المعجزة القرآنيّة

الدكتور محمد حسن هيتو

المعجزة القرآنيّة

المؤلف:

الدكتور محمد حسن هيتو


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٤٢

ولكن الجواب على هذا التساؤل لا يستطيع أن يضع يده عليه في كتب اللغة أو كتب التفسير ، إلا أن كتب اللغة والتفسير تقره ، لأنه مما يقال فيه ، وبكل ثبات ويقين : إنه زوج.

إن الجواب سنعرفه هذه المرة من كتب العلوم المعاصرة ، في أدق مباحثها ومكتشفاتها.

وهو لم يخف فقط على أهل العصور السابقة ، بل هو مما يخفى على أكثر أهل العصر الحاضر ، ومما يذهل له الإنسان المعاصر.

٢٤١

١ ـ الزوجية في الإلكترون

أو

الكون والكون النقيض

إن الإنسان أو أي كائن حي آخر ، يتكون من أعضاء ، وهذه الأعضاء تتكوّن من أنسجة ، والأنسجة تتكوّن من خلايا والخلايا تتكوّن من جزئيات ، والجزئيات تتكوّن من ذرات ، والذرات تتكوّن من جسيمات ، هذه الجسيمات تعتبر أصغر وحدة من وحدات المادة.

فجسيمات الذرة الأولية هي : البروتون ، والنيوترون ، والإليكترون ، أو بمعنى «الموجب ، والمتعادل ، والسالب.

ولقد كنا في الماضي نسمع من أساتذتنا أن الله خلق من كل شيء زوجين ، حتى الذرة خلقها الله من زوجين هما النواة والإليكترون الذي يدور حولها ، أو هما السالب والموجب فيها.

إلا أن هذه المعارف أصبحت بديهية وبدائية ، وليست هي مما أريد الكلام عنه ، وإنما هو أمر وراء الذرة ، إنه أمر تكوين جسمياتها؟ في أصل خلقه الأول ، لنضع أيدينا على سر جديد من أسرار الإعجاز الإلهي في خلقه وآياته.

«في عام ١٩٢٨ خرج العالم الرياضي الشاب بول ديراك الإنجليزي ، خرج على الملأ بنبإ غريب ، مضمونه معادلة رياضية أصيلة تتناول طبيعة الكون.

تنبأت هذه المعادلة بأن خلق الإليكترون لن يتأتى إلا عن طريق خلق الزوجين ، وهو ما يعرف في الأوساط العلمية الفيزيائية بهذا المعنى أيضا Parcreattion أي خلق الأزواج أو الزوجين.

٢٤٢

ولم يكن المراد بهذا أن الخلق يكون عن طريق إعطاء اليكترونين أو بروتونين أو نيوترونين ، وإنما كان بمعنى خلق الإليكترون والإلكترون النقيض ، أو البروتون والبروتون النقيض ، أو النيوترون والنيوترون النقيض.

على أن هذه النقائض المادية لا يمكن أن يجتمع بعضها مع بعض ، لا في الزمان ، ولا في المكان ، فبمجرد خلق الزوجين في عالمنا ، لا بد أن يهلك أحدهما الآخر ويفنيه حين التقائه إياه.

هذه هي المعادلة التي أتى بها بول ديراك والتي تحمل هذا النبأ الغريب ، مما جعل الناس لا يلقون لها بالا ، إذ لم تكن عقولهم تهيأت لهذا بعد.

ولكن هل تحقق ما تنبأ به ديراك؟

لقد كان العلماء في الماضي يطلقون إلى الجو أجهزة علمية داخل بالونات لتسجيل سر الأشعة الكونية التي تأتي من السماء.

وفي عام ١٩٢٣ استقبل أحد العلماء الأمريكيين المهتمين بدراسة الأشعة الكونية وهو كارل اندرسون ، استقبل مسارات هذه الأشعة على ألواح حساسة ، وهذه المسارات بمثابة البصمات عند الإنسان ، تحدد للعلماء صفات تلك الأشعة ، وطبيعتها ، وشحنتها ، وشخصيتها.

لقد لفت نظره من بين المسارات الكثيرة المسجلة ـ مسيرة غريبة ، ففي لحظة واحدة خاطفة ظهر على لوحه الحساس ولادة جسمين من نقطة واحدة ، انطلق أحدهما إلى جهة اليمين ، وانطلق الآخر إلى جهة اليسار ، مما جعل أندرسون حائرا في هذا المشهد ، إذ أن المسارين لإلكترونين يقينا ، ولكن ما هو السبب الذي جعلهما يبتعدان ويفترقان أحدهما عن الآخر ، وكأن أحدهما عدو لقرينه؟.

لم يتمكن أندرسون من معرفة السبب ، وذلك لأنه لم يكن قد اطلع وقت مشاهدته لهذه الظاهرة ، لم يكن قد اطلع على معادلة ديراك الرياضية التي أشرنا إليها ، والتي كان قد نشرها قبل ثلاث سنوات في إحدى المجلات العلمية

٢٤٣

البريطانية المتخصصة ، إذ لو كان قد اطلع عليها لما تحير تلك الحيرة فيما رأى وشاهد.

وجاء بعد أندرسون الأمريكي عالمان بريطانيان ، عرفا ما توصل إليه أندرسون عمليا بألواحه الحساسة ، كما عرفا المعادلة التي أشار إليها ديراك قبله نظريا ، وبجمعهما بين نتيجة أندرسون العملية ومعادلة ديراك الرياضية النظرية أدركا السر العظيم في مسار الإليكترونين ، وأشارا إلى أن معادلة ديراك التي تنبأت بخلق الزوجين صحيحة تماما ، على ما أثبته أندرسون بألواحه.

لقد كان ذلك اليوم الذي توصل فيه العلماء إلى تسجيل بداية خلق أصغر وأبسط زوجين في العالم ـ كان يوما مشهودا في تاريخ العلم.

ومن أجل هذا الاكتشاف المثير الذي توصل إليه ديراك من خلال معادلته الرياضية ـ من أجل هذا حصل على جائزة نوبل في العام التالي لتحقق ما تنبأت به معادلته» (١).

وهو بالنسبة لنا نحن المسلمين يعتبر أيضا يوما مشهودا ، إذ أثبت فيه العلم الحديث في أدق مباحثه وأبدع اكتشافاته ، أثبت ما أخبر به القرآن الذي سبقت آياته معادلة ديراك بأربعة عشر قرنا ، إذ قال تعالى : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).

وقال : («سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها ، مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ ، وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ ، وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ).

نعم ... إنه ليوم مشهود لنا نحن المسلمين ، إذ ثبت للعالم أجمع أن هذا القرآن لم يكن من صنع البشر ، وإنما هو الآية القاطعة الناطقة بأنه من صنع خالق الكون والإنسان والحياة ، والعالم بكل صغيرة وكبيرة مما خلق على أبدع نظام وأتم تقدير.

__________________

(١) الدكتور عبد المحسن صالح في بحثه (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها) الوعي الإسلامي عدد ١٦٢ بتصرف.

٢٤٤

وهل هذا كل ما في الأمر بالنسبة للأزواج ..؟.

الجواب : لا ....

لم يقف الأمر عند ذلك الحد الذي ذكرناه ، وذلك لأنه وضع أيدينا على سر جديد ، وهو : أن هذا الكون في أرضه ، وسمائه ، وجزئياته ، وذراته ، ليس في الحقيقة إلا طاقة اتخذت صورة المادة بجسيماتها وذراتها ، وأن هذه الجسيمات حينما تجسدت تجسدت على شكل زوجين ، ولم تتشكل مفردة.

«فمولد أو خلق الزوجين اللذين ظهرا على ألواح اندرسون ، لم يظهرا من عدم ، بل كان من وراء تخليقهما طاقة ، أو ومضة ضوئية ، وهذه الومضة تنطلق على هيئة موجة ، وتجري في الكون بسرعة الضوء ١٨٦ ألف ميل في الثانية.

والواقع أن هذا الكون ـ على قدر ما نعرفه الآن ـ له مظهران ، فهو أحيانا ندركه أو يظهر لنا على شكل موجة ، وهذه الموجة لا زمان لها ولا مكان ـ أي في المقاييس الرياضية الحسية ـ وأحيانا أخرى قد تتخلى الموجة أو الطاقة عن صفتها الطليقة المتحررة وتتجسد على هيئة مادة كجسيمات ذرية ، وهي في هذه الحالة تأتي على قانون الله الأزلي في الخلق زوجين زوجين.

وفي المفاعلات النووية الجبارة يعيش العلماء مع خلق الأزواج ليل نهار ، وفيها يسجلون تجسيد الطاقات أو الموجات على هيئة جسيمات كثيرة ، وعلى الألواح الحساسة ، أو في غرف الفيوم ـ التي توضح بداية خلق الأزواج ـ يسجل العلماء مولد الإليكترون ونقيضه ، أو البروتون ونقيضه ، أو النيوترون ونقيضه.

ثم إن هناك جسيمات ذرية أخرى كثيرة ، وهي غير الجسيمات الأساسية الأولية الثلاثة التي ذكرناها ، فما من جسيم منها يتجسد ـ صغر شأنه أو كبر ـ إلا ويظهر معه في نفس اللحظة نقيضه.

ثم إنه في كل حالة من هذه الحالات يظهر الزوجان ويتخلقان أمام أعين العلماء ، لكن الشيء المثير هو أن النقيض لا يمكن أن يعيش في مكان واحد مع نقيضه.

٢٤٥

فإذا تقابل اليكترون مع اليكترون نقيض ، فلا بد أن يزولا ، ويتخليا عن تجسدهما المادي ، ويعودا إلى سيرتهما الأولى ، أي إلى موجات متحررة» (١).

والشيء الذي يعتبر أكثر إثارة ودهشة أن لكل شيء في هذا الكون نقيضا ، ما عدا شيئا واحدا ، ألا وهو الطاقة ، أو الموجة المتحررة ، أو النور ، فلا نقيض له ، وإنما تظهر النقائض فقط عند ما تتجسد هذه الموجة ، أو هذا النور ، أو تلك الطاقة ، ويؤدي إلى خلق الزوجين.

لما ذا وكيف ..؟ لا أحد يدري.

فطبيعة الكون تضع أمامنا حقائق الوجود بصورة مثيرة ، فبداية الخلق أزواج ، والأزواج جسيمات ، أو هي تجسيد لطاقة ، أو ومضة ، أو نور ، خذ منها ما تشاء ، فلا أحد يستطيع هنا أن يؤكد أمرا أو يحدد شيئا. كما يقول الدكتور عبد المحسن صالح في بحثه عن الأزواج ـ وكلما تعمقنا في طبائع الأشياء ، وظننا أنا قد وصلنا فيها إلى قرار أشاحت الحقيقة بوجهها ، وتجلت لنا أكثر إثارة ، ووضعتنا في مآزق فكرية جديدة.

إن الذي نعرفه حقا أن المادة تجسيد لطاقة أو قوة ، وهذه الطاقة وراء حدود العقل والخيال ، وأن هذه الطاقة المتجسدة تتجسد أمام أعيننا أزواجا أزواجا.

ولكن ما ذا يعني هذا ... إنه يعني وبكل ثقة ما أخبر الله عنه قبل قرون طويلة مما يدل على عظمته وعلمه وقدرته ، ومما يدلنا دلالة قاطعة على أن هذا القرآن كلامه ووحيه.

إنه يعني قوله تعالى : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).

كما يعني قوله : (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها ، مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ ، وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ ، وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ).

ولكن هل هذا كل ما في الأمر ..؟.

__________________

(١) المرجع السابق : د. عبد المحسن صالح.

٢٤٦

وهل اقتصرت المكتشفات العلمية على اكتشاف الزوجين في الجسيمات الذرية ، من الإليكترون ونقيضه ، أو البروتون ونقيضه ، أو النيوترون ونقيضه ، أم أنهم وضعوا أيديهم على أمور أخرى ربما كانت أكثر إثارة ودهشة في هذا الكون ..؟.

لا شك أن ما ذكرناه لم يكن كل ما في الأمر مما يتعلق بالآية ، فقد قال تعالى : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ).

إذن فلا بد أن تكون هناك أمور أخرى عرفها الإنسان المعاصر مما لم يكن يعلمه الناس قديما ، وفيه من الإثارة والدهشة ما يذهل له عقل الإنسان ، ومما يدل دلالة قاطعة على إعجاز القرآن.

الكون والكون النقيض :

لقد سيطرت فكرة الخلق أزواجا ـ بعد معادلة ديراك ، وألواح أندرسون ، وتجارب العلماء في المعامل الذرية الضخمة ـ لقد سيطرت فكرة الخلق أزواجا على عقول العلماء ، وصار من الأمور البديهية اليقينية عندهم أنه من تمام انتظام الكون وتعادله وتوازنه أن يكون الخلق في كل شيء على طريقة الأزواج.

وكأنهم اتخذوا من قول الله : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) كأنهم اتخذوا من هذه الآية دستورا لمباحثهم العلمية ، فكل شيء في هذا الكون يجب أن يكون على نظام الزوجية.

فخلق الإليكترون لا بد أن يصحبه خلق الإليكترون النقيض أو البوزيترون ، كما بيناه في الفقرة السابقة ، وخلق النيوترون لا بد أن يصاحبه خلق النيوترون النقيض ، وهكذا ...

ولكن صفات الإليكترون تخالف وتناقض تماما صفات البوزيترون أو الإليكترون النقيض.

فإذا دار الإليكترون حول نفسه من اليمين إلى اليسار ، دار الإليكترون النقيض من اليسار إلى اليمين.

٢٤٧

وإذا حمل الإليكترون شحنة كهربية سالبة حمل البوزيترون شحنة موجبة.

وإذا كان المجال المغناطيسي للإلكترون يتجه إلى الأعلى ، كان المجال لنقيضه يتجه إلى الأسفل.

من أجل هذا كان من المستحيل أن يجتمعا ، فإذا ما قدر اجتماعهما كان لا بد أن يفني أحدهما الآخر.

وهذا الصراع العنيف الذي يؤدي إلى الفناء يشهده العلماء في معاملهم ، وفي طبقات الجو العليا ، وفي الفضاء الخارجي ، إذ كثيرا ما تتجسد الطاقة ، وعند ذلك تظهر الجسيمات الذرية أزواجا ، فأما الذي من عالمنا فيبقى ، وأما الذي جاء نقيضا لجسيمات عالمنا فلا بد أن يتخلى عن تجسده ويفنى ويعود ومضة سائحة في هذا الكون الرهيب.

وبهذه الحقائق اليقينية التي وضع العلماء أيديهم عليها ، وآمنوا بها ، أصبحوا يتساءلون ، ما دام الأمر كذلك فهل يمكن أن يكون هناك ذرة وذرة نقيض لها ، أو مادة ومادة نقيض لها ، أو كون وكون نقيض له ، إذ لا بد لكل شيء أن يكون زوجين ..؟.

وبمواصلة البحث توصل العلماء إلى تخليق ذرة هيدروجين نقيضة ، إلا أن تخليقها لم يدم لأكثر من لحظة واحدة خاطفة ، إذ جاء كل ما فيها معاكسا لذرة الأيدروجين المعروفة ، ولا يمكن أن تعيش إلا في عالم آخر غير عالمنا ، وهذا الأمر مستحيل في عالمنا ، إذ لا بد لها أن تصطدم في لحظة خاطفة يجزئ من جزئيات الهواء ، أو أي شيء فيه نقيضها لتحطمه ويحطمها وتعود إلى طاقة سابحة في هذا الكون.

بعد هذه التجربة وهذا الاكتشاف تطورت معارف العلماء وأصبحوا يوقنون أن فكرة خلق الأزواج ليست قاصرة على الجسيمات الذرية ، بل تعدتها إلى أنه لكل ذرة في هذا الكون ذرة نقيضة لها.

وهذا يعني أن خلق الأزواج لا بد أن يمتد إلى جزئيات الخلية ، بل إلى

٢٤٨

الكون بأسره ، من الأرض ، والنجوم ، والكواكب ، والمجرات ، إذ لا بد لها أن تكون أزواجا (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ).

وهذا يعني أيضا أن بناء الكون النقيض في ذراته لا بد أن يكون معكوسا أو نقيضا لبناء عالمنا الذري ، بما فيه من شموس وأقمار وكواكب.

ونحن لا يمكننا أن ندرك هذا ، ولا يمكننا أن نفرق مثلا بين النجم ونقيضه ، لأننا نراهما بواسطة الضوء الواصل إلينا منهما ، وقد ذكرنا أن النور لا نقيض له ، وإنما يظهر الزوج أو الجسم ونقيضه عند تجسد النور أو الطاقة.

ولكننا يمكننا أن ندرك النجم ونقيضه مثلا عند ما يقترب أحدهما من الآخر ويتلاحمان ، ويبدأ كل منهما بإفناء الآخر وتحويله إلى موجات ضوئية لا قبل للعقل بتصورها ، بل لا قبل للخيال بذلك.

وذلك ـ كما يقول العلماء ـ لو تقابل مثلا إنسان من عالمنا مع إنسان من العالم النقيض سيتحولان في لحظة خاطفة إلى طاقة ناتجة عن انفجار كوني جبار لا يقل عن الطاقة المتحررة من تفجير مائة ألف قنبلة من القنابل الهيدروجينية .. فكيف لو تقابل نجمان أو مجرتان .. إنه لا يمكن للعقل أن يتصور ما ذا سيحدث.

ومن أجل هذا كان هذا التباعد الهائل في الفضاء بين المجرات وعوالم هذا الكون الرهيب الرحيب ، فالمسافة بين هذه المجرات لا تقاس بالأميال ، ولا بملايين الأميال ، وإنما بملايين السنين الضوئية.

إن الذي دفع العلماء إلى هذا التفكير المثير في خلق الكون والكون النقيض إنما هو الواقع الذي رأوه في تجسيد الإليكترون والإليكترون النقيض ، وما قاموا به من تخليق ذرة الهيدروجين النقيضة ، وما إلى ذلك مما ذكرنا ، مع ما أصبح يقينيا عندهم من الوحدة في الخلق على كل المستويات ، والتي تستلزم وجود المادة والمادة النقيضة ، أو بعبارة أخرى أوضح في موضوعنا إلا وهي أنها تستلزم وجود الخلق أزواجا.

٢٤٩

لقد عكف العالم السويدي الشهير «أوسكار كلاين» سنوات طويلة على دراسة هذا الموضوع ، وخرج برأي يقول : «إن المادة والمادة النقيضة لا بد أن تكونا قد ظهرتا في وقت واحد ، ولا بد أن تتساويا تماما ، بمعنى أن نصف الأجرام السماوية قد جاء وظهر من مادة عادية ، ونصفها الآخر قد خلق من مادة نقيضة».

وذهب عالم البلازما النووية «هانز آلفين» إلى أبعد من هذا ، فنشر بحثا بعنوان «نقيض المادة والكون» شرح فيه فكرة ظهور الكون والكون النقيض ، وكيف ظهرا ، ثم كيف بوعد بينهما وعزلا ، حتى أمكن أن يعيشا إلى اليوم المعلوم (١).

ولا يسعنا نحن الناظرين إلى هذه النتائج العلمية التي لا تحتاج إلى تعليق إلا أن نردد قوله تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها ، مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ ، وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ ، وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ).

كما أننا لنتمايل طربا ، ونهتز نشوة ، عند ما نعرف أن العالم الحديث بعلومه ومعارفه ، وفي أدق مباحثه ونظرياته قد اتخذ من آيات القرآن دستورا له يبني عليه حضارته وتطلعاته وطموحاته ، ويردد كما يردد كل مؤمن : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).

أيها القارئ الكريم : قل لي بربك .. من الذي علم ذلك الأمي في شعاب مكة وأوديتها ... من الذي علمه أسرار الكون والحياة ، والذرة والخلية ، مما لم يكن الإنسان يعلمه ، لا بعقله الظاهر ولا بعقله الباطن ، ومما لم يصل إليه ولا حام حوله ..؟!.

لا شك أنه الله الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى.

وإني لعلى يقين بأنه ما من منصف يقع نظره على هذه الآية وهذه النتائج العلمية المذهلة ، إلا ويجد نفسه مضطرا لأن يحني رأسه تواضعا للحقيقة ، وتعظيما للخالق ، واعترافا بأن هذا الكتاب المعجز ليس من قول البشر.

__________________

(١) الدكتور عبد المحسن صالح ، المرجع السابق بتصرف.

٢٥٠

٢ ـ الزوجية في الخلية الجنسية

إن خلق الأزواج الذي تحدثنا عنه في الفقرات الماضية ذلك الحديث المدهش المثير في جسيمات الذرة عند تجسدها من الموجة أو الطاقة ، وفي الذرة نفسها ، بل في الكون بأسره ، حتى أصبح شعار علماء الكون شعار المؤمنين أنفسهم ، وهو ترداد قوله تعالى : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) ـ جعل هذه الآية بعد أن كانت في معايير الماديين وفلاسفة الإلحاد سفسطة جعلها من أعظم الحقائق العلمية التي لا مرية فيها ولا خلاف.

بل أصبحت الشعار الذي يردده كل علماء الكون صباح مساء ويقرون من خلاله بأن هذا الكلام يستحيل أن يصدر ـ وقبل أربعة عشر قرنا ، في الوقت الذي لم يكن الإنسان يعرف فيه شيئا بالنسبة لما يعرفه اليوم ـ يستحيل أن يصدر من البشر ، وإنما هو كلام الله ، معجزة ناطقة دالة على وجوده وصدق كتابه ورسوله.

هذا هو موقف علماء الكون بعد طول البحث والنظر والتأمل وتكرار التجربة والملاحظة.

فما هو موقف علماء الحياة من هذه الآية ...؟.

هل أصبحوا هم أيضا يرددون شعار المؤمنين في القرآن : «ومن كل شيء خلقنا زوجين» .. ويقرون باطرادها ..؟.

أم أنهم شذوا عنها ، وخرجوا من قانونها ، وأثبتوا تخلف الخبر القرآني؟.

الجواب المبدئي الإجمالي .. نعم ، وبكل صراحة وثبات وتأكيد ، وبغض النظر عن أن الجسم مكون من الخلايا التي تتكون من عناصر هذا الكون وذراته التي تحتوي على الزوجين السالب والموجب.

٢٥١

إننا لا نريد أن نتكلم على هذا ، وإنما نريد أن نتكلم على الأحياء أو الحيوان ، من حيث ما يخصه ، لا من حيث ما يكون مشتركا بينه وبين غيره ، كالعناصر الكونية المشتركة بين الحيوان وغيره من الأجسام.

إذن فليكن بحثنا الآن محصورا في الحيوان ، وليكن الكلام في الإنسان ، لأنه ألصق بنا ، وأقرب منا ، وأكثر إثارة لمشاعرنا.

إن مما لا يخفى على أحد من الناس أن جسم الإنسان يحتوي على خلايا ، وهذه الخلايا أنواع ، فمنها خلايا العظام ، ومنها خلايا الكبد ، ومنها خلايا المخ ... ومنها خلايا العين ، ومنها خلايا السمع ، ومنها الخلايا الجنسية ، ولكل خلية من هذه الخلايا عملها ووظيفتها المحددة لها ، والتي تقوم بها وبكل دقة وأمانة وانضباط.

والذي سنأخذه من هذه الخلايا ونتكلم عنه الآن هو الخلية الجنسية.

وذلك لأن لهذه الخلية الجنسية ظاهرا وباطنا ، أما الظاهر فظاهرة الزوجية فيه معروفة منذ زمن بعيد ، بمعرفة النطفة عند الرجل والبويضة عند المرأة ، مما يتكون من التقائهما الولد ، فالخلية الجنسية زوجان ، نطفة وبويضة ، وهذا معروف لكل أحد.

ولكن الباطن الذي لم يكن معروفا قبل سنين عديدة لأحد ، بل كان (مِمَّا لا يَعْلَمُونَ) والذي لا يعرفه إلا القليل من الناس اليوم أيضا هو أن الخلية الجنسية عند الرجل بذاتها تحمل أيضا الزوجين الذكر والأنثى ، أو بمعنى آخر أوضح ، الحيوان المنوي عند الرجل منه ما يحمل صفة الذكورة ، ومنه ما يحمل صفة الأنوثة ، ففي خليته الزوجان ، الذكر والأنثى.

قال الله تعالى : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً ، أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى ، ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى ، فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) (سورة القيامة : آية ٣٧ ـ ٣٩).

وقال تعالى : (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ ، الذَّكَرَ وَالْأُنْثى مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى) (سورة النجم: آية ٤٦).

٢٥٢

لقد فهم أسلافنا رضوان الله عليهم هذه الآية على ظاهرها ، بناء على ما كان لديهم من معلومات عن خلق الإنسان وتكوينه ، فقالوا على اختلاف مناهجهم ، فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى : أي أن الله جعل من هذا الخلق الذي خلقه من المني ، جعل منه الزوجين الذكور والإناث.

أو أنه جعل من هذا الإنسان بعد ما سواه خلقا سويا ـ جعل منه أولادا له ، ذكورا وإناثا.

فكل معانيهم كانت منصبة على أن الله خلق الإنسان من مني الرجل والمرأة أطوارا ، إلى أن كان منه الذكر ، وكان منه الأنثى ، دون أن يتعرض واحد منهم لحقيقة النطفة عند الرجل ، لأنه كان (مِمَّا لا يَعْلَمُونَ).

على أن ما ذكرناه بناء على معارفهم كان سليما صحيحا ، لا غبار عليه.

إلا أن الوسائل البصرية التي تمكن الإنسان من اختراعها ، والتي مكنته من تكبير الأجسام آلاف وآلاف المرات ، والدراسات التي أجراها على الخلية ، مكنته من اكتشاف شيء جديد ، ما كان للقدماء أن يقفوا عليه بحال من الأحوال ، وهو أنه خلايا الرجل الجنسية تحمل صفات الذكورة إلى جانب صفات الأنوثة ، وعند انقسام هذه الخلية في الغدد الجنسية تعطينا حيوانين منويين ، أحدهما يحمل صفة الذكورة ، والآخر يحمل صفة الأنوثة.

وبمعنى آخر إذا أخذنا السائل المنوي الذي يقذفه الرجل ، والذي يحتوي في المتوسط على مائتي مليون حيوان منوي ، فإننا سنجد أن مائة مليون منها ذكور ، ومائة مليون أخرى إناث.

ونحن وإن كنا لا نستطيع أن نميز بين الحيوانين بالعين المجردة ، إلا أن العلماء التجريبيين قد تمكنوا من هذا بواسطة وسائلهم البصرية والعلمية ، وأعطوا أوصافا للحيوان المنوى الذكر بأنه له وميض ولمعان في رأسه ، بينما يفقد الحيوان المنوي المؤنث هذا اللمعان والوميض ، كما أن المذكر أسرع حركة وأقوى بأسا في الغالب من زميله الذي يحمل صفة الأنوثة (١).

__________________

(١) خلق الإنسان : للدكتور البار ص ١٣٥.

٢٥٣

وبصياغة جديدة للمعنى الذي ذكرناه نقول : إن نطفة الرجل ومنيه هو الذي يحمل الذكورة والأنوثة ، فمنه الذكر ، ومنه الأنثى ، فإن لقح البويضة الحيوان المنوي الذكر ، كان الولد ذكرا ، وإن لقحها الحيوان المنوي المؤنث ، كان الولد أنثى ، (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ، وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها) (سورة الأعراف : آية ١٨٩).

إذن فالزوجية التي كنا نعرفها عن الخلية الجنسية في الحيوان المنوي والبويضة كانت أمرا ظاهرا ، وراءه أمر باطن لا يعلمه كثير من الناس ، وهو أن الحيوان المنوي ذاته أيضا كان منه الزوجان الذكر والأنثى.

وعند ذلك نفهم الآية فهما جديدا ، ما كان لأسلافنا أن يفهموه ، ألا وهو أن قوله تعالى : (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى ، ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى ، فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) أي : جعل من المني الذي يمنى الزوجين الذكر والأنثى.

وهو أوضح وأصرح في قوله تعالى : (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى).

فالآية صريحة في أن الذكر والأنثى من نطفة الرجل ومنيه ، وأن هذا المني يحمل الذكور إلى جانب الإناث أزواجا أزواجا.

ألا ترى معي أيها القارئ الكريم أن هذه الآية من أكبر الأدلة القاطعة على أن هذا القرآن من عند خالق الإنسان والعالم بأسراره وخفاياه ، وأنه يستحيل أن يكون من عند البشر ، إذ لم يكن عند الإنسان حتى عصر قريب أية معلومات عن هذه الحقيقة في الحيوان المنوي ..؟!.

بلى ... ولا يسعنا إلا أن نقول : (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها ، مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ ، وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ ، وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ).

كما لا يسعنا إلا أن نذكر شعار الخلق في القرآن ، الذي أصبح اليوم شعار علماء الكون والحياة : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).

٢٥٤

٣ ـ الزوجية في الكروموسومات

لقد رأينا كيف أن الإنسان كان يعتقد في الماضي أن خلق الزوجين الذكر والأنثى إنما كان من التقاء الزوجين البويضة والحيوان المنوي ، اللذين يكونان الخلية الملقحة ، ثم المضغة ، ثم العلقة ، ثم الذكر أو الأنثى.

إلا أن هذا الظاهر الصحيح الذي ما زلنا نؤمن به قد احتوى على باطن وسر أدق منه وأبدع وأغرب ، وقد عرفنا هذا حينما كشفنا أن الزوجين أيضا كانا سرا في الحيوان المنوي عند الرجل ، وأن نطفته تحمل حيوانا منويا ذكرا وآخر أنثى ، وأن هذه النطفة هي التي تحقق طبيعة الولد. فإن لقحت البويضة بحيوان منوي ذكر كان الولد ـ بإذن الله ـ ذكرا ، وإن لقحت بحيوان منوي أنثى كان الولد أنثى.

بذلك وضعنا أيدينا على سر جديد للآية الكريمة : (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى ، مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى).

وأعلن الإنسان وبكل قوة وفخر أنه وضع يده على سر الخلية الجنسية التي يتكون منها الولد ، وبذلك أضافوا دعامة جديدة لقانونهم وشعارهم أن كل شيء في الكون لا بدّ أن يكون عن طريق الزوجين ، الذي كان نداء الله وكلامه منذ أربعة عشر قرنا : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).

ولكنهم ما إن أعلنوا هذا وفرحوا به ، حتى صاحت بهم الحقيقة من جديد ، لتعلن لهم ثانية أن هذا الذي أدركوه مما كان خافيا عليهم ، إنما هو الآن أمر ظاهر ، وأنه يحتوي في باطنه على سر آخر أبلغ من هذا الذي كشفوه وأدق ، وأنه أيضا قد خلق زوجين زوجين ، مما قال الله فيه (وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ).

٢٥٥

وتابع العلماء المسيرة ، وواصلوا البحث للوقوف على السر الجديد المذهل في الخلية الإنسانية ، والذي خلقه الله أيضا زوجين ، ولكنه في هذه المرة لا ليحدد صفة المولود ، هل هو ذكر أو أنثى ، وإنما ليحدد نوعه ، هل هو إنسان ، أو قرد ، أو حصان ، أو نوع آخر من أنواع الحيوان الكثيرة ، على أنه أيضا كان زوجا زوجا ، على قانون الله في الزوجية في كل شيء.

وذلك أن كل خلية من خلايا الكائن الحي الكثيرة ، والتي تعد بالملايين ، تحتوي في داخلها على نواة ، هذه النواة تحتوي في داخلها على «كروموسومات أو صبغيات» وهذه الكروموزومات أو الصبغيات هي التي تحدد نوع الكائن الحي ، بسبب عددها في الخلية ، فإذا كانت الخلية خلية إنسان ، فإنها تحتوي في داخل نواتها على ستة وأربعين كروموزوما ، وإن كانت خلية قرد من نوع الريسوس ، فإنها تحتوي على (٤٢) اثنين وأربعين كروموزما ، وإن كانت خلية بقر ، فإنها تحتوي على (٦٠) ستين كروموزوما ، وهكذا نجد أن نوع الكائن الحي يختلف باختلاف عدد الكروموزومات فيه.

وهذه الكروموزومات دائمة الانقسام ، بسبب انقسام الخلية ، لتعويض الجسم عن الخلايا التي تموت فيه باستمرار ، والتي تقدر أيضا بالملايين.

والخلية عند ما تنقسم لا بدّ أن يحتوي كل جزء من جزأيها الجديدين على نفس العدد من الكروموزمات ، وإلا لحدثت الكارثة ، وتغير نمو المخلوق وشكله.

ولو كان انقسام الخلية يؤدي إلى أن يأخذ كل قسم من أقسامها نصف الكروموسومات في الخلية الأم ـ لأدى هذا إلى كارثة أفدح ، وذلك أن الخلية ستنقرض بعد عدة انقسامات لها.

ولكن ما هو السر الذي نريده من هذه المعلومة ..؟.

السر في ذلك أن هذه الكروموسومات قد جاءت أيضا أزواجا ، فإنك تجد كل زوجين منها متشابهين تمام الشبه ، ويكون أحدهما إلى جانب الآخر كالقرين له ، ولا سيما في حالتي اجتماع الأزواج وانقسامها.

٢٥٦

ففي الإنسان ثلاثة وعشرون زوجا من الكروموسومات ، كل زوجين منها متشابهان تماما ، إلا الزوج الأخير الثالث والعشرين ، فإننا نجد فارقا بينه وبين زوجته ، وذلك بكون أحدهما أكبر من الآخر ، وهما الزوجان المسئولان عن تحديد الذكورة والأنوثة في الكائن الحي.

وكأن الله ميّز بين الذكر والأنثى حتى على مستوى الصبغيات في الخلية.

وكل زوج من هذه الأزواج قرين لزوجه وملازم له.

وعند انقسام الخلية تنقسم هذه الصبغيات ، ويعطي كل زوج منها زوجا آخر شبيها له مائة بالمائة ، استعدادا للانقسام والتكاثر ، فيصير في الخلية ستة وأربعون زوجا ، ليعود العدد بعد الانقسام إلى ثلاثة وعشرين زوجا ، ولتستمر مسيرة الحياة .. ويستمر الحفاظ على الأنواع.

ف (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها ، مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ ، وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ ، وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ).

ولكن .. هل هذا هو كل ما في الأمر من أسرار الأزواج ..؟.

والجواب على هذا : لا ، كما سنراه في الفقرة القادمة.

٢٥٧

٤ ـ الزوجية في الكروموسومات

في الخلية الجنسية

إن الأمر الأكثر إثارة في أسرار الأزواج في الكروموسومات في الخلية ، على ما عرفناه في الفقرة السابقة ، هو أن جميع خلايا الجسد عند ما تنقسم تعطي في كل خلية جديدة نفس العدد من الكروموسومات ، فنجد أن كل خلية من خلايا الإنسان تحتوي على ثلاثة وعشرين زوجا من الكروموسومات ، أي أنها تحتوي على ستة وأربعين كروموسوما ، إلا في خلية واحدة ، وهي الخلية الجنسية ، فإنها عند ما تنقسم نجد أن الخلية الناتجة عنها والمتمثلة في الحيوان المنوي أو البويضة ، لا تحمل ستة وأربعين كروموسوما ، وإنما تحمل ثلاثة وعشرين فقط ، وكأن الأزواج ينفصل بعضها عن بعض فقط في هذه الخلية ، في الحيوان المنوي والبويضة ..

لم يكون هذا .. وما هو السر الكامن وراءه ..؟.

إننا عرفنا أن ازدياد عدد الكروموسومات أو نقصانها في الخلية يؤدي إلى تغير نوع الحيوان أو انقراضه ـ على ما فصلناه في الفقرة السابقة ـ.

وبناء على ذلك لو أن الخلية الجنسية في الإنسان انقسمت ، وكان الحيوان المنوي يحمل نفس عددها من الكروموسومات ، أي كان يحمل ستة وأربعين كروموسوما ، وكذلك كانت تحمل البويضة نفس العدد ، لكان معنى هذا أنه عند ما يتم الإخصاب والتلقيح بين الحيوان المنوي والبويضة ، سينتج معنا خلية مكونة من اثنين وتسعين كروموسوما ، وهذه خلية حيوان آخر ، وليست خلية الإنسان ، ولكان معنى هذا أن ينقرض النوع الإنساني من أول حمل تحمل به أنثى.

٢٥٨

ولذلك اقتضت حكمة الله أن الخلية الجنسية إذا انقسمت ، يكون الحيوان المنوي المتولد منها حاملا لنصف أعدادها من الكروموسومات أو الصبغيات ، أي أنه يحمل ثلاثة وعشرين كروموسوما فقط ، وكذلك البويضة ، فإذا ما تم التلقيح أو الإخصاب ، كانت الخلية الأولى في الكائن الحي الجديد أو المولود الجديد تحمل نفس العدد من الكروموسومات التي كانت تحملها الخلية الأصلية للإنسان ، أي أنها تحمل ستة وأربعين كروموسوما ، وبعد ذلك تبدأ بالانشطار والتكاثر إلى أن يتم تخلق المولود ، بل إلى أن تنتهي حياته على المنهج المرسوم لها عند خالقها من الأزل.

ولكن أين سر الأزواج في هذا؟ ألسنا نتكلم على الأزواج؟.

بلى ... إننا نتكلم عن الأزواج ، والسر هنا يكمن في أن الحيوان المنوي الذي يحمل ـ كما ذكرنا نصف عدد الأزواج التي كانت تحملها الخلية الجنسية من الكروموسومات ـ إن هذا الحيوان عند ما يلقح البويضة في رحم المرأة ، وتتكون الخلية الأولى ، نجد أن كل كروموسوم من الكروموسومات الثلاثة والعشرين تندفع في هذه الخلية الجديدة ، وكأنها تبحث عن شيء مفقود ، وإذا بكل واحد منها يبحث عن زوجه وقرينه الذي انفصل عنه في الخلية الأساسية ، فإذا ما التقيا تلاصقا ، كما يتم التلاصق بين كل زوجين في حياتنا الظاهرة ، وكأن أحدهما يدلي للآخر بأسراره ، ويطلعه على باطنه ، ويتبادل معه المعلومات السرية التي لا يعلمها إلا خالقه ، والتي سيتكون منها المولود الجديد.

وهكذا تبدأ الخلية الجديدة عملها وحياتها بعد أن تم فيها تركيب الأزواج والتقاؤها ، وتم هيكلها المكوّن من ثلاثة وعشرين زوجا من الكروموسومات ، ولتتجلى لنا الآية القرآنية مرة ثانية ، مرشدة للإنسانية الحائرة إلى عظمة الله وإعجازه في قرآنه : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).

ف («سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها ، مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ ، وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ ، وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ).

وسبحان الذي أوحى إلى عبده الأميّ الذي لم يعرف كتابة ، ولا قراءة ،

٢٥٩

ولا فلكا ، ولا طبّا ، ولا درس تشريحا ، ولا بحث في خلية ، فعلمه ما لم يكن يعلم ، وكان فضله عليه عظيما ، إذ أوحى إليه بأدق تفاصيل الكون والحياة ، مما كان مستحيلا معرفته له ولأمثاله ، ولكل من في الأرض في عصره وبعد عصره لأمد طويل ، ليجعل من ذلك الوحي معجزة هذا الدين الحنيف.

وصدق رسول الله إذ قال : «وكان الذي أوتيته وحيا ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة».

ولكن سر الزوجية لم ينته عند هذا الحد في الخلية ، وإنما تعداه إلى سر آخر كامن وراءه .. ألا وهو الزوجية في الجينات.

٢٦٠