المعجزة القرآنيّة

الدكتور محمد حسن هيتو

المعجزة القرآنيّة

المؤلف:

الدكتور محمد حسن هيتو


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٤٢

عصر الحضارة الإسلامية النشط مع الازدهار العلمي الذي واكبها ، لاحقا لنهاية تنزيل القرآن (١).

إذن لو أراد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يتكلم على الفلك بمعارفه وعلومه ، لتكلم بنفس المعارف التي كانت شائعة في ذلك العصر.

ولكن القرآن نزل بعبارات فيها إشارات خفية إلى ما لم تعرفه البشرية إلا في عصرها الحديث.

فقال تعالى : (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) (سورة الرعد : آية ٢).

فقد كانت هذه الآية مطابقة لما كان يراه الرجل القديم ، فإنه كان يشاهد عالما كبيرا قائما بذاته في الفضاء ، مكوّنا من الشمس ، والقمر ، والنجوم ، ولكنه لم ير أية سارية أو عمود تقوم عليها تلك الكواكب.

إلا أن الرجل الجديد يشاهد في هذه الآية تفسيرا لمشاهداته التي تثبت أن الأجرام السماوية قائمة دون عمد في الفضاء اللانهائي ، بيد أن هنالك عمدا غير مرئية ، تتمثل في قانون الجاذبية ، وهي التي تساعد كل هذه الأجرام على البقاء في أماكنها المحددة لها ، فلا تسقط على الأرض ، ولا يصطدم بعضها ببعضها الآخر» (٢).

وبهذا يظهر لنا سر التعبير القرآني «بغير عمد ترونها» مما يشير إلى وجود عمد غير مرئية وهي ما يتم بفعل الجاذبية وقانونها.

إن الكلام لو لم تذكر فيه كلمة «ترونها» لتام وكامل ومفهوم ، ولكنها زيدت ـ والله أعلم ـ لهذا الغرض ، لتلفت نظر الإنسان إلى وجود شيء غير مرئي سيدركه الإنسان يوما ما بعقله وإن لم يره بعينه ، ألا وهو قانون الجاذبية ، ليدل كل ذي

__________________

(١) دراسة الكتب المقدسة : ص ١٥٤.

(٢) الإسلام يتحدى : ص ١٩٨.

١٨١

عقل على أن هذا الكلام لا يمكن أن يصدر من قبل البشر في ذلك العصر الذي لم يكن عند الإنسان أية معلومة عن هذا القانون ، بل كان يتخبط في متاهات الأوهام حول تعلق الكواكب في الفضاء.

١٨٢

الآية الثالثة

(وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها)

وحركة الكواكب

قال تعالى : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ، ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ).

وقال : (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ ، وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ ، وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (سورة يس : آية ٤٠).

ولم تكن هذه العبارات موضع دهشة واستغراب لدى الإنسان في العصر القديم ، فإنه كان يرى حركة النجوم والكواكب ، ويرى في بعض الحالات تباعدها عن أماكنها ، ولكنه ما كان يعرف شيئا عن حركة الشمس ، كما لم يكن يعرف شيئا عن مفهوم الفلك الذي يدور فيه كل كوكب.

فجاءت الآية القرآنية بمعارف جديدة ، لم تكن معروفة في ذلك العصر ، مما يدل على أن هذا الكلام ليس من كلام البشر ، وإنما هو من كلام الله.

وفي هذه الآية يقول موريس بوكاي : «إن القرآن لا يذكر المفهوم الفلكي القديم عن مركزية الأرض ، ودوران الشمس حولها ، بل يذكر أن كلا من الشمس والقمر يجري في فلكه موافقا بذلك العلم الحديث.

ويقول : إن القرآن قدم مفهوما جديدا لم يكن يعرف في عصره ، وهو مفهوم الفلك الذي يدور فيه كل كوكب.

ثم يقول : إن دوران الشمس الذي تحدث عنه القرآن ، هو حركة الشمس ضمن مجرتها حول مركز المجرة ، بسرعة ٢٥٠ كم في الثانية ، كما أثبت العلم الحديث.

١٨٣

ثم دافع هو نفسه عما يمكن أن يقال من أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مفكرا عظيما حين تحدث عن حركتي الشمس والقمر ، كما يتحدث عنهما الفيثاغورثيون ، الذين توصلوا إلى أن الأرض تدور حول الشمس ، لا العكس.

دافع عن هذا بقوله : إن الفيثاغورثيين أصابوا هنا ، ولكنهم أخطئوا في كون الشمس ثابتة لا تتحرك ، وأنها مركز العالم ، فهم قد جمعوا بين الخطأ والصواب ، وهذا لا يجعلهم كالقرآن الذي لم يخطئ أبدا» (١).

نعم .. إنها شهادة حق من باحث منصف ، تطابق الواقع الذي لا يمتري فيه عاقلان.

إنه لأمر أعجب من العجيب ، وأغرب من الغريب أن نجد أميّا نشأ في الصحراء ، بعيدا عن فلسفة اليونان ، وقوانين الرومان ، وحكمة الهند ، ونظريات أرسطو وأفلاطون وفيثاغورث .. ، ومع ذلك فهو يتحدث عن النظام الفلكي بأبلغ كلام وأدقه وأحكمه ، وبما يتناسب لا مع كلام الرياضيين اليونان ، وإنما مع معارف القرن العشرين ، دون اضطراب أو تناقض ، ويرى الناظر فيه أنه كان تصحيحا لمعتقدات البشر من فلاسفة ورياضيين وفلكيين ، مع ما أضافه إليها من المعارف ، قبل قرون عديدة من عصر النهضة الذي وقف فيه الإنسان في نهاية مطافه على ما قاله القرآن.

أو يجوز لعاقل بعد هذا أن يقول : إن هذا القرآن من صنع محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم وتأليفه ..؟.

أو أنه من إيحاءات البشر وكهانتهم وتعاليمهم؟.

لو كان كذلك لكان يجب على أحسن أو أسوأ الاحتمالات أن ينطق بمعارف ذلك العصر وتعاليمه ، إلا أنه لم يعرف تعاليمهم ، وعند ما نطق بموضوعها نطق مخالفا لها ومعلنا عن خطئها ، مما يدفعنا وبكل ثبات ويقين أن نقول : إن هذا لهو الدليل القاطع على أن هذا القرآن ليس من صنع البشر ، ولا من تعاليمهم وإيحاءاتهم ، وإنما هو من كلام خالق الأرض والسماء ، والعالم بالسر والعلن ، إنه كلام الله.

__________________

(١) دراسة الكتب المقدسة : ص ١٧٥ ـ ١٧٨.

١٨٤

الآية الرابعة

(يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ ، وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ)

وكروية الارض

لقد تكلم القرآن الكريم على الليل والنهار ، بعبارات واضحة مشرقة ، لا ينكر السامع معنى من معانيها مهما بلغ به الجهل في العلوم والمعارف ، ولذلك كانت متناسبة تماما مع معارف الناس حين نزل القرآن ، ولكنها كانت تحتوي على إشارات إلى معارف أخرى لم يكن للناس في ذلك الوقت معرفة بها ، ألا وهي الإشارة إلى كروية الأرض ودورانها ..

قال تعالى : (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ ، وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) (سورة لقمان : آية ٢٩).

وقال : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً) (سورة الأعراف : آية ٥٤).

وقال : (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ) (سورة الزمر : آية ٥).

إن هذه الآيات تشرح للإنسان سر مجيء الليل بعد النهار ، والنهار بعد الليل.

وهذه حقيقة يدركها كل إنسان من أقدم العصور ، ولذلك لم يجد فيها ما يثير دهشته ، ويلفت انتباهه.

إلا أن الإنسان المعاصر قد وجد فيها شيئا آخر تضمنته وأشارت إليه ، لم يكن الإنسان القديم يعرف عنه شيئا إلا وهو دوران الأرض محوريا حول نفسها وكرويتها ، والذي لم يكشفه الإنسان إلا في العصر الحديث.

١٨٥

لننظر إلى قوله تعالى : (يَطْلُبُهُ حَثِيثاً) فإن فيه إشارة إلى التتابع والتلاحق والجريان ، دائما وأبدا ، دون توقف أو انتظار.

ولكن إلى أين يجريان ويتتابعان ، وكيف ..؟

هل يجريان في طريق مستقيمة إلى اللانهاية ..؟ إذا لكان من المفترض ألا يمر على الأرض إلا ليل واحد ونهار واحد ...

لكننا كنا وما زلنا نراهما متعاقبين متتابعين وفي نظام واحد ، تطلع الشمس من المشرق ، وتغيب في جهة المغرب.

لنتأمل هذه الصورة الفنية في القرآن الكريم ، ثم ننتقل إلى الصورة الأخرى في قوله تعالى : (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ ، وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ) (سورة الزمر : آية ٥). نجد أن الآية واضحة كل الوضوح في حركة الأرض ودورانها.

فهناك تكوير الليل على النهار ، ليخفيه ويكون الليل.

وتكوير النهار على الليل ، ليمحوه ويكون النهار.

وبين هذين التكويرين نرى جرما كرويا يتحرك بينهما فيجعلهما يتكوران أحدهما على الآخر.

فغشيان الليل النهار ، وغشيان النهار الليل ، لم يكن بشكل عادي مستقيم ، وإنما كان بالتكوير ، الذي لا يمكن أن ينتج إلا عن حركة جسم كروي فيه (١) ، يدور حول محوره.

فكيف يمكن تفسير هذه الظاهرة القرآنية على زمن اليقينيات العلمية ، وسط صحراء جزيرة العرب.

إنها لا تفسير لها ولا حل ، إلا بالقول بأنها من وحي الله.

__________________

(١) براهين : ص ٧٤.

١٨٦

الآية الخامسة

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً)

وحقيقة الشمس والقمر

قال تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً) (سورة الفرقان : آية ٦٢).

وقال : (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ، وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً ، وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) (سورة نوح : آية ١٦).

وقال : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً ، وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ) (سورة يونس: آية ٥).

ونحن إذا رجعنا إلى معنى السراج ومعنى المضيء في اللغة وجدناهما معنيين مختلفين.

وذلك أن السراج لا يطلق إلا على ما كان يبعث مع الشعاع حرارة ، وأن المنير هو الذي يبعث ضياء لا حرارة فيه.

كما أننا لا نقول عن الشيء سراجا إلا إذا كان يبعث الحرارة من داخله وجوهره ، ونقول عنه إنه منير إذا انعكس عليه الضوء من جرم آخر.

وبناء على هذه التفرقة اللغوية تكون الآية ناطقة بأن القمر جرم بارد لا حرارة فيه ، وأنه يكتسب أشعته ونوره من جرم آخر ، ثم يعكسه على الأرض.

وأن الشمس مضيئة إضاءة ذاتية بأشعة حارة ، ولذلك وصفها الله تعالى بالتوهج في قوله : (وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً) (١) (سورة عم : ١٣).

__________________

(١) وانظر هذا الموضوع في دراسة الكتب المقدسة لبوكاي ص ١٧٥ ، ومقال الدكتور البوطي في الموضوع في مجلة العربي عدد ٢٤٦ ، ص ٥٥.

١٨٧

وهذه هي الحقيقة العلمية لكل من الشمس والقمر ، كما تقول معارفنا الحديثة.

إذن فقد جاءت الآية القرآنية كاشفة عن الحقيقة العلمية اليقينية التي آمن العلم بها ، وأذعن لها ، ليثبت أن القرآن الكريم لم يحد أبدا عن الحقائق العلمية ، ولم يصدمها في أي جزئية من جزئياتها ، مع كثرة ما تعرض له منها ، وفي زمن لم يكن يعرف الإنسان فيه شيئا عنها ، أو أنه عرف بعض الشيء الذي اختلط فيه الحق بالباطل.

فهل يمكن أن يكون كل هذا من صنع الإنسان ..؟ وهل هذا في طاقته ..؟.

إن الجواب الذي يمكن أن يقوله كل عاقل وبثقة وتثبت هو ما قاله الله تعالى : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً).

١٨٨

الآية السادسة

(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ

إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ، ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ)

والحياة الاجتماعية عند الحيوان

لم يكن الإنسان القديم يعرف شيئا عن النظام الاجتماعي للحيوانات المبثوثة في الأرض ، وإن كان يعرف بعض الظواهر الساذجة عن بعض أفرادها.

ونزلت آيات القرآن الكريم تتحدث عن هذا الموضوع بشيء غير مألوف ولا معروف ، من أن هذه الحيوانات أمم كأمثال بني آدم.

ومعنى هذا أن لكل نوع من أنواع الحيوان ما للأمة من بني آدم من الروابط والمقومات التي تحتاج إليها الأمة ، من النظام ، ووسيلة التفاهم ، وغير ذلك من المقومات الضرورية للأمة.

فقال تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ ، وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ، ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ، ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) (١).

وكان الإنسان المؤمن في الصدر الأول يسمع هذا الكلام ، ويؤمن به على ما هو مفهوم من ظاهره ، إيمانا بالغيب ، لأنه يعلم أن ما يخبر الله به حق لا مرية فيه ، وإن لم يفهم حقيقته ، إذ لم يكن لديه في ذلك الوقت من المعارف ما يمكنه من الوقوف على حقيقة الأمة عند الحيوان ...

__________________

(١) سورة الأنعام : آية ٣٨.

١٨٩

وأما غير المسلمين من أصحاب الملل والنحل فكانوا يعتبرون هذا ضربا من الخرافة عند المسلمين ، وأن الحيوان لا عقل له يفكر به ، ولا نظام لديه يعيش فيه.

وكان العلماء القدماء يعتقدون أن هذه الحيوانات أجسام حية ، تحس وتتألم ، ولكن لا تحمل العقل المفكر ، وأن ما يصدر عنها من حركات وأعمال إنما هي انفعالات غريزية.

واستمر هذا الاعتقاد إلى عصور متأخرة ، حتى أن الفيلسوف ديكارت كان يرى أن الحيوانات كالآلة المعقدة المجردة من الحياة العقلية ، فهو لا يفكر كما يفهم الناس ، بل يعبر في سلوكه عن الغرائز.

وقد اشتهر تعريفه هذا ، وتداوله العلماء والمفكرون ، مسلمين له ، ومؤمنين به.

ولم يعترف للحيوان بعقل وتفكير نسبيين إلا في القرن الثامن عشر ، والتاسع عشر.

فقد اعترف دارون وغيره من علماء الحيوان ، وبعد البحث والمتابعة والاستقراء ، قد اعترفوا جميعا بأن الحيوان له عقل وتفكير ، إلا أنه دون العقل والتفكير الإنساني ، وأنه بهذا التفكير يستطيع أن يعيش في حياة اجتماعية ربما كانت عند بعض الحيوانات مثالية ...

ومن أبدع الأمثلة التي ذكرها العلماء عن الأمم الحيوانية ما ذكروه عن النمل إذ قالوا :

إن النمل من الحيوانات الاجتماعية التي تعيش مجتمعه ، تتعاون في شئون حياتها ، وتتساعد في أمور بقائها ، فهي أمم وشعوب ، كأمم وشعوب النوع البشري ، لها نظام كنظامه ، وحكومة كحكوماته ، وشئون عامة كشئونه ، فهي من أعجب الحيوانات وأدعاها للتأمل.

وقالوا : إن أعمال النمل تدل على أنها متمتعة بدرجة رفيعة من العقل ، وبغرائز عظيمة للاجتماع والتضامن في الحياة.

١٩٠

فأعمالها الاجتماعية لا تقتصر على بناء مساكنها ، والعمل على قانون التعاون ، والقيام بتربية الصغار ، ولكن يرجح أن لها لغة خاصة تتفاهم بها.

ثم شوهد لدى مجتمعات النمل غرائز استعمارية يدفعها لشن الغارات على قرى النمل المجاورة لها ، إما بقصد الاستيلاء على القرية للانتفاع بها ، أو بقصد توسيع نطاق أملاكها ، أو الاستيلاء على صغارها ..

ومن الغريب أنها تأسر الأسرى من أعدائها ، ثم تقودهم إلى معسكراتها ، ثم تقتلهم أو تتخذهم أرقاء ، وتكلفهم بأشق الأعمال في القرية (١).

ومما يدهش له الإنسان أن النمل قد استأنس بعض الحيوانات التي هي أقل منه شأنا ، استأنسها ـ كما يستأنس أحدنا الحيوان لدره ـ ولكن الأكثر إثارة ودهشة هو أنه قد وجد نحو ألفي نوع من هذه الحشرات المختلفة داخل مساكن النمل ، وقد نجح في استئناسها كلها ، بينما لم يستأنس الإنسان سوى عشرين نوعا تقريبا (٢).

لم يكن الإنسان القديم يعرف شيئا عن مثل هذه الحقائق ، ولذلك لم تتردد حتى في أساطيره .. فكيف تمكن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من إدراك مثل هذه الحقيقة التي أمضى العلماء حتى توصلوا إليها القرون الطويلة من البحث والتأمل.

لا يمكن لأي مفكر منصف في هذه الأرض أن يعزو مثل هذه الحقيقة الناطقة لغير الوحي من قبل خالق الأرض والسماء وعالم السر والعلن ، الذي أتقن كل شيء خلقه وأحاط به علما ..

إن العلماء المعاصرين اليوم حينما يقرءون هذه الآية لا يدهشون فقط لما فيها من المعارف اليقينية التي أيدها العلم الحديث ، بل يتخذون منها مشعل هداية للبحث عن النظم الاجتماعية والطاقة العقلية عند كل الحيوانات الموجودة على سطح الأرض ، لأن الله عمم لفظ الأمة لكل دابة تدب على الأرض وطائر

__________________

(١) دائرة معارف القرن العشرين ١٠ / ٣٧٢.

(٢) الدين والعلم : ص ١٠٧.

١٩١

يطير في السماء ، ولعل مباحثهم في عالم الطيور كانت أعجب وأغرب من مباحثهم في عالم الحيوانات الأخرى ، إذ شاهدوا من نظامها وحياتها الاجتماعية الأممية ما لا يكاد يصدق به العقل (١).

لقد كنا في الماضي نقرأ في القرآن كلام النملة لنبي الله سليمان ، وخطاب الهدهد له ، وكنا نقرأ حديثه عن النحل والبعوضة والعنكبوت ، وكنا نؤمن بذلك إيمانا غيبيا ، أما العلم المعاصر فقد كشف لنا أن هذا الذي كنا نؤمن به إيمانا غيبيا يجب علينا أن نضيف إليه اليوم أنه المعجزة الناطقة على أن هذا الكتاب من عند الله.

(كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ).

__________________

(١) انظر : كتابنا الدين والعلم.

١٩٢

الآية السابعة

(أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ

مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ)

والامواج الباطنية والظاهرة

كلنا يقرأ في سورة النور المثل الذي ضربه الله تعالى لأعمال الكافر ، إذ قال : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً ، حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً ، وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ ، فَوَفَّاهُ حِسابَهُ ، وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ، ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها ، وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) (سورة النور : آية ٣٩ ـ ٤٠).

وكنا جميعا نقرأ في تفسيرها أن هذا مثل ضربه الله لأعمال الكافر ، فقال المفسرون فيها :

البحر اللجي : هو المنسوب إلى اللجة ، وهو الذي لا يدرك قعره ، واللجة معظم الماء ، والتجّ البحر : إذا تلاطمت أمواجه.

وأما قوله : (يَغْشاهُ مَوْجٌ) : أي يعلو ذلك البحر اللجي موج.

وقوله تعالى : (مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ) : أي من فوق الموج موج ، ومن فوق هذا الموج الثاني سحاب.

فيجتمع خوف الموج ، وخوف الريح ، وخوف السحاب.

وقالوا في المعنى أيضا : يغشاه موج ، من بعده موج ، أي أن الموج يتبع بعضه بعضا ، حتى كأن بعضه فوق بعض.

١٩٣

قالوا : وهو أخوف ما يكون إذا توالى موجه وتقارب.

قالوا : ومن فوق هذا الموج سحاب ، وهو أعظم للخوف من وجهين :

أحدهما : أنه قد غطى النجوم التي يهتدى بها.

الثاني : الريح التي تنشأ مع السحاب ، والمطر الذي ينزل منه (ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ ، إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها) أي من شدة الظلام الناتج عن الموج والسحاب (١).

هذا هو المعنى الذي كنا نفهمه دون أن نرى أي وجه للإعجاز العلمي فيه ، فرغم التتبع والاستقراء ، لم أجد أحدا من المفسرين المتقدمين أشار إلى أي نوع من أنواع الإعجاز العلمي الذي أثبته العلم الحديث.

وهذا الفهم الذي كنا نفهمه فهم سليم ، مطابق لقواعد اللغة ومدلولاتها ، ومطابق أيضا للواقع الذي كان يشاهده ويعرفه كل من عرف البحر.

وهذا أيضا من إعجاز القرآن ، إذ أن كل جيل يقرأ القرآن ، ويفهمه الفهم السليم ، المطابق لقواعد التفسير ، ولكنه يجد كل جيل في القرآن معنى جديدا آخر غير المعنى الذي رآه الجيل السابق في بعض الآيات أو الكلمات ، ودون أن تتضارب المعاني أو تتصارع أو تتناقض.

كالذي ينظر إلى بعض الصور المركبة من زاوية من زواياها ، فيرى فيها شكلا ما ، فإذا ما نظر إليها من زاوية أخرى ، رأى فيها شكلا آخر ، وكلا الشكلين حق ، أراده الرسام وتعمده ، ليدل على دقة فنه ، وبراعة صنعه ، فلو أقسم الأول على ما رأى ، لكان صادقا ، ولو أقسم الثاني على ما يرى يكون صادقا أيضا ، ولا تعارض بين الصورتين المدركتين ، وربما أدرك الناظر عدة صور وكلها صحيحة ، والصورة المنظورة واحدة.

وما فهمه السلف رضوان الله عليهم من هذه الآية لم يكن لهم ليفهموا غيره ، ولا سيما إذا كانوا ممن لم يمارس البحار والعمل فيها.

__________________

(١) انظر : القرطبي ١٢ / ٢٨٣.

١٩٤

إلا أن معارفنا الحديثة اكتشفت معنى جديدا لهذه الآية ، يطابق مدلولها أيضا ، إلا أنه بصورة أوضح من الصورة السابقة القديمة ، وفي نفس الوقت يعطينا معنى جديدا من معاني الإعجاز العلمي ، وذلك باكتشاف الأمواج الباطنية الداخلية في مياه المحيط.

ولتترك الكلام لشارل. ل. كارسون صاحب كتاب «البحر المحيط بنا» إذ يقول :

«فأضخم أمواج المحيط وأشدها رعبا هي أمواج غير منظورة ، تتحرك في خطوط سيرها الغامضة بعيدا في أعماق البحار.

وقد كان من المعروف منذ سنين كثيرة أن سفن البعثات إلى القطب الشمالي كانت تشق طريقها بكل صعوبة ، فيما كان يسمى ب «الماء الميت» والذي عرف الآن أنه «أمواج داخلية».

وفي أوائل عام ١٩٠٠ لفت الأنظار كثير من مساحي البحار الاسكندنافيين إلى وجود أمواج تحت سطح الماء.

والآن وبالرغم من أن الغموض لا يزال يكتنف أسباب تكوين هذه الأمواج العظيمة ، التي ترتفع وتهبط بعيدا أسفل السطح ، فإن حدوثها على نطاق واسع في المحيط قد أصبح أمرا معروفا جدا ، فهي تقذف بالغواصات في المياه العميقة ، كما تعمل شقيقتها السطحية على قذف السفن ، ويظهر أن هذه الأمواج تتكسر عند التقائها بتيار الخليج وبتيارات أخرى قوية في بحر عميق» ١.

فنحن الآن بعد أن وضعنا أيدينا على هذا الاكتشاف العلمي الجديد نستطيع أن نفهم الآية فهما جديدا ، لا يتعارض مع الأول ، إلا أنه يوضحه ويبينه.

فقوله تعالى : (يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ) فيه إشارة واضحة لا لبس فيها ولا غموض إلى هذه الأمواج الداخلية التي تكلم عنها العلم الحديث وأثبتها ، كما يشير إلى الأمواج السطحية التي نراها ونعرفها ، وهذا المعنى واضح من قوله

١٩٥

تعالى : (مِنْ فَوْقِهِ) أي أن الموج الأول في الأسفل ، والموج الثاني يأتي من فوقه ، ولم نعد بحاجة إلى ارتكاب المجاز في قولنا : «من فوقه : أي من بعده ، وأن تتابع الموج يظهره كأن بعضه يركب بعضه الآخر».

إن الآية واضحة كل الوضوح ، وصريحة في دلالتها على هذا الذي اكتشفه العلم الحديث من الأمواج الباطنية التي تعلوها الأمواج السطحية ، ولا سيما أن الآية قالت : (فِي بَحْرٍ لُجِّيٍ) أي عميق ، كما ذكرنا في تفسيرها ، وهذا إنما يكون في المحيطات ، لا على الشواطئ والخلجان.

وفي هذه الأماكن يقل وهج الشمس ، وفي نفس الوقت يجتمع السحاب ، وتنتج عن ذلك الظلمة التي أشار إليها القرآن في قوله : (ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ).

أي ظلمة الأمواج الداخلية ، وفوقها ظلمة الأمواج السطحية ، ومن فوقهما ظلمة الجو الناتج عن السحاب الكثير ، بحيث يصير الإنسان (إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها).

إن هذه الصورة لا تشاهد على شواطئ بحارنا الهادئة الوادعة إذا ما قيست بمياه المحيطات ، ولو أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان هو الذي ألف القرآن وأملاه لكان من المستحيل عليه أن يأتي بمثل هذه الحقائق العلمية التي كانت خافية إلى أيامنا هذه ، ولم تكن البشرية تعرف عنها شيئا.

إذن فهي الحقيقة المصدقة بأن هذا القرآن تنزيل من حكيم عليم.

١٩٦

الآية الثامنة

(أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ

وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما)

وبداية الكون والارض

لم يكن الإنسان القديم يعرف شيئا عن بداية الكون ، كما أنه لم يكن يعرف شيئا عن بداية كوكبنا الأرضي ، وكيفية وجوده ، ومن أي شيء وجد.

إلا أن القرآن الكريم تحدث وبكل وضوح عن عملية تشكيل الكون الأساسية ، وانتهائها إلى تكوين العوالم ، فقال تعالى :

(أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) (١).

لقد نزلت هذه الآية في الزمن الذي لم يكن الناس فيه يعرفون شيئا عن سر الكون وأصله ، إلا أن الآية واضحة وصريحة ، ولذلك عرف المسلمون ، لا عن طريق النظر والتجربة والاكتشاف العلمي ، وإنما عن طريق الإيمان بالغيب الذي يخبر عنه الله جلّ وعلا في القرآن ، عرفوا أن السماء والأرض كانتا قطعة واحدة ، ثم انفصلت السماء عنها ، أو انفصلت هي عن السماء ، فتباعدتا وتخللهما الهواء.

فقال المفسرون في تفسير هذه الآية إن الرتق هو السد ، وأنه ضد الفتق ، يقال : رتقت الفتق ، ارتقه ، فارتتق ، أي التأم.

ولذلك قال ابن عباس ، والحسن البصري ، وعطاء ، والضحاك ، وقتادة : إن السماء والأرض كانتا شيئا واحدا ، ملتزقتين ، ففصل الله بينهما بالهواء (٢).

__________________

(١) سورة الأنبياء : آية ٣٠.

(٢) القرطبي : ١١ / ٢٨٣.

١٩٧

ترى ، هل طابق العلم الحديث في أحدث نظرياته عن نشأة الكون ، من السماء ، والأرض ، والكواكب ، هل طابق الخبر القرآني أم خالفه؟.

لندع العلم الحديث يتكلم عما توصل إليه بعد البحث والنظر ، ثم لنقارن بين معطياته وآيات القرآن قبل العديد من القرون ، لنسمع بعد ذلك أن العلم ورواده يخران ركعا أمام هذه المعجزات القرآنية ، يعترفون بأنها من عند الله ، وأنها الدليل عليه والمرشد إليه ، وأنها يستحيل أن تكون من قول البشر.

يقول علماء الكون : إن «المادة» كانت جامدة وساكنة في أول الأمر ، وكانت في صورة غاز ساخن كثيف متماسك ، وقد حدث انفجار شديد في هذه المادة قبل ٠٠٠ ، ٠٠٠ ، ٠٠٠ ، ٠٠٠ ، ٥ سنة على الأقل ، فبدأت المادة تتمدد وتتباعد أطرافها ، ونتيجة لهذا أصبح تحرك المادة أمرا حتميا ، لا بدّ من استمراره ، طبقا لقوانين الطبيعة التي تقول : إن قوة الجاذبية في هذه الأجزاء من المادة تقل تدريجيا بسبب تباعدها ، ومن ثم تتسع المسافة بينها بصورة ملحوظة.

والمجموعة الشمسية التي تعتبر أرضنا كوكبا من كواكبها كانت نتيجة من نتائج تلك الانقسامات.

وقد أيد العلماء هذه الحقيقة بأنه يوجد في الشمس ٦٧ عنصرا من العناصر الموجودة في الأرض ، وما زالت الأبحاث والجهود قائمة لاكتشاف بقية العناصر الموجودة فيها ، والتي يعتقد أنها أيضا من نفس العناصر الأرضية.

كما أيدوا هذا بأن باطن الأرض لا يزال حارا بل مصهورا ، وفي حالة غليان دائم ، تدل عليه البراكين التي تثور أحيانا ، فتدفع من باطن الأرض بمواد في غاية الحرارة ، وفي بعض الأحيان تدفع بالمعادن الذائبة التي لا يمكن أن تصهر إلا في درجة عالية من الحرارة.

وفي نفس الوقت لاحظ العلماء أن الصخور والأتربة التي حصل عليها رواد الفضاء من القمر ، لاحظ العلماء أنها تحتوي على نفس العناصر الشائعة في الأرض ، مما يدل على أن العناصر التي بني منها الكون ، على اختلافها ، هي عناصر واحدة ، وهذا يدل دلالة قاطعة على وحدة الكون.

١٩٨

إننا حينما نسمع هذا الكلام من علماء الكون ، ونسمع قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) ونعلم أن هذه الآية نزلت في الوقت الذي لم يكن يعرف فيه أحد شيئا عن بداية الكون من الناحية العلمية ، إننا حينما نسمع هذه الآية نعلم أن الله تعالى إنما أخبر بها من أجل أن تكون الدليل القاطع ، والبرهان الساطع للأجيال القادمة بأن هذا القرآن من عند الله وليس من عند البشر.

ولكن .. ربما يقول بعض الناس : إن هذا التطابق الذي نفرضه بين العلم والآية ، قائم على هذه النظرية التي ذكرت عن بداية الكون.

ولكن هذا ليس أمر يقينيا ، وإنما هو ظن قابل للتغير .. فما ذا نعمل إذا تغير ..؟.

والجواب على هذا : هو أننا لم نسق هذه الآية لنؤيد بها قول العلماء على بداية الكون ، وكيفية هذه البداية ، وإنما سقناها لنبين بها حقيقة قطعية ، وهي أن السموات والأرض كانتا رتقا ـ قطعة واحدة ـ أو جسما واحدا ، وبعد ذلك حصل الفتق والتعدد.

وهذه حقيقة لم يقلها أسلافنا ويؤمنوا بها نتيجة للبحث والنظر في بداية الأمر ، وإنما قالوها إيمانا بالغيب عن خبر القرآن ، ولم يؤمن بها رواد العلم الحديث عن خبر القرآن ، وإنما آمنوا بها عند البحث والنظر والاستدلال ، ومن ثم كانت نتيجة البحث العلمي مطابقة لحقيقة الخبر القرآني وهو الذي نريده.

أما كيف كانت بداية الكون ، أو بداية الحركة في المادة الأساسية الموجودة فيه ، وكيف وجدت المجموعات والمجرات والكواكب ، وهل الأرض قطعة من الشمس ، أم أن الشمس والأرض والقمر والمجموعة الشمسية بأسرها قد نشأت عن السديم ، والسديم نشأ من سديم آخر ، فهذا أمر ربما توصل العلم فيه إلى اليقين ، وربما بقي في محل الظنون ، إلا أنه على كل الأحوال ستبقى مسألة الانفصال والتعدد عن الكتلة الواحدة حقيقة علمية مؤيدة بالأدلة والبراهين ، وهو الذي جاء به القرآن معجزة علمية.

١٩٩

إلا أنه بقي عندنا شيء مهم ربما تساءل عنه بعض من عجز عن استيعاب هذه الحقائق العلمية ، ممن لم يرزق المرونة في عقله ، فربما ظن أن هذا الكلام يتنافى مع خلق الله للسماء والأرض ، والشمس والقمر والكواكب وغير ذلك ...

والجواب : أنه لا تنافي أبدا بين خلق الله لهذا العالم ، وبين ما ذكرناه ، وذلك أن الله لم يخبرنا أنه خلق الأرض وحدها خلقا مباشرا ، ولا خلق القمر وحده خلقا مباشرا ، ولا خلق كل كوكب وحده خلقا مباشرا ، وإنما هو الذي خلق المادة الأساسية لهذا الكون ، وبعد ذلك أجراها ضمن قوانين وسنن ، هو أيضا الذي خلقها وأوجدها ، فكان كل ما في الكون من خلق الله ، وعلى النظام الذي أراده الله.

٢٠٠