المعجزة القرآنيّة

الدكتور محمد حسن هيتو

المعجزة القرآنيّة

المؤلف:

الدكتور محمد حسن هيتو


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٤٢

ولكن الذي أريده من هذه القصة هو أن الإنسان القديم قد تصور الارتفاع بالجو ، ولكن تصوره كان ساذجا ، متوافقا مع معارفه في ذلك الزمان ، ولذلك لم يحسب أي حساب لخفة ضغط الهواء ، وقلة الأوكسجين ، وضيق التنفس في حال الارتفاع إلى مثل هذه المسافة التي صورها خياله الساذج.

ولو أننا ذهبنا نفكر بالأمر حسب معلوماتنا المعاصرة ، وتصورنا المسافة التي وصل إليها في ارتفاعه حتى أبصر الأرض كعين الديك في الصغر ، لفهمنا أنه قد ارتفع إلى مسافة بعيدة جدا تقارب مسافة الأقمار الصناعية اليوم ، وهذا يعني في معلوماتنا الحديثة أنه من الضروري أن يكون قد تفجرت شرايينه ، ومن ثم اختنق ومات لقلة الضغط ، وعدم إمكانية التنفس ...؟.

فكيف صعد إلى تلك المسافة الموغلة في الفضاء ، ثم رجع إلى الأرض ، دون أن يصاب بأي أذى ، ودون أن يتحدث الروائيون والقصصيون عما صادفه على الأقل من بعض المتاعب في تنفسه وضيق صدره ...

إنه خيال جميل ، وتفكير دقيق سليم ، وربما كان يحالفه الحظ في محاولة الإنسان الطيران .. إلا أنه ساذج بالنسبة لمعلوماتنا المعاصرة ، يدل دلالة قاطعة على أن الإنسان القديم كان على جهل كامل بكثير من الأمور المتعلقة بالفضاء ، ومن أهمها مسألة الضغط الجوي ، ونقص الأوكسجين ، وعدم إمكانية التنفس.

ولم يكن الخيال العربي بأقل من الخيال الإسرائيلي ، فقد نسج العرب أيضا ، وبمعارف بيئتهم ، قصة خيالية عن سيف بن ذي يزن ، الذي شغفهم بقصته حبا ، وزعموا أنه سخر العفريت لحمله ، وأنه ركب ظهره ، وطار به في الجو حتى أبصر الأرض بقدر الكف ، كما ذكرنا في القصة الماضية.

ولكنهم أيضا لم يتعرضوا لشيء عن انخفاض الضغط في مثل هذا الارتفاع الهائل.

والسبب هو ما ذكرناه من أن الإنسان القديم لم يكن على علم بهذه الحقيقة ، إذ لم يجرب أحد أبدا الصعود في السماء .. لأنه لم يكن إلى ذلك من سبيل.

٢٢١

وأنا إذ أذكر هاتين القصتين لا أذكرهما لذاتهما ، وإنما أذكرهما لأصل إلى حقيقة يقينية ، ألا وهي : أن الإنسان لم يكن على أية معرفة بتغير الضغط وقلته كلما ارتفع الإنسان في الفضاء ، وأن هذا يؤدي إلى ضيق التنفس ، وفي مرحلة ما يؤدي إلى تفجر الشرايين والاختناق.

إلا أننا نجد أن القرآن الكريم قد أشار إلى كل هذا بكل صراحة ووضوح ، فقال تعالى: (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ ، وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) (سورة الأنعام : آية ١٢٥).

فالآية تنص وبصريح العبارة أن صدر الإنسان يضيق إذا صعد في السماء ، وأن هذا الضيق يزداد كلما ازداد الإنسان في الارتفاع إلى أن يصل إلى أضيق الضيق ، وهو معنى الحرج في الآية ، كما فسره علماء اللغة.

ولقد عبرت الآية عن هذا المعنى بأبلغ تعبير في قوله تعالى : (كَأَنَّما يَصَّعَّدُ) إذ أن أصلها «يتصعد» قلبت التاء صادا ، ثم أدغمت الصاد في الصاد ، فصارت «يصعد» ومعناه أنه يفعل صعودا بعد صعود ، كتجرع الشراب وتفوقه.

فالآية لم تتكلم على مجرد الضيق الذي يلاقيه المرتفع في الجو ، الصاعد في السماء فقط ، وإنما تكلمت أيضا على ازدياد هذا الضيق كلما ازداد الارتفاع في الفضاء ، وهو معنى قوله تعالى : (يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ).

إن أحدا من المفسرين القدماء لم يتعرض لهذه الآية بهذا المعنى الذي نفهمه اليوم بعلومنا المعاصرة ، ولكن فسروه تفسيرا لغويا بما يتناسب مع معارفهم ، والآية صريحة وواضحة في معاييرنا العلمية اليوم.

فمن الذي علم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الحقيقة العلمية التي كانت خافية على الناس في عصره ، وفيما بعد عصره لأمد طويل.

وكيف تمكن أن يصوغها بهذا الأسلوب الذي يتماشى مع أدق التعبيرات

٢٢٢

العلمية المعاصرة ، إنه الله الذي قال له : (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ، وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً).

إنها الآية الناطقة الدالة على أن هذا القرآن ما كان لأحد أن يفتريه أو يتقوله إذ : (لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً).

ولكنه كلام الله الذي (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) يدل به خلقه في كل زمان ومكان على قدرته وعظمته.

٢٢٣

الآية الخامس عشرة

(وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها)

ونظرية التزحزح القاري

لقد درسنا ونحن صغار في المدارس نظرية التزحزح القاري ، أو نظرية تباعد القارات على النحو المعروف اليوم في الأوساط العلمية.

ولكن ومع الأسف لم نكن حينما درسنا تلك النظريات العلمية في أوساط علمية تحيط بنا خارج مدارسنا ، وإنما كنا في أوساط يمكن أن يقال عن ها إجمالا : إنها أوساط أمية ، كانت امتدادا لفترة الركود التي سيطرت على أمتنا حتى سادها الجهل ، وانتشرت فيها الخرافة ، وبعدت الهوة بينها وبين الحضارة المادية المعاصرة ، وكادت تلحقنا ـ إذا ما قسنا أنفسنا بالحضارة المحيطة بنا في الشرق والغرب ـ كادت تلحقنا بالعصور الحجرية.

ولم يكن في أساتذتنا من يستطيع أن يوجه لنا العلوم لتتوافق مع ما وقر في قلوبنا من معتقداتنا الإسلامية ، إما لجهله بعلوم الشرع ، وإما لغاية في نفسه يريد الوصول إليها.

وكذلك لم نكن نجد في أكثر علماء الشرع من يتقن تلك العلوم ، ولذلك كان يستنكر كل ما من شأنه التطور ، إذ آمن بالخلق المباشر ، ومن ثم كان يقذف كل من تعرض لمثل هذه النظرية ـ كان يقذف بالفسق وربما بالكفر.

ولذلك كنا في حيرة بين الإيمان بالخلق المباشر ، وبين ما كان من قبيل هذه النظرية ، إلى أن نبغ في الأمة من استطاع الإحاطة بالمعتقدات الشرعية ، والعلوم الكونية ، ومن ثم بين أن هذا الذي ندرسه اليوم في كثير من القوانين العلمية

٢٢٤

ليس معارضا لمعتقداتنا ، وليس مكذبا لكتابنا ، ولكنه كاشف عن معجزة جديدة من معجزات هذا الكتاب العظيم.

إن نظرية تباعد القارات تفترض أن جميع القارات كانت في وقت من الأوقات قطعة واحدة متلاصقة ، على أصل الخلقة ، ثم انشقت تلك الأرض ، وبدأت أجزاؤها بالتباعد والانتشار ، وبهذا تشكلت القارات ، وملأت المسافة الفاصلة بينها المياه مشكلة البحار.

وقد طرحت هذه النظرية لأول مرة في العالم عام ١٩١٥ ، حين أعلن خبير طبقات الأرض الألماني الأستاذ «الفريد واجنز» أنه لو قربت القارات جميعا ، فسوف تتماسك ببعضها ، كما يحدث في ألعاب الألغاز التي يتدرب عليها الأطفال لإبراز مهاراتهم.

وإن نظرة سريعة خاطفة لسواحل البحار المختلفة على الكرة المجسمة ، ليدلنا دلالة صريحة وصحيحة على هذا المعنى ، كما يبدو ذلك جليا واضحا لكل ناظر في الساحل الشرقي لأمريكا الجنوبية ، والساحل الغربي لإفريقيا ، أو في سواحل البحر الأحمر ، أو غير ذلك من السواحل.

كما أننا نجد شبها كبيرا على سواحل البحار المختلفة ، كأن نجد جبالا متماثلة عمرها الأرضي واحد.

وكأن نجد فيها دواب وأسماكا ونباتات متماثلة أيضا.

وهذا ما دفع عالم النباتات البروفسور رونالد جود في كتابه «جغرافية نباتات الزهور» هذا ما دفعه لأن يقول :

«لقد اتفق علماء النباتات على النظرية القائلة بأنه لا يمكن تفسير ظاهرة وجود نباتات متماثلة في مختلف قارات العالم إلا إذا سلمنا بأن أجزاء الأرض كانت متصلة بعضها ببعض في وقت من الأوقات».

وقد أصبحت هذه النظرية علمية تماما بعد تصديق «الجاذبية الحجرية» لها.

٢٢٥

فإن العلماء اليوم بعد دراسة اتجاهات ذرات الحجارة ـ يستطيعون تحديد موقع أي بلد وجدت به هضبة تلك الحجارة في الزمن القديم.

وقد أكدت هذه الدراسة في «الجاذبية الأرضية» أن أجزاء الأرض لم تكن موجودة في القديم بالأمكنة التي توجد بها اليوم ، وإنما كانت في ذلك المكان الذي تحدده «نظرية تباعد القارات».

وفي هذا الأمر يقول البروفسور «بلاكيت» :

إن دراسة أحجار الهند تبين أنها كانت توجد في جنوب خط الاستواء ، قبل سبعين مليون سنة ، وهكذا تثبت دراسة جبال جنوب إفريقيا أن القارة الإفريقية انشقت عن القطب الجنوبي قبل ثلاثمائة مليون سنة (١).

لم تكن هذه النظرية معروفة عند القدماء ، لا من قريب ولا من بعيد ، لا في الواقع ولا في الخيال ، ولذلك يستحيل على البشر ، مهما أوتي من العبقرية والذكاء أن ينطق بها أو بما يدل من قريب أو بعيد عليها.

فإذا قرأنا قوله تعالى : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها ، أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها) (سورة النازعات : آية ٢٠ ـ ٢١).

وإذا عرفنا أن معنى الدحو إجمالا هو النثر والتسوية ، إذ يقال : دحى المطر الحصى عن وجه الأرض : أي كشفه.

ويقال للاعب بالجوز : أبعد المدى وادحه : أي ارمه وأزله عن مكانه (٢).

ويقال للفرس : مر يدحو دحوا ، وذلك إذا رمى بيده رميا.

والمدحاة ، كمسحاة ، خشبة يدحو بها الصبي ، فتمر على الأرض ، لا تأتي على شيء إلا اجتحفته (٣).

__________________

(١) الإسلام يتحدى : ص ٢٠٧.

(٢) أساس البلاغة ص ١٨٤ ، مادة (دحو) وفيه خلق الله الأرض مجتمعة ثم دحاها : أي بسطها ، ومدّها ووسّعها.

(٣) انظر المجمل ١ / ٣٤٨ لابن فارس واللسان مادة (دحا).

٢٢٦

وفي حديث ابن عمر : فدحا السيل فيه بالبطحاء» أي رمى وألقى.

وقال ابن الأعرابي : يقال : هو يدحو بالحجر بيده ، أي يرمي به ويدفعه (١).

قال أوس بن حجر :

ينزع جلد الحصى أجشّ مبترك

كانه فاحص أو لاعب داحي

وبهذه يتبين لنا أن معنى دحى : قذف ، أو رمى ، أو دحرج ، أو دفع ، وكلها بمعنى الحركة ، والإبعاد ، والانحراف ، وهذا هو نفس المفهوم لكلمة DriFT الإنجليزية ، التي استخدمت في التعبير عن النظرية الجغرافية الحديثة.

إننا إزاء هذا التوافق المدهش العجيب الذي ورد في القرآن الكريم قبل قرون كثيرة وبين ما اكتشف في الأمس القريب ، لا يمكننا إلا أن نسلم بأن هذا الكلام لا يمكن أن يصدر في ذلك الماضي البعيد إلا من قبل عالم بحقائق الكون ومدرك لأسراره إنه كلام الله.

على أن بعض من كتب في هذه الآية استدل بها على انفصال الأرض عن السديم ، وبعضهم استدل بها على كروية الأرض وبيضويتها ، وكلها معان سائغة جائزة.

إذ الدلالة في هذه الآية على هذه المعاني من قبيل الظاهر ، لا من قبيل النص ، والكل محتمل ، ولكل مجتهد نصيب.

__________________

(١) انظر اللسان مادة (دحا).

٢٢٧

الآية السادس عشرة

(أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً ، وَالْجِبالَ أَوْتاداً)

وتوازن الارض بالجبال

قال الله تعالى في معرض الامتنان على الإنسان : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً ، وَالْجِبالَ أَوْتاداً) (سورة النبأ : آية ٦ ـ ٧).

وقال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ ، وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً ، وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) (سورة الرعد : آية ٢).

وقال جل وعلا : (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ ، وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) (سورة الحجر : آية ١٩).

وقال : (وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ ، وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) (سورة الأنبياء : آية ٣١).

وقال جل شأنه : (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً ، وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً ، وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ ، وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً ، أَإِلهٌ مَعَ اللهِ ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (سورة النمل : آية ٦١).

وقال : (وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ ، وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً) (سورة المرسلات : آية ٢٧).

فنحن نرى في كل هذه الآيات السالفة الذكر ـ نرى معنى واحدا يواكبها ، من أولها آلى آخرها ، ألا وهو معنى أن الجبال عنصر التوازن والثبات للأرض ، تثبتها وتمنعها من أن تميد وتضطرب ، وتعمل فيها التوازن والاستقرار.

٢٢٨

فما هي حقيقة الجبال؟ وما الذي كشفته هذه الآية من وجوه الإعجاز؟.

سؤال يجيب عنه العلم الحديث والمكتشفات الجديدة ... وذلك أن طبقة السيال ، أو طبقة القشرة الأرضية التي نعيش عليها ، هي التي تشكل القارات ، وتحتضن المحيطات ، وترتفع جبالا في مكان ، وتنخفض وديانا في مكان آخر ، وتشكل السهول الخضراء ، والصحارى المقفرة.

وتلي هذه الطبقة مباشرة ضمن ترتيب طبقات الأرض تليها طبقة السيما.

وطبقة السيما هذه أصلب من طبقة السيال ، ولكنها تحت ثقل طبقة السيال الهائل يصبح لها قوام عجيني ، ما دام الثقل فوقها ، وهذا القوام العجيني يسهل انزلاق القارات عليها ، كما عرفناه في الآية السابقة ، كما يسهل اندفاع البراكين منها.

فقارة أمريكا تنزلق حاليا نحو الشرق بسرعة ملحوظة للقياسات العلمية ، كما هو شأن جميع القارات ، إذ كانت متصلة ثم انفصلت وتباعدت.

وأثناء هذا الانسياح المجهول الأسباب للقارات ، تعاني مقدمة القارة ضغطا من السيما يجعد وجهها فتحدث الجبال بقممها البارزة في الهواء ، وجذورها الغائرة في السيما.

ومن المعتقد أن القسم البارز من الجبل يقابله جذر أطول منه بأربع مرات ونصف ذاهب في السيما.

وهذه الجذور الغائرة تشكل وتدا يمنع القارة من التمادي في الانزلاق.

فالقارة الأمريكية تنزلق بسرعة تزيد عن المتر في السنة ، ولكن القوة التي تدفعها للانزلاق كان من الممكن أن تدفعها بسرعة تبلغ كيلومترات كثيرة ، لو لا وجود الأوتاد الجبلية الممتدة في السيما (١).

__________________

(١) براهين : ص ٣٠ ـ ٣٨.

٢٢٩

ولو حدث هذا لأدى إلى عدم استقرار الأرض ، بل لأدى إلى اندثار الحضارة من فوقها ، لعدم إمكانية الاستقرار عليها باختلال توازنها وميدانها.

أو يستطيع الإنسان المسلم اليوم أن يفهم معنى جديدا لقوله تعالى : (وَالْجِبالَ أَوْتاداً)؟.

وهل نستطيع أن نفهم في ضوء معطيات العلم الحديث اليوم معنى قوله تعالى : (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ)؟.

نعم .. وإنه الفهم المظهر لإعجاز القرآن.

يقول الأستاذ «انجلن» :

«من المفهوم الآن أن المادة الأقل وزنا ارتفعت على سطح الأرض ، على حين أصبحت أمكنة المادة الثقيلة خنادق هاوية ، وهي التي نراها الآن في شكل البحار ، وهكذا استطاع الارتفاع والانخفاض أن يحافظا على توازن الأرض».

ويقول عالم آخر : «وفي البحار أيضا توجد وديان تشبه وديان البر ، ولكن وديان البحر أكثر غورا وأبعد عمقا من تلك التي توجد في البر» ومن الظواهر المحيرة أن هذه الخنادق البحرية توجد قرب السواحل البرية ، بدل أن توجد في أعالي البحار ، وهذا يدل

على أن هناك علاقة بين طول الجبال والخنادق البحرية ، وهو أن الأرض يقوم توازنها على أساس الارتفاع والعمق في أجزائها المختلفة» (١).

إذن فهذه الجبال تعتبر من أهم عناصر توازن الأرض وثباتها ، كما أنها تعتبر أوتادا تثبتها وتمنعها من الانسياب السريع الخطير ، الذي لو حدث لأدى إلى انقراض الحضارة من فوقها.

وهذا المعنى بذاته هو الذي عبرت عنه الآية القرآنية وبكل صراحة ووضوح ، فهذا معنى قوله تعالى : (وَالْجِبالَ أَوْتاداً) وقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ

__________________

(١) الإسلام يتحدى : ص ٢٠٤.

٢٣٠

الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً) ومعنى قوله تعالى : (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) وقوله : (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ).

فكيف عرف محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الجبال أوتاد الأرض ...؟.

بل كيف عرف أنها هي عنصر ثباتها وتوازنها ..؟ وفي الوقت الذي كان الإنسان يجهل فيه جهلا كاملا كل ما يتعلق بطبقاتها وطبيعة تكوينها ..؟.

إن هذا الكلام لا يمكن لأي إنسان في الأرض أن يقوله في ذلك العصر ، مهما أوتي من العبقرية والذكاء والدهاء.

إن أي عاقل يسمع هذا الكلام اليوم ويقيسه بمعطيات العلم الحديث ، ليقطع بأن هذا الكلام معجز ، وأنه ليس من صنع البشر ولا هو داخل في طاقاتهم وتحت إمكانياتهم ، وإنما هو كلام الله خالق الأرض ، والعارف بحقيقة تكوينها ومتطلبات ثباتها واستقرارها.

٢٣١

الآية السابع عشرة

(وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ)

وقانون التوازن المدهش في الأرض

قد يضيق الإنسان ذرعا ببعض ما يرى من حيوان لا يرى له نفعا ، أو حشرة تلحق به ضرا ، أو نبات يؤذي محصوله الزراعي ويشوه حديقته!.

فكم وكم تذمر الإنسان من الذباب ، وكم تأذى من العقرب والأفعى ، وكم ضايقته الحشائش الممتدة بين الزرع وأتلفت محاصيله الفئران.

ولكن ... ألم يكن الإنسان بحاجة إلى هذه المخلوقات؟.

وهل وجد فيها إلى جانب ذلك الضر بعض ما يحتاجه مما هو نافع له ومفيد؟.

وهناك بعض النباتات التي تعتبر سريعة في نموها ، والغابة بيئة خصبة لها ، ولكنها مع ذلك لم تجتح الغابة بأسرها ، وإنما اكتفت بجانب من جوانبها .. لم والظروف كلها مساعدة لها ..؟.

إننا سنقف على الجواب ـ واضحا وصريحا ـ على كل هذه التساؤلات في قوله تعالى: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ ، وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) (سورة الحجر : آية ٢١).

وقوله تعالى : (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) (سورة الرعد : آية ٨).

وقوله تعالى : (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها ، وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ ، وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) (سورة الحجر : آية ١٩).

٢٣٢

لقد اضطر أهل استراليا في وقت ما لزراعة نوع من الصبار كسياج وقائي لهم ، وكان هذا النوع سريع النمو والانتشار ، ولم يكن في استراليا أي نوع من الحشرات يعاديه ، فنمى ، وتمادى ، حتى غطى في استراليا مساحة كبيرة تقرب من مساحة انجلترا ، وضايق أهل المدن والقرى ، وأتلف مزارعهم ، وحال دون الزراعة ، وصار أهل استراليا أمام هذا الجيش الزاحف إليهم من كل حدب وصوب ، مما يهدد حياتهم ، مما اضطر علماء الحشرات للبحث في جوانب الأرض عن عدو لهذا الجبار العنيد ، يقف في وجهه ، ويمنع انتشاره ، فعثروا في إحدى البلدان على حشرة لا تعيش إلا على الصبار ، ولا تتغذى بغيره ، وهي سريعة الانتشار بنفس الوقت.

ولم تمض إلا فترة قصيرة حتى تمكنت هذه الحشرة من الوقوف في وجه الصبار ، بل اضطرته إلى التراجع ، وأنهت مصائب أهل استراليا.

إلا أنها في نفس الوقت تراجعت هي أيضا ، ولم يبق منها سوى بقية قليلة ، وكأنها جيش احتياطي للوقاية ، يكفي لصد الصبار عن الانتشار إلى الأبد ...؟.

فلو لا هذه الحشرة لضاقت الأرض بأهل استراليا ، ولو بقيت الحشرة في نفس أعدادها السابقة ، ولم تتراجع هي أيضا ، لقضت على ذلك النوع من الصبار الذي يحتاجون إليه.

إذن لم يكن خلق الصبار عبثا ، وإنما لحاجة الناس إليه ، كما لم يكن خلق تلك الحشرة المضادة له عبثا ، وإنما لحاجة الإنسان إليها ، للوقوف في وجه الصبار الذي يمكن أن يهدد حياة الناس بسرعة انتشاره ، كما حدث للناس في استراليا.

إنه أعظم توازن في نظام البيئة والحياة ، يضمن الاستقرار والدوام للجميع ، ولولاه لعدا بعض الأنواع على بعضها الآخر ولا ختل توازن الحياة.

وهذا الذي نراه في النبات والحشرات ، نراه في كل ظاهرة من ظواهر الكون والحياة.

٢٣٣

لقد استفاد العلماء حتى من الفئران والعقارب والأفاعي ، فاستخرجوا منها أمصالا واقية لبعض الأمراض.

وما تزال التجارب تجري على كل نوع من أنواع النباتات والحشرات ، لإيمان العلماء أنه لا بد أن يوجد فيها ما يحتاج الإنسان إليه ، ضمانا لتوازن الحياة واستقرارها.

وإن نظرة سريعة خاطفة إلى معالم هذه الكون لتعطينا فكرة دقيقة وبالغة عن هذا التوازن الدقيق العجيب فيه.

فالأرض كرة معلقة في الفضاء ، تدور حول نفسها مرة كل يوم ، فينتج عن ذلك الليل والنهار.

وتدور حول الشمس مرة كل عام ، فينتج عن ذلك الفصول الأربعة ، وهذا يؤدي إلى زيادة مساحة الجزء الصالح للسكن على سطحها ، ويزيد من اختلاف الأنواع النباتية أكثر مما لو كانت ساكنة ، بل لو سكنت لأدى هذا إلى انقراض الحياة عن أجزاء كثيرة منها ، بل ربما أدى لانقراض الحياة.

ويحيط بالأرض غلاف غازي يشتمل على الغازات اللازمة للحياة ، وبنسب ثابتة معروفة ، لو عدا بعضها على بعض بالزيادة أو النقص لأدى أيضا إلى اضطراب الحياة.

فلو زاد مقدار الأوكسجين مثلا عن مقداره العادي إلى الضعف ، لأدى هذا إلى انتشار الحرائق التي لا يتمكن الإنسان من السيطرة عليها ، كما أنه لو نقص لأدى إلى اضطراب الحياة.

والأرض بيئة ثابتة لحياة كثير من الكائنات الأرضية ، فتربتها تحتوي على العناصر التي يمتصها النبات ويحولها إلى أنواع مختلفة من الطعام ، يفتقر إليها الكائن الحي ، كما يوجد فيها كثير من المعادن ، مما هيأ لقيام الحضارة عليها.

وأما حجمها فصغير إذا ما قيس بالفضاء الذي تسير فيه ، لكنها لو كانت صغيرة كالقمر ، لعجزت عن الاحتفاظ بالغلاف الجوي والمائي الذين كانا يحيطان

٢٣٤

بها ، لضعف جاذبيتها ، ولصارت درجة الحرارة فيها بالغة حد الموت بالبرودة ولو تضاعف قطرها الحالي ، لزادت جاذبيتها للأجسام إلى الضعف مما هي عليه الآن. ولا نكمش الغلاف الغازي الذي يحيط بها ويحفظها من الشهب ، ولزاد الضغط الجوي على كل بوصة مربعة من خمسة عشر رطلا إلى ثلاثين رطلا من الضغط الجوي ، مما يترتب عليه أسوأ الأثر على الحياة ، إذ يتضاءل حجم الإنسان حتى يصير بحجم السنجاب ، ولتعذرت الحياة الفكرية.

ولو بعدت الشمس إلى ضعف بعدها الحالي لنقصت كمية الحرارة التي تتلقاها من الشمس إلى ربع كميتها الحالية ، ولطالت دورتها حول الشمس ، ولنتج عن ذلك طول فصل الشتاء ، وتجمدت الكائنات الحية على سطحها.

ولو نقصت المسافة إلى نصف ما هي عليه الآن لكان الأمر على العكس ، إذ يقصر زمن الشتاء ، وتزداد الحرارة لدرجة تستحيل معها الحياة.

ولو كانت القشرة الأرضية أكثر سمكا مما هي عليه الآن بمقدار عشرة أقدام ، لما وجد الأوكسجين ، إذ أن القشرة الأرضية تمتصه ، وبدونه لا تدوم الحياة.

وكذلك لو زاد عمق المحيطات والبحار بضعة أقدام عما هي عليه الآن ، لانجذب ثاني أكسيد الكربون والأوكسجين حتى يمتصهما الماء ، ولاستحال وجود النبات على الأرض علاوة عن وجود الحياة.

وهذا الذي نذكره عن الأرض ، نذكره عن كل ما هو موجود في هذا الكون ، من إنسان وحيوان ونبات وجماد.

إذن فلم يخلق شيء في هذا الكون عبثا ، وكل شيء فيه مقدر بمقدار دقيق ، يضمن التوازن في الحياة والاستقرار عليها.

وهذا ما أشارت إليه آيات القرآن الكريم في الزمن الذي كان الإنسان لا يعرف فيه شيئا عن هذا التوازن الدقيق المدهش العجيب ، وفي معظم جوانب الحياة.

٢٣٥

على أن هذه الآيات وردت بأبلغ صيغ العموم لتدل على أن هذا التوازن موجود في كل كائن في هذا الكون الفسيح.

(وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ ، وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ).

(وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ ، وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ).

إنها الكلمات المعجزة المدهشة الدقيقة الدالة على أنها كلمات الخالق العليم الحكيم ، الذي أتقن كل شيء خلقه وأحاط به علما.

٢٣٦

الآية الثامن عشرة

(وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)

وشعار علماء الكون والحياة

في

قانون الزوجية اليقيني

لقد تكرر ذكر خلق الأزواج في القرآن الكريم من أوله إلى آخره مرات كثيرة ، وفي جوانب متعددة من جوانب الحياة ، بل نصت بعض الآيات على أن كل شيء خلق في هذا الكون خلق على قانون الزوجية ...

فقال تعالى : (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً ، فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ ، وَرَبَتْ ، وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (سورة الحج : آية ٥).

وقال : (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) (سورة الرعد : آية ٢).

وقال : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) (سورة الشعراء : آية ٧).

وقال جل وعلا : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (سورة الذاريات: آية ٤٩).

وقال : (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) (سورة النجم : آية ٤٥).

وقال : (وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها ، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ) (سورة الزخرف : آية ١٢).

٢٣٧

ثم قال تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها ، مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ ، وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ ، وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) (سورة يس : آية ٣٦).

إلى آيات كثيرة في القرآن الكريم تتكلم عن الأزواج ، وعن خلقها ، وأن هذه الأزواج موجودة في جميع معالم الكون والحياة ، (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).

إذن فالزوجية لا بد أن تكون موجودة في كل شيء يمكن للإنسان أن يضع يده عليه ، وليست مقصورة على ما يكون من الذكر والأنثى في النبات أو الحيوان ، أو على ما يمكن أن يتصف بالذكورة والأنوثة ولو مجازا ..

لأن الصيغة التي وردت من أبلغ صيغ العموم وأكملها (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).

رأي علماء السلف وأقوالهم في الزوجين.

إن هذا الذي ذكرته من أن الزوجية شاملة لكل شيء مما هو مفهوم من الآية الكريمة ، لم يكن فهما خاصا لأهل العصر الحاضر ، بل هو ما فهمه السلف رضوان الله عليهم من مقتضى دلالة هذه الصيغة في هذه الآية.

ولكن فهمهم لهذه الآية كان ضمن طاقاتهم وإمكانياتهم ومعارفهم ، فيما وضعوا عليه أيديهم من معالم الكون والحياة.

فقد روى الإمام الطبري عن مجاهد أنه قال في هذه الآية : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) قال :

الكفر والإيمان ، والشقاوة والسعادة ، والهدى والضلالة ، والليل والنهار ، والسماء والأرض ، والإنس والجن.

وروى عن الحسن البصري أنه قال في هذه الآية : الزوجان هما الشمس والقمر.

وروى عن ابن زيد أنه قال فيها : هما الذكر والأنثى ، وقرأ : (وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ) قال : امرأته.

٢٣٨

ثم قال الطبري : وأولى الأقوال في ذلك قول مجاهد ، وهو أن الله تبارك وتعالى خلق لكل ما خلق من خلقه ثانيا له ، مخالفا في معناه ، فكل واحد منهما زوج للآخر ، ولذلك قيل : زوجين.

وإنما نبه جل ثناؤه بذلك ـ نبه خلقه على قدرته على خلق ما يشاء خلقه من شيء ، وأنه ليس كالأشياء التي شأنها فعل نوع واحد دون خلافه.

إذ كل ما صنعته فعل نوع واحد دون ما عداه ، كالنار التي شأنها التسخين ، ولا تصلح للتبريد ، وكالثلج الذي شأنه التبريد ، ولا يصلح للتسخين ، فلا يجوز أن يوصف بالكمال.

وإنما كمال المدح للقادر على فعل كل ما يشاء فعله من الأشياء المختلفة والمتفقة (١) اه.

ولو أننا تتبعنا كتب المفسرين على اختلاف مناهجهم من السلف والخلف إلى عصر النهضة العلمية ، لوجدناها متفقة تقريبا على هذا الذي قاله الإمام الطبري رحمه‌الله تعالى ، مع توسع بعضهم في تعداد الأنواع التي لها ضد أو نقيض ، أو ند أو شبيه ، واختصار بعضهم الآخر واكتفائه بذكر الذكر والأنثى.

وهذا هو الذي كانوا يشاهدونه أو يعلمونه رضي الله عنهم.

ما تحتمله الآية من الدلالة :

ولكن هل هذا الذي ذكروه هو كل ما نستفيده من هذه الآيات التي تتحدث عن خلق الزوجين ..؟.

الجواب وبكل تأكيد : لا ..

__________________

(١) الطبري : ٢٧ / ٧.

٢٣٩

وهذا الذي يشير إليه قوله تعالى في سورة يس : (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها ، مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ ، وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ ، وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ).

إذن فليس الأمر في خلق الزوجين مقصورا على ما كان معروفا للناس في القديم.

وإنما هناك أشياء أخرى خلقها الله زوجين زوجين ، مما لم يعرفه الإنسان القديم ، وكشفت عنه العلوم الحديثة بوسائلها العلمية الدقيقة المذهلة المعاصرة ، التي أعطت الإنسان من القدرة على الإدراك أضعاف ما كان يملكه الإنسان القديم آلاف المرات ، من المجاهر الإليكترونية ، والمقاييس الدقيقة الحساسة ، وسفن الفضاء ، والقوانين العلمية.

فلقد توصل العلماء في العصر الحديث إلى إدراك الكثير والكثير من خلق الأزواج ، مما كان مجهولا في الماضي ، ومما نفهم به معنى جديدا في قوله تعالى : (وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ).

بل لنفهم من هذه الآية وما في معناها أنها يستحيل أن تكون من قول البشر ، وإنما هي من قول خالق الأرض والسماء ، وعالم السر والعلن ، إذ أخبرت عن الزوجية في أشياء لم يكن أهل العصر الأول يعرفونها ، وإنما هي من معارف هذا العصر ، كما أخبرت الآيات التي في معناها بأن الزوجية في كل شيء يمكن للإنسان أن يضع يده عليه ، فإن أدرك الزوجية به ، فبها ونعمت ، وإلا فسيدركها الجيل أو الأجيال القادمة ، بما يمكن أن يتوصلوا إليه من معارف ووسائل ، ولذلك فإنه يجب عليه أن يتابع البحث عنها.

الأزواج التي كشفتها المعارف الحديثة :

بعد هذه المقدمة التي ذكرناها عن الأزواج سوف يتساءل القارئ عن الأزواج التي اكتشفها الإنسان الحديث ، بوسائله العلمية المعاصرة ، والتي لم تكن معروفة للإنسان القديم ، ومما يستدل به على الإعجاز في القرآن الكريم ...

ويحق له أن يتساءل ...

٢٤٠