائيل ، الذين كانوا قد اشتهروا بالطب زمن رسالته ، ولذلك كان لا بدّ ـ كما قدمنا ـ أن تكون من نوع علومهم التي تعارفوا عليها ، واشتهروا بها ، فكانت إحياء الموتى ، وما شابهها من المعجزات.

إن غاية ما يستطيع أن يفعله الطبيب قديما وحديثا ، هو تشخيص المرض ، ووصف العلاج لشفائه ، إلّا أنه ما حدث ، ولم يحدث ، ولن يحدث ، أن يتمكّن الطبيب من إحياء الموتى.

كما أنه لم ولن يستطيع أن يصل لدرجة إخراج الحياة من الجماد ، فلم يستطع ولن يستطيع أن يعمل هيكل طير من الطين ، ثم يجعله طيرا حقيقيا ، يخفق بجناحيه ويطير.

لقد بعث عيسى في تلك الأمة التي عرفت حقيقة الطب ، وعرفت قدرة الطبيب الحقيقية ، وهي أنها لا تعدو علاج بعض الظواهر المرضية.

فإذا ما رأت تلك الأمة إنسانا يحيي الميت بعد موته ، ويصنع من الطين كهيئة الطير ، ثم ينفخ فيه فيكون طيرا ، ويبرئ الأكمه والأبرص بإمرار يده عليه ، علمت أن هذا الإنسان ، لا يعمل هذه الأمور بقدرته البشرية ، لأن قدرة البشر في هذا المجال محدودة بما ذكرنا من الظواهر ، ومن ثم أيقنت أن هذه

٢٧

الأعمال خارقة للعادة ، بقدرة من خالق هذا الكون ، وخالق قوانينه ، وعلمت يقينا صدقه في دعواه ، وفي رسالته.

قال تعالى في حق عيسى عليه‌السلام : (وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ، أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ، فَأَنْفُخُ فِيهِ ، فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ ، وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ ، وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

فلما جاء عيسى عليه‌السلام بمعجزاته ، آمن كل عامي وعالم أن ما أتى به عيسى إنما هو من أمر الله وقدرته ، وأنه ليس من فعل البشر ، على نحو ما ذكرناه من إيمان السحرة بموسىعليه‌السلام ، إذ رأوا معجزته ، وأيقنوا بمعارفهم أنها من قدرة الله ، لا من صنع البشر.

معجزة نبينا عليه الصلاة والسلام :

من أجل هذا الذي ذكرناه من المثل في موسى وعيسى عليهما‌السلام كان لا بدّ لنبينا محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن تكون معجزته ، من نوع ما يتعارف عليه قومه ، ليكونوا أقدر على إدراكها ، ومعرفة حقيقتها ، ولكي لا يضطربوا في شأنها ، هل هي تمويه ، أو سحر ، أو شعبذة ، أو غير ذلك من الأمور التي ينسب إليها كل من أتى بأمر يخرج عن المعتاد المألوف.

ثقافة العرب ومعارفهم في الجاهلية :

والأمة العربية التي بعث فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لم تكن أمة مثقفة ذات حضارة ، وإنما كانت أمة أميّة ، لا تعرف سحرا ، ولا تعرف طبا ، ولا تعرف فلسفة ، وإنما كانت تجيد فنا واحدا ، بلغت فيه ذروة الكمال الفني ، ألا وهو فن البلاغة والبيان اللغوي في التعبير عن المراد ، وصياغة الحكمة في التوجيه والإرشاد.

تمرّس العرب باللغة :

نعم .. لقد تمرّس العرب بلغتهم ، لغة السحر والشعر ، لغة الجلال

٢٨

والكمال ، لغة الحب والجمال ، ووصلوا إلى ذروة المجد الفني في استعمال هذه اللغة ، في التعبير عن خفقات القلوب ، ومشاعر الوجدان ، ووصف العواطف وإثارتها ، وبعث الهمم وإيقاظها ، وتخليد البطولات والأمجاد ، ونشر المفاخر والمناقب.

تفاخر العرب بلغتهم :

لقد كانوا يتفاوتون فيما بينهم بقدر ما يجيده الواحد منهم من هذه اللغة ، حتى صار بعضهم مضرب الأمثال ، كقس بن ساعدة ، وامرئ القيس ، والنابغة الذبياني ، وزهير بن أبي سلمة ، والأعشى ميمون بن قيس ، وغيرهم من البلغاء والفصحاء.

ووجد فيهم المحكمون الذين يفاضلون بين الكلام ، في جودته وبلاغته ، ووصل بهم الأمر إلى أن كتبوا بعض القصائد بماء الذهب ، وعلّقوها في جوف الكعبة ، لما كان لها من البلاغة ، والجزالة ، والقوة ، والجمال ، وهي التي عرفت فيما بعد بالمعلقات السبع أو العشر.

بل وصل الأمر ببني تغلب ـ حين قال عمرو بن كلثوم التغلبي معلقته ـ وصل الأمر بهم في شدة اهتمامهم بقصيدته إلى أن قال الناس فيهم : ألهى بني تغلب عن مفاخرهم قصيدة عمرو بن كلثوم ، إذ كانت القصيدة ترفع القبيلة إلى ذروة المجد ، أو تحطها إلى حضيض الذلّ والهوان.

فأمة هذا شأنها ، لا تعرف السحر ولا الشعبذة ، ولا تعرف الطب ولا الفلسفة ، وإنما تجيد الحكمة والمثل ، والقصيدة والمقال ، وتسمو بهذه الأمور إلى أن تدرك غايتها ، وتتميز بها ، لا بدّ أن تكون المعجزة التي يأتي بها نبيها من نوع ما تعرفه وتتقنه.

ولذلك كانت معجزة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم معجزة لغوية ، تتجلى في آيات القرآن الكريم ، إلى جانب المعجزات الأخرى ، الكثيرة الشهيرة.

٢٩

لم لم تكن معجزة نبينا عليه‌السلام مادية :

قد يقول قائل : لما ذا لم تكن معجزة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم معجزة مادية كمعجزة غيره من الأنبياء والرسل ..؟.

والجواب على ذلك يعرف مما قدمناه ، وذلك أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو أتى العرب بمعجزة مادية من نوع ما أتى به موسى أو عيسى عليهما‌السلام ، لكانت أول كلمة يقولها له المشركون : إن ما جئت به السحر.

لأنهم لجهلهم بحقيقة السحر ، لا يميّزون بين السحر والمعجزة ، ولذلك كانت المعجزة في الدرجة الأولى من نوع ما يتعارفون عليه ، ألا وهو البلاغة والبيان ، لكي يدركوا وجه الإعجاز في الكلام الذي يتلى عليهم باللغة التي يعرفونها. ووصلوا إلى ذروة بيانها وبلاغتها.

ولذلك ما سمع بالقرآن عربي ، إلّا وأدرك أنه ليس من قول البشر ، وإنما هو قول قوة فوق قوة البشر.

تمييز العرب بين أنواع الكلام ، وإدراكهم معجزة القرآن :

لقد نزل القرآن على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، معجزة له ، على النحو الذي قدّمناه ، من كونها موافقة لمعارفهم وثقافتهم ، وبدأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتلاوته عليهم ، فما سمعه واحد منهم إلّا وملك عليه قلبه ، واستأثر بعقله ، لما فيه من البلاغة والبيان ، والجمال والدقة والروعة والإتقان ، وهي الأمور التي مارسها العربي ، وكان قلبه يذوب في معانيها.

إنهم عرفوا الشعر ، فما هو بالشعر ، وعرفوا النثر ، فما هو بالنثر ، وعرفوا زمزمة الكهّان ، فما هو بزمزمتهم.

إن غاية ما سمعوه في حياتهم ، وفتنوا به ، هو ما قاله فلان وفلان ، من الشعراء ، والحكماء ، إلّا أن ما يسمعونه اليوم ، ليس من هذا القبيل في قليل ولا كثير ، إنه كلام لا يمكن للبشر أن يصلوا إلى أدنى درجات بلاغته ، ولو كانوا على

٣٠

قلب رجل واحد ، مع أنه نزل بلغتهم.

إنه كلام معجز ، وليس من صنع البشر ، إنه القرآن الكريم ، كلام الله ، فما كان منهم ، أمام هذه المعجزة الباهرة ، إلّا أن أذعنوا وسلموا ، واعترفوا بالعجز والتقصير عن معارضة هذه المعجزة ـ على ما سنبيّنه إن شاء الله ـ ومن ثم آمنوا بالله ، وبرسوله محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ونحن قبل أن نتكلم على وجوه الإعجاز في القرآن ، لا بدّ لنا أن نعرف القرآن الكريم الذي كان معجزة رسول الله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم ، لنميّز بينه وبين الكلام الذي لا إعجاز فيه ، كالحديث القدسي ، والحديث النبوي.

القرآن لغة :

القرآن لغة ، مصدر ، نحو كفران ورجحان ، قال تعالى : (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ، فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ).

إلّا أن هذا المصدر صار مختصا بالكتاب المنزّل على نبيّنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فصار علما له ، واشتهر به ، ولذلك إذا أطلق القرآن اليوم ، لا يفهم منه إلّا أنه القرآن الكريم كلام الله.

القرآن اصطلاحا :

هو اللفظ ، العربي ، المنزّل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، المنقول إلينا بالتواتر ، المتحدى بأقصر سورة من سوره المعجزة.

فما لم يكن لفظا ، مما أوحاه الله إلى نبيه معنى ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عبّر عنه بألفاظ من عنده ، لا يسمى قرآنا ، وإنما هو حديث نبوي شريف ، المعنى من الله ، واللفظ من النبي عليه‌السلام.

قال تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى).

٣١

وما كان لفظا موحى به من الله ، إلّا أنه ليس عربيا ، لا يسمى أيضا قرآنا.

وذلك كالكتب ، والصحف ، التي نزلت ألفاظها ومعانيها من عند الله ، إلّا أنها ليست بلغة العرب.

كما أن ما يترجم من معاني القرآن ، إلى غير العربية ، لا يسمى قرآنا ، ولا يعطى أحكام القرآن.

وأما ترجمة نص القرآن إلى غير العربية ، فهي غير جائزة إجماعا ، وعلى فرض وقوعها ممن لا خلاق له ، فإننا لا نسميها قرآنا ، لأن القرآن ما كان لفظا عربيا.

وقولنا : المنزّل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قيد يخرج به ، ما كان لفظا عربيا ، منزّلا على غير نبينا عليه‌السلام ـ على فرض وجوده ـ فإنه لا يسمى قرآنا ، لاختصاص القرآن بما أنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقولنا : المنقول بالتواتر ، نعني به أنه نقله جماعة عن جماعة ، تحيل العادة تواطؤهم على الكذب ، في كل طبقة من طبقاته.

وهذا قيد ، خرج به ما نقل إلينا عن طريق الآحاد ، فإنه ليس بقرآن ، ولا يعطى أحكام القرآن ، من عدم جواز قراءته للجنب ، ومسّه للحائض ، وغير ذلك.

وأما قولنا : المتحدّي بأقصر سورة من سوره ، فهذا قيد خرج به الحديث القدسي ، فهو لفظ عربي ، منزّل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد يكون متواترا ، إلّا أنه لا يسمى قرآنا ، لأنه لا يراد به التحدّي والإعجاز ، ولا يعطى أحكام القرآن.

وأما التحدّي : فهو طلب الإتيان بسورة تضاهي أقصر سورة من سور القرآن ، وهي: (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ).

فقد طلب الله من العرب أن يأتوا بسورة من مثل سور القرآن الكريم ،

٣٢

ليبطلوا معجزة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويثبتوا صدقهم في أنه ليس مرسلا من ربه ، إلّا أن أحدا منهم لم يتمكن من معارضة القرآن ، ولم يتمكن من الإتيان بأي سورة تضاهي أقصر سورة من سوره ، رغم أن التحدّي مرّ بمراحل متعددة ، ليكون أبلغ في إثبات العجز ، على مرّ الدهور ، وكرّ العصور.

بل اعترف الجميع بعجزهم عن معارضته ، وآمنوا بالله ورسوله ، على ما سنراه في مراحل التحدّي التي مرّ بها القرآن.

مراحل التحدي بالقرآن :

لقد وقع التحدي بالقرآن الكريم على ثلاث مراحل ، وبطريقة التدرج في هذا التحدّي ، يتحدّى العرب أن يأتوا بمثل هذا القرآن ، أو بمثل سورة من سوره ، يعارضونه بها ، وقد جاء بلغتهم ، ونزل بأساليبهم ـ وهم فرسان البلاغة ، وأرباب البيان ـ فإن عجزوا عن ذلك ، ولم يقدروا عليه ، فليعلموا أن هذا القرآن ليس من صنع البشر ، إذ لم يستطع البشر أن يعارضوه ، أو يأتوا بسورة تضاهي أقصر سورة من سوره ، وإنما هو كلام الله المعجز ، الدالّ على صدق نبينا عليه الصلاة والسلام في دعواه النبوّة والرسالة.

المرحلة الأولى :

لقد بدأ التحدّي بمكة ، في سورة الإسراء ، وكان التحدّي بكل ما نزل من القرآن ، فقال تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ ، لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ، وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً).

إلّا أننا وجدنا العرب أرباب الفصاحة والبلاغة والبيان يعجزون جميعا عن الإتيان بمثل هذا القرآن ، الذي تتلى آية التحدّي فيه صباح مساء ، على رءوس الأشهاد ، وكأنها تثير فيهم الحمية لمجابهة هذا التحدّي.

إلّا أنهم ـ رغم هذا ، ورغم كل ما يبذلونه من محاولة للقضاء على القرآن ودعوته ـ لم يجدوا إلى تحدّي القرآن أي سبيل ، ولو وجدوا لفعلوا ...

٣٣

إلّا أنه العجز البشري ، أمام القدرة الإلهية التي لا تتحدّى.

المرحلة الثانية :

وهنا بدأت المرحلة الثانية ، وهي التحدّي بعشر سور من سور القرآن ، فإذا عجزتم أيها العرب عن الإتيان بمثل القرآن ، فأتوا بعشر سور من مثله ، إن كنتم على ذلك قادرين ، وفي دعواكم صادقين ، فقال تعالى :

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ، قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ ، وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ ، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

إلا أنهم رغم هذا التحدّي الصريح ، الذي فضح دعواهم في أن هذا القرآن إنما هو شيء مفترى ، وأنه أحاديث الأولين اكتتبها محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم رغم هذه الدعوى ، وهذا التحدي ، لم نجد واحدا منهم يستطيع معارضة القرآن بعشر سور تضاهيه أو تقاربه.

وهنا بدأت المرحلة الأخيرة من التحدّي ، وهي المرحلة الثالثة.

المرحلة الثالثة :

وهي المرحلة التي حطمت غرور المشركين ، وفضحت دعواهم ، وأبانت عجزهم ، ألا وهي التحدّي بسورة واحدة من أقصر سور القرآن ، وهي قوله تعالى : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ، إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ).

فقال تعالى في سورة يونس :

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ، قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ، وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ ، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

إلّا أن واحدا منهم لم يستطع أيضا أن يأتي بهذه السورة ، بل بدأ الجميع يتساقطون ، الواحد تلو الآخر ، ويعلنون ـ رغم كفرهم وعنادهم ـ أن هذا الكلام ليس من صنع البشر ، وأنه لا سبيل إلى التحدّي والمجابهة.

ولقد أيأسهم الله تعالى من هذه الأحلام اليائسة في المعارضة ، في سورة

٣٤

البقرة ، إذ قال جلّ وعلا :

(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ، وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ ، أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ).

وذلك أن النفي ب «لن» يفيد التأبيد على ما ذهب إليه الإمام الزمخشري.

سلامة المعجزة القرآنية عن المعارضة :

وبهذا الذي ذكرناه ، من مراحل التحدّي ، وعجز سائر البشر عن معارضة القرآن ، يتبيّن لنا أن المعجزة القرآنية قد سلمت عن المعارضة في كل المراحل ، لتثبت وبدلالة قاطعة أنها من عند الله ، وليست من قول البشر ، لأنها ليست من قبيل ما يملكونه من الطاقات.

فليست مفتراة ، وليست أساطير الأولين اكتتبها محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليموّه بها على العرب ، إذ لو كانت كذلك ، لكان بإمكان أي عربي أن يعارضها ويأتي بمثلها.

وكيف يكون محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم اكتتبها وهي بهذه البلاغة وهذا الإعجاز ..؟ ولا سيما أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن شاعرا ، ولا ساحرا ، ولا كاهنا ، ولا دارسا لأخبار الأوائل ... (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ ، وَما يَنْبَغِي لَهُ).

فلم يكن معروفا في الجاهلية ببلاغته وبيانه ، وإنما كان حاله كحال الناس جميعا ، لغته من لغتهم ، وبيانه من بيانهم ، فلم يعرف عنه أنه يأتي بكلام يخالف كلام العرب وبيانهم.

إذ لو كان كذلك لجاز أن يقولوا ما قالوا.

نعم .. لقد اشتهر فيهم بحكمته ، وأمانته ، حتى لقب بالأمين.

وأما جوامع الكلم التي أوتيها ، فهذا شيء كان بعد النبوة ، فلم يعد للعرب من حق في أن يقولوا أمام هذا التحدي : إن هذا من صنع محمد ، لأنه لو كان من صنعه ، لعارضوه.

٣٥

كيف لا ...؟ وفيهم فحول الشعراء ، والخطباء ، والبلغاء ، الذين ملئوا حياة العرب ودنياهم بشعرهم وخطبهم وبلاغتهم.

إذن فلم يبق إلّا شيء واحد ، ألا وهو التسليم بأن هذا الكلام ليس من كلام البشر ، وإنما هو من كلام الله.

وهذا ما أخذوا يعترفون به الواحد تلو الآخر ـ على ما سنعرفه قريبا ـ ولم يبق أمامهم إلّا أن يؤمنوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما آمن السحرة بموسى بعد أن أفحموا بمعجزته.

وأما من أبى واستكبر عن الإيمان ، فلم يكن لأنه لم يدرك المعجزة ، ولم يسلم بها ، وإنما كان عنادا واستكبارا ، كاستكبار فرعون أمام معجزة موسى عليه‌السلام.

اعترافات المشركين بالاعجاز :

لم يقف الأمر بالنسبة للقرآن الكريم عند حد الإعجاز الذي أدركه كل عربي ، من مسلم وكافر ، إذ رأوا عجزهم عن معارضته في كل مراحل التحدّي.

ولكن الأمر تعدّاه إلى مرحلة الاعتراف بأن هذا الكلام ليس من كلام البشر ، وإنما هو من كلام الله ، وسواء في هذا الاعتراف المسلم والكافر ، إذ تأثر الجميع بحلاوته ، واهتزت مشاعرهم لطلاوته ، وانفعلت أحاسيسهم بأساليبه.

الوليد بن المغيرة :

فها هو الوليد بن المغيرة ، وهو من أعتى المشركين ، وأشدّهم أذى على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يعترف أمام المشركين جميعا ، بأن هذا القرآن ليس من قبيل زمزمة الكهّان ولا سجعهم ، وليس من قبيل وسوسة المجانين ولا تخاليجهم ، وليس من قبيل الشعر وأوزانه.

ثم يقول في وصفه قالة المتأثر به ، المفتون بجماله المستسلم لإعجازه : إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أسفله لمغدق ، وإن أعلاه لمثمر ، وإنه يعلو

٣٦

ولا يعلى عليه ، وما هو من قول البشر.

ولقد صدق المغيرة فيما قال ، فأقره جميع المشركين الذين جاءوا للتداول في أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وكيف لا ...؟ وجميعهم يشعر بنفس شعور الوليد ، ويحس بأحاسيسه ، فلم يمنعهم كفرهم ، ولا كبرهم وغرورهم من الاعتراف بهذه الحقيقة التي لا سبيل إلى إنكارها.

عتبة بن ربيعة :

وهذا عتبة بن ربيعة من سادة قريش ، يقوم إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليفاوضه باسم المشركين من قريش ، ويعرض عليه بعض العروض ، لعلّه يقبل بها ، ويترك دعوته.

فيعرض عليه الملك ، ويعرض عليه المال ، ثم يعرض الطب إن كان ما يأتيه من قبيل الوساوس والجنون ...

حتى إذا فرغ الرجل من عروضه ، وأتمّ مهمته ، قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أوقد فرغت يا أبا الوليد؟» قال : نعم ، قال : «فاسمع مني» ، قال : أفعل ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ* بَشِيراً وَنَذِيراً ، فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ ، وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ ، وَفِي آذانِنا وَقْرٌ ، وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ).

ومضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ عليه سورة فصلت ، وعتبة منصت لها ، وقد ألقى يديه خلف ظهره ، معتمدا عليها يسمع منه ، ثم انتهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى آية السجدة من السورة ، فسجد وسجد معه عتبة ، ثم قال : قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت ، فأنت وذاك.

وفي بعض الروايات أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما وصل إلى قوله تعالى : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ

٣٧

أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) قال له عتبة : ناشدتك الله والرحم أن تمسك ، إذ لم يعد عتبة يتمالك نفسه أمام هذا الذي يسمع مما لا قبل لأهل الأرض به.

ثم قام عتبة إلى أصحابه الذين بعثوه عنهم رسولا ومفاوضا ، إلّا أنه كان قد سمع ما سمع ، فأثر القرآن في نفسه وجوارحه ، حتى بدا ذلك في وجهه ، فقال القوم بعضهم لبعض : نحلف بالله ، لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به ، فلما جلس إليهم قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد؟.

قال : ورائي أني سمعت قولا ، والله ما سمعت بمثله قط ، والله ما هو بالشعر ، ولا بالسحر ، ولا بالكهانة.

يا معشر قريش ، أطيعوني واجعلوها بي ، وخلو بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه ، فو الله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم.

وهذا اعتراف آخر من الوليد أمام سادة قريش وكبرائها بإعجاز القرآن وأثره في النفوس والقلوب والجوارح.

النضر بن الحارث :

وها هو النضر بن الحارث ، وهو من شياطين قريش وأشدائهم على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يقف في قريش ويقول : يا معشر قريش ، إنه والله قد نزل بكم أمر ما أنتم له بحيلة بعد ، قدم محمد فيكم غلاما حدثا ، أرضاكم فيه ، وأصدقكم حديثا ، وأعظمكم أمانة ، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب ، وجاءكم بما جاء به ، قلتم : ساحر ، لا والله ، ما هو بساحر ، لقد رأينا السحرة ونفثهم عقدهم ، وقلتم : كاهن ، لا والله ما هو بكاهن ، فقد رأينا الكهنة وتخالجهم ، وسمعنا سجعهم ، وقلتم : شاعر ، لا والله ما هو بشاعر ، فقد رأينا الشعر ، وسمعنا أصنافه كلها ، هزجه ورجزه ، وقلتم : مجنون ، لا والله ، ما هو بمجنون ، لقد رأينا الجنون ، فما هو بخنقه ، ولا وسوسته ، ولا تخليطه.

يا معشر قريش .. فانظروا في شأنكم ، فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم.

٣٨

فهذه اعترافات أساطين قريش وسادتها ، الكل يلهج بكلام واحد ، وقد تصوّر تصورا واحدا ، ألا وهو أن هذا القرآن ليس من صنع البشر ، وأنه معجز لا قبل لهم بمعارضته ، بل إن كل من يسمعه منهم ، يخفق له قلبه ، وتنفعل به أحاسيسه ، ويحن إلى سماعه المرة تلو الأخرى ، لا يستطيع أن يفطم نفسه عنه.

ولذلك كان النفر من قريش يتعاهدون على عدم سماع القرآن حتى لا يتأثروا به ، ويذهبون إلى بيوتهم ، إلا أن الواحد منهم ، لا يلبث أن يرجع إلى الكعبة ليسمع القرآن الذي ملك عليه عقله وقلبه ، فيجد أن صاحبه الذي كان قد عاهده ، قد سبقه إلى العودة لسماع القرآن المعجز ، نديا من صوت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيجتمعان أمام الكعبة ، وكل منهم قد نقض ما عاهد عليه صاحبه.

وحق لهم هذا ..

فمن ذا الذي يرى المعجزة ويملك نفسه أن لا يتأثر بها ..؟ إذ لو كان الناس يملكون هذا ، لما كان للمعجزة ذلك الأثر ...

اتفاق المشركين على اللغو في القرآن لمنع تأثيره :

لم يكن من المشركين إزاء هذا التأثر العظيم بالمعجزة القرآنية إلا أنهم بدءوا يعلنون إسلامهم الواحد تلو الآخر ، مما أثار حفيظة المشركين ، وجعلهم يفكرون بالوسائل التي يمكن بواسطتها التخفيف من أثر المعجزة القرآنية ، فاتفقوا على أن لا يسمعوا للقرآن ، ولا يمكّنوا أحدا من سماعه ، خشية أن يتأثروا بإعجازه ، ويستجيبوا لهديه ، كما اتفقوا على أن يلغوا في القرآن إذا قرأه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حتى يشوّهوا ـ فيما يزعمون ـ جماله ، ويذهبوا برونقه ، ويشوشوا على الناس لمنعهم من الإنصات له. قال تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا : لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ ، وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) (سورة فصلت : آية ٢٦).

إلّا أنهم رغم هذا لم يفلحوا ، بل ربما كان الأمر على نقيض مرادهم ، فجمال القرآن لا يمكن تشويهه ، وإعجازه لا يمكن إخفاؤه ، فالشمس في رابعة النهار لا يمكن أن تحجب بكف أحمق ، وكما قال المتنبي :

٣٩

وهبني قلت : هذا الصبح ليل

أيعمى العالمون عن الضياء؟

هذا من جهة.

ومن جهة أخرى ، كل ممنوع مرغوب ، ولا سيما إذا كان المنع على الطريقة العشوائية التي اتبعتها قريش في محاولة الصد عن القرآن ...

الطفيل بن عمرو الدوسي :

فهذا هو الطفيل بن عمرو الدوسي ، وهو من سادة قريش وأشرافهم ، كان شاعرا لبيبا ، وعاقلا حكيما ، جاء مكة ، فجاءه سادتها من المشركين ، يخذلونه عن السماع من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، خشية أن يؤمن به ، إلّا أن النتيجة كانت على عكس ما رموا إليه وأرادوه ، لأن ما أثر في نفوسهم لا بدّ وأن يؤثر في نفس الطفيل وغيره ، من كل من عقل كلام العرب وتذوقه.

يقول الطفيل : كنت رجلا شاعرا ، سيدا في قومي ، فقدمت مكة ، فمشيت إلى رجالات قريش ، فقالوا : إنك امرؤ شاعر سيد ، وإنا قد خشينا أن يلقاك هذا الرجل ، فيصيبك ببعض حديثه ، فإنما حديثه كالسحر ، فاحذره أن يدخل عليك وعلى قومك ما أدخل علينا ، فإنه فرق بين المرء وأخيه ، وبين المرء وزوجته ، وبين المرء وابنه ، فو الله ما زالوا يحدثوني في شأنه ، وينهوني عن أن أسمع منه حتى قلت : والله لا أدخل المسجد إلّا وأنا ساد أذني ..

قال : فعمدت إلى أذني فحشوتها كرسفا ـ أي قطنا ـ ثم غدوت إلى المسجد ، فإذا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قائما في المسجد ، فقمت قريبا منه ، وأبي الله إلّا أن يسمعني بعض قوله.

فقلت في نفسي : والله إن هذا للعجز ، وإني امرؤ ثبت ، ما تخفى علي الأمور ، حسنها وقبيحها ، والله لأتسمعن منه ، فإن كان أمره رشدا ، أخذت منه ، وإلّا اجتنبته ، فنزعت الكرسفة ، فلم أسمع كلاما أحسن من كلام يتكلم به ، فقلت : يا سبحان الله ، ما سمعت كاليوم لفظا أحسن ولا أجمل منه.

فلما انصرف تبعته ، فدخلت معه بيته ، فقلت : يا محمد! إن قومك

٤٠