المعجزة القرآنيّة

الدكتور محمد حسن هيتو

المعجزة القرآنيّة

المؤلف:

الدكتور محمد حسن هيتو


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٤٢

الآية الحادية والعشرون

(يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي

ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ، ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ)

والاعجاز فيها

قال الله تعالى : (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ، ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ) (سورة الزمر : آية ٦).

ولقد بيّنا في الفقرة الماضية كيف أن الناس من قبل الإسلام إلى أوائل القرن العشرين كانوا يجهلون جهلا تاما حقيقة تكوين الجنين ، ثم تبين لهم بعد ألفي سنة من البحث والدرس أن ما أخبر به القرآن هو اليقين الذي وصلوا له ، وآمنوا اليوم به.

وما ذكرناه عن بداية تكوين خلق الإنسان ، من حيث الجهل به نقوله وبكل بساطة عن جميع المراحل التي يمر بها الجنين .. ما لم يعرفه العالم إلا في كشوفاته المعاصرة ، في العصر الحديث.

ولكن المذهل في الأمر ليس هذا ، وإنما هو أنهم وجدوا أن ما وضعوا عليه أيديهم كان هو بذاته عين ما أخبر عنه القرآن قبل أربعة عشر قرنا.

لقد أخبر الله في هذه الآية أن الجنين يمر في خلق من بعد خلق ، في ظلمات ثلاث ...

ولكن ما هي هذه الظلمات التي ذكرت في القرآن ..؟.

لم يكن الناس في الماضي على معرفة بحقيقة هذه الظلمات ، ولذلك

٢٨١

فسروها حسب مقتضيات اللغة ومدلولاتها ، مع ما هو معروف لديهم بالبداهة عن مكان الجنين ، وهو البطن ، والرحم ، والمشيمة.

فقالوا : الظلمات الثلاث المذكورة في الآية هي : ظلمة البطن ، تليها ظلمة جدار الرحم ، ثم تليها ظلمة المشيمة المحيطة بالجنين.

وهذا تفسير سليم من جهة اللغة تماما ، وأيضا هو سليم من حيث الواقع ، فالجنين فعلا يكون في هذه الظلمات.

إلا أن المعلومات الحديثة عن أوعية الجنين ، التي أظهرتها الكشوف الحديثة ، تعطينا معنى جديدا للظلمات الثلاث ، تظهر فيه قدرة الله وعظمته في الخلق والتكوين.

وذلك أن الجنين يكون محاطا بثلاثة أغشية تحيط به من كل جانب ، وكل غشاء من هذه الأغشية يقوم بدور لا يقوم به الغشاء الآخر.

الأول ، غشاء السلى ، أو غشاء الأمنيون ، ويدعى بالغشاء الباطن ، لأنه يحيط بالجنين من كل جانب ، وهو عبارة عن كيس غشائي رقيق ، يحتوي سائلا يزداد مع نمو الجنين ، ويقوم على تغذيته وحمايته من الصدمات ، كما يسمح للجنين بالحركة ، ويحتفظ له بالحرارة الثابتة ، إلى جانب فوائد أخرى ، ولا سيما أثناء الولادة.

وهذه هي الظلمة الأولى.

وأما الغشاء الثاني : فهو غشاء الكوريون ، ويكون محيطا بالغشاء الأول ، وطبقته الخارجية بها زغابات وخملات كثيرة ، تنتقل بواسطتها الأغذية والأوكسجين من الأم إلى الجنين ، كما ينتقل غاز ثاني أوكسيد ، الكربون والبولينا من الجنين إلى دم الأم.

وهذا يشكل الظلمة الثانية.

وأما الثالث : فهو الغشاء الساقط ، ويحيط بالغشاء الثاني ، ومن ثم بالجنين من كل جانب ، وهو مكوّن من الغشاء المخاطي المبطن للرحم ، وهو رقيق ، إلا أنه ينمو نموا سريعا بتأثير هرمون الحمل.

٢٨٢

وهذا يشكل بدوره الظلمة الثالثة.

وبهذا نكون قد وقفنا على معنى آخر للظلمات الثلاث التي يكون فيها الجنين ، وهو معنى جديد ما كان الإنسان القديم يعرف عنه شيئا ، وقد جاء موافقا لإخبار القرآن ، ليضيف به معجزة جديدة لمعجزات القرآن العلمية التي أخبر عنها قبل أربعة عشر قرنا من الزمان ..

(يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ، ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ).

٢٨٣

الآية الثانية والعشرون

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً ، كُلَّما نَضِجَتْ

جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ)

والاعجاز فيها

قال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً ، كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) (سورة النساء : آية ٥٦).

لقد قرأ أسلافنا رضوان الله عليهم هذه الآية ، وفهموها فهما سليما ، مطابقا لمدلولها اللغوي ، الذي يجب أن يكون أولا وأخيرا الحكم في تفسير كتاب الله ، فقالوا : معنى الآية أنه كلما احترقت جلودهم ونضجت بدلناهم بجلود أخرى غيرها ، لتحترق هذه الجلود ثانية ، ويعود العذاب.

فقال مقاتل : تأكل النار جلودهم كل يوم سبع مرات.

وقال الحسن : تأكل النار جلودهم كل يوم سبعين ألف مرة ، كلما أكلتهم قيل لهم : عودوا ، فعادوا كما كانوا.

وقال ابن عمر : إذا احترقوا بدلت لهم جلود بيض كالقراطيس.

ولكن لما ذا تبدلت جلودهم بجلود غيرها ..؟.

ولما ذا كان التبديل خاصا بالجلود؟.

ولم قال تعالى عقب هذا (لِيَذُوقُوا الْعَذابَ)؟.

أو ما كان من الممكن أن يذوقوا العذاب باحتراق لحمهم وعظامهم؟.

أسئلة ما كانوا يستطيعون الإجابة عنها ، لأنهم لم يكونوا على علم بالعلاقة

٢٨٤

الكائنة بين الجلد والعذاب ، مما عرفناه نحن اليوم ، وكان تصورهم أن الجلد يألم بسبب احتراقه ، أو أن النفس تألم بسبب احتراق الجلد ، ولكن لم ..؟ لا يدرون.

ولذلك أثار الفلاسفة أمام المسلمين مسألة من مسائلهم التي جعلوها شبهة لنفي حشر الأجساد يوم القيامة ـ فيما كفروا به من قولهم : إن الله يحشر الأرواح دون الأجساد.

فقالوا : كيف يجوز أن يبدل جلد كان يتلذذ بالمعاصي في الدنيا بجلد آخر ما كان يتلذذ بها ..؟ فكيف يجوز أن يعذب هذا الجلد الجديد بدلا عن الجلد القديم؟!.

وقد أجاب السلف رضوان الله عليهم بأجوبة متعددة تتفق في نتيجتها مع الحقيقة العلمية التي يعرفها العلماء والمعاصرون.

ولكن الفرق بين المعرفتين أن معرفة أسلافنا رضوان الله عليهم كانت مبنية على إخبار القرآن وتعليله ، فيه إجابة نظرية ، مبنية على الإيمان بالله.

بينما إجابة العلماء اليوم مبنية على التجربة والكشف ، فهي إجابة عملية تجريبية.

وذلك كاعتقاد سلفنا بأن الماء يحترق ، وذلك لإخبار القرآن عن احتراقه ، كما أسلفنا في هذا الموضوع ، ولكن لما ذا؟ ما كانوا يدرون والعلماء المعاصرون يعتقدون أيضا أن الماء يحترق ، ولكن ليس من إخبار القرآن ، وإنما من كشفهم لحقيقة الماء وتركيبه.

فما جاء به العلم الحديث ، فيما خاض القرآن فيه ، أو أشار إليه ، لم يكن علما جديدا بالنسبة للمسلمين ، وإنما كان تصديقا لما تعلموه من كتاب الله ، وكشفا للعلة والسبب الذي من أجله كان إخبار القرآن ، ليثبت العلم بذلك إعجاز القرآن.

فقالوا رضي الله عنهم في جواب الفلاسفة : إن ألم العذاب إنما يصل إلى

٢٨٥

الإنسان الذي هو غير الجلد واللحم ، وإنما يحرق الجلد ليصل إلى الإنسان ألم العذاب ، فأما الجلد واللحم فلا يألمان ، وبناء على ذلك يستوي الأمر بالنسبة للكافر ، أعيد إليه جلده السابق ، أم جلد آخر سواه (١).

قالوا : والدليل على هذا أن الله تعالى قال : (لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) فالمقصود تعذيب الأبدان ، وإيلام الأرواح ، ولو أراد الجلود لقال : ليذقن العذاب (٢).

وإننا في هذا العصر الذي وضعنا فيه أيدينا على الكثير مما كان مجهولا للبشرية قديما ، في جانبي الكون والحياة .. لا نستطيع أن نقول غير هذا.

ولكننا نستطيع أن نعلله ، والتعليل الذي عرفناه كان عين ما أخبر عنه القرآن.

وذلك أن النهايات العصبية الملتصقة بالجلد هي التي تنقل ما تحسه من الحرارة والبرودة وغير ذلك إلى المخ ، الذي لا يلبث أن يصدر أوامره إلى الأطراف ، بناء على ضوء المعلومات المنقولة إليه.

وعلى سبيل المثال إذا قربنا إلى الجلد شيئا حارا ، فإن ثلاثين ألفا من الخلايا الملتقطة للحرارة تحس بهذه العملية ، وترسلها فورا إلى المخ ، وبناء على ذلك نحس بالألم ، فإذا ما احترق الجلد ، واحترقت هذه الخلايا الملتقطة للحرارة ، انقطع الاتصال ، وفقد الإحساس بالألم إجمالا.

إذن فالجلد بما يحتويه من الخلايا العصبية الناقلة للحرارة ، هو السبب الذي نحس به بألم الحرارة .. ولذلك كان لا بد من وجود الجلد ، لنحس بآلام الحرق.

من أجل هذا اقتضت الحكمة الإلهية أن يتجدد جلد الكافر ، وأن يرجع كما كان من أجل أن يستمر شعوره بألم الحرق وعذابه ، على أكمل وجه وأتمه.

__________________

(١) تفسير الماوردي : ١ / ٣٩٩.

(٢) القرطبي : ٥ / ٢٥٤.

٢٨٦

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً ، كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ).

فقوله تعالى : (لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) واضح كل الوضوح في التعليل العلمي الذي ذكرناه ، مما يدلنا دلالة صريحة على أن هذا الكلام إنما هو كلام خالق الإنسان ومبدعه ، وليس من كلام البشر ، وإلا فما كان في ذلك العصر الذي نزل فيه القرآن من المعارف والعلوم ما يمكنهم من الكلام على هذه الحقائق العلمية التي لم يعرفها الإنسان إلا في العصر الحديث.

إن الآيات التي تتعرض لمثل هذه الحقائق في الحياة كثيرة ، ولم يحدث أبدا أن أثبت العلم تخلف القرآن في خبر واحد من هذه الأخبار ، بل إن كل ما جاء به العلم الحديث كان إثباتا لصدق ما أخبر عنه القرآن تماما ، ليدل كل عاقل على أن هذا الكلام إنما هو كلام الله.

إن أعظم عباقرة الدنيا ، في شتى مجالات العلم والمعرفة ، مع ما لديهم من وسائل علمية للكشف والإدراك ليكتبون ويؤلفون ، ولكن لا تلبث الأيام إلا قليلا حتى تكشف عن كثير من الأخطاء في كتاباتهم ومؤلفاتهم ، بسبب تطور العلوم ، والوقوف على المزيد من الأسرار ، وهذا لم يخل منه كتاب على وجه الأرض ، إلا القرآن ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، والذي لا تزيده العلوم والمكتشفات إلا قوة وثباتا ، ولا تظهر فيه إلا الإعجاز ، ليبقى التحدي للإنسان قائما إلى يوم القيامة ، وليبقى العجز الإنساني عن تحدي القرآن أيضا إلى يوم القيامة.

(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً).

(وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً).

كما أن الإنسان إذا أراد أن يتكلم فإنما يتكلم بلغة معارفه ، وإذا أراد أن يعمل ، فإنه يعمل حسب طاقته ، فإذا ما وجدنا طفلا صغيرا ما كاد يجيد النطق بعد وإذا به فجأة يتكلم بعدة لغات عالمية يعجز الإنسان عن تعلمها خلال

٢٨٧

الدهر الطويل .. إننا حينما نجده ، وهو لم يجد النطق بعد ، حينما نجده ينطق بهذه اللغات ، فإننا نستغرب هذا ، وننسبه إلى أمر وراء الطبيعة ، وتكثر حوله الأساطير والخرافات ، ويتناقل خبره العلماء التجريبيون ، والفلاسفة النظريون ، والعامة والخاصة ، مع علمنا بأن الناس حوله يتكلمون بهذه اللغات التي نطق بها ، وأمر تعلمها له ليس بمستحيل ، ولكنه بعيد كل البعد عن الطاقات البشرية المعتادة عند طفل صغير ، ولذلك كان مثل هذا مستغربا منه.

فما ذا نقول إذا سمعنا أميا في وسط جزيرة العرب ، لا يعرف قراءة ولا كتابة ، ولم يطالع كتب فلك ، ولا طب ، ولا هندسة ، ولا علوم ، ومع ذلك ينطق بالقوانين العلمية في شتى مجالات العلم والمعرفة ، وفيما لم يكن معروفا في زمنه أبدا ، ولا ينطق به من الناس أحد ـ وبعد القرون الطويلة المتعددة تأتي العلوم الحديثة لتثبت كل ما قاله حرفا حرفا.

لا شك أننا نقطع بأن هذه القوانين التي قالها ، وتلك الكلمات التي رددها ، لم تكن من صنعه ولا اجتهاده ، لأنها لم تكن معروفة في أهل الأرض ، وإنما هي قول خالق الكون والإنسان العارف بما خلق ، ليجعل من هذا الكلام معجزة علمية دالة عليه ومشيرة إليه ، (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ..؟).

٢٨٨

خاتمة

إن هذا الذي ذكرناه من الآيات القرآنية التي ظهر فيها الإعجاز العلمي لكل ذي سمع وبصر ، لا شك أن الإعجاز فيها ليس على مستوى واحد من الظهور ، بل هو متفاوت ، إلا أن أدنى درجاتها يكاد ينطق بالإعجاز ، ويدل على أنه من كلام الله ، ويعتبر صرخة مدوية في عصر المادة والإلحاد يهز كيان الإنسان المادي في أعماقه ليلفت نظره إلى خالقه .. في عصر خبت فيه جذوة الروح ، واضمحلت معاني الغيب والإيمان.

وإني لأعتقد أن كثيرا من الماديين الملحدين اليوم لو أتيح لهم أن ينظروا في كتاب الله على هذا النحو الذي ذكرناه من وجوه الإعجاز العلمي فيه لما وسعهم إلا أن يعلنوا إيمانهم بالخالق العليم الحكيم .. كما فعل كثير من المنصفين.

فنحن اليوم إذن في أشد الحاجة إلى الوقوف على كل معنى من معاني كتاب الله مما له صلة بالعلوم من قريب أو بعيد ، لنخاطب العالم بلغته التي يعرفها ، ومناهجه التي رسمها.

وإن هذا الذي ذكرناه من الآيات ليس كل ما في القرآن الكريم من الآيات التي يظهر فيها الإعجاز العلمي ، وإنما هو بعضها ، يتم فيها أحدنا ـ نحن المهتمين بالدعوة إلى هذا الدين ـ يتم فيها أحدنا طريق الآخر ، لتبقى مسيرة الدعوة قوية ، ويبقى الاهتمام بالنظر في آيات القرآن الكريم قائما عند كل مسلم ، بل عند كل عارف بحقيقة كتاب الله ، كما يفعل كثير من العلماء والباحثين اليوم ، ويستنبط الجميع منه أسرار الكون والحياة ، وراء معنى التعبد الذي تعبدنا به الله تعالى ـ نحن المسلمين ـ بتلاوته وتدبره والعمل بأحكامه.

٢٨٩

ولا ندري ما ذا تحمله لنا الأيام في طياتها ، في بحار العلوم والمعارف المعاصرة ، مما سيكشف لنا الكثير والكثير من وجوه الإعجاز في القرآن الكريم في شتى مجالات العلم والمعرفة.

فإن في القرآن لكثيرا من الآيات التي تشير إشارات خفية إلى معان يقف الإنسان إزاءها حائرا ، يجد فيها العديد من الاحتمالات والكثير من المعاني ، وكأنها تلوح من خلالها بوارق معرفة جديدة ربما غيرت مسيرة العلم ، وبدلت كثيرا من مناهج الحياة.

وإن شئت أخي القارئ فتساءل معي عن سر الأرضين السبع التي أشار إليها القرآن في قوله تعالى :

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ ، وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ ، يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) (سورة الطلاق : آية ١٢).

وعن سر نقصان الأرض من أطرافها في قوله تعالى : (أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها).

وعن سر سد يأجوج ومأجوج ، وعن سر القوم أنفسهم ، الذي أشار إليه القرآن بالتفصيل في سورة الكهف.

وعن سر القسم بكثير من المخلوقات ، من الثمار ، والجمادات ، وغير ذلك ، إلى آيات كثيرة في هذا المعنى لا أريد الإسهاب بذكرها.

إننا متعبدون حتى الآن بفهمها حسب قواعد اللغة ، وما نقل إلينا من آثار عن السلف رضوان الله عليهم في فهمها ، ونحن نؤمن بها حسبما هو مفهوم من ظاهرها بناء على القواعد المسلمة في التفسير.

ولكنني على يقين بأن العلوم ستكشف لنا عن كثير من الأسرار والخفايا التي لا نعلمها ، لا تنفي المعنى المفهوم من ظاهرها بل تكشف لنا عن سر معنى جديد كان خافيا علينا ، يظهر فيه الإعجاز القرآنيّ بأوضح صورة وأدقها ، لتثبت

٢٩٠

التطورات العلمية إلى قيام الساعة أنها في نهاية مطافها لا تجد بدا من الإذعان لإعجاز القرآن فإن خالق القانون العلمي ، والمخبر عنه في القرآن الكريم واحد ، ألا وهو الله الذي أتقن كل شيء خلقه ، (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) ، (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ).

٢٩١
٢٩٢

اكذوبة الإعجاز العددي

في

القرآن الكريم

٢٩٣
٢٩٤

مقدمة

إننا وقبل أن نترك الإعجاز العلمي في القرآن الكريم ، والذي اكتفينا فيه بما أوردناه من الآيات عما لم نورده منها ، إننا وقبل أن نتركه يجدر بنا أن نعرج على أمر مهم له مساس بالعلوم المعاصرة ، ومكتشفات العصر ، ألا وهو الإعجاز العددي في القرآن الكريم ، والذي صارت له شهرة ورواج لا يخفيان على أحد ، حتى صار يتردد في كل مجال ، ومن المؤسف أنه صار يردده بعض الدعاة مستسلمين لما فيه من الأوهام والأكاذيب ، التي زعمها صاحب الفكرة رشاد خليفة ، دون أن يكلفوا أنفسهم مشقة البحث فيها والتمحيص لها.

قاعدة عامة في التفسير :

وقبل الدخول في الموضوع ، وبيان ما فيه من حق أو باطل ، يجب علينا أن نبين القاعدة الهامة التي يجب على كل من يخوض في القرآن الكريم أن يرجع إليها ، سواء أكان يريد أن يخوض في تفسيره ، أم يريد أن يستنبط منه الأحكام ، أم يريد أن يظهر فيه الإعجاز ، أم يريد أن يخوض في أي جانب من جوانبه الكثيرة ـ يجب على كل أحد يريد شيئا من هذا أن يلتزم هذه القاعدة ...

وهي أن الله قد أنزل كتابه الكريم بلغة العرب ، وتعبدنا نحن المسلمين عربا كنا أم من غير العرب ـ تعبدنا أن نفهم القرآن بناء على قواعد لغة العرب التي أنزله بها ، وبناء على مفهوم مدلولاتها.

فقال تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (سورة يوسف : آية ٢).

٢٩٥

وقال جلّ وعلا : (قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (سورة الزمر : آية ٣٩).

وقال : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ، عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ، بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (سورة الشعراء : آية ١٩٥).

والآيات في هذا أكثر من أن تحصر ، وأشهر من أن تذكر ، وكلها تدل على أن القرآن نزل بلغة العرب ، ولا دخيل من غيرها فيه.

وبناء على ذلك ، فإننا يجب علينا أن نفهم القرآن من خلال قواعد لغة العرب التي نزل بها ، ولا يجوز لنا العدول عنها ، مهما كانت الظروف والأحوال.

ولذلك وجدنا أن نبينا عليه الصلاة والسلام ، وأصحابه من بعده ، وأمته من بعد أصحابه ، إلى يومنا هذا ، بل إلى يوم القيامة ، قد فهموا هذا الكتاب على هذه القواعد وكانوا إذا بيّنوه بينوه بناء عليها.

فإذا ذكر الله تعالى لنا البقرة في سورة البقرة ، في قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) فهمنا منها أنها البقرة المعروفة ، وهي الحيوان الأليف اللبون ذو القرون.

ومن فهم من البقرة غير هذا الفهم ، وزعم أنها نوع من أنواع العصافير ـ كما زعمه بعض المحرفين لكتاب الله ـ فإنه لا شك بأن فهمه هذا خطأ وضلال وانحراف ، وإلحاد في آيات الله ، يلزم منه الكفر ، لأنه عبث بكتاب الله ، وتفسير باطني خارج عن قواعد اللغة ، ومدلولات الخطاب ، والمتبادر من معاني الألفاظ.

ومن فهم من المسجد الأقصى ، المذكور في قوله سبحانه : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) من فهم منه مسجدا آخر غير المسجد المعروف في القدس ، والذي يعرفه كل مسلم ـ كما فهمه بعض المحرفين لكتاب الله أيضا ، فإنا نقول فيه ما قلناه فيمن فهم العصفور من البقرة.

٢٩٦

وهكذا نطرد القول في كل من حاول تحريف آيات القرآن بإعطائها معنى جديدا غير المعنى المفهوم منها حسب لغة العرب وقواعدها.

من أجل هذا الزم العلماء قديما وحديثا ألزموا من فهم من الكلام غير مدلوله العربي ـ ألزموه الكفر والإلحاد.

وذلك لأنه لو كان يجوز للإنسان أن يفهم من القرآن ومن الكلام ما يروق له ، مما يتفق مع شهواته وأهوائه ، دون ضابط لغوي ، أو قاعدة سليمة ، لأدى هذا إلى تحريف القرآن ، وتبديل الدين ، وتغيير الأحكام واضطراب المعارف ، وتزييف الحقائق ، وتسفيه العقول ، ولجعل الإنسان سوفسطائيا مجنونا ، بدلا من أن يصير عالما عاقلا.

تجنب العلماء وردهم لكل ما كان فيه بعد من المعاني :

ولهذا الذي ذكرناه ، حرص علماؤنا سلفا وخلفا على تجنيب القرآن كل ما من شأنه أن يؤدي في نهاية الأمر إلى البعد عن مدلولاته العربية ، والانحراف عن معانيه الأصلية ، سدا للذرائع ، ودرء للمفاسد ، وطردا لباب الانضباط في دائرة المعاني التي وضعت لها لغة العرب ، ودلت عليها.

ومن أجل هذا رد العلماء كل تفسير فيه تكلف أو بعد ، ولو كان معقولا.

من ذلك ما ذكره بعض المفسرين من المعاني المتكلفة في البسملة ، كقول بعضهم في كلمة (بِسْمِ) من (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) إذ قال :

الباء : بهاء الله ، وبركته ، وبره ، وبصيرته.

والسين : سناؤه ، وسموه ، وسيادته.

والميم : مملكته ، ومجده ، ومنّه.

وقال بعضهم : إن الباء تعني : أنه بريء من الأولاد ، والسين : سميع الأصوات ، والميم : مجيب الدعوات.

وقال بعضهم : إن الباء تعني : بارئ الخلق ، والسين : ساتر العيوب ، والميم تعني : المنان.

٢٩٧

قال الإمام أبو الحسن الماوردي بعد أن ساق هذه الألفاظ التي أبعدت في التكلف ، والتنطع ، والتحكم في المعاني ، قال رحمه‌الله : ولو لا أن هذا الاستنباط يحكى عمن يقتدى به في علم التفسير ـ لرغب عن ذكره ، لخروجه عما اختصّ الله تعالى به من أسمائه.

لكن قاله متبوع ، فذكرته مع بعده ، حاكيا لا محققا (١).

ولهذا نظائر كثيرة ، سنقف على بعضها في الفقرات القادمة ، على أن المنهج الباطني في التفسير كله على هذا المنوال.

التفسير بالأرقام منهج باطني يهودي قديم :

هذا وإن مسألة التفسير الباطني ، والتفسير بالأرقام ، وجعل الألفاظ القرآنية رموزا ظاهرة لمعان باطنة ، ليست جديدة ، وإنما هي قديمة قدم الإسلام ، وقدم الحركات الهدامة التي نشأت فيه.

وإن من المعروف لدينا جميعا أن اليهود هم أول من حاول التفسير بالأرقام.

فقد أخرج ابن إسحاق ، والبخاري في تاريخه ، وابن جرير الطبري في تفسيره ، عن ابن عباس ، عن جابر بن عبد الله بن رباب قال : مر أبو ياسر بن أخطب برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يتلو فاتحة سورة البقرة (الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ) فأتى أخاه حيي بن أخطب في رجال من اليهود فقال : تعلمون والله لقد سمعت محمدا يتلو فيما أنزل عليه : (الم ذلِكَ الْكِتابُ).

فقالوا ، أنت سمعته؟.

قال : نعم ، فمشى حيي في أولئك النفر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : ألم تذكر أنك تتلو فيما أنزل عليك : (الم ذلِكَ الْكِتابُ)؟.

قال : بلى.

قالوا : قد جاءك بهذا جبريل من عند الله؟.

__________________

(١) تفسير الماوردي : ١ / ٥١.

٢٩٨

قال : نعم.

قالوا : لقد بعث الله قبلك أنبياء ، ما نعلمه بيّن لنبي لهم ما مدة ملكه ، وما أجل أمته غيرك.

فقال حيي بن أخطب ، وأقبل على من كان معه : الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، فهذه إحدى وسبعون سنة ، أفتدخلون في دين نبي إنما مدة ملكه ، وأجل أمته إحدى وسبعون سنة ..؟

ثم أقبل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا محمد ، هل مع هذا غيره؟.

قال : نعم.

قال : ما ذاك؟.

قال : (المص).

قال : هذه أثقل وأطول ، الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، والصاد تسعون ، فهذه مائة وإحدى وستون سنة.

هل مع هذا يا محمد غيره؟.

قال : نعم.

قال : ما ذا؟.

قال : (الر).

قال : هذه أثقل وأطول ، الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والراء مائتان ، فهذه إحدى وثلاثون ومائتا سنة.

فهل مع هذا غيره؟.

قال : نعم (المر).

قال : فهذه أثقل وأطول ، الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، والراء مائتان ، فهذه إحدى وسبعون سنة ومائتان.

ثم قال : لبس علينا أمرك يا محمد ، حتى ما ندري أقليلا أعطيت أم كثيرا.

٢٩٩

ثم قاموا ، فقال أبو ياسر لأخيه حيي ومن معه من الأحبار : وما يدريكم لعله قد جمع هذا كله لمحمد ، إحدى وسبعون ، وإحدى وستون ومائة ، وإحدى وثلاثون ومائتان ، وإحدى وسبعون ومائتان ، فذلك سبعمائة وأربع وثلاثون.

فقالوا : لقد تشابه علينا أمره (١).

فهذا واضح صريح في محاولة اليهود لفهم فواتح السور ، فهما حسابيا رقميا ، يستدلون به على أمر باطني ، لا تدل عليه هذه الحروف ، لا من قريب ، ولا من بعيد ، ولا وضعت له ، ألا وهو عمر أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مما أنكره عليهم كل مسلم ، وكذبه الواقع.

الربط بين المنهج اليهودي ومنهج رشاد خليفة :

وأنا أذكر هذا لأربط بينه وبين المنهج الذي سلكه رشاد خليفة في تفسيره الباطني بالأرقام ، على ما سنبينه في الفقرات القادمة إن شاء الله ، ووصل به في نهاية المطاف إلى أنه ادعى العلم بقيام الساعة وحدده ..؟؟.

وقد اعتمد في منهجه واستدلاله على هذا الذي قاله اليهود على ما سنعرفه سالكا منهجهم ، ومتمما لطريقهم.

كلام حجة الإسلام الغزالي في مثل هذه التفسيرات الباطنية :

وقد ذكر حجة الإسلام أبو حامد الغزالي في كتابه «فضائح الباطنية» بعض تفسيرات الباطنية وتحريفاتهم لكتاب الله ، فقال : إنهم يزعمون أن كلمة محمد حيثما وردت ، لا يراد بها ذكر رسول الله ، فهذا أمر ظاهر ، وأما الحقيقة والباطن فالمراد بها علي ، وفاطمة ، والحسن ، والحسين ، وذلك أنها مركبة من أربعة أحرف فالميم إشارة لعلي ، والحاء إشارة لفاطمة ، والميم الثانية إشارة للحسن ، والدال إشارة للحسين.

فقال الغزالي معارضا لهم ، ورادا لكلامهم : إذا كان القرآن يفسر هكذا ، بدون ضابط ، وتبعا للشهوة والهوى والعقائد الضالة المنحرفة فإنا نقول :

__________________

(١) الدر المنثور : ١ / ٢٣ ، والطبري : ١ / ٢٧.

٣٠٠