المعجزة القرآنيّة

الدكتور محمد حسن هيتو

المعجزة القرآنيّة

المؤلف:

الدكتور محمد حسن هيتو


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٤٢

ثم أكد ثالثا بالجملة الاسمية التي تفيد الاستمرار والدوام الدوام.

بحيث لا يدع للقارئ أو السامع مجالا في أن قائل هذا الكلام مصر عليه ، جازم به ، لا يتردد في تنفيذه وإثباته على نحو ما أخبر به ، على عادة العرب في إلقائهم للكلام المؤكد.

كما أكد نسبة هذا الكلام إليه ، وأنه هو الذي أنزله بقوله : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ).

إنه إخبار عن غيب مجهول ، إلى مدى بعيد ، يطول طيلة استمرار الحياة ، بدعوى عريضة ، لا يضمن الإنسان تحقق وجودها حالة حياته ، حينما تكون كل الظروف مواتية له ، علاوة عن إمكانية تحققها بعد موته ، فكيف بها وكل الظروف معادية لها ، عاملة على إبطالها ، ولا يتوقع أبدا أن تسير في القريب العاجل لصالحها ، على الأقل كما كان يتوهم مشركو مكة ، ومعلنو الحرب على الإسلام والقرآن.

إنها الدعوى بأن هذا القرآن محفوظ من قبل منزله ، إلى قيام الساعة ، لن يتمكن أحد من أهل الأرض ، مهما بلغوا في قوتهم ، وعنادهم ، وطغيانهم ، لن يتمكنوا من أن يقضوا على هذا القرآن ، وسيحفظه الله إلى قيام الساعة ليدل بهذا كل من سينظر في القرآن أنه من كلام الله.

وفي نفس الوقت ، نزلت دعوى جديدة أخرى ، متممة لهذه الدعوى ، فيها إخبار عن غيب بعيد مجهول ، فيه بيان نوع الحفظ الذي سيحفظ الله به قرآنه ، وذلك في قوله تعالى : (إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ ، لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ).

لا شك أن كل عربي سمع هذا الكلام في ذلك الوقت ، لا شك أنه أخذته الدهشة ، وتملكه العجب ، أمام هذه النبوءة العجيبة ، عن غيب بعيد لا يدري ما ذا ستحمله الأيام فيه ، سواء أكان ذلك في صالح القرآن ، أم في غير صالحه ، ولا شك أن كل من يهمه أمر القرآن ممن عاداه من أهل الأرض ، كانت

١٢١

تهمه هذه النبوءة ، ويتمنى أن يرى نقيضها ، ليدل على إيجاد التناقض في هذا القرآن.

لقد تكفل الله بحفظ القرآن الكريم واستمراره استمرار الحياة ، كما تكفل بحمايته من التبديل والتحريف ، والتغيير والتزييف ، فلا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

إن دعوى الحفاظ على القرآن من يد التبديل والتحريف دعوى عريضة ، ولا سيما بعد أن عرفنا الظروف القاسية التي كان يمر بها المسلمون حينما نزلت هذه الآيات ..

إننا لا نكاد نجد على وجه الأرض كلاما يحافظ على معناه ولفظه إلى الأبد ، دون أن تتبدل بعض ألفاظه ، أو تتغير بعض معانيه.

فهذه الكتب السماوية السابقة ، رغم كثرة أتباعها ، وحرصهم عليها ، قد بدلت وغيرت ، وحرفت وزيفت ، حتى أصبحت مغايرة لأصولها ، ومنافية لها.

وليس هذا شأن الكتب السماوية فقط ، بل هو شأن كل منقول يطول عليه الأمد.

إننا حينما نقرأ اليوم شعرا لبعض شعراء الجاهلية نجد فيه اختلافا كثيرا ، وقلما يخلوا البيت الواحد من القصيدة ـ قلما يخلو من تغاير في ألفاظه ، بسبب الرواة قديما ، وبسبب تعدد النسخ حديثا ، رغم حرص العرب على نقل الشعر ، والتغني به ، والفخر بمضمونه ، ولا سيما أنه كان المعبر عن أيامهم ، والحافظ لسيرتهم وتاريخهم ، وكرمهم ومآثرهم ، وأمجادهم وبطولاتهم.

وهذا لا نجده في الشعر الجاهلي فقط ، بل نجده في الشعر الإسلامي ، في كافة العصور ، رغم كثرة الرواة وشيوع الكتابة والتدوين.

بل إننا لنجد اختلافا فيما ينقل إلينا من مائتي أو مائة عام ، أو ما دون ذلك ، وهذه طبيعة النقول.

١٢٢

وهذا الاضطراب أو الخلاف ، لا نجده فقط في رواية الشعر ، بل نجده في متن اللغة ، وكتب التراث حينما نحققها ، وربما اختلفت الأحكام ، وتغيرت المعاني بسبب اختلاف النسخ ، وضبط الناسخين.

بل إننا نزيد على ذلك ونقوله : إن الاختلاف بين الرواة في النقل ، بسبب جودة الحفظ أو رداءته ، وبسبب الضبط وعدمه ، وبأسباب أخرى معروفة مضبوطة في علوم الحديث ـ أدى هذا إلى الاختلاف في متن حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا سيما وقد أجاز المحدثون الرواية بالمعنى ، لمن عرف العربية ، وأدرك المعاني والأحكام ، بضوابط رسموها في قواعد الرواية ، مما اضطر العلماء إلى تصنيف قواعد الترجيح بين الروايات المختلفة عند تعارضها ، مما هو معروف عند علماء الأصول.

لقد كان من المتوقع لكل ذي عقل ، أن ينال القرآن ما ينال غيره من الكتب ، من الاختلاف والاضطراب ، والتغيير والتبديل ، بين النّسخ ، وبين الأقاليم والأمم.

ولكن الله أراد أن يطمئن رسوله والمؤمنين إلى أن هذا القرآن لن يكون كغيره من الكتب والمنقولات التي تغيرت وتبدلت ، وذلك لأن تلك الكتب قد وكل حفظها إلى البشر ، ولذلك كان لا بد من الاضطراب والاختلاف فيها ، وأما القرآن فقد تكفل الله بحفظه وبقائه.

ومرت الأيام ، وتتابعت السنون والقرون ، ومر المسلمون في حالات من القوة والعزة والمنعة والرفاهية ، كما مروا في حالات من البؤس والذل والهوان ، والقرآن رغم كل هذا لم يتأثر ، بل لم يزدد إلا قوة وثباتا.

يقرؤه المسلم في اليمن ، بنفس الصيغة والرسم اللذين يقرؤه بهما المسلم في الصين ، ويقرؤه المسلم في أوروبا ، كما يقرؤه المسلم في أمريكا ، كما يقرؤه المسلم في إفريقيا ومكة المكرمة أو المدينة المنورة ، أو الشام ، أو مصر.

صيغة واحدة ، ورسم واحد ، لا زيادة فيه ولا نقص ، ولو بحرف واحد.

١٢٣

نرجع إلى النسخ التي كتبت منذ أربعة عشر قرنا ، فنجدها بنفس الكلمات والحروف التي كتبت بها النسخ بعد ذلك بقرن ، أو قرنين ، أو ثلاثة ، أو عشرة ، إلى يومنا هذا.

والأعجب من ذلك أن المسلم الصيني ، أو الروسي ، أو الأوروبي ، أو الإفريقي ، أو الأمريكي ، يقرأ القرآن بلغة العرب التي أنزل فيها ، في كثير من الحالات ، بل في أكثرها لا يفهم معناه ، ولكنه رغم هذا ، يقرؤه ويحفظه ، بنفس الصيغة والأسلوب اللذين كان يقرأ بهما القرآن في زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي كل زمان ومكان ، وكما يقرؤه المسلم العربي الذي يكاد يفهم معنى كل حرف من حروفه ، وكل كلمة من كلماته.

ما السر في هذا؟.

وكيف ثبت القرآن هذا الثبوت؟.

وكيف وصل إلى هذه المرحلة ، خلال هذه القرون الطويلة التي ما أتت على شيء إلا وبدلته وغيرته ..؟.

إنه إعجاز القرآن الغيبي .. الذي أخبر الله عنه من أربعة عشر قرنا : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ ، وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ ، لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ).

ولكن ... هل هذا كل ما في الأمر من هذه المعجزة الغيبية ...؟.

الجواب : لا ..

إن وجه الإعجاز سيظهر جليا واضحا اليوم ، في العصر الحاضر ، أوضح مما ظهر في أي يوم من الأيام ...

لقد دارت الدائرة على دولة الإسلام ، فانهارت خلافتها ، وتمزقت وحدتها ، وقامت الحدود الإقليمية المصطنعة بين أبنائها ، فجعلت منهم العربي والأعجمي ، ثم قامت الحدود بين أبناء الأمة العربية ذاتها ، وقسمت البلاد العربية إلى دول ودويلات ، وفي كل هذا التراجع ، تتراجع راية المسلمين ، وتلين عزيمتهم ، وتضرب حولهم السدود المنيعة حتى لا يقووا على الحركة والنهوض.

١٢٤

فقد تداعى الشرق والغرب ، من اليهود ، والنصارى ، والماديين الملحدين للقضاء على الإسلام ، وإلا قضى عليهم.

وتسابق فلاسفة هذه الدعوة لوضع الخطط الكفيلة بهدم ذلك الصرح الشامخ الذي بناه الآباء والأجداد خلال مئات السنين ، في أعظم وأسرع حضارة عرفتها الإنسانية خلال تاريخها الطويل.

وتظاهر المبشرون والمستشرقون في مؤتمرات عديدة لمثل هذه الغاية ، وكان مما قرروه وعزموا عليه ، هو القضاء على القرآن ، الذي عرفوا أنه سر من أسرار التماسك والاتحاد بين المسلمين ، فقالوا : ـ وقائلهم غلادستون رئيس وزراء بريطانيا ـ ما دام هذا القرآن موجودا في أيدي المسلمين فلن تستطيع أوروبا السيطرة على الشرق (١).

وقال الحاكم الفرنسي في الجزائر ، في ذكر مرور مائة سنة على استعمار الجزائر :

«إننا لن تنتصر على الجزائريين ما داموا يقرءون القرآن ، ويتكلمون العربية ، فيجب أن نزيل القرآن العربي من وجودهم ، ونقتلع اللسان العربي من ألسنتهم» (٢).

إذن لا بد من شن حملة على الإسلام والقرآن ، تستأصله من بين أيدي المسلمين ، وترفعه من أوساطهم ، لتتحقق التفرقة التي يحلم بها أعداء هذا الدين.

لقد قرروا هذا وهم يملكون من القوى ما تمكنوا بواسطته من إزالة كثير من الحضارات ، وتغيير كثير من الخرائط ، وإنشاء أو إفناء كثير من الدول.

إذن ففي وهمهم أنهم سيتمكنون من الوصول إلى هذا الهدف الذي

__________________

(١) الإسلام على مفترق طرق لمحمد أسد ص ٣٩.

(٢) المنار عدد ٩ ـ ١١ ـ ١٩٦٢.

١٢٥

رسموه ، يتحدون بذلك ليس إرادة البشر ، وإنما إرادة الله ، ويثبتون أن خبر القرآن كان كاذبا حينما ألقي إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ).

ولكن هل وصلوا إلى ما أرادوا ..؟

لقد تمكن المخططون من الوصول إلى كثير من مآربهم في أمتنا الإسلامية ، فنقضوا الخلافة ، ثم مزقوا الأمة ، ثم كروا على دور العلم الإسلامية فقضوا عليها ، بالتطوير تارة ، وبتجزئة المناهج تارة أخرى ، ليحولوا بين الناس وبين ينابيع ثقافتهم الإسلامية.

ثم بثوا في صفوف المسلمين مناهجهم التعليمية ، وما زالوا يعملون ويدأبون إلى أن وصلت أمتنا إلى ما لا تحسد عليه ، مما يسر العدو ، ويحزن الصديق ، إذ كادت تندثر في صفوفها كثير من العلوم الإسلامية ، والعربية ، فعلوم الفقه ، والأصول ، والتفسير ، والحديث ، لم يبق منها اليوم إلا أطلال دارسة ، ومعاهد خاوية.

وعلوم اللغة اندثرت أو كادت ، مما يهدد بكارثة في جانب علوم الشرع بأسرها.

وكل هذا لم يكن من قبيل الصدفة ، وإنما كان نتيجة لتخطيط ماكر رهيب.

ويضاف إلى كل هذا أن أعداءنا نشروا في أوساط الأجيال المعاصرة روح الإلحاد والإباحية ، حتى لم تعد للقرآن أية قيمة في نفوسهم ، كما أنه لم تعد للفضيلة مكانة عندهم ، وصار كثير منهم يهزأ هو نفسه بالقرآن وبتعاليم القرآن بدلا من أن يهزأ بها عدوه.

وإلى جانب هذا وصل المسلمون إلى حالة من الضعف والوهن ، لم يصلوا إليها طيلة تاريخهم الطويل ، حتى أصبحوا هدفا لحملات الإبادة الإفرادية والجماعية ، في معظم بقاع العالم ، وهم الآن لا حول لهم ولا طول ، مثلهم مثل

١٢٦

الشاة التي تنتظر دورها في المسلخ أمام الذباح ...؟

ولكن وثانية ما ذا حصل للقرآن في تلك الخطة المرسومة للقضاء عليه ، وقد استطاع أعداؤه أن يصلوا لكل ما رسموه فيما سواه من مظاهر الإسلام والعلوم الإسلامية ...؟!.

لقد كان الأمر بالنسبة للقرآن على العكس تماما مما حدث لجميع العلوم الإسلامية التي ذكرناها ، والتي استغنينا بما ذكرناه عن ذكرها ، علما بأنه كان هو الهدف الرئيسي ، أو من أهم الأهداف الرئيسية في تلك الحملة الصليبية الخطيرة ، التي قامت ، وما تزال قائمة إلى يومنا هذا.

لقد كانت دور تحفيظ القرآن محصورة في بعض بقاع العالم الإسلامي ، وأما اليوم ، ورغم بعد الناس عن دينهم ، ورغم بعدهم عن لغتهم ، ومن ثم عن فهم قرآنهم ، فقد انتشرت مدارس تحفيظ القرآن في معظم بقاع العالم الإسلامي.

وإن الإنسان ليدهش حينما يجد الآلاف من الأطفال يتخرجون كل عام حفظة للقرآن الكريم ، من ماليزيا ، في جنوب شرق آسيا ، إلى مكة قلب جزيرة العرب ، وفي معظم بلاد الإسلام ، إلى جانب ما يرصد لحفظة القرآن من الجوائز في بعض الأحيان ، مما لا يخفى على كل من يتتبع أحوال القرآن وحفاظه في جميع أنحاء العالم الإسلامي ، حتى وصل الأمر لبعض المؤسسات التعليمية الإلحادية فأخذت ترصد الجوائز ، وتعمل المسابقات لحفظ القرآن الكريم ...؟.

كما أصبحت طباعة القرآن ، والعناية به من المظاهر التي يتباهى بها كثير من الدول والحكام في العالم.

فكثير من الحكام نشروا القرآن بأسمائهم ، وطبعوه على نفقاتهم.

وكثير من الدول عملت هذا باسم الدولة التي نشرته.

وإن الإنسان ليعجب حينما يعلم أن روسيا ـ رائدة الإلحاد في العالم ـ قد طبعت القرآن ، وهي توزعه على الزائرين والضيوف وبعض المسلمين في الاتحاد السوفيتي؟.

١٢٧

كما أن أجمل طبعة للقرآن وآنقها كانت في المانيا الغربية رائدة الحروب الصليبية ...؟.

لقد كانت قراءة القرآن في الماضي مقصورة على من يعرف القراءة ، وأما اليوم فقد صار بإمكان المسلم ـ ممن يقرأ ولا يقرأ ـ أن يسمع القرآن ، ويتعلم تجويده ويحفظه ، بعد أن سجل القرآن الكريم على الاسطوانات ، ثم على الأشرطة ، بأصوات أمهر القراء في العالم الإسلامي ، وبالقراءات المختلفة من السبعة المتفق على تواترها ، فصار بإمكان الأمي ، والقارئ ، والبدوي ، والحضري ، والعربي ، والأعجمي ، أن يستمع إلى القرآن متى شاء ، وفي أي زمان أو مكان ، وأن يتعلمه ويحفظه ..؟.

المدارس تعمل المسابقات لحفظ القرآن ، والجامعات تعمل أيضا المسابقات ، وبعض الدول الإسلامية النائية كماليزيا مثلا تعمل سنويا مسابقة دولية لحفظ القرآن وترتيله ، والحكام يسارعون للتفاخر بنشر القرآن على نفقاتهم ، بأسمائهم أو بأسماء دولهم ، والإذاعات تتسابق لتسجيل القرآن بأصوات القراء ، ودور النشر تعمل كل ما في وسعها من أجل جذب الزبائن عن طريق إصدار أجمل الطبعات للقرآن ...؟

إن كل من يرى هذه الظاهرة اليوم ليقول : إنه من المستحيل إزالة القرآن من الوجود ، أو إبعاده عن الناس ، بعد أن وصل إلى ما وصل إليه من الثبات والتوثيق فيما ذكرناه من الوسائل.

ولذلك باءت كل محاولات التزوير أو التحريف التي قام بها اليهود وأعوانهم في العالم ، بنشر بعض الطبعات المحرّفة للقرآن ، لأنه لم يعد هناك أي مجال لمثل هذه المحاولات اليائسة ، بعد أن وصل القرآن إلى ما وصل إليه.

أليس هذا دليلا على مصداق قوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ ، وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)؟.

أو ليس في هذا دليل على حفظ الله قرآنه من التبديل والتغيير والتحريف في قوله تعالى : (إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ ، لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ،

١٢٨

تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)؟.

أو ليس في هاتين الآيتين ما يبهر العقول من الإعجاز الغيبي في كتاب الله ..؟.

أو ليس هذا دليلا على أن هذا القرآن من عند الله ، ومن كلامه ، لا من كلام البشر ، وإلا لما استطاع أي إنسان في الأرض أن يجزم بحفظ القرآن على نحو ما ذكرناه.

بلى اللهم إنا لنشهد على أن في هاتين الآيتين من الإعجاز الغيبي ما يفحم به المعاند ، ويذعن له المنصف العاقل.

١٢٩

٦ ـ الاخبار عن عجز البشر

عن تحدي القرآن إلى يوم القيامة

لقد نزل القرآن الكريم في أمة الفصاحة والبلاغة والبيان ، كما قدمنا ذلك وبيناه.

نزل بلغة هذه الأمة ، وجرى على أساليبها في الخطاب ، والخبر ، والمحاورة ، وتصرف في تلك الأساليب كما كان يتصرف العرب.

إلا أنه في نفس الوقت كان المعجزة اللغوية الحية الناطقة ، الدالة لكل عربي تذوق لغته وعرفها على أن هذا القرآن ليس من عند البشر ، لما احتواه من أساليبه المعجزة ، في كل سورة من سوره ، وإنما هو من عند الله ، ولذلك تحداهم الله به.

ونحن لا نريد الآن أن نعيد ما تقدم ، وإنما نريد أن نبين وجها من وجوه الإعجاز الغيبي في آيات التحدي بالقرآن.

لقد تحدى الله العرب بالقرآن في مكة في ثلاثة مواطن ، تحداهم في سورة الإسراء ، أن يأتوا بمثل هذا القرآن ، فقال : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ ، لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً).

ثم كان التحدي في سورة هود ، ليس بكل القرآن ، وإنما هو بعشر سور مثله ، فقال تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ، قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ ، وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

ثم ترقى التحدي إلى التحدي بسورة واحدة من سور القرآن ، فقال تعالى في سورة يونس : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ، قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ، وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ

١٣٠

مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

وكان كل من يهمه أمر القرآن ، من مشرك أو مؤمن ، يترقب نتيجة هذا التحدي ، ويتمنى كل مشرك لو أنه وقع ، إلا أنه لم يقع طيلة فترة القرآن المكي قبل الهجرة ، على ما بيناه.

وبعد الهجرة نزلت آيات القرآن الكريم ، ليس فقط بالتحدي للمشركين بسورة واحدة من سور القرآن ، بل بأمر آخر أعجب وأغرب ، وفيه دلالة قاطعة أخرى على إعجاز القرآن ، وأنه ليس من صنع البشر ، ألا وهي الجزم بأن القرآن لن يعارض ، ولو في سورة واحدة من سوره ، فقال تعالى في سورة البقرة : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ، وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا ، وَلَنْ تَفْعَلُوا ، فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ).

إن التحدي لم يعد قاصرا على معارضة القرآن ، وإنما أصبح بأمر آخر غيبي ، لا يمكن لأحد من البشر أن يتنبأ به بمثل هذا الجزم وهذا التأكيد ، ألا وهو أن هذا القرآن لن يتحدى ، وبأن العرب وكل من في الأرض ، وبكل تأكيد سيعجزون عن معارضة القرآن إلى يوم القيامة.

أما الشق الأول من التحدي ، وهو التحدي بمعارضة القرآن ، ولو بسورة واحدة من أقصر سوره ، فقد ثبت عجز العرب عنها كما رآه وأدركه كل عربي من المشركين والمؤمنين على السواء ، وكما اعترف به أساطين الشرك وزعماء البلاغة والبيان في مكة ، على ما ذكرناه من قبل ، مما ثبت معه إعجاز القرآن.

وأما الشق الآخر ألا وهو الجزم بأمر غيبي ، فلا سبيل لأن يدركه أحد ممن عاصر نزول القرآن وقيام التحدي ، وربما وقع في نفوس بعض المشركين أو المعادين للإسلام من اليهود والنصارى والمنافقين ، ربما وقع في نفوس بعضهم أنه إذا لم يتمكن أهل الجيل الأول من معارضة القرآن ، فإنه من المحتمل أن يعارضه أهل الجيل الثاني ، وهذا احتمال يقبله العقل المجرد ولا يدفعه.

١٣١

ولكن الواقع حسبما هو معروف في تاريخ الإسلام والقرآن يثبت أن المعارضة لم تقع ، رغم تكرر الأيام ، وتوالي القرون والأعوام ، ورغم كثرة الحريصين على هذه المعارضة ، والمهتمين بها ، إذ لو وقعت لانتشرت انتشار النار في الهشيم ، ولشاعت وذاعت ، وملأت الدنيا ضجيجا ، ولكانت رمز الفخار لكل من رفض الإسلام وأبى الإيمان.

وهذا إلى جانب ما اكتشفناه في هذا العصر من الإعجاز العلمي في القرآن ، مما جعل كل عاقل يدرك أن من المستحيل أن يأتي البشر بأي كتاب كهذا الكتاب ، يخوض في كل جوانب الكون والنفس والحياة ، دون أن يوجد فيه أي خلل أو تناقض ، بل تأتي العلوم التي بذل الإنسان من أجلها وضحى ، تأتي لتثبت صدق القرآن في كل ما أخبر به أو خاض فيه من أمور الكون والحياة ... دون أي اضطراب ، أو تناقض ، أو خلل ، كما بيناه ، وكما سنبنيه إن شاء الله.

ولذلك كانت هذه الآية المخبرة عن هذا الأمر الغيبي العجيب معجزة ناطقة ، لا لأهل الجيل الأول ، بل لكل جيل إلى يومنا هذا ، وإلى يوم القيامة ، إذ أدركنا أن المعارضة لم تقع أبدا ، على نحو ما أخبر الله به في القرآن قبل أربعة عشر قرنا من الزمان.

ولذلك ذهب الإمام الزمخشري إلى أن «لن» تدل على النفي المؤبد ، لا على مطلق النفي ، مستدلا بهذه الآية الكريمة.

إذن فإننا حينما نقرأ قوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) يجب علينا أن نذعن إذعانا يقينا إلى أن هذا القرآن ليس من صنع البشر ، وإنما هو من كلام علام الغيوب ، الذي أخبر عما علم من حال خلقه أنه سوف لا يكون بوسعهم معارضة القرآن وإن اجتمع إنسهم وجنهم على قلب رجل واحد ، وكان الأمر إلى يومنا هذا على نحو ما أخبر الله به ، وسيبقى كذلك إلى يوم القيامة ، ليدل كل من ينظر في القرآن من أهل كل جيل على أن هذا القرآن هو المعجزة الدالة على أنه من وحي الخالق وكلامه ، لا من صنع البشر.

١٣٢

٧ ـ الاخبار عن دخول

مكة

لقد رأينا في الفقرات السابقة كيف أن نبوءات القرآن كلها قد وقعت على نحو ما أخبر به القرآن ، دون أن يتخلف واحد منها.

ومن هذا القبيل ، ومما رأى المسلمون تحققه في زمن وجيز ، وعلى التحديد خلال سنة من تاريخ الإخبار تقريبا ـ ما كان من أمر دخول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة.

فقد أخرج الفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن جرير الطبري ، وابن المنذر ، والبيهقي في دلائل النبوة ، عن مجاهد قال : «أري رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو بالحديبية ، أنه يدخل مكة هو وأصحابه آمنين محلقين رءوسهم ومقصرين» (١).

فقص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رؤياه على أصحابه ، ففرحوا ، وظنوا أنهم سيدخلون في ذلك العام ، بناء على ما فهموه من رؤيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأن رؤيا الأنبياء حق ، لا ريب فيه ، بل هي من أنواع الوحي.

إلا أن الأمر جرى على خلاف ما أخبر به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ووقع ما لم يكن بالحسبان ، إذ خرجت قريش ، وصدت المسلمين عن البيت ، ومنعتهم من أداء العمرة ، وكادت تكون حرب ، بين المسلمين والمشركين ، وهو الأمر الذي لم يخرج المسلمون له وما أرادوه ، لو لا أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم رضي الصلح الذي اشتهر بصلح الحديبية ، على أن ينحر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه الهدي في مكانهم ، ويحلقوا رءوسهم ، ويرجعوا ، حتى إذا كان العام المقبل ، يخلي له المشركون الحرم ومكة ثلاثة أيام ، يؤدي فيها نسكه مع أصحابه ، شريطة أن لا يدخلوها بسلاح ، ولا

__________________

(١) الدر المنثور ٦ / ٨١.

١٣٣

يخرج معهم أحد من أهل مكة.

فنحر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هديه ، وحلق رأسه ، وقفل راجعا إلى المدينة.

فعز ذلك على أصحابه وآلمهم ، وسر المنافقين ، وأعطاهم مادة جديدة للبلبلة بين المسلمين ، فقال عبد الله بن أبيّ رأس النفاق : والله ما حلقنا ، ولا قصرنا ، ولا رأينا المسجد الحرام .... ، يشير إلى رؤيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي رآها ، وأخبر بها أصحابه ، ورؤياه كما هو معروف لجميع المسلمين حق ووحي ، فكيف تخلفت في هذه المناسبة ..؟!.

وعلى الرغم من حرج الموقف ، وعلى رغم ما هو معروف من غدر قريش ، ونكثهم العهود والمواثيق ، وتعطيلهم الأرحام ، نزلت الآية الكريمة ، تؤكد رؤيا رسول الله ، وأنها حق لا ريب فيه ، تحمل نفس المعاني التي رآها رسول الله في المنام ، فقال تعالى :

(لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ ، لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ ، مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ ، لا تَخافُونَ ، فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا ، فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً).

وفرح المسلمون وهللوا ، وزاد غيظ المنافقين ، وكثر دسهم ، واتسعت دائرة عملهم ، لما عرفوه من مشركي مكة ، من نكثهم للعهود ، ونقضهم للمواثيق ، ظنا منهم بأن قريشا ستنقض عهدها ، ولن تسمح لمحمد وأصحابه بدخول مكة ، وهي التي طردتهم منها ، وحاولت بكل الوسائل قتلهم .. وما تزال تحاول.

ويأبى الله إلا أن يتم نوره ، ويظهر دينه وقدرته ، فثبتت قريش على عهدها ، وجاء العام التالي ، وادخل المسلمون مكة ، واعتمروا ، وحلقوا رءوسهم وقصروا ، آمنين مطمئنين ، مصداقا لما أخبر الله به في القرآن الكريم.

(لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ ، مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ ، لا تَخافُونَ).

ليكون في هذا ما يدل كل ذي عقل على أن هذا القرآن إنما هو من عند

١٣٤

خالق البشر ، والمتصرف بمقاديرهم وأمورهم ، ما أخبر عن شيء إلا وقع كما أخبر عنه ، «ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا».

وليس هذا فقط ، فقد حملت الآية التي نزلت بصيغة الجزم والتأكيد ـ حملت بشارة عظيمة للمسلمين ، وأخبرتهم عن أمر لم يكن بحسابهم ، ألا وهو الفتح القريب الذي سيكون دون تحقق هذه الرؤيا ، وكان الأمر على نحو ما أخبر الله به في هذه الآية الكريمة.

وذلك أنه بعد أن عقد الصلح ، واطمأن الناس وأمنوا ، التقى الناس وتفاوضوا ، وتبادلوا الحديث والمناظرة ، فما كلّم أحد بالإسلام ، إلا ودخل فيه ، فدخل في تلك الفترة الوجيزة من الزمان ، أضعاف ما كان قد دخل فيه قبلها.

فقد كان عدد المسلمين سنة ست من الهجرة يوم الحديبية ألفا وأربعمائة رجل ، وكانوا بعد عام الحديبية سنة ثمان من الهجرة حوالي عشرة آلاف رجل (١).

ولذلك قال ابن شهاب الزهري : ما فتح الله في الإسلام فتحا كان أعظم من صلح الحديبية.

إنها بشائر متتابعة يسوقها القرآن الواحدة تلو الأخرى ، وكلها تحمل الإخبار عن غيب لا يمكن لأحد من البشر أن يتنبأ عنه كما تنبأ القرآن ، ولا سيما أن الظروف كلها بعيدة كل البعد عن مثل تلك النبوءات ، ومع ذلك كانت تتحقق بكل صراحة ووضوح ، لتدل على أن هذا الكلام إنما هو كلام الله ، وليس من صنع البشر.

__________________

(١) القرطبي ١٦ / ٢٩١.

١٣٥

٨ ـ الاخبار عن بعض أسرار بني إسرائيل التي

لم تكن معلومة حتى لليهود المعاصرين للقرآن

إن ما ذكرناه في الفقرات الماضية من صور الإعجاز الغيبي ، إنما كان بالنسبة للأمور التي أخبر القرآن عنها بأنها ستقع في المستقبل.

وقد رأينا كيف أنها تحققت ، دون أن تتخلف واحدة منها ، على نحو ما أخبر به القرآن ، ليكون في ذلك المعجزة الخالدة الناطقة الدالة لكل إنسان في كل زمان ومكان على أن هذا القرآن إنما هو من كلام الله الذي لا يجوز لعاقل أن يمتري فيه بعد أن رأى أو سمع عن تلك المعجزات اليقينية ، في الإخبار عن الأمور الغيبية ، التي تحقق بعضها في زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتحقق بعضها بعد وفاته عليه‌السلام ، وما زال بعضها تدرك حقيقته في أيامنا الحاضرة ، وسيبقى القرآن هكذا ، تكشف لنا الأيام عن إخباره بالغيوب إلى قيام الساعة.

وليس ما ذكرناه عن غيب المستقبل هو كل ما أخبر عنه القرآن ، وإنما ذكرنا ما ذكرناه ، كنموذج للإخبار عن الغيب.

وهناك أمور لم نذكرها ، تعرض لها العلماء ، وتعرضت لها كتب التفسير ، استغنينا بما ذكرناه ـ مما اتضحت دلالته ـ عنها ، ففي اليسير الواضح ما يغني عن الكثير.

ولكن الإعجاز في الإخبار عن الغيب ليس مقصورا على غيب المستقبل ، بل هو عام ، يشمل غيب المستقبل ، كما يشمل غيب الماضي ، وغيب الحاضر.

أما بالنسبة للماضي ، فذلك لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان رجلا أميا ، لا يعرف قراءة ولا كتابة ، وهذه حقيقة لم يختلف فيها مشرك ولا مؤمن ، ولا يهودي ولا نصراني.

١٣٦

قال تعالى : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ).

وقال : (ما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ، إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ).

وفي نفس الوقت لم يكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على علم بأخبار الأمم السابقة ، على التفصيل الدقيق الذي يخفى على كثير من المتخصصين علاوة عن الأميين.

وكانت أخبار الأمم السابقة مقصورة في الجاهلية على بعض الناس ، من العرب وغيرهم ، ممن شاع ذكرهم ، وانتشر في الناس صيتهم.

وما عرف هذا يوما عن نبينا عليه الصلاة والسلام.

ومع ذلك فقد ورد في القرآن الكريم الكثير والكثير من أخبار الأمم الماضية ، وفي بعض الحالات بأدق التفاصيل التاريخية ، التي كانت لا تخفى على كثير من الذين كانوا على صلة بتاريخ الأمم السابقة ، كالإخبار عن قصة نوح عليه‌السلام ، في دعوته لقومه ، وعن سير تلك الدعوة ، ومدتها ، وعاقبتها ، وعن الطوفان الذي غمر الأرض ، وغير ذلك من الأمور.

وكالإخبار عن أحوال بني إسرائيل مع فرعون ، ومع نبيهم موسى عليه‌السلام ، والكشف عن سوءاتهم ومخازيهم ، من قتل الأنبياء ، والتعنت في المطالب ، والغلو في الأمور ، والتحايل على الشرع ، والعبث في الدين.

وكالإخبار عن حياة موسى عليه‌السلام ، من بدئها إلى نهايتها ، وبأدق التفاصيل التاريخية التي كان يجهلها أكثر العرب إن لم نقل كلهم ، كما كان يجهلها كثير من بني إسرائيل.

كما كشف عن كثير من الأخطاء التي كان عليها بنو إسرائيل ، من اليهود والنصارى ، في شأن مريم ابنة عمران ، وعيسى عليه‌السلام ، وعزيز ، فكان مطابقا لما كان معروفا عند بعض أحبار اليهود والنصارى ، ممن عرفوا الحقيقة.

فتكلم عن بدء حياة ابنة عمران ، وما صاحب حياتها من الكرامات التي

١٣٧

رآها زكريا عليه‌السلام ، ثم تكلم عن حقيقة حملها ، وبرأها مما كان يرميه بها اليهود من الزنا.

ثم تكلم عن حقيقة عيسى بن مريم ، وأنه بشر من البشر ، ونفى عنه ما يزعمه النصارى من أنه ابن الله ، وثالث ثلاثة ، كما نفى عنه أنه قتل أو صلب ، على خلاف ما يعتقده النصارى أيضا ، ومما يتوافق مع الحقيقة التي كان يعرفها بعضهم ، والحقيقة التي كشفت عنها الأيام حينما اكتشف إنجيل برنابا.

فلم تكن قصصهم فقط سردا للحقائق التاريخية التي كانت تخفى على نبيناعليه‌السلام ، والتي لم يكن قد تعلمها من قبل ، بل كانت في كثير من الأحيان تصحيحا لمعتقداتهم الباطلة التي بنوها على تاريخ محرف مزيف.

ولذلك لما هاجر المسلمون هجرتهم الأولى إلى الحبشة ، وعرضوا في القصة المعروفة التي تعقبهم بها المشركون ـ عرضوا حقيقة الإسلام التي جاء بها القرآن لم يكن من النجاشي العارف بالحقيقة إلا أن قال : «إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة».

ثم قال لما عرضوا عليه حقيقة عيسى بن مريم التي جاء بها القرآن ، والتي كان يجهلها أكثر من في الأرض حتى النصارى ، من أنه عبد الله ورسوله ، وروحه ، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول ، لم يكن من النجاشي إلا أن أخذ من الأرض عودا ، ثم قال : «والله ما زاد عيسى بن مريم على ما قلتم مقدار هذا العود».

فمن أين عرف محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلك الحقائق التاريخية ، بذلك التفصيل الدقيق ، الذي كان خافيا على جل أهل الأرض ، إن لم يكن خافيا عليهم كلهم.

وعلى افتراض أنه كان يتلقى هذه الأمور عن بعض أهل الكتاب ـ كما يزعمه الملاحدة ، وكما زعمه المشركون في الماضي ، كيف يمكن للعقل البشري أن يؤمن بمثل هذه الأباطيل وهو يحدث الناس بنقيض العقيدة التاريخية التي كان يؤمن بها كل أهل الكتاب في ذلك الوقت ، وإلى يومنا هذا؟ وكان ما حدث به

١٣٨

وأخبر عنه هو الحق الذي أقره النجاشي ، وسلمان الفارسي ، وعدي ابن حاتم ، وكل من أسلم من اليهود والنصارى ، وكشف عنه في التاريخ الحديث إنجيل برنابا؟!.

إن هذا القصص وإن كان إخبارا عن الماضي إلا أنه إخبار من رجل أمي ، لا يعرف قراءة ، ولا كتابة ، ولا تاريخا ، بل أتى بأشياء تخالف ما كان يعرف علماء التاريخ من الحقائق العلمية التي جعلت إخباره معجزة ناطقة دالة على أنه ما أخبر بما أخبر به إلا من قبل عالم السر والعلانية ، وعالم الماضي والحاضر والمستقبل ، من قبل الله ، ولذلك قال الله تعالى لنبيه عليه‌السلام في قصة موسى عليه‌السلام : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ ، وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ ، وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ ، وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا ، وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ، وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا ، وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ، لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ ، لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ).

وقال في نهاية قصة مريم : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ، وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ، وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ).

وقال في عيسى بن مريم : (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ، ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ ، إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).

وقال في صلبه وقتله : (وَما قَتَلُوهُ ، وَما صَلَبُوهُ ، وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ، وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ، ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً ، بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ ، وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً).

وقال في يوسف عليه‌السلام بعد أن ذكر قصته وكشف حقيقة ما جرى له : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ، وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ).

نعم .. إنه الإنباء عن الغيب الماضي بما يجعل منه معجزة لأهل العصر ، ولأهل كل عصر.

١٣٩

٩ ـ الاخبار عن زعم اليهود أن

عزيزا ابن الله

إن من أهم الحقائق التاريخية التي كشف عنها القرآن ، في الإخبار عن غيب الماضي ، والتي تعتبر من غرائب الأخبار ، الإخبار عن أن اليهود زعمت أن عزيزا ابن الله.

وغرابة هذا الخبر في أهل الكتاب كغرابته في غيرهم.

لقد أخبرنا الله في القرآن الكريم أن اليهود تزعم أن عزيزا ابن الله ، فقال تعالى في سورة التوبة : (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ ، وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ، ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ ، يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ).

أما النصارى فما أنكروا هذا ، وهم لا ينكرونه إلى يومنا هذا ، وهو أمر معروف عنهم قبل الإسلام وبعده.

وأما اليهود فما كانوا يقولون هذا ، وما كان فيهم من يقول : عزير ابن الله في زمن نزول القرآن ، وإنما هي قالة تاريخية لفئة منهم ، قالتها ثم انقرضت ، كما نقله القرطبي عن النقاش (١) ، وكما هو معروف في كتب اليهود وعقائدهم.

ولذلك ضرب أعداء الإسلام في الكلام على هذا الموضوع ، وزعموا أن في القرآن من الأخبار عن عقائد اليهود ما ليس في عقائدهم ، وقال اليهود منهم : إن القرآن بقولنا ما لم نقل في كتبنا ولا في عقائدنا.

إلى أن جاء العصر الحديث ، وكشفت المعرفة التاريخية لعقائد بعض قدماء

__________________

(١) القرطبي ٨ / ١١٧.

١٤٠