المعجزة القرآنيّة

الدكتور محمد حسن هيتو

المعجزة القرآنيّة

المؤلف:

الدكتور محمد حسن هيتو


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٤٢

المصريين ما أثبت هذا الخبر القرآني ، ليكون الآية الناطقة ، والحجة البالغة ، الدالة على أن هذا القرآن من عند الله وليس من صنع البشر.

قال صاحب مجلة الفتح الغراء : في سورة التوبة نقرأ هذه الآية : (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ ، وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ، ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ ، يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ ، قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ).

قال : فصدر هذه الآية وهو قوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) يتضمن من وقائع التاريخ ، وحقائق العلم ، أمرا لم يكن أحد يعرفه على وجه الأرض في عصر نزول القرآن.

ذلك أن اسم عزير ، لم يكن معروفا عند بني إسرائيل إلا بعد دخولهم مصر ، واختلاطهم بأهلها ، واتصالهم بعقائدها ووثنيتها.

قال : واسم عزير هو «أوزيرس» كما ينطق به الإفرنج ، أو «عوزر» كما ينطق به قدماء المصريين.

وقدماء المصريين منذ تركوا عقيدة التوحيد ، وانتحلوا عبادة الشمس ، كانوا يعتقدون في «عوزر» أو «اوزيرس» أنه ابن الله.

وكذلك بنو إسرائيل ، في دور من أدوار حلولهم في مصر القديمة ، استحسنوا هذه العقيدة عقيدة أن عوزر ابن الله ، وصار اسم أوزيرس أو عوزر من الأسماء المقدسة التي طرأت عليهم من ديانة قدماء المصريين ، وصاروا يسمون أولادهم بهذا الاسم الذي قدسوه ضلالا وكفرا ، فعاب الله عليهم ذلك في القرآن الحكيم ، ودلهم على هذه الوقائع من تاريخهم الذي نسيه البشر جميعا.

قال صاحب مجلة الفتح : إن اليهود لا يستطيعون أن يدعوا في وقت من الأوقات أن اسم عزير ، كان معروفا عندهم قبل اختلاطهم بقدماء المصريين ، وهذا الاسم في لغتهم من مادة «عوزر» وهي تدل على الألوهية ، ومعناه : الإله المعين ، وكانت بالمعنى نفسه عند قدماء المصريين في اسم عوزر أو اوزيرس ، الذي كان عندهم في الدهر الأول بمعنى الإله الواحد ، ثم صاروا يعتقدون أنه

١٤١

ابن الله ، عقب عبادتهم الشمس.

واليهود أخذوا منهم هذا الاسم في الطور الثاني ، عند ما كانوا يعتقدون أن أوزيرس ابن الله.

قال : فهذا سر من أسرار القرآن ، لم يكتشف إلا بعد ظهور حقيقة ما كان عليه قدماء المصريين ، في العصر الحديث ، وما كان شيء من ذلك معروفا في الدنيا عند نزول القرآن.

حتى إن أعداء الإسلام كانوا يصوغون من جهلهم بهذه الحقيقة التاريخية شبهة يلطخون بها وجه الإسلام ، ويطعنون بها في القرآن ، فقال اليهود منهم : إن القرآن بقولنا ما لم نقل في كتبنا ولا في عقائدنا ، وأتى دعاة النصرانية منهم ، بما شاء لهم أدبهم من السب والطعن والزراية بالقرآن ، ودين الإسلام ، ونبي الإسلام» (١) ا ه.

وقال الإمام القرطبي في قوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ) قال : هذا لفظ خرج على العموم ، ومعناه الخصوص ، لأنه ليس كل اليهود قالوا ذلك ، وهذا مثل قوله تعالى : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) ولم يقل ذلك كل الناس.

قال النقاش : لم يبق يهودي يقولها ، بل انقرضوا ، فإذا قالها واحد ، تلزم الجماعة شنعة المقالة ، لأجل نباهة القائل فيهم ، وأقوال النبهاء أبدا مشهورة في الناس ، يحتج بها ، فمن هاهنا صح أن تقول الجماعة قول نبيهها والله أعلم (٢) ا ه.

* * *

وبهذه المعجزة الغيبية ، عن أمر تاريخي قديم ، كان الناس يجهلونه جهلا تاما عند نزول القرآن ، مما يدلنا دلالة قاطعة على أن هذا الكلام إنما هو كلام عالم الغيب والمحيط به ، لا كلام أمي ، لا علم له بهذه الحقيقة التاريخية ، بل لم

__________________

(١) عن مناهل العرفان ٢ / ٣٨٢.

(٢) القرطبي ٨ / ١١٧.

١٤٢

يكن كلام أحد من البشر في ذلك الوقت ، لأن الجميع كانوا يجهلون هذا ، ولا سيما أن أهل الكتاب من اليهود كانوا ينكرونه.

بهذه المعجزة نأتي على ختام الكلام في الإعجاز الغيبي ، لننتقل إلى الإعجاز العلمي في القرآن ، كما أسلفنا في التقسيم ، والله المستعان.

* * *

١٤٣
١٤٤

المبحث الثالث

في

الإعجاز العلمي

في

القرآن الكريم

١٤٥
١٤٦

مقدمة

قبل أن نخوض في موضوع الإعجاز العلمي ، ونتكلم على الآيات المتعلقة بعلوم الكون والحياة وما فيها من إعجاز ، لا بدّ لنا أن نقدم على الموضوع مقدمة وجيزة ، نضع بها الخطوط العريضة للمنهج الذي سنسلكه في سبيل الوصول إلى الغاية والهدف ، دون غلو نحمل به آيات القرآن ما لا تحمله من المعاني والاحتمالات ، أو تفريط نعرض به عن كثير من الحقائق الكونية والعلمية التي لا يجوز الإعراض عنها لجمود في التفكير ، أو قصور في العلم والمعرفة.

لقد كثر الكلام منذ بداية هذا القرن عن الإعجاز العلمي في القرآن الكريم ، بحيث غطى نوعا ما على بعض جوانب الإعجاز الأخرى فيه ، لا من حيث كونها معجزة في الواقع ونفس الأمر ، فتلك الجوانب كانت وما زالت معجزة ، ولكن من حيث كونها أصبحت بعيدة عن أفهام الناس وعقولهم ، بينما أصبحت الجوانب العلمية مسيطرة على حياة الناس وعقولهم.

فحينما نتكلم اليوم على الإعجاز اللغوي في القرآن ، لا نجد الناس يتفاعلون معنا في إدراك وجوه الإعجاز في كلماته ، وجمله ، وأساليبه ، لأن معظم الناس اليوم يجهلون لغة العرب ، بسبب المخطط الخطير الذي فرض على أساليب التعليم ومناهجه في أمتنا وبلادنا ، من قبل أعدائنا.

بل تجاوز الأمر في الإعجاز اللغوي ، تجاوز صفوف العامة إلى صفوف القلة المتبقية من العارفين بقواعد اللغة ، والمهتمين بأدبها ، فإن أكثرهم لا يحس بالإعجاز اللغوي بسليقته وطبعه ، وإنما يدركه بعقله ودراسته ومعارفه.

وشتان بين رجلين ، الأول يسمع القرآن ، فيدرك بمجرد سماعه وبتذوقه الفني أن هذا الكلام ليس من كلام البشر ، وإنما هو معجز من كلام الله.

١٤٧

وبين رجل آخر قد يصل إلى هذه النتيجة في بعض آيات القرآن ، ولكن ليس بمجرد سماعها ، وإنما بدراستها وتحليلها وإخضاعها لعلومه ومعارفه.

وقد تكلمت على هذا الموضوع بالتفصيل في بداية هذا البحث ، وسنرجع إليه بمزيد من التفصيل إن وفقنا الله للكتابة في الإعجاز اللغوي.

بينما نجد عامة الناس في مجتمعنا يتمايلون طربا حينما نعرض لهم بعض وجوه الإعجاز في الإخبار عن المغيبات ، وذلك لأنها تتفق مع كل عقل ، كما يمكن لكل عقل أن يدركها ويدرك وجه الإعجاز فيها ، فهي لا تحتاج للغة ، وإنما تحتاج للعقل والتفكير.

كما نجد المثقفين أكثر تمايلا وطربا عند ما نعرض عليهم وجها من وجوه الإعجاز العلمي في القرآن الكريم ، لا سيّما إذا كان هذا الوجه قطعي الدلالة ، بينا ظاهرا ، لا يحتاج إلى الاستنباط والاستنتاج.

وذلك لأن هذا الوجه ملائم للثقافة التي يحملها أبناء العصر الحاضر ، والتي أصبحت قاسما مشتركا بينهم جميعا.

وإذا كان هذا شأن مجتمعنا العربي ، فمن باب أولى أن يكون هذا شأن غيره من المجتمعات.

فإننا حينما نتكلم على إعجاز القرآن ، لا نريد بذلك إقناع العرب فحسب ، وإنما نريد إقناع العالم بأسره ، من عربي وغيره ، فإن هذا القرآن أنزل للبشر جميعا ، وتحدي به البشر جميعا ، في كل زمان ومكان.

ولذلك يجب علينا أن نخاطب البشر بما تستوعبه عقولهم ، وإن الجوانب العلمية اليوم ، من أهم ما يستهوي عقول الناس في الشرق والغرب ، فإذا رأوا ما يدل على الإعجاز في كتاب الله ، في جانب العلوم التي يتقنونها ، هان عليهم الإيمان والتسليم ، كما سنبين هذا عند الكلام على من تأثر بهذا الجانب من القرآن إن شاء الله.

إذن فالذي دفع العلماء والمفكرين المسلمين للبحث والتحقيق في جوانب

١٤٨

الإعجاز العلمي في القرآن ، هو الواقع الذي يعيش فيه الناس ، والذي صارت فيه العلوم أساس الحياة والحضارة الإنسانية.

فإذا كانت هذه العلوم كاشفة عن سر من أسرار الآيات القرآنية ، ومثبتة لوجه من وجوه الإعجاز ، فإننا يجب علينا أن نبحث فيها ، وندل الناس عليها ، ولا سيما أن القرآن نفسه حث الناس على النظر في ملكوت السموات والأرض ، ومجاهل الكون والنفس ، وضرب الأمثال ، ليلفت نظر الناس إلى عظمة الخالق ، من خلال عظمة المخلوق ... وبما يتناسب مع عقولهم ومعارفهم في كل زمان ومكان.

وإني لأعتقد أن هذا الوجه من وجوه الإعجاز هو أبلغ هذه الوجوه ، إذ يستطيع الإنسان في كل عصر من العصور أن يجد بغيته في كتاب الله من الإيمان بأن هذا الكلام ليس من كلام البشر ، وإنما هو من كلام الله.

فكلما تقدمت العلوم الإنسانية ، كلما كشفت لنا عن سر جديد ، لم نكن قد اطلعنا عليه من قبل.

وهذا وحده كان ليدل على أن القرآن ليس من صنع البشر ، إذ يستحيل على البشر ، ولو كانوا على قلب رجل واحد ، وبتفكير رجل واحد ، أن يوجدوا مثل هذا الكتاب الذي لم تتخلف آية واحدة من آياته على توالي الأيام ، وكر السنين والأعوام ..

ولكن .. هل نزل القرآن الكريم على أنه كتاب جيولوجيا ، أو فلك أو غيرهما من العلوم ... يبين حقيقتها ، ويرسم مناهجها ، ويدلل على نظرياتها ..؟.

لا شك أن الجواب : لا.

نعم .. لم ينزل القرآن كتاب علوم يقرر في المدارس والجامعات ، يتلقى الناس من خلاله معارفهم الكونية.

وإنما نزل القرآن الكريم كتاب هداية وإرشاد للبشرية الحائرة ، ودستورا ونظام حياة للإنسانية.

١٤٩

قال تعالى : (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ ، هُدىً لِلْمُتَّقِينَ).

وقال : (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ ، يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ ، وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ ، وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).

وقال جلّ شأنه : (وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ، وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).

إلا أنه رغم هذا تعرض لكثير من حقائق الكون والحياة التي كانت مجهولة ، إما إجمالا ، وإما تفصيلا عند نزول القرآن ، للفت نظر الإنسان إلى الكون والحياة ، والاهتمام بالعلم والمعرفة ، وفي نفس الوقت ليكون يوما ما معجزة دالة على أن هذا الكلام ليس من كلام البشر ، وإنما هو من كلام الله ، وذلك عند ما يضع الإنسان يده على كثير من أسرار الكون والحياة والعلم والمعرفة.

وبناء على ذلك يجب علينا حينما نعرض للإعجاز العلمي في القرآن ، يجب علينا أن لا ننسى الوظيفة الأساسية التي جاء من أجلها ، ألا وهي هداية البشر ، ورسم المنهاج القويم ، والسبيل المستقيم ، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور ، ومن الضلالة إلى الهدى.

فلا يجوز لنا بعد هذا أن ننحرف عن الوظيفة الأساسية لكتاب الله ، ونحمل الآيات ما لا تطيق من المعاني العلمية التي لم تسق الآية من أجلها ، ولا نزلت لبيانها ، وإنما هي من أوهام القارئ ، وربما انقلبت إلى ضرب من التأويل الباطني الباطل.

كما لا يجوز لنا في نفس الوقت أن نجمد على معارفنا القديمة الضيقة ، وتفسيراتنا الجزئية المحدودة ، المبنية على تلك المعلومات القديمة ، والتي ربما كانت قاصرة ، بل خاطئة في تفسير ظواهر بعض أو أكثر الجوانب العلمية التي كشف عنها العلم الحديث ، مما يؤدي في النتيجة إلى فهم القرآن فهما غير سليم في ضوء المعارف الحديثة ، وفي الآيات التي لها مساس بالعلوم.

١٥٠

فلقد انقسم الناس في هذا الموضوع إلى فئتين ، بل إلى ثلاث فئات.

الفئة الأولى : رفضت ـ بضيق أفقها وقصر معارفها ـ رفضت أن تنفتح للعلوم الحديثة المعاصرة والتي أصبحت في كثير من حالاتها حقائق يقينية لا يجوز الإعراض عنها بحال ، وجمدت على العقلية المبنية على المعارف الخاطئة القديمة ، وأصرت على عدم جواز تفسير بعض آيات القرآن في ضوء المعارف الحديثة ، مما أدى في بعض الحالات إلى إيجاد ثغرات خطيرة بين التفسير الذي أرادوه والحقائق العلمية اليقينية الثابتة.

كمن رفض القول بأن الأرض كروية ، أو أنها تسبح في الفضاء ، أو أنها تدور حول الشمس ، مستدلا بفهم خاطئ لقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ) ، أو قوله تعالى : (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) أو قوله تعالى : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً) ـ فزعم أن هذا يتنافى مع كرويتها.

واستدل بقوله تعالى : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها) بأن هذا يتنافى مع القول بأن الأرض تدور حول الشمس ، ولا سيما وقد وردت بعض الأحاديث التي تدل على أن الشمس تسير ، وأنها تسجد تحت العرش ، إلى آخر ما يمكن أن يستدل به في هذا الموضوع ، مما يدل بظاهره على ما ذهب إليه.

وهذا الاستدلال ناتج ـ كما ذكرت ـ عن ضيق في أفق قائله ، وقلة معرفته واطلاعه على حقائق العلم في الكون والحياة ، وقصره للمدلولات اللغوية على بعض معانيها الظاهرة التي يعرفها ، أو جموده على حقيقتها دون مجازها السائغ الصحيح.

وأنا لا أريد الآن أن أبين ما يجب أن يقال في مثل هذه المواطن ، لأنني في معرض المثال للفئة الأولى ، من الذين لم يستطيعوا أن يهضموا الحقائق العلمية ، والمعارف اليقينية ، فجمدوا على المعارف القديمة ، بصوابها وخطئها.

وهذه الفئة لم يعد لها وجود الآن في عصرنا تقريبا ، ولئن وجد من يؤمن بمنهجها فإنما هي بقية منهم وأطلال لهم ... فالحقائق العلمية لا تثبت في تيارها الأوهام.

١٥١

وإني اعتبر أن مثل هذا الموقف تفريط في حق القرآن ، وإعراض عن الفهم الحقيقي للآيات المتعلقة بالكون والحياة ، بل ربما كان سببا لإيجاد فجوة هائلة بين الدين والعلم ، مما قد يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه ، كما حدث للكنيسة حينما حاولت أن تقف في وجه الحقائق العلمية ، لتفرض على الناس أن يفكروا من خلال عقليتها القديمة المتعارضة مع حقائق العلم ، زعما منها أن هذا هو الدين ، مما أدى في نهاية المطاف إلى الثورة على الكنيسة ، بل على الدين المحرف الباطل الذي كانت تمثله ...

إننا نحن المسلمين مدعوون في كل زمان ومكان ، وبنص الشرع ، إلى الاستفادة من كل حقيقة علمية ، لأن ديننا دين العلم والمعرفة ، ولم ولن يتعارض في يوم ما مع حقائق العلم في الكون والحياة.

وأما الفئة الثانية ، فقد كانت على النقيض من الفئة الأولى فتنت بالنهضة العلمية الحديثة ، ورأت الجمود الذي كان عليه بعض المسلمين ، فأرادت أن تسمو بدينها وقرآنها في عصر المادة ، فصارت تحمل ـ بمناسبة وغير مناسبة ـ صارت تحمل آيات القرآن على المكتشفات أو القوانين العلمية الحديثة ، مما جعلها تخرج بالآيات القرآنية عن معانيها اللغوية ، ومدلولاتها الشرعية ، وتنحرف بها عن الغاية والهدف الساميين اللذين جاءت من أجلهما ، ومما جعلها أيضا تقع في كثير من المتناقضات.

وذلك أنها بمجرد سماعها بنظرية علمية ـ في الشرق أو الغرب ـ تعمد إلى الآيات القرآنية التي ربما كان لها مساس بالموضوع ، وأخذت تتوسع في مدلولاتها بعيدا عن القوانين اللغوية والشرعية ، زاعمة أن هذه الآية نطقت بهذه النظرية منذ قرون كثيرة ، فإذا ما تغيّرت تلك النظرية العلمية ثانية ، واستبدلت بنظرية أخرى أحدث منها وأدق ، وربما كانت مخالفة للأولى تماما ، أسقط أولئك في أيديهم ، وعمدوا ثانية إلى التلاعب بالآية ومعانيها ليطبقوها على النظرية الجديدة ، مما جعل عملهم أشبه بالعبث منه بالدفاع عن القرآن أو إظهار إعجازه ، بل ربما أوقع القرآن في تناقض خطير بسبب تأييده لنظريتين متناقضتين بدون ضابط أو قانون من لغة أو شرع.

١٥٢

وربما وصل الأمر ببعض أفراد هذه الفئة إلى درجة إنكار المعجزات ، أو الخروج عن قوانين الشرع وقواعد اللغة التي لا تقبل التغيير والتبديل.

ونحن لا ننكر تغيير رأي العالم أو الباحث بسبب تغير النظرية ، أو تطور طريقة البحث والنظر ، ومن ثم تغير المعرفة ، فهذا شأن الإنسان مع العلم والمعرفة ، ولكننا ننكر المسارعة إلى تأويل آيات القرآن تبعا لكل فكر حديث يطرح ، أو نظرية علمية ما زالت في طور البحث والنظر ـ وبعيدا عن قوانين الشروع وقواعد اللغة.

إن مثل هذه المسارعة أوقع أفراد تلك الفئة بالعديد من المتناقضات ، ومن ثم أوصلها إلى نقيض قصدها في إظهار إعجاز القرآن.

وهذه الفئة أيضا كسابقتها ، لم تلق التشجيع والترحيب ، بل على العكس من ذلك جوبهت من قبل علماء المسلمين بالإنكار والاستهجان لهذا المسلك ، فكلا جانبي الإفراط والتفريط مذموم غير محمود.

وأما الفئة الثالثة ، وهي فئة جماهير علماء المسلمين ، فهي فئة التوسط بين جانبي الإفراط والتفريط.

فلم تجمد هذه الفئة جمود الفئة الأولى ، ولم تتهور تهور الفئة الثانية.

ولكنها عمدت إلى الآيات التي لها مساس بالعلوم ، وفهمتها بناء على ضوء المعارف الحديثة اليقينية ، لا الظنية ، وفي نطاق قوانين الشرع العامة ، وقواعد اللغة الثابتة ، فرأت فيها ما يدل كل ذي عقل على أن هذا القرآن ليس من عند البشر ، وإنما هو من عند الله ، وإلا لما كان من الممكن قول مثل تلك الآيات في تلك القرون الخالية ، التي لم يكن الإنسان عارفا فيها شيئا عن الحقائق العلمية الحديثة.

ولم يضرها أبدا أن تقف عند ظاهر النص القرآني إذا كانت دلالته قطعية ، وإن كان يتعارض مع بعض النظريات العلمية الرائجة ، جازمة بأن الخطأ في النظرية العلمية ، وأن على أصحابها أن يبحثوا عن وجه الصواب في موضوعها ،

١٥٣

وإلا فمن المحال أن يتعارض الدين مع العلم ، أو القرآن مع القوانين اليقينية الثابتة.

وهذا هو الحق الذي لا يجوز لأحد أن يتعداه ، والذي يجب المصير إليه ، والتعويل عليه ، ولا يوجد بعد الحق إلا الضلال.

فنحن ما دام الأمر العلمي لم يصل إلى درجة القانون اليقيني الثابت ، وإنما هو في طور التجربة والبحث والنظر ، لا يمكننا أبدا أن نجعل القرآن تبعا لشهوات البشر وأهوائهم ، ولا يمكننا أبدا أن نعبث بآيات القرآن ونتلاعب بها.

فإذا ما وصل الأمر العلمي إلى درجة القانون اليقيني ، فمن المحال عند ذلك أن يتعارض مع القرآن ، بل سنجده عند ذلك راكعا على أعتاب الدين ، كاشفا لنا عن سر الآية ، معترفا بأن قائلها وصانعه ومبدعه واحد ، ألا وهو الله الذي لا إله إلّا هو ، وداعيا كل عاقل إلى الإيمان بهذه الحقيقة.

وعند ذلك يجب علينا أن نستفيد من هذه المعارف الحديثة اليقينية ، وأن نستغلها من أجل إظهار الحقيقة ، وبيان الإعجاز القرآني الذي يخفى على كثير من الناس ، من مسلمين وغيرهم.

فالحكمة ضالة المؤمن ، أنى وجدها التقطها .. والقرآن أنزل معجزة لكل زمان وجيل ومكان ، ولم يكن إعجازه قاصرا على الجيل الأول ، ـ كما بينا سابقا ـ ولذلك كان لا بد لهذا الجيل المعاصر أن يجد في القرآن المعجزة ، ولئن فاته الوقوف عليها عن طريق اللغة ، فلن يفوته الوقوف عليها عن طريق العلوم المعاصرة.

كما أن أهل الأجيال القادمة سوف يجدون فيه الإعجاز ، ولكن لا ندري كيف سيكون ذلك.

ربما كان عن بعض الطرق التي نعرفها اليوم ، وربما كان عن بعض الطرق التي سيعرفها إنسان المستقبل وهي خافية علينا الآن ، ولا يجوز لأي إنسان أن يمنع مثل هذا ما دام خاضعا للضوابط العلمية السابقة التي ذكرناها ، من قوانين الشرع وقواعد اللغة.

١٥٤

هل الاعجاز العلمي وليد العصر الحديث؟

إن السؤال الذي سيطرح نفسه الآن بعد هذه المقدمة التي قدمناها ، هو : هل الإعجاز العلمي في القرآن وليد العلوم والمكتشفات الحديثة ، وكان خافيا قبل هذا على علماء المسلمين ، كما زعم بعض الكاتبين؟.

والجواب اليقيني على مثل هذا التساؤل : لا ، وذلك يدرك بأدنى تأمل في كتاب الله ..

فإن القرآن الكريم في أول الآيات التي نزلت منه إلى الأرض .. قد اهتم بالعلم ، فأمر به ، وحثّ عليه ، ورفع مرتبة العلماء حتى جعلهم ورثة الأنبياء.

ولم يقتصر الأمر بالعلم على العلوم الشرعية ، بل تعداها إلى العلوم الكونية والعقلية ، إذ أمر القرآن بالنظر في ملكوت السموات والأرض ، كما أمر بالتبصر في علوم الكون والنفس ، ليهتدي الناس من خلال النظر السليم إلى الخالق العظيم.

فقال تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ، وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ ، وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ، وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ ، وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ، لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (سورة البقرة : آية ١١٤).

وقال تعالى : (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (سورة يونس : آية ١٠١).

وقال جلّ شأنه : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ).

وقال : (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ ، وَفِي أَنْفُسِكُمْ ، أَفَلا تُبْصِرُونَ).

فهذه الآيات ، وأمثالها ، مما يعسر حصره ، ليست فقط مجيزة للنظر ، بل هي آمرة به ، حاثة عليه ، ولو لم يكن الله مريدا أن يستفيد عباده من معالم الكون

١٥٥

والحياة ، مما يحدو بهم إلى الإيمان السليم ، لما أمرهم بهذا النظر ، ولما حثّهم حثّا دائبا عليه.

ولذلك انكبّ علماء المسلمين على العلوم فأتقنوها ، وبلغوا بها إلى الذروة العليا ، وحاولوا جاهدين وفي كثير من المواطن أن يربطوا بين ما توصلوا إليه من القوانين العلمية ، وبين بعض آيات القرآن التي لها مساس بالعلم ، وأثبتوا كما نثبت نحن اليوم أن القرآن كشف عن تلك القوانين قبل معرفتها بمئات السنين ، ليستدلوا من خلال هذا على الإعجاز القرآني في جانب العلم ، وليثبتوا أن هذا القرآن من كلام الله ، لا من كلام البشر.

إلا أنهم لم يتمكنوا مما تمكنا منه نحن اليوم في ميدان العلوم والمكتشفات والمخترعات ، ولذلك قل خوضهم في هذا الجانب من الإعجاز ، فلما جاء العصر الحديث ، بعلومه ومكتشفاته ، وضعنا أيدينا على كثير من المعاني التي كنا نجهلها في الماضي ، والتي وردت في آيات القرآن تصريحا أو تلميحا.

ولذلك كنا كمن كشف عنه الغطاء ، فأدرك من الحقائق ما لم يكن يعرفه ، وفي بعض الحالات ما لم يكن يتوقعه ، فكثر خوضهم في هذا الجانب من الإعجاز لما وجدوا فيه من الدلالة القاطعة على ما يرمي إليه من أمر الدين والعقيدة والخالق جل شأنه.

كيفية الوقوف على وجه الاعجاز في الآيات :

وأما كيفية الوقوف على وجه الإعجاز العلمي في القرآن ، مما نثبت معه أن هذا القرآن من كلام الله ، وليس من صنع البشر ، فنستطيع أن نلخصه إجمالا بما يلي :

لقد نزلت آيات القرآن الكريم على نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أربعة عشر قرنا من الزمان .. وفي عصر لم يكن الإنسان يعرف فيه عن الطبيعة والكون والحياة إلا القليل النادر ، وكان يعتقد الكثير من العقائد الباطلة عن الكون والحياة.

١٥٦

فكان يعتقد أن الأمطار تنزل من ثقوب في السماء.

وأن الأرض مستطيلة مستوية ، أو أنها محاطة بماء يغلي.

كما كان يعتقد أن السماء سقف للأرض ، وأن النجوم التي فيها مسامير لامعة من الذهب أو الفضة ، وأنها معلقة بقبة السماء بسلاسل ذهبية.

وأن الأرض ثابتة لا تتحرك .. وأنها على قرن ثور ، فإذا ما تعب قرنه من ثقلها نقلها إلى قرنه الآخر ، فأحدث الدمار بما يحدثه من الزلازل ، إلى آخر ما هناك من المعتقدات الخاطئة التي كانت تسود ذلك العصر ، إلى جانب بعض المعارف البسيطة الأخرى.

فجاء القرآن في خضم تلك المعتقدات ... وكان من المفترض أن يتكلم القرآن بنفس الأساليب والمعتقدات التي يعتقدها الناس في ذلك الوقت ، فيما لو كان القرآن من صنع البشر وكلامهم ، كما هو المتوقع والمعروف.

إلا أن القرآن لم يخض أبدا في مثل تلك الخرافات ، بل جاء على خلافها ، فأثبت أن الأرض كوكب سابح في الفضاء ، فليست على قرن ثور.

وأن الأمطار تنزل من السحاب ، وأن السحاب يجتمع بفعل الرياح ، وأنه بفعل اجتماعه يخرج البرق.

إلى آخر ما هنالك من الآيات التي نزلت مخالفة لما كان سائدا في ذلك العصر ، ولعصور طويلة بعده ، والتي جاء العلم الحديث ، فأثبت بالبراهين اليقينية ما أخبر به القرآن قبل قرون طويلة ، مخالفا لكل اعتقاد البشر ، على ما سنذكره في الفقرات القادمة إن شاء الله.

فلو كان القرآن من صنع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكان من المستحيل أن يصدر عنه مثل هذا الكلام الذي كان يجهله أهل عصره ، بل كانوا يعتقدون خلافه ، والذي يعتبر تصحيحا لمعتقداتهم وعلومهم ، مطابقا للواقع الحقيقي الذي كشف عنه العلم الحديث بالبراهين اليقينية ، بعد أن بذل الإنسان في سبيل الوصول إليه النفس والنفيس ، وأمضى في الطريق إليه الأيام والدهور والأعوام ..

١٥٧

خوض القرآن فيما لم يكن الانسان يعرف عنه شيئا :

ولم يقتصر القرآن في العلوم التي تكلم عنها على جانب ما كان يعرفه الناس في ذلك العصر ، مصححا لمعتقدات الناس فيه ، أو مفصلا لما كان مجملا منه ، بل تعدى هذا فتكلم في آيات كثيرة على أنواع أخرى من العلوم التي لم يكن يعرف الإنسان عنها شيئا البتة في ذلك العصر ، مما أثار دهشته ، وجعله يؤمن بها إيمانا غيبيا ، دون أن يعرف الحقيقة التي تنبني عليها ، كاشتعال الماء مثلا ، إلى أن جاء العلم الحديث ، فأثبت هذه الحقيقة العلمية على نحو ما أخبر به القرآن ، مما لفت نظر الإنسان ثانية ، وجعله يؤمن أنه من المستحيل أن يكون هذا الكلام من كلام البشر ، لأنه لم يكن يعرف عن هذه الحقيقة العلمية إبان نزول القرآن شيئا ، ولم يكن له سبيل أبدا إلى إدراكها.

إذن فلا بدّ أن يكون هذا الكلام من قبل عالم السر والعلن ، وخالق الإنسان والمادة ، والكون والحياة ، ولذلك أخبر بما علم مما خلق.

لقد امتلأ القرآن بالإخبار عن العلوم ، مما كان يعرف الإنسان منه الشيء البسيط ، ومما كان لا يعرف عنه شيئا أبدا ، ومما يعرفه على خلاف ما أخبر به القرآن ، كما سنبينه في القريب إن شاء الله.

ولا شك أن هذا قد لفت نظر الذين تحداهم القرآن أن يثبتوا فيه تناقضا أو خلفا ، مما جعلهم يتربصون به الدوائر ، قديما وحديثا.

وكان الناس قديما ، وما زالوا حديثا ، يطرحون نظرياتهم العلمية التي يبحثون من خلالها عن أسرار الكون والحياة.

وتقدم العلم ، وزادت قوة المشاهدة عند الإنسان ، وتشعبت معارفه ومدركاته ، وتغير كثير من النظريات القديمة التي طرحت في سبيل الكشف عن الحقيقة ، وما زالت في كل يوم تتغير وتتبدل.

وهذا يدلنا دلالة قاطعة ، على أنه لا وجود لكلام إنساني تدوم صحته كليا ، دون تبديل ، أو تغيير ، أو تصحيح.

١٥٨

لأن الإنسان يتكلم عما هو معروف من المعتقدات والعلوم في عصره ، ولذلك لو ألقينا نظرة سريعة على كل الكتب القديمة التي صنفت في مضمار العلوم ، لوجدناها إلى جانب ما حوته من الصحة ، مليئة بالأخطاء العلمية ، وفي جميع جوانب العلم ، إذا ما قارناها بكشوفنا الجديدة ونظرياتنا الحديثة.

ولكن القرآن الكريم لم يكن أبدا كهذه الكتب ، ولم يكن خاضعا لهذه الحقيقة ، بل كان على خلافها تماما ، فهو حق وصادق في كل ما قاله وأخبر عنه ، كما كان في الزمن الماضي ، فلم يطرأ على مقاله أي تغيير أو تصحيح ، ورغم تقدم العلوم ، وكثرة المكتشفات ، وظهور الأسرار ، لم يتمكن أحد من أهل الأرض جميعا أن يثبت خطأ القرآن في حرف واحد مما قاله في جانب من جوانب العلوم الكثيرة التي خاض فيها ، أو أشار إليها.

ولو كان القرآن صادرا عن بشر ، محدود العلم والنظر ، لكان شأنه شأن جميع الكتب ، ولأثبتت العلوم المتطورة بطلان الكثير من كلماته وأخباره وقوانينه.

إن الإنسان حينما يكون جاهلا ، أو ناقص المعلومات حول موضوع ما ، فإنه لا يتكلم فيه ، إلا أنه إذا تجرأ على الكلام وتكلم ، كان لا بدّ له أن يقع في كثير من الأخطاء في كلامه ، كما حدث ذلك لكل من فعل مثل هذا ، من العباقرة وغيرهم ، وكما يحدث لأمثالهم في كل زمان ومكان.

وعلى سبيل المثال نذكر ما قاله أرسطو استدلالا على أسبقية الرجل للمرأة ، إذ قال :

«إن فم المرأة يحوي أسنانا أقل عددا من أسنان الرجل».

إلّا أن هذا الكلام لا علاقة له بعلم الأجسام ، بل هو يدل على أن صاحبه جاهل بهذا العلم.

على أن عدد الأسنان عند الرجل والمرأة سواء كما هو معروف (١).

__________________

(١) الإسلام يتحدى : ص ١٩٢.

١٥٩

ونحن لا نريد بهذا أن نطعن في علم أرسطو وفلسفته ، ولكننا نريد أن نبين أن الإنسان مهما أوتي من الذكاء والدهاء ، والعبقرية والعلم ، ثم أراد أن يخوض في فن غير فنه أتى بالعجائب.

فكيف بالإنسان الأمي إذا أراد أن يخوض في كل العلوم والفنون. إنه لا بدّ له أن يقع في كثير من المتناقضات والأوهام.

إلا أنه وكما ذكرت قبل قليل ، لم يتمكن أحد من أهل الأرض جميعا أن يوجد في القرآن تناقضا واحدا ، في كل ما خاض فيه من فنون العلم ، وسبل المعرفة ، رغم تقدم العلوم ، وتطاول الزمان ، بل كان الأمر على خلاف ذلك ، إذ كان العلم في نهاية مطافه مصدقا للقرآن في كل ما أتى به ، وراكعا بين يديه.

إذا فلا بدّ أن يكون قائل هذا الكلام محيطا بكل علم تكلم فيه ، وإحاطته به إحاطة يقينية جازمة ، لا يعتريها نقص أو تخلف ، لا سيما أنه تكلم بها في الزمن الذي لم يكن أحد من أهل الأرض يعلم عنها شيئا ، لا كثيرا ولا يسيرا.

إنه الله الذي لا إله إلّا هو أحاط بكل شيء علما.

وبهذا الأسلوب المنطقي من الاستدلال أثبتنا إعجاز القرآن العلمي إجمالا ، وسنثبته إن شاء الله تفصيلا.

ومن أجل هذا آمن كثير من الناس قديما وحديثا ، آمنوا بالله ، وأثبتوا في طريق إيمانهم شهاداتهم واعترافاتهم بأنهم ما آمنوا إلا من خلال مثل هذه المعجزات العلمية في القرآن ، على أن كثيرا منهم كان من كبار علماء الكون والحياة ، وربما كان يوما ما من دعاة الإلحاد ، ومن ذلك :

شهادة السير جيمس جنز :

في سياق إثبات شهادة كبار علماء الكون الذين تأثروا بالإعجاز العلمي في القرآن ، يجدر بنا أن تذكر هذه الحادثة العظيمة المدهشة ، التي نقلها العلامة الهندي الشهير المرحوم «عناية الله المشرقي» الذي كان يعتبر من أعظم علماء الهند

١٦٠