المعجزة القرآنيّة

الدكتور محمد حسن هيتو

المعجزة القرآنيّة

المؤلف:

الدكتور محمد حسن هيتو


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٤٢

قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : كان بين نزول قوله تعالى : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) وبين غزوة بدر سبع سنين.

إن أي عاقل في الكون كان يسمع الخبر ، بأن أولئك المستضعفين في مكة ، سيهزمون قريشا ، وينتصرون عليها ، كان يعجب ويدهش ، بحسب الموازين المادية ، ويعتبره ضربا من الخيال الساذج الذي يراود محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولكن أي إنسان يعرفه اليوم ، يعلم يقينا أنه ما كان ليصدر عن بشر ، لأن موازين البشر وطاقاتهم لا تسمح لهم بمثل ذلك التفاؤل ، ولذلك فإنه يقطع بأنه خبر الله ، ويقطع بأن هذا الكلام ليس من كلام البشر ، وإنما هو من كلام الخالق العليم ، معجزة ناطقة دالة على أن هذا القرآن من لدن حكيم خبير.

١٠١

٢ ـ التنبؤ بانتصار المسلمين على

الفرس والروم

إن ما ذكرناه في الفقرة الماضية كان مما أخبر عنه القرآن في مكة ، ورأينا كيف وقع ما أخبر به القرآن مع أن كل الظروف كانت ضد ما أخبر عنه حينما جاء الخبر.

ولو ذهبنا نعدد الآيات والمواقف التي كانت من هذا القبيل في مكة ، لعددنا من ذلك الشيء الكثير.

ولكننا سننتقل إلى المدينة المنورة لنقف على نظير هذا الموقف في مكة ، هناك في المدينة ، بل لنرى موقفا أشد منه غرابة ، وأكثر بعدا في مقاييس العقل البشري ، ولنرى فيه المعجزة القرآنية آية بينة صريحة.

لقد تظاهرت القبائل العربية بعضها مع بعض ، وكونت جيشا جبارا من عشرة آلاف مقاتل ، بقيادة أبي سفيان بن حرب ، وتحالفت مع اليهود من بني النضير وغيرهم لغزو المدينة ، وقتال المسلمين واستئصالهم ، وكانت غزوة الأحزاب ، أو غزوة الخندق.

وجمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المسلمين الذين لم يزد عددهم على ثلاثة آلاف مقاتل ، ينقصهم الكثير من العدد والعدد ، وهم لما يقو عودهم بعد ، ولم يستريحوا من آثار غزواتهم السابقة المتلاحقة التي أرهقتهم.

إنها المحنة الشديدة ، والبلاء المزلزل ، إذ حوصرت المدينة من أسفلها وأعلاها ، وزاد الأمر شدة عند ما نقض بنو قريظة عهدهم مع المسلمين ، وانحازوا إلى مشركي مكة في أعظم فرصة تسنح لهم للقضاء على الدين الجديد ،

١٠٢

الذي هدد كيانهم ووجودهم.

فعظم البلاء على المسلمين ، واشتد خوفهم ، كما اشتد جوعهم وعوزهم ، وظهرت علامات الاجهاد عليهم ، وزلزلوا زلزالا شديدا.

ولقد صور القرآن هذه الحالة البائسة التي مروا بها في ذلك الموقف العصيب بقوله تعالى : (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ ، وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ ، وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ ، وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ ، وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا ، هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً).

في هذا الظرف الحرج ، وفي هذا الموقف العصيب المتأزم ، تعرض للمسلمين صخرة عظيمة أثناء حفر الخندق ، يعجزون جميعا عن اقتلاعها ، ويشكون أمرهم لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويأخذ رسول الله المعول ، ويضربها الضربة الأولى مسميا الله ، فيكسر بعضها ويقول : الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام ، والله إني لأبصر قصورها الحمر إن شاء الله ، ويضربها الضربة الثانية ، ويكسر بعضها ويقول : الله أكبر ، أعطيت مفاتيح فارس ، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض ، ثم يضربها الضربة الثالثة ، ويقول : الله أكبر ، أعطيت مفاتيح اليمن ، والله إني لأبصر أبواب صنعاء ... ووعد الأمة بأن ملكها سيصل إلى تلك الأماكن ، ويردد قول الله تعالى الذي نزل في المدينة ، مؤكدا لما نزل في مكة : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) ويردد قوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ ، وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً).

إنه لإخبار رهيب ، عن غيب مكتوم ، تقول كل الظروف المحيطة بالمسلمين إنه إخبار من أبعد ما يكون على العقول أن تصدقه وتؤمن به ، أمة خائفة ، محاصرة ، انهكها الجوع ، وأتعبتها الغزوات ، وأحاطت بها الجيوش الجبارة الحاقدة من كل جانب ، تفوقها في العدد والعدد ، وتساندها كل الظروف المادية.

وبدلا من أن يسارع قائدها للاستسلام ، والتخلي عن فكر الهجوم بل

١٠٣

والدفاع ، يعلق وبكل صراحة وعزم وطمأنينة ، بأنه سيفتح العالم.

إنه لأمر غير مفهوم أبدا في معايير العقل المادي .. لأنه يتنافى مع أبسط مبادي القوة والحرب والقتال .. ويتنافى مع ما جرت عليه العادة ، وألفه البشر ، وقامت به سنة الكون.

وفي هذه الحالة ظهر النفاق ، فأخذ المنافقون يروجون في صفوف المسلمين ما يغل عزائمهم ، ويضعف هممهم ، ويقولون لهم : لا يأمن أحدكم على قضاء حاجته خوفا من الأحزاب ، ومحمد يعدكم مفاتيح كسرى وقيصر ..؟؟.

ويستأذن بعض الناس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الرجوع إلى المدينة قائلين : (إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ ، وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ ، إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً).

ومن خلال هذا الموقف الرهيب ، وهذه العاصفة العاتية ، التي جمعت بين المشركين ، واليهود ، والمنافقين ...

من خلال الظلام الدامس المخيف في موازين البشر ، يظهر بصيص الأمل ، فتنطلق جنود الله التي لا نراها .. وتنقلب المعركة ، وتندحر جيوش الشرك ، وينقلب ذاك البصيص من الأمل إلى نور ساطع يبهر العيون ، ويغمر القلوب ، وتظهر آيات القرآن الكريم ، ونبوءات الرسول العظيم ، متلألئة براقة ، لتعلن على الملأ بأن تلك الآيات التي كانت تتلى في ذلك الموقف الرهيب ، ما كانت من قول البشر ، وإلا لما كانت في هذا المستوى من التفاؤل المستحيل في موازين العقل ، وإنما هي من قول الله ، خالق الكون ومدبره ، ليدل بها أخا الإنكار والجحود والإلحاد على جوانب الإعجاز الغيبي في كتاب الله.

لقد وعد الله المؤمنين بالنصر في أحرج الظروف التي مرت بهم في حياتهم ، وقبلها المسلمون ، لإيمانهم بالغيب ، وإيمانهم بأن هذا الكلام إنما هو كلام الذي لا يتخلف وعده ، وهزئ بها المشركون والمنافقون .. وعاش من عاش من الفريقين ليرى وعد الله قد تحقق ... وليرى جيوش المسلمين تقتحم حصون

١٠٤

فارس وقلاع الشام وأبواب صفاء ، لتنهى أسطورة كسرى وقيصر ، وليعلم الجميع أن هذا من جوانب الإعجاز الغيبي في القرآن الكريم.

١٠٥

٣ ـ الاخبار عن انتصار الروم

على الفرس

إنه الحادث الذي يعتبر أشد إثارة ، وأبعد غورا من الحادثتين السابقتين ، اللتين تنقلنا فيهما بين مكة والمدينة ، وجموع المؤمنين ، والحاقدين ، من المشركين واليهود والمنافقين ...

إنها نبوءة لا تتعلق بالعرب ، ولا بجزيرة العرب ، وإن كانت من نوع ما ذكرناه من النبوءتين السابقتين.

وإنما هي نبوءة تتعلق بمصير دولة من الدول العظمى في ذلك الزمان ، في صراعها مع دولة أخرى ...

إنها دولة الروم في صراعها مع دولة الفرس.

ولندرك حقيقة الإعجاز القرآني في هذه الحادثة ، لا بد لنا أن نقف على بعض الحقائق التاريخية لدولة الفرس والروم ، لنتصور الظروف التي نزلت بها الآية القرآنية التي نريد أن نتكلم عنها.

لقد اعتنق الملك قسطنطين الديانة النصرانية سنة ٣٢٥ م ، وجعلها الديانة الرسمية للبلاد ، مما جعل أكثر رعايا الدولة الرومانية يعتنقونها ويؤمنون بها.

واستمر الحال في الدولة الرومانية على ما هي عليه من القوة والمنعة إلى أن تولى زمامها الملك «موريس» في أواخر القرن السابع الميلادي.

وكان «موريس» غافلا عن شئون البلاد ، وعن السياسة ، مما دفع قادة جيشه للقيام بثورة ضده ، بقيادة «فوكاس» الذي أصبح هو الملك في الدولة الرومانية ، بعد أن نجحت الثورة ، وقضى على العائلة الملكية ، ومن ثم أرسل

١٠٦

سفيرا له إلى امبراطور الدولة الفارسية «كسرى أبرويز الثاني» إلا أن كسرى هذا كان مخلصا شديد الإخلاص للملك «موريس» الذي قتله «فوكاس».

وذلك لأن كسرى كان قد لجأ إليه عام ٥٩٠ ـ ٥٩١ م بسبب مؤامرة داخلية في الإمبراطورية الفارسية ، وقد ساعده «موريس» في ذلك الوقت بجيشه لاستعادة عرشه ، فحفظ كسرى هذه اليد لموريس ، ولم ينسها.

فلما عرف بأخبار انقلاب الروم ، وقتل فوكاس لصديقه الملك موريس ، غضب غضبا شديدا ، وأمر بسجن السفير الرومي ، وأعلن عدم اعترافه بشرعية الحكومة الجديدة.

ومن ثم قاد حملة حربية على بلاد الروم ، وعبرت جيوشه نهر الفرات إلى الشام ، ولم يتمكن فوكاس من مقاومة جيوش الفرس ، التي استولت على «أنطاكية» و «القدس» ، واتسعت حدود الدولة الفارسية فجأة إلى وادي النيل.

وكانت بعض الفرق النصرانية ـ «كالسنطورية» و «اليعقوبية» ـ حاقدة على النظام الجديد في روما ، فناصرت الفاتحين الجدد ، وتبعها اليهود ، مما سهل غلبة الفرس.

في هذا الظرف الكئيب الحرج الذي تمر به الدولة الرومانية ، أرسل بعض أعيان الروم رسالة سرية إلى الحاكم الرومي في المستعمرات الإفريقية ، يناشدونه فيها إنقاذ الإمبراطورية.

فأرسل الحاكم جيشا كبيرا بقيادة ابنه «هرقل» الذي استولى فجأة على الإمبراطورية الرومانية ، وقتل «فوكاس».

إلا أنه رغم هذا لم يتمكن من إيقاف زحف الفرس الذين علت راياتهم العراق ، والشام ، ومصر ، وآسيا الصغرى.

وتقلصت الإمبراطورية الرومانية إلى عاصمتها ، وحوصرت حصارا اقتصاديا قاسيا ، مما أدى إلى كساد التجارة ، وإغلاق الأسواق ، وتفشي الأمراض ، وتحول دور العلم إلى مقابر موحشة مقفرة.

١٠٧

وبدأ عباد النار يستبدون بالرعايا الروم المسيحيين للقضاء عليهم ، وبدءوا يسخرون علانية من الشعائر الدينية المقدسة ، فدمروا الكنائس ، وقتلوا ما يزيد عن ١٠٠٠٠٠ مائة ألف من المسيحيين المسالمين ، وأقاموا بيوت عبادة النار في كل مكان ، وأرغموا الناس على عبادة الشمس والنار ، واغتصبوا الصليب المقدس ، وأرسلوه إلى «المدائن».

وانقلب كسرى من ثائر لأجل صديقه الحميم موريس ، إلى حاقد ، وفاتح ، لم يعد لأطماعه في دولة الروم حدود ... في استعلاء وكبرياء ، يظهران من الرسالة التي وجهها إلى هرقل من بيت المقدس ، قائلا فيها :

«من لدن الإله كسرى ، الذي هو أكبر الآلهة ، وملك الأرض كلها ، إلى عبده اللئيم الغافل هرقل ، إنك تقول : إنك تثق في إلهك ، فلما ذا لا ينقذك إلهك المقدس من يدي ...؟.

واستبد اليأس والقنوط بهرقل ، وحاول الفرار والهرب إلى قصره الواقع في قرطاجة ، لينجو بنفسه ، بعد أن يئس من إمكانية الدفاع عن الإمبراطورية الرومانية ، التي أصبحت مهددة بالسقوط بين الساعة والأخرى.

وخرج يريد الركوب في إحدى السفن الملكية التي أعدت لهربه.

إلا أنه في هذه اللحظة ، تمكن كبير أساقفة الروم من إقناع هرقل بالبقاء مع شعبه ، وأرسل هرقل سفيرا إلى كسرى يطلب منه الصلح.

إلا أن كسرى رفض وصاح بغضب شديد : «لا أريد هذا القاصد ، وإنما أريد هرقل مكبلا بالأغلال تحت عرشي ، ولن أصالح الرومي حتى يهجر إلهه الصليبي ، ويعبد الشمس إلهتنا».

إنها ذروة اليأس التي وصل إليها هرقل ، ووصل إليها الروم ، وذروة الاستعلاء التي وصل إليها الفرس.

وإنها لحالة أشبه ما تكون بحالة المؤمنين في مكة مع أعدائهم من المشركين

١٠٨

الذي يسومونهم أشد أنواع العذاب ، ويعملون كل ما في وسعهم من أجل القضاء على الدين الجديد.

وازداد بأس المشركين بغلبة الفرس على الروم ، إذ كانوا يرون الروم وهم على الدين النصراني أقرب إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين منهم ، وكانوا يرون الفرس أقرب إليهم من المسلمين ، لاجتماعهما على الوثنية.

فبلغت النشوة أوجها عند المشركين بانتصار الفرس على الروم ، واعتبروا هذا انتصارا لهم ، فهللوا لهذا النصر ورحبوا به ، وأخذوا يرددون أمام المسلمين قولهم : «لقد غلب إخواننا على إخوانكم».

وفي هذا الظرف الحرج ، البائس اليائس عند الروم ، وفي حالة الضيق والشدة التي كان فيها المسلمون .. نزل قول الله تعالى كالصاعقة بما لم يتوقعه أحد من أهل الأرض ، لا من المسلمين ولا من غيرهم ، نزل قوله تعالى : (الم ، غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ ، وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ ، لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ ، وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ ، يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ، وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).

إنه لكلام لا يكاد العقل المادي يفهم مراده وبواعثه ، المسلمون في محنة ، يعمل فيهم المشركون ما يعمله الفرس بالروم ، من القتل ، والسجن ، والتشريد ، والروم في يأس وشدة ، ملكهم يريد الفرار وتسليم آخر ما بقي في يديه من مملكته ، والفرس في نشوة النصر والفرح ، وفي هذا الموقف الصعب الحرج ، وبدلا من أن يكسب المسلمون ودّ الفرس المنتصرين ، أو على الأقل دفع نقمتهم بالتزام الصمت ، بدلا من هذا يعلن القرآن هذا الموقف الرهيب ، ويخبر بهذا الخبر العجيب ، وتنزل آياته بأغرب نبوءة يمكن للعقل البشري أن يتنبأ بها في مثل تلك الظروف ، تثير دهشة المشركين ، كما تلفت نظر الفرس إلى مواقف الدين الجديد الذي بدأ يطل على العالم من مكة ، ومن المحتمل أن تثير أحقادهم ضد المسلمين.

إنها لنبوءة عجيبة غريبة ، تجاوزت الوعود المحلية للمسلمين بالنصر على أعدائهم ـ كما سمعنا في الفقرات السابقة ـ إلى الوعود الدولية بانتصار الروم وهم

١٠٩

في أدنى الأرض على الفرس ، رغم حالة البؤس واليأس التي وصل إليها الروم ، والقوة والبأس التي يتمتع بها الفرس.

ما علاقة المسلمين بالإمبراطورية الرومانية ..؟.

وما علاقة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتلك الأمة البعيدة ، والديار النائية ، وأصحابه يسامون أشد أنواع العذاب في مكة ..؟.

وكيف ينزل القرآن بمثل تلك الأخبار العجيبة التي ينكرها العقل المادي ، وتزيد من حدة الصراع بين المسلمين وأعدائهم ، كما تثير على المسلمين طائفة من الشكوك الجديدة في دينهم وأخبار قرآنهم ..؟؟.

ولما ذا يتورط المسلمون في مثل تلك الأخبار ..؟؟.

إلا أنهم لا سلطان لهم على هذا .. ولا دخل لهم ولا لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا لأحد من أهل الأرض به.

إنها كلمات خالق السماء والأرض ، والمهيمن عليهما وعلى مقاديرهما ، يريد أن ينبه البشر إلى أن هذا الكلام إنما هو من كلامه ، لعلمه بما جرى ، ويجري ، وسيجري في هذا الكون الذي خلقه وعرف أسراره ، وليس من قول البشر ، ولا من قبيل نبوءاتهم ، بل هو على نقيض كامل لما يمكن أن يتنبأ به أي مخلوق ، في هذا الكون بمثل ذلك الظرف الرهيب العجيب.

إنها كلمات الخالق الحكيم العظيم ، التي يريد أن يجعل منها معجزة دالة على وجوده وقدرته وعلمه وصدق نبيه.

ولذلك قال المؤرخ إدوارد جبن تعليقا على هذه النبوءة : «في ذلك الوقت حين تنبأ القرآن بهذه النبوءة ، لم تكن أية نبوءة أبعد منها وقوعا ، لأن السنين الاثنتي عشرة الأولى من حكومة هرقل كانت تؤذن بانتهاء الإمبراطورية الرومانية».

لو كان هذا الكلام الذي يتلوه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويردده المسلمون من بعده ، لو كان من كلام محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو من كلام البشر ، لكان من المحال أن يتنبأ بمثل تلك النبوءة العجيبة الغريبة ، التي تثير الدهشة ، وتبعث في أقل احتمالاتها على السخرية والاستهزاء بالمسلمين وبقرآنهم.

١١٠

لو كان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الذي يقول القرآن من قبل نفسه ، أو من قبل إيحاءات البشر إليه ، كما زعمه المشركون ، لتنبأ كما يتنبأ كل عاقل من البشر ، لتنبأ بأن الغلبة ستكون للفرس ـ ولصدقه في هذه الحالة كل مشرك ولهلل له ـ أو لسكت على الأقل أمام تحديات المشركين ونشوتهم بانتصار إخوانهم الفرس.

ولئن كان يريد أن يتنبأ بانتصار الروم ـ ولو كانت النبوءة بعيدة فاشلة ـ لضمن ماء وجهه ، وحفظ خط الرجعة فيما لو سقطت دولة الرومان نهائيا ، فلم يحدد زمن انتصارهم ببضع سنين ، كما هو صريح في الآية القرآنية ، وكما جرى عليه الرهان مع المشركين على ما سنسمعه في بقية أحداث القصة.

ولكنه حدد لهم الزمان ببضع سنين ، وكأن النصر بيديه ، أو كأنه مشرف عليه وناظر إليه.

نعم .. إنه واثق كل الثقة به ، لأنه يعلم أنه لم يقله ولم يفتره ، وإنما هو كلام الله ، خالق الكون ومسيره ، وقد أمره أن يبلغه للناس ، على ما فيه من الغرابة والبعد ، ليكون آية ناطقة دالة على وجوده ، وصدق نبيه فيما يخبر به من آيات ربه.

ولننظر إلى ما حدث بعد هذا الخبر.

لقد صدم خبر القرآن عن انتصار الروم الغريب على الفرس ـ لقد صدم هذا الخبر المشركين ، وأثار دهشتهم ، ودفعهم لأن يضيفوا إلى سخريتهم السابقة بالمسلمين سخرية جديدة بهذا النبأ العجيب.

إلا أن هذه النبوءة ، في تلك الآية الكريمة ، كانت على العكس من ذلك عند المسلمين ، إذ أعطتهم عزيمة وقوة ، وزادتهم يقينا وثقة ، ولذلك خرجوا يردون على المشركين فخرهم بانتصار إخوانهم الفرس ، ويبلغوا خبر الله في انتصار الروم عليهم في بضع سنين.

فقد ذكرت لنا دواوين السنة أنه حينما نزلت هذه السورة قرأها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على المسلمين في صلاة الفجر ، وكان المسلمون يحبون ظهور الروم ، لأنهم

١١١

وإياهم أهل كتاب ، وكانت قريش تحب ظهور الفرس ، لأنهم وإياهم ليسوا أهل كتاب ولا إيمان ببعث.

فخرج أبو بكر رضي الله عنه يصيح في نواحي مكة : (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ ، وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ).

فقال ناس من قريش لأبي بكر : ذاك بيننا وبينكم ، يزعم صاحبك أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين ...! أفلا نراهنك على ذلك؟.

قال : بلى.

وكان ذلك قبل تحريم الرهان.

وولي رهان المسلمين أبو بكر ، وولي رهان المشركين أبي بن خلف ، فتراهنا على أن الروم سيغلبون الفرس في ثلاث سنين ، أو خمس سنين.

ثم عرض ذلك على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «ألم تكونوا أحقاء أن تؤجلوا أجلا دون العشر؟ فإن البضع ما بين الثلاث إلى العشر» ثم قال لأبي بكر : «اذهب إليهم فزايدهم في الرهان ، وزد في الأجل».

فخرج أبو بكر ، وزادهم في الرهان ، وزادوا الأجل إلى تسع سنين.

إنه عمل الإنسان الواثق المطمئن ، الذي يوقن بوعد الله ، ويثق بنصره ونصرته .. وهل تحقق ما أخبر الله به ..؟.

نعم .. لقد تحقق كفلق الصبح ، ليصدق الخبر ، ويفرح المؤمنون بنصر الله ، ويعرف من لم يكن قد عرف أن هذا الكلام إنما هو كلام الله ، وليس بكلام البشر.

يقول المؤرخون : إنه حينما حاول هرقل الفرار ، بعد أن أوشكت عاصمة الإمبراطورية على السقوط ، استطاع كبير أساقفة الروم أن يقنعه بعدم الهرب ، والبقاء مع شعبه ، ثم عرض الصلح على كسرى ، فأبى كسرى ذلك ، كما عرفناه أول القصة ، إلا أنه بعد ستة أعوام من الحرب رضي كسرى بالصلح مع هرقل ، ولكنه كان صلحا مخزيا ، التزم هرقل بموجبه أن يدفع ألف تالنت Talent

١١٢

من الذهب ، وألف تالنت من الفضة ، وألف ثوب من الحرير ، وألف جواد ، وألف فتاة عذراء ...

ولكن ما ذا حدث بعد هذا ..؟!.

لقد حدث بعدها العجب العجاب ، إذ انقلب هرقل اللاهي اليائس إلى بطل شجاع ، هجر ترفه ، وانقطع عن ملذاته ، وبدأ بوضع الخطط الرهيبة لهزيمة الفرس ، وكان يعرف أن قوة الفرس البحرية ضعيفة ، ولذلك أعد العدة البحرية ، للإغارة على الفرس من الخلف ، ورغم هذا كان الكثير من سكان القسطنطينية يرون أن هذا الجيش الذي يعده هرقل آخر جيش في تاريخ الإمبراطورية البيزنطية.

وشن هرقل هجومه الأول المفاجئ على الفرس الذين لم يستطيعوا مقاومة هذه الغارة ، ولاذوا بالفرار.

مما أغرى هرقل أن يفاجئ الفرس مرة أخرى وينزل بهم هزيمة ثانية ، ليرجع بعدها إلى القسطنطينية عاصمته ، عن طريق البحر ، ويعقد معاهدة مع الأقارين ، استطاع بواسطتها أن يسد سيل الفرس ويوقف تقدمهم.

وبعد ذلك شن هرقل ثلاثة حروب أخرى ضد الفرس في سنوات ٦٢٣ ، ٦٢٤ ، ٦٢٥ ، واستطاع أن ينفذ إلى أراضي العراق القديم المعروفة ب «ميسوبوتانيا» عن طريق البحر الأسود.

واضطر الفرس للانسحاب من الأراضي الرومية نتيجة لهذه الحرب ، وأصبح هرقل في مركز يسمح له بالتوغل في قلب الإمبراطورية الفارسية ، وكانت آخر هذه الحروب المصيرية تلك التي خاضها الفريقان في «نينوى» على ضفاف دجلة ، في ديسمبر ٦٢٧ م.

ولما لم يستطع كسرى أبرويز مقاومة سيل الروم حاول الفرار من قصره المحبب إليه «دستكرد» ولكن ثورة داخلية نشبت في الامبراطورية ، واعتقله ابنه

١١٣

«شيرويه» وزجّ به في سجن ، داخل القصر الملكي ، حيث لقي حتفه في اليوم الخامس من اعتقاله.

ولكن شيرويه هو الآخر لم يستطع أن يجلس على العرش أكثر من ثمانية أشهر ، حيث قتله أخوه.

وهكذا بدأ القتال داخل البيت الملكي ، وتولى تسعة ملوك زمام الحكم في غضون أربعة أعوام ، مما جعلهم عاجزين عن متابعة الحرب مع الروم ، مما دفع «قباز الثاني» ابن كسرى أبرويز الثاني ـ إلى طلب الصلح مع الروم ، وأعلن تنازله عن الأراضي الرومية ، كما أعاد الصليب المقدس إلى الروم.

ورجع هرقل إلى عاصمته القسطنطينية في مارس عام ٦٢٨ م ، في احتفال رائع حيث كان يجر مركبته أربعة أفيال ، واستقبله الآلاف من أبناء شعبه خارج العاصمة ، وفي أيديهم المشاعل وأغصان الزيتون ...

وعمت الفرحة أيضا صفوف المؤمنين ، إذ تحقق وعد الله الذي وعدهم به ، وصدق خبره الذي أخبر به قبل بضع سنين ، في وقته المحدد له مسبقا ، وخرج المسلمون يطالبون المشركين رهانهم ... ولم يبق بعد هذه الحادثة ريبة لمرتاب ، ولذلك دخل كثير من المشركين في الإسلام إثر هذه الحادثة ، كما تروي لنا كتب الحديث عن أصحاب رسول الله.

أفيجوز لعاقل بعد أن يرى مثل هذه الحادثة ، ويسمع مثل تلك القصة أن يقول : إن هذا القرآن من كلام محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو أنه من إيحاءات وتعاليم البشر ...؟.

إنه لمن أبسط صور العدل والإنصاف أن يقول كل من يسمع مثل هذا : إن هذا لا يمكن أن يصدر عن البشر ، لأن البشر مهما كانت طاقاتهم ، ومهما بلغت إمكانياتهم ، ومهما زادت تفؤلاتهم ، لن يتمكنوا من مثل ذلك الفأل الغريب البعيد ، ولئن تمكنوا من مثله ، فلن يتمكنوا من تحديده بذلك الزمن القريب.

١١٤

إنه إخبار الله عن الغيب الذي يعلمه ، والذي لا بد له أن يقع على نحو ما يعلمه ، ليعلم من فاته العلم أن هذا من المعجزات الباهرة الناطقة الدالة على أن هذا القرآن من كلام الله.

معجزة أخرى ضمن هذه المعجزة :

لم يكن هذا الذي ذكرناه من هذه المعجزة هو كل ما في الآية من الإعجاز ، بل كان فيها معجزة أخرى ، حملتها نبوءة ثانية ضمن النبوءة الأولى ، ألا وهي قوله تعالى : (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ).

ما هو النصر الذي سيفرح به المؤمنون؟ هل هو انتصار الروم على الفرس؟ أم هو شيء آخر وراء ذلك؟.

إن مما يتبادر إلى الأذهان أن الفرح حينذاك إنما هو بانتصار الروم على الفرس ، كما هو متبادر من سياق الآية ، ومبعث هذا الفرح تحقق وعد الله وإخباره.

إلا أن الحقيقة هي أن فرح المؤمنين كان بشيء آخر وراء ذلك ، ألا وهو انتصارهم في غزوة بدر الكبرى .. إذ كان وقت انتصار الروم ووقت انتصار المؤمنين في غزوة بدر الكبرى ، في وقت واحد.

إنه لأمر مذهل مدهش ، نبوءة ضمن نبوءة ، وكل منهما أبعد من الأخرى ، وكلاهما يقع دون تخلف أو تأخر.

مما يدفعنا ويدفع كل عاقل أن يقول : اللهم إنا لنشهد أن هذا يستحيل أن يصدر عن أحد سواك.

١١٥

٤ ـ الاخبار عن عصمة الله لرسوله

من الناس

وهذا ضرب آخر من الإعجاز في الإخبار عن المغيبات ، ربما كان أبلغ في الدلالة على أن القرآن من عند الله ومن كلامه ، وليس من صنع البشر ، ولا من إيحاءاتهم ، وذلك لأنه في هذه المرة يتعلق بشخص نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام ، فهو من الأمور التي تستحيل فيها المزايدات ، ويستحيل فيها التغرير والخداع والمجاملات.

إننا جميعا نعرف ما كان يلاقيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عنت ، بسبب أذى المشركين.

كما أننا جميعا نعرف أن كثيرا من المشركين كانوا يتربصون برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم الدوائر ، وينتهزون الفرص لإلحاق الأذى به ، بل لقتله إن وجدوا لذلك سبيلا.

ولذلك حرص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكرهم وتربصهم به ، واتخذ لنفسه حرسا من أصحابه ، يرقبون له الطريق ، ويحفظونه من كيد العدو ... إلى أن نزل قول الله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ ، وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ).

أخبر الله نبيه عليه الصلاة والسلام بأنه سيحفظه من الناس ، وأمره أن لا يلقي لهم بالا ، ولا يخشى منهم بأسا.

إنه لأمر غريب ... الأعداء كثر ، وأقوياء ، وذوو بأس ، والمؤمنون قلة ، وضعفاء ، يتوارون من الخوف ، ويستترون من الضعف ، ورغم هذا ، ورغم احتياج رسول الله للحراسة والاستتار ... رغم هذا كله يؤمر بمثل هذا الأمر الغريب.

١١٦

ويخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه بما أوحي إليه ، ويأمرهم بالانصراف عن حراسته ، ويقول لهم : إن الله كفل له ذلك ... فلم يعد بحاجة إليهم ... كما يخبرنا بذلك أصحاب السير ، وكما تروي كتب الحديث.

إن كثيرا من طغاة هذا الكون عبر التاريخ قد قتلوا وهم بين جنودهم وحراسهم ، رغم اتخاذهم أشد تدابير الحيطة والحذر ... ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم رغم إعلان الحرب عليه من قبل أعدائه ، ورغم تهديداتهم المتكررة له بالقتل ، يأمر حراسه بالانصراف عنه بقوله : «أيها الناس .. انصرفوا .. فقد عصمني الله» (١) ويمشي وحده ، لا يهاب أحدا ، ولا يحسب حسابا لأحد.

أو كان يمكن لمن كان في مثال حال محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الضعف ، والمطاردة ، والتهديدات المتوالية أن يخدع نفسه بمثل هذا الأمر الخطير ...؟!.

إن كل عاقل في الأرض يقول : لا ... إنه من المستحيل أن يخدع أي إنسان نفسه بمثل هذا ، ولا سيما إذا كان في ظرف كظرفه.

ولو كان هذا القرآن من صنع رسول الله لكان مخادعا نفسه قبل أن يكون مخادعا لأصحابه ، في مثل هذه الآية ، ومثل هذا التصرف العجيب.

ولكنه الدليل القاطع ، والبرهان الساطع ، الذي يتلألأ في سماء الحقيقة ، التي لا تدع مجالا للشك في أن هذا القرآن لم يكن من صنع البشر ، وإنما هو كلام خالق الإنسان ، ومالك زمامه وتصرفاته.

ولقد بقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم طيلة حياته على هذه الحالة ، وقد حقق الله وعده ، وحفظه من بأس عدوه.

عند ما هاجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن معه أحد من الحرس ، وإنما هي حراسة عين الله التي لا تنام ... وحاول المشركون قتله ، ولكن الله الذي عصمه من الناس صرف الناس عنه ، وهو أمام أعينهم ، وبين ظهرانيهم ، في فراشه ،

__________________

(١) الطبراني عند أبي سعيد ، وانظر : الدر المنثور ٢ / ٢٩٩.

١١٧

قبل أن يغادر مكة ، وفي الغار ، بعد أن غادرها من بين صفوفهم.

ولما لحق به سراقة بن مالك ليقتله ، كانت النتيجة أن طلب الأمان من رسول الله لما رأى من آية الله في حفظ رسوله.

وكان أصحاب رسول الله إذا أتوا في سفر على شجرة ظليلة ، تركوها له ، فلما كانت غزوة ذات الرقاع ، نزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحت شجرة ، وعلق سيفه فيها ، فجاء رجل من المشركين ، فأخذ السيف ، فاخترطه ، وقال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أتخافني؟ قال : «لا» ، قال : من يمنعك مني؟ قال : «الله يمنعني منك ، ضع السيف» فما كان من المشرك إلا أن وضعه ، كما رواه مسلم في صحيحه.

ومن أبلغ الشواهد في هذا الموضوع ، ما ثبت من أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في يوم حنين ، حين أعجبت المسلمين كثرتهم ، وأدبهم الله بالهزيمة حتى ولوا مدبرين ، أنزل الله سكينته على رسوله ، حتى لقد جعل يركض بغلته إلى جهة العدو ، والعباس بن عبد المطلب آخذ بلجامها ، يكفها ، إرادة ألا تسرع ، فأقبل المشركون إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما غشوه لم يفر ، ولم ينكص ، بل نزل عن بغلته ، كأنما يمكنهم من نفسه ، وجعل يقول : «أنا النبي لا كذب ، أنا ابن عبد المطلب» كأنما يتحداهم ويدلهم على مكانه ، فو الله ما نالوا منه نيلا ، بل أيّده الله بجنده ، وكفّ أيديهم عنه بيده. كما رواه البخاري ومسلم.

ولقد وصل الأمر بأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أن صاروا يتقون به بأس العدو ، ويحتمون به في شدة المعركة.

فقد روي عن علي رضي الله عنه أنه قال : «كنا إذا احمر البأس ، وحمي الوطيس ، اتقينا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فما يكون أحد منا أقرب إلى العدو منه».

لقد أخبر الله بحمايته ، وأنجز له ما وعد ، وإن في ذلك لأكبر الشواهد على إعجاز القرآن .. فهل من مدكر ..؟!.

١١٨

٥ ـ الاخبار عن حفظ القرآن

إلى يوم القيامة

لقد بعث الله نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ليس نبيا للعرب ، بل رحمة للعالمين.

وليس لزمان معين ومكان مخصوص ، وإنما لكل زمان ومكان إلى قيام الساعة.

إذن فهو يخاطب كل من في الأرض ، من عربي وأعجمي ، ومشرك وكتابي ، وملحد ومادي.

وأنزل عليه القرآن الكريم ، كتابا يتلى إلى يوم القيامة ، ناسخا لكل كتاب قبله ، من التوراة ، والإنجيل ، وغيرهما من الكتب السماوية ، فيجب على كل إنسان أن يدين الله به ، حتى عيسى عليه‌السلام عند ما ينزل في آخر الزمان سيكون حاكما به وتابعا له ، وحتى موسى لو كان حيا لما وسعه إلا اتباعه.

إذن فمهمة رسول الله شاقة ، ودعوى القرآن عريضة ، والمجابهة حينما تقوم ، لن تكون مجابهة بين رسول الله وقومه خاصة ، بل بين رسول الله وكل من يدعى إلى دينه من أهل الأرض.

والثورة التي ستقوم ضد القرآن ، لدعواه التفرد بأحكام الله إلى يوم القيامة ، من بين سائر الكتب الموجودة على الأرض ، هذه الثورة لن تكون من قبل العرب فقط ، بل من قبل كل صاحب دين ، أو نحلة ، أو ملة.

نعم .. لقد نزلت آيات القرآن الكريم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تدعو الناس جميعا ، وتتحدى الناس جميعا ، بل تتحدى كل موجود على الأرض ، أو في الكون ، من الإنس والجن ..

١١٩

(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً).

وما هو حال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين تلا هذه الآيات ..؟ هل كان في حالة العز والمنعة والقوة ..؟ إذا فهو جدير بأن يعمل مثل هذا أو أن يقول مثل هذا؟.

ولكن الحقيقة أنه كان في حالة من الضعف ، وعدم وجدان الناصر أو المعين ، جعلته يحتمي بعمه أبي طالب ، وجعلت كثيرا من أصحابه يتوارون خوفا من ثأر المشركين ، أو يهاجرون طلبا لحياة الأمن ...

فالظروف كلها ضد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وضد القرآن ، وكل من يراقب مجرى الأحداث ، ويعرف التحديات التي أتى بها القرآن لكل من في الأرض ، كان يتوقع أن تندثر تلك الدعوة ، كما كان يتوقع أن يزول القرآن وتنسى آياته ، شأنه في ذلك شأن كثير من المبادي التي مرت بها ظروف مشابهة للظرف القرآني ، بل ربما كانت في ظروف أحسن بمئات المرات من ظروف القرآن ، ولكنها مع ذلك زالت من الوجود ، ومحيت من الأذهان ، ولم يبق لها من الذكر إلا ما يكتب عنها في بطون كتب التاريخ في أحسن أحوالها.

في هذه الظروف التي صورناها ، نزل قوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ ، وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ).

تحد جديد يضيفه القرآن إلى تحدياته السابقة ، لا يخاطب به العرب ، وإنما يخاطب به كل عاقل في الأرض ، ويتحداه ، بكلام يعتبر من أكثر أنواع الكلام تأكيدا ، وأوضحه مضمونا.

وذلك أنه ألقاه مؤكدا بثلاثة أنواع من التأكيد ، ليزيل به أي شبهة أو شك يمكن أن يعتري العقل الإنساني ، من إمكانية احتمال التخلف في هذا الخبر عند قائله ومنزله.

فأكد أول الكلام ب «إنّ» في قوله : «إنا».

ثم أكد بلام التأكيد أو اللام المزحلقة في قوله : «لحافظون».

١٢٠