عدّة الأكياس في شرح معاني الأساس - ج ١

أحمد بن محمّد بن صلاح الشرفي القاسمي

عدّة الأكياس في شرح معاني الأساس - ج ١

المؤلف:

أحمد بن محمّد بن صلاح الشرفي القاسمي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الحكمة اليمانية للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٤
الجزء ١ الجزء ٢

خالقه فقد أحال ووجد الله سبحانه يأمره بذلك أمرا في كتابه ويندبه إليه ندبا ووجد في جميع ما أمر به دليلا يغني عن كل دليل ويهدي إلى كل سبيل وإنما أسماؤه التي تسمّى بها وصفاته التي وصف بها نفسه لنا دلائل عليه ليستدل بها القاصد ليباشر قلوبهم اليقين البت وتستشعر أنفسهم الحق المثبت.

وقال الإمام المنصور بالله القاسم بن محمد «مؤلف الأساس» قدس الله روحه في الجنة :

اعلم : أنه لا دليل على الله تعالى أبين من كتابه ، وذلك أنّ كونه معجزا كما يأتي إن شاء الله تعالى.

دليل على صحة خبره عن الله سبحانه وعن صفاته ، ومن أنكر ذلك فقد ردّ قوله تعالى : (هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) انتهى (١).

قال «جمهور أئمتنا عليهم‌السلام وجمهور المعتزلة وقدماء الأشعرية وغيرهم : ويصح الاستدلال» على ثبوته تعالى «بالقياس العقلي» بل زعمت البهشمية أنه لا طريق إلى إثبات الصانع وصفاته إلّا بالقياس على الفاعل في الشاهد ، قالوا : بيان ذلك : أنه لا طريق إلى إثبات الصانع تدل على الصانع (٢) إلّا حدوث أفعال لا يقدر عليها ، ومجرد الحدوث لا يدل على الصانع إلّا إذا علمنا بطلان حدث لا محدث له ، وإنما يعلم ذلك استدلالا وقياسا على احتياج أفعالنا إلينا.

وقال «بعض أئمتنا عليهم‌السلام» وهو الإمام يحيى عليه‌السلام وغيره من المتأخرين «وغيرهم» كأبي القاسم البلخي وأبي الحسين البصري والرازي «لا يصح» الاستدلال بالقياس العقلي ، قالوا : لأنا إذا علمنا حدوث العالم علمنا حاجته إلى محدث ضرورة ، ولا يحتاج إلى الاستدلال على ذلك بأفعالنا.

«قلنا» في الرد على المخالف «يوصل» (٣) أي القياس العقلي «إلى العلم»

__________________

(١) إبراهيم (٥٢).

(٢) (أ) ناقص تدل على الصانع.

(٣) (ض) موصل.

٨١

اليقين من معرفة الله سبحانه «ألا ترى أن من وجد بناء في فلاة» أي مفازة لا حيّ بها «فإنه يعلم أن له» أي لذلك البناء «بانيا» بناه على تلك الكيفية «وليس ذلك» أي العلم ببانيه «إلّا بالقياس على ما شاهده من المبنيات المصنوعة بحضرته» أي بمشاهدته «لعدم المشاهدة منه لبانيه ، وعدم المخبر عنه ، والجامع بينهما» أي بين ما بني بحضرته وما لم يبن بحضرته «عدم الفارق» بين البناءين.

قلت (١) : وهم لا ينكرون حصول ذلك العلم به لكنهم (٢) جعلوه ضروريّا أوّليّا لا قياسا لعدم تحقق العلة كما عرفت «ولوروده» أي القياس العقلي «في السمع كقوله تعالى : (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) (٣) (وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) و «نحوها» مثل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) ... الآية إلى قوله تعالى : (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ، ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى ، وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها) (٤). الآية فإن في هذه الآيات دلالة وتنبيها على القياس العقلي وهو : قياس النشأة الأخرى إن وقع فيها الريب على النشأة الأولى ، وعلى الأرض الميتة وهي الغبرى التي لا نبات فيها ولا شجر.

قلت : ولعلهم لا يخالفون في هذا والله أعلم.

(فرع)

«ووجود المستدل على الله تعالى لازم لوجود الدليل» أي يستحيل وجود المستدل على الله سبحانه ولا يوجد الدليل على ذلك «لأن وجوده» أي المستدل «هو نفس الدليل» ففي وجود نفس المستدل على الله سبحانه وصفاته ما لا

__________________

(١) (ب) وقد عرفت أنهم لا ينكرون.

(٢) (ض) ولكنهم.

(٣) يس (٧٩).

(٤) الحج (٥ ـ ٧).

٨٢

يخفى على أهل العقول كما قال تعالى : (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (١) «فيبطل تقدير عدم الدليل على الله سبحانه مع وجود المستدل بخلاف العكس» وهو وجود الدليل فلا يلزم منه وجود المستدل «لجواز أن يخلق الله شيئا لا يعلم» أي غير عاقل «نحو الجماد قبل خلقه تعالى من يعلم» كما سيأتي إن شاء الله تعالى أن أول ما خلق الله الهواء.

«والجهل بوجه الدليل لا يبطل كونه دليلا لأن الجهل لا تأثير له في إبطال الأدلّة باتفاق العقلاء» وذلك واضح.

وقال بعض المعتزلة : لا يصح أن يخلق الله جمادا قبل أن يخلق حيوانا ينتفع به.

وهو باطل بما مرّ ولأنه يستحيل (٢) أن يوجد الحيوان لا في مكان والله أعلم.

(فصل)

«ولا مؤثّر حقيقة إلّا الفاعل» وهو : إما الله سبحانه وتعالى أو العبد المخلوق بما جعل الله له من الآلة التي هي القوّة والقدرة على الفعل سواء كان مختارا إن شاء فعل وإن شاء ترك ، أو مكرها على الفعل أو ملجئا إليه ، والحيوان غير العاقل بما ركّب الله سبحانه فيه من الحياة والقدرة وقال «بعض المعتزلة» وهم من أثبت المعاني منهم ، وأما من نفاها فهو ينفي العلل «والفلاسفة» قال أرسطاطاليس وبرقلس إن المؤثر في العالم علّة قديمة أوجبت العالم في الأزل ، وهي عندهم الباري تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.

«وغيرهم» كالأشعرية والكرامية «بل» وغير الفاعل مؤثر حقيقة «و» هو «العلّة والسّبب» لأنهم قالوا : المؤثّرات ثلاثة ولا رابع لها : قالوا : لأن المؤثر إما أن يكون تأثيره على جهة الوجوب أولا ، الثاني : الفاعل المختار ، والأول إمّا

__________________

(١) الذاريات (٢٠ ، ٢١).

(٢) (ب) مستحيل.

٨٣

أن يؤثر في إيجاب صفة أو حكم أو لا أيّهما ، الأول العلة والثاني السبب فكانت ثلاثة فقط.

وقوله عليه‌السلام : «وما يجري مجراهما» أي يجري في التأثير مجرى العلّة والسّبب «وهو الشرط والداعي» أراد به عليه‌السلام عند أكثرهم.

وقوله عليه‌السلام «البهشمية» أي أبو هاشم ومن تبعه ، «والمقتضي» إلحاق للمقتضى بالشّرط والدّاعي عند البهشمية في كونه جاريا مجرى العلة ، وإن كان المقتضى عندهم مقدّما ، قال عليه‌السلام «فالعلة عندهم» أي تفسيرها عندهم «ذات موجبة لصفة» للجملة كالعلم في المخلوق الموجب للصفة وهي العالمية والحياة فإنها توجب للحيّ كونه حيّا ، والقدرة توجب للقادر كونه قادرا ، أو للمحل كالكون فإنه يوجب لمحله الكائنيّة أي الاحتراك أو السكون أو الاجتماع أو الافتراق «أو حكم» قالوا وهو المزية التي تعلم عليها الذات باعتبار غيرين أي ذاتين أو غير وما يجري مجرى الغير كالمماثلة والمخالفة فإنه لا يمكن تعقّل ماهيّة المخالفة بين الشيئين حتى يتصورهما وكذلك المماثلة.

ومثال ما لا يعلم إلّا بين غير وما يجرى مجرى الغير صحة الإحكام فإنها حكم مقتضى عن العلم على رأي ، وعن العالمية على آخر وهي تعلم باعتبار غير وهو المحكم وما يجري مجرى الغير وهو العالمية. قال الإمام يحيى عليه‌السلام في الشامل : أمّا مثبتو الأحوال فالذي ذهب إليه بعض الأشعرية أن الكائنية حالة معلّلة بالكون ، والقادريّة حالة (١) معللة بالقدرة ، والعالميّة حالة (٢) معلّلة بالعلم ، والأسودية حالة (٣) معلّلة بالسواد وطردوا ذلك في جميع الأعراض.

وأما الشيخ أبو هاشم وقاضي القضاة وغيرهما من جماهير المعتزلة ففصلوا القول في ذلك ، وقالوا : إنها على أربعة أقسام :

القسم الأول منها : ما يوجب حالة للجملة وهذا هو الأعراض

__________________

(١) (أ) ناقص كلمة حالة في المواضع الأربعة.

(٢) (أ) ناقص كلمة حالة في المواضع الأربعة.

(٣) (أ) ناقص كلمة حالة في المواضع الأربعة.

٨٤

المشروطة بالحياة والقدرة عندهم توجب حالة للجملة هي القادرية ، والعلم يوجب حالة للجملة هي العالمية ، وهكذا القول في الشهوة والنفرة وغيرهما من الأعراض المشروطة بالحياة.

القسم الثاني : يوجب حالة لمحله وهذا هو الكون فإنه يوجب حالة هي الكائنية لمحله ، وهكذا القول فيما تنوّع من الكون نحو الاجتماع والافتراق فإنها توجب أحوالا لمحالّها.

القسم الثالث منها : لا يوجب حالة لمحله (١) وإنما يوجب حكما وهذا نحو الاعتماد فإنه يوجب حكما وهو المدافعة للمحل ، ونحو التأليف فإنها توجب أحكاما لمحالّها بشروط واعتبارات اشتملت على شرحها كتبهم.

القسم الرابع : لا يوجب لمحله لا حالة ولا حكما عندهم وهذا نحو المدركات من الأعراض فإنها لا توجب عندهم البتّة لا حالة ولا حكما.

قال الإمام يحيى : وأمّا نفاة الأحوال فالذي ذهب إليه الشيخان : أبو الحسين ، والخوارزمي من المعتزلة ، والمحققون من الأشعرية كالغزالي والجويني وصاحب النهاية : أن الكون هو نفس الكائنيّة وأن العلم هو نفس العالميّة من غير زيادة على ذلك ، والأسوديّة هي نفس السواد ، وهكذا القول في جميع الأعراض.

قال : والمختار عندنا : أن العلة والمعلول لا حقيقة لهما ولا ثبوت وأن السواد هو نفس السواديّة ، وأن الكون هو نفس الكائنيّة ، وأن القدرة هي نفس القادريّة. انتهى.

قلت : وهذا هو الحق.

وروى الإمام المهدي عليه‌السلام عن أبي القاسم البلخي أنه لا يجعل العلل العقلية مؤثرة حقيقة كما زعمت البهشمية بل كالعلل الشرعية «وشرطها» أي العلة «أن لا تتقدم ما أوجبته» أي الذي أوجبته وهو المعلول

__________________

(١) (ض) للمحل. وفي نسخة لمحلها.

٨٥

فلا تتقدمه «وجودا» أي في الوجود «بل» يتقارنان في الوجود في وقت واحد ولكن تتقدم عليه «رتبة» أي تقديرا لأجل كونها علّة وتعقل العلة قبل المعلول «وشرط الذي أوجبته» وهو الصفة أو الحكم «أن لا يتخلف عنها» لأنها علة موجبة فلا بد من مقارنة معلولها لها «والسبب» عندهم «ذات موجبة لأخرى» أي لذات أخرى «كالنظر الموجب للعلم» ويقارن ولا يقارن ولا يوجب السبب صفة ولا حكما وإنما يوجب ذاتا أي عرضا فالعلم عرض ويسمى علة على ما عرفت والعالمية ونحوها صفة وهي مزية (١) أو حالة على اختلافهم في العبارة لا هي الموصوف ولا غيره ولا شيء ولا لا شيء.

قالوا «و» ما يجري مجرى المؤثر ثلاثة أشياء أيضا :

الأول : «الشرط» وهو «ما يترتب صحة تأثير غيره» أي غير الشرط وهو الجوهرية مثلا «عليه» أي على الشرط وهو الوجود «أو صحة» تأثير «ما يجري مجرى الغير» وهو الصفة فإنها عندهم جارية مجرى الغير ، وصحة تأثيرها مترتّب على وجودها «وهو» أي الشرط «نحو الوجود فإنه شرط في تأثير المؤثرات» أي في اقتضاء الجوهرية للتّحيّز واقتضاء العالميّة للإحكام والقادرية لصحة الفعل ، وليس بمؤثر فيها أي في الجوهريّة والعالميّة والقادريّة لما كان قد يحصل الوجود لمن ليس بمتحيّز كالباري تعالى ، والعرض وهذا هو الفرق بينه وبين المؤثرات عندهم ، والفرق بينه وبين المقتضى أن الشرط يقف تأثير غيره على حصوله والمقتضى لا يقف عليه تأثير مؤثر «وشرطه» أي شرط الشرط «أن لا يكون مؤثّرا بالكسر» أي بكسر المثلثة «في وجوب المؤثّر بالفتح» أي بفتحها وإنما هو شرط مصحح لتأثير المؤثر كما ذكرناه آنفا.

«و» الثاني مما يجري مجرى المؤثر «الدّاعي» وهو «عندهم ضربان : حاجي» أي تدعو إليه الحاجة «وحكمي» بكسر الحاء المهملة منسوبا إلى الحكمة أي تدعو إليه الحكمة.

«فالأول» أي الحاجي «العلم» أي علم العاقل «أو الظن» أي ظنه «بحسن الفعل لجلب نفع النفس» كالأكل «أو دفع الضرر عنها» كالفرار من

__________________

(١) (ب) المزية.

٨٦

حر الشمس ، وقد يتزايد هذا الدّاعي فلا يختص العقلاء كالبهائم.

«والثاني» أي الحكمي «العلم» أي علم العالم «أو الظن» أي ظنه «بحسن الفعل من غير نظر إلى نفع النفس أو دفع الضرر عنها» وذلك «كمكارم الأخلاق» من إكرام الضيف وحسن الجوار وإفشاء السلام والإحسان وفك العاني.

«و» الثالث ممّا يجرى مجرى المؤثّر : «المقتضي» وهو «الصفة الأخص» أي التي تختص بالذّات كالجوهرية في الجوهر فإنها مختصة به مقتضية للتحيّز وهذه الصفة الأخص «هي المؤثّرة تأثير العلّة» أي مثل تأثير العلّة «والمشترط فيها» أي في الصفة الأخص «شرطها» أي العلة وهو مقارنة ما أوجبته «وكذلك شرط ما أوجبته» وهو أن لا يتخلف عنها ، وهذا معنى ما ذكروا (١) من تفسير المقتضي حيث قالوا هو صفة تقتضي صفة أخرى يرجعان إلى ذات واحدة كالتّحيّز فإنه مقتضى عن الجوهرية ، والمدركية مقتضاة عن الحيّية وهما (٢) لذات واحدة ، وإنّما أخر عليه‌السلام المقتضى وهو عندهم المقدم لكونه جاريا مجرى العلة في إيجاب التأثير على ما عرفت لأنه إنما أثبته بعض المعتزلة وهم البهشمية وهو لكل ذات عندهم كالجوهرية في الجوهر وهو الجسم ، والعرضية في العرض ، ومن ذلك الصفة الأخص التي زعموها في ذات الباري تعالى المقتضية لصفاته بزعمهم.

قال عليه‌السلام : «قلت هي» أي العلّة والسبب وما يجري مجراهما «إمّا لا دليل على تأثيرها بل قام الدليل على بطلانه» أي بطلان تأثيرها «وذلك هو العلة» التي ذكروها «والمقتضى» وهو الصفة الأخص «إذ ما إيجابهما لما ادّعي تأثيرهما إياه» وهو المعلول الذي هو الصفة أو الحكم «بأولى من العكس» وهو كون الصفة أو الحكم مؤثرة في العلة والمقتضى وذلك «لعدم تقدمهما» أي العلة والمقتضي «وجودا» أي في وجودهما «على ما أثّراه» وهو الصفة أو الحكم «ولا دعوى تقدمهما رتبة عليه» كما زعموه «بأولى من العكس» وهو دعوى تقدم

__________________

(١) (ب) ما ذكروه.

(٢) (ب) وهي.

٨٧

الصفة والحكم رتبة عليهما «لفقد الدليل» أي لأن ذلك مجرد دعوى بغير دليل «وإن سلّم» لهم ما ادعوه «فما بعض الذوات» وهي المعاني التي زعموها مؤثّرة «أولى بتلك الصفات والأحكام» أي بتأثيرها فيها «من بعض» أي من سائر الذوات الأخر التي ليست بمعان فكان يلزم أن توجب كل ذات معنى كان (١) أو غيره مدركا كان أو غير مدرك(٢) وأيضا فقد صرح البهشمية في الصفة الأخص في حق الله تعالى أنها مقتضية لصفاته تعالى الأربع وهي : الوجوديّة ، والعالميّة ، والقادريّة ، والحيّية ، فكان يلزم في كل صفة أخص لكل ذات أن توجب هذه الصفات ، فيكون كل ذات بمثابة الباري تعالى إذ لا فرق بين الصفة الأخص في حق الله تعالى وبينها في حق غيره «لأنه» أي تأثير العلّة والمقتضي «تأثير إيجاب» أي اضطرار «لا تأثير اختيار» بزعمهم فبطل (٣) ما زعموه في تأثير العلّة والمقتضى ، «وإمّا آلة» عطف على قوله : إما لا دليل على تأثيرها «وذلك» هو «السبب» أي في الذي زعموه مؤثّرا فإنه آلة للفاعل «والتأثير للفاعل» لا للآلة يعرف ذلك «ضرورة كالنظر» الموجب للعلم «فإنه آلة للناظر» يتوصل بها إلى العلم كسائر الآلات التي يتوصل بها إلى الأفعال «وإما لا تأثير له تأثير إيجاب بإقرارهم» لأنهم قالوا : إن الشرط لا يؤثّر في المشروط «ولا اختيار له بإقرارهم أيضا» لأن تأثير الاختيار إنما هو للفاعل «ولا يعقل تأثير ثالث» أي غير الإيجاب وغير الاختيار «وذلك» أي الذي لا تأثير له بإقرارهم هو «الشرط» لأنهم لم يجعلوه إلّا شرطا في تأثير المؤثر «وإن سلّم» لهم (٤) ما ادّعوه «لزم تأثير بين مؤثرين» وهما الشرط والفاعل ومثل هذا يلزم في السبب لإضافتهم المسبّب إلى الفاعل وذلك «كمقدور بين قادرين وهم يحيلونه» أي يحكمون باستحالته.

فإن قالوا : إنّا لم نجعل السبب والشرط مؤثّرين على الحقيقة وإنما أجريناهما مجرى المؤثر.

__________________

(١) (ض) كانت.

(٢) عبارة الشرح الكبير فكان يلزم أن توجب كل ذات معنى كانت أو غيره مدركا كان أو غير مدرك صفة أو حكما تمت وهي الأظهر فتأمّل.

(٣) (ض) فيبطل.

(٤) (أ) ناقص لهم.

٨٨

قلنا : فما معنى جريّهما مجرى المؤثّر وما وجه إدخالهما في جملة المؤثّرات فهلّا أدخلتم الآلة كالسّوط ونحوه من جملة ما يجري مجرى المؤثّر «وإمّا غرض» بالغين المعجمة «والمؤثر» مع الغرض «الفاعل ضرورة» أي يعرف ذلك بضرورة العقل «وذلك» هو «نوعا الدّاعي» أي الحاجي والحكمي المتقدم ذكرهما فهما غرضان يرجّحان للفاعل الفعل ولا تأثير لهما بل التأثير للفاعل «وإن سلّم» أن لهما تأثيرا «لزم أن لا يحصل الفعل من الفاعل إلّا عند وجود ذلك الغرض» وهو باطل قطعا إذ يعلم وجود الفعل من دون حصول الغرض كفعل السّاهي والنّائم وكمن يسير أو يفعل فعلا لا لغرض فإنه معلوم الوقوع بالضرورة وإنما اختلف في قبحه «و» لزم أيضا «أن لا يتمكن الفاعل من ترك الفعل عند وجوده» أي وجود الغرض والمعلوم قطعا أنه يتمكن من ترك الفعل مع وجود الغرض وإلّا لزم الجبر والإلجاء «وإن سلّم لهم عدم اللّزوم» لما ذكرنا «لزم أن يكون تأثير بين مؤثرين» وهما الغرض والفاعل وذلك «كمقدور بين قادرين وهم يحيلونه ، وإما لا دليل عليه رأسا» أي لا دليل على وجوده فضلا عن تأثيره «وذلك» هو المقتضي» الذي جعلوا تأثيره كتأثير العلّة وهو الصفة الأخص ، وكذلك الكون الذي ادّعوا تأثيره في الكائنية «مع ما مرّ» ذكره «من بطلان تأثيره» أي قد ذكرنا فيما سبق بطلان تأثير المقتضى وذلك لو فرضنا وجوده وإلّا فالحق أنه لا وجود له.

ولهذا قال عليه‌السلام «وأيضا هو متلاش» أي يؤول إلى العدم «لأنه إمّا موجود ، أو معدوم ، أو لا موجود ولا معدوم ليس الثالث» أي القسم الثالث وهو لا موجود ولا معدوم «إذ لا واسطة بين الوجود والعدم ، ولا الثاني» وهو المعدوم «إذ لا تأثير للمعدوم والأول» أي القسم الأول وهو الموجود «إمّا قديم أو محدث أو لا قديم ولا محدث ليس الثالث إذ لا واسطة إلّا العدم ولا تأثير له كما سبق ولا الثاني» وهو المحدث «لأنه» أي المقتضي «مؤثر في صفات الله بزعمهم» أي البهشمية «فيلزم أن تكون صفات الله تعالى محدثة لحدوث مؤثرها وسيأتي بطلان ذلك إن شاء الله تعالى ، مع أنهم لا يقولون بذلك وحاشاهم ولا الأول» وهو كونه قديما «لأنه يلزم أن يكون قديما مع الله تعالى الله عن ذلك وسيأتي بطلانه ، مع أنهم لا يقولون بذلك

٨٩

وحاشاهم» عن القول به.

واعلم : أن بعض المعتزلة قد وسّع القول في المؤثرات وصنف فيها كتبا مستقلّة واصطلح فيها على أشياء لا تعقل ولا دليل عليها من كتاب ولا سنّة ولا عقل ، وأصل هذه التوغلات من الفلاسفة.

قال الإمام يحيى عليه‌السلام في الشامل :

واعلم : أن كل مادة الشكوك والشبهات في جميع الملل والأديان الكفرية المخالفة لملّة الإسلام هي الفلسفة ، فهم منشأ كل زيغ وأهل كل ضلالة.

«وقد اصطلح» أي اصطلح أهل التّوغّل في الفكر الخارج عن حدّ العقل «على إثبات أمور لا تعقل غير ما تقدم ذكره ، وهي طبع الطبائعي» فإن الطبع الذي زعموه مؤثّرا غير معقول ، «وكسب الأشعري» أي الواحد من الأشاعرة حيث قالوا : إن الفعل من العبد مخلوق لله كسب للعبد «وطفر النّظّام» وهو كون الكائن في مكان بعد كونه في مكان آخر من دون قطع مسافة لا في الأرض ولا في الهواء ، والطّفر في اللغة الوثب في الاستواء وإلى أعلى ، والطّمر الوثب من أعلى إلى أسفل «ومزايا أبي الحسين البصري» لعل الإمام عليه‌السلام إنما خصّ أبا الحسين بنسبة المزايا إليه تبعا لمن سمّاه بذلك ، لقوله : إن لله تعالى بكونه عالما ونحوه مزيّة ونفى أن يكون له بها صفة وإلّا فلا فرق بين المزايا والأحوال والأمور إلّا مجرد الاصطلاح ، لأنها كلها لا هي الله ولا غيره ولا شيء ولا لا شيء (١) ، إلّا أن أبا الحسين ومن تبعه لا يثبتون المزيّة إلّا في العالميّة والمدركية فقط على ما حكاه عنهم الإمام يحيى عليه‌السلام.

قال النجري : اعلم : أن الصفة والحال والمزية في الاصطلاح بمعنى واحد ، وربما استعملت المزية وأريد بها غير الصفة كما يقول أبو الحسين ومن يقول بقوله : إن لله تعالى بكونه قادرا وعالما وحيّا ونحوها مزايا ونفى أن

__________________

(١) يعني عندهم تمت.

٩٠

تكون له بها صفات ، ومن ثمّ سمّي هو وأصحابه أصحاب المزايا انتهى.

«وعرض لا محل له» وهي الإرادة في حقه تعالى التي زعم بعض المعتزلة أنها عرض«لا محل له» وكذلك الفناء كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، «وحركة لا هي الله ولا هي (١) غيره» وهي الإرادة أيضا عند هشام بن الحكم ومتابعيه «ومعاني لا هي الله ولا هي غيره» وهو قول بعض الأشعرية في صفات الله تعالى «و» إثبات جوهر «غير مانع للحيّز من ثلاث جهات دون الرابعة» فإنه يمنع منها وهو قول بعض المعتزلة في الجوهر الفرد.

أما مذهب العترة عليهم‌السلام : فكل شيء يشغل الجهة ويحله العرض فهو جسم سواء كان مما يدرك ويرى لكثافته أو لا يدرك لقلته أو للطافته.

وقد ردّ قول المعتزلة الإمام الحسين بن القاسم العياني عليه‌السلام في كتاب نهج الحكمة : أبلغ ردّ وقد ذكرناه في الشرح (٢).

«وثابت غير موجود» وهذا قول بعض المعتزلة في ذوات العالم فقالوا هي ثابتة في العدم لا موجودة في القدم «وأمور لا توصف بالحدوث ولا القدم ولا الوجود ولا العدم» وهذا قول بعض المعتزلة في صفاته تعالى أنها أمور زائدة على ذاته لا هي الموصوف ولا غيره ولا حديثة ولا قديمة ولا موجودة ولا معدومة وهي المزايا (٣) على ما سبق.

قال عليه‌السلام في الإشارة إلى تشبيه هذه الأقوال الباطلة المحالة بمخض الماء الذي لا يفيد شيئا «ولله القائل» :

«وبعض القول ليس له عناج

كمخض الماء ليس له إتاء»

أي ليس له زبد ، وهو لقيس به الخطيم ، وقيل : للربيع بن أبي الحقيق اليهودي ، من أبيات له.

والعنج بالتحريك ، والعناج في الدّلو العظيمة حبل أو بطان يشدّ في أسفلها ثم يشدّ إلى العراقي فيكون عونا لها وللوذم ، فإذا انقطعت الأوذام

__________________

(١) (أ) ناقص هي الثانية.

(٢) كتاب مهج الحكمة فلن تمت.

(٣) (ب) كالمزايا.

٩١

أمسكها العناج ، فإذا كانت الدّلو خفيفة فعناجها خيط يشد في إحدى آذانها إلى العرقوة.

وقول : لا عناج له : إذا أرسل على غير رويّة ، والمصدر العنج بسكون النون وفتح العين.

والأتوء بفتح الهمزة الزبد ، يقال للسقاء إذا مخض وجاء الزبد جاء أتوه ، ولفلان أتو أي عطا. ذكر هذا في الصحاح.

(فصل)

«والحد لغة» أي في لغة العرب «طرف الشيء» يقال : هذا حدّ كذا أي طرفه «وشفره نحو السيف» وهي شباته (١) وشفرة السيف حدّه ، والشفرة بالفتح السكين العظيم «والمنع» يقال : حدّه أي منعه ومنه سمّي الحاجب حدّادا ، والحدّ أيضا الحاجز بين الشيئين ، «و» حقيقته «في الاصطلاح» أي في اصطلاح أهل العلوم : «قول يشرح به اسم» أي يبيّن بلفظ أوضح «أو يتصوّر به ماهيّة» أي يطلب منه ارتسام صورة ماهيّة المحدود في الذهن وهذا في غير الباري تعالى لأنه يستحيل تصوّره جلّ وعلّا.

«فالأول» وهو ما يشرح به اسم «نحو قوله تعالى» حاكيا عن موسى عليه‌السلام حيث قال : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) «أي هو رب جميع الأجناس التي هي السموات والأرض وما بينهما» (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) (٢) «في جواب فرعون» حين قال لموسى صلوات الله عليه (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) (٣) «أي : أيّ جنس رب العالمين» أجنيّ أم إنسيّ أم غير ذلك من الأجناس المتصوّرة فأجابه بما حكاه الله سبحانه تنبيها على أن ذاته تعالى مخالفة لجميع الأجناس ، وأنه لا يعرف إلّا بأفعاله وأنه لا يتهيّأ تصوّره.

«والثاني» وهو ما يتصوّر به (٤) ماهيّة «نحو قولهم» أي قول المصطلحين

__________________

(١) الشّباة من السيف قدر ما يقطع به : وحدّ كل شيء تمت قاموس ومنجد.

(٢) الشعراء (٢٤).

(٣) الشعراء (٢٣).

(٤) (أ) ما يتصور ماهيته.

٩٢

على استعمال الحدود إذا أرادوا حدّ الإنسان «الإنسان حيوان ناطق» وهو أي (١) الحد مركب من جنس وفصل ، فالجنس لفظ حيوان ، والفصل قوله ناطق ، وقد يحتاج إلى فصلين أو ثلاثة على حسب الحاجة.

وأول من ابتدع هذه الحدود الفلاسفة ثم تبعهم على ذلك الأشعرية بأسرهم وكثير من غيرهم «ويرادفه» أي يرادف الحد «لفظ الحقيقة والماهيّة» أي حد الشيء وحقيقته وماهيّته شيء واحد «إذا عرفت ذلك فحدّ بعض المتكلمين» أي بعض أهل علم الكلام «للذات» أي مطلق الذات بقولهم حقيقة الذات هي ما يصح العلم بها على انفرادها ونحو ذلك «وكذلك» حدّهم أيضا «نحو موجود» أي مطلق الموجود ونحوه كالقادر والعالم والحي إذا أريد بها الباري تعالى وغيرها «بالمعنى الثاني» من معنيي الحد وهو ما يتصوّر به ماهيّة «لا يصح لأنّ الله تعالى لا يصح تصوّره لما يأتي إن شاء الله تعالى» في ذكر صفاته ، قلت : وكذلك بالمعنى الأول إن قصد به مشاركة شيء له تعالى في اسم المحدود لما يأتي إن شاء الله تعالى «فليس» الحد إذا «بجامع» لكل موجود ولكل ذات لخروج الباري تعالى من المحدود ، «وقولهم» أي أهل الحدود «في حد» العالم» هو «من يمكنه إيجاد الفعل المحكم لا يصح بالمعنيين معا» وهما شرح الاسم أو تصوّر الماهيّة «لما مرّ» من أنه تعالى لا يصح تصوره «ولدخول نحو النحلة» أي النحلة ونحوها ككثير من الطيور إن أريد به المعنى الأول «لأنه يمكنها إيجاد الفعل المحكم» على حد لا يتمكن منه الإنسان وهو تقدير بيوت شمعها وترصيفها» له على الصفة المعلومة وكذلك بيوت كثير من الطيور وغيرها «فليس» حدهم «إذا بمانع» من دخول غير المحدود فيه.

قال عليه‌السلام : «فإن قيل : فما شرحه» أي شرح العالم أي إيضاحه بلفظ أوضح؟

«قلت : هو من يمكنه إحكام الأشياء المتباينة» أي المختلفة كلّ منها على حدة ونظمها على وجه الإحكام «وتمييز كل منها بما يميّزه» عن غيره «أو من أدرك الأشياء إدراك تمييز وإن لم يقدر على فعل محكم» يعني أنه من أمكنه

__________________

(١) (أ) ناقص أي الحد.

٩٣

إحكام الأشياء المتباينة وتمييزها فهو عالم ، وكذلك من أدرك تمييزها وإحكامها أي علمه فإنه يسمّى عالما وإن لم يقع منه الفعل المحكم ، إمّا لعجز أو لاختياره ترك الفعل أو غير ذلك.

قلت : وهذا في المخلوق واضح.

وأما مشاركة الخالق جل وعلا للمخلوق في هذا الحد سواء أريد به شرح الاسم أو لا فلا يصح لأنّ المخلوق يعلم بعلم والخالق جل وعلا يعلم لا بعلم ، فالخالق العالم على الحقيقة ، والمخلوق معلّم على الحقيقة وعالم على المجاز ، ولا تجتمع الحقيقة والمجاز في حد سواء أريد به شرح الاسم أو تصوّر الماهيّة وقد استوفينا ذلك في الشرح.

٩٤

«كتاب التّوحيد»

هذا ابتداء المقصود من الكتاب ، والتوحيد في اللغة ليس إلّا نفي الثاني كما سيأتي الآن ، إلّا أنه قد صار بالاصطلاح موضوعا للعلم بالله تعالى وصفاته الذّاتية والفعلية وما يحق له تعالى من الأسماء والصفات الحسنى وما يستحيل عليه ونحو ذلك.

«التوحيد(١) هو لغة» أي في لغة العرب «الإفراد» ومنه وحّد الشجرة إذا قطع أغصانها ولم يترك إلّا واحدا.

والتوحيد أيضا نوع من التمر مختار ، قال المتنبي :

يترشفن من فمي رشفات

هن فيه أحلى من التّوحيد

 «واصطلاحا» أي في اصطلاح أهل علم الكلام «ما قال الوصي» أمير المؤمنين «عليه‌السلام» لمن سأله «التّوحيد أن لا تتوهمه والعدل أن لا تتهمه» وصدق عليه‌السلام فإن توحيد الله سبحانه لا يمكن إلّا بأن لا يتوهمه الإنسان ولا يتصوّره ولا يتطرق إليه بشيء من خواطره بتكييف ولا تمثيل لأنّ كلّما تصوره الوهم أو تخيله فهو مخلوق مجعول وما كان كذلك فليس بواحد إذ قد شاركه غيره في كونه مخلوقا مجعولا.

__________________

(١) (أ) ناقص التوحيد.

٩٥

(فصل)

«والعالم محدث» لمّا كان الدليل على الله تعالى هو صنعه وجب ذكر أدلة حدوث العالم قبل كل شيء.

والعالم عند الموحّدين ، له معنيان : الأول وهو المراد هنا أن يراد به جملة ما يعقل وما لا يعقل من السموات والأرض وما بينهما.

والثاني : أن يراد به ما يعقل خاصّة كالملائكة والجنّ والإنس.

واحدهم عالم ويقال لأهل كل عصر عالم.

وأول ما خلق الله سبحانه هو الهوى الذي هو مكان لا في مكان وهو جسم لطيف يتحرك ويسكن ذكره السيد حميدان عن العترة عليهم‌السلام قال : واستدلّوا (١) على ذلك أن أول خلق خلقه الله تعالى يجب أن يكون وجوده مقارنا لوجود الهوى.

قال الحسين بن القاسم عليه‌السلام في كتاب المعجز الدليل على حدوث الهوى أنه لم يخل من الزمان طرفة عين ووجدنا الزمان محدثا وهو حينئذ سكون الهوى فعلمنا أن ما لم ينفك من المحدث ولم يوجد إلّا بوجوده أن سبيله في الحدث كسبيله.

فإن قال قائل : وما الدليل على حدوث الزّمان؟

قيل له : ولا قوة إلّا بالله : إن كل ساعة منه لها أول وآخر ... إلى آخر كلامه عليه‌السلام.

وقال أبو الهذيل : بل الهوى مكان للجسم وليس بجسم.

وقيل : ليس بشيء.

وقال الإمام المهدي عليه‌السلام : والحجة لنا على أنه جسم إدراكه عند الحركة وملؤه الظروف وإحساسه في المخاريق.

واعلم : أن مذهب أئمة العترة عليهم‌السلام : أن جميع ما يشاهد من

__________________

(١) (ض) واستدلوا بذلك.

٩٦

العالم لا يخلو من أن يكون محلّا لغيره أو حالّا في غيره ، فالمحل هو الجسم والحالّ هو العرض ، والعرض صفة والجسم موصوف ، ومن المعلوم بالمشاهدة استحالة وجود جسم خال عن عرض ووجود عرض لا في محلّ «خلافا لبعض أهل الملل الكفرية» وهم الدّهرية بفتح الدال نسبة إلى الدهر لقولهم بقدمه ، والدهر هو حركات (١) الأفلاك.

فأما الدّهري بضم الدال فهو الرجل الذي كبر سنّه وتطاول عليه الدهر ، وكلامهم في قدم العالم إنما هو في الأجسام أنفسها وأما تراكيبها فلا خلاف في حدوث الأكثر منها.

وقال القرشي : اتفق الناس على أنه لا بد للعالم من مؤثر ما.

ثم اختلفوا :

فقال أهل الإسلام والكتابيون والبراهمة وبعض عباد الأصنام : إنه فاعل مختار ، وبه قالت المطرفية لكن زعموا أنه لا يؤثّر إلّا في الأصول الأربعة التي هي : الهواء والماء والأرض والنّار.

قال : وقال أهل الإلحاد : إنه موجب ثم اختلفوا :

فقال أهل النجوم : التأثير لها ولحركاتها فقط ولم يثبتوا غير ذلك.

وقالت الدهرية : التأثير للدهر وهو قريب من الأول إذ المرجع بالدهر إلى حركات الأفلاك.

وقال الطبائعية بالطبع.

وقالت الباطنية : إنّ ذات الباري تعالى عن ذلك علوّا كبيرا ، علّة قديمة صدر عنها السّابق ، وصدر عن السّابق التّالي وعن التالي النفس الكلية.

وقالت الفلاسفة : المؤثر في العالم علّة قديمة صدر عنها عقل واحد ثم تكثّر هذا العقل. إلى غير ذلك من الأقوال الباطلة التي هي سبب لكل غال ومنها تفرعت كل بدعة باطلة.

قال في المعراج : ومثل ما ذكره القرشي ذكره قاضي القضاة حيث قال :

__________________

(١) (ض) حركة.

٩٧

لا يوجد من قال بنفي المؤثر في العالم جملة وتفصيلا.

وقال : إن القول بنفي المؤثر جملة يشبه مذهب السوفسطائية ، خلا أنه حدث جماعة من الورّاقين وضعوا مقالة لم يذهب إليها أحد قالوا : بأن العالم قديم ولا مؤثر فيه ، ونصر هذا القول المتزندق ابن الراوندي ، قال : وهكذا ذكر الفقيه حميد وابن الملاحمي.

قال : والذي عليه الجمهور أن الخلاف واقع فيه جملة كما أنه واقع فيه تفصيلا ، وأن من الناس من لم يثبت مؤثرا قط فقد روى نفي المؤثر عن الملحدة والدهرية والفلاسفة المتقدمين والطبائعية.

وقال القاضي : لم ينف الفلاسفة القدماء إلّا المؤثر المختار دون الموجب انتهى. «لنا» على حدوث العالم أدلة كثيرة عقلية وسمعية مثيرة لدفائن العقول معلومة لجميع العقلاء.

منها : «قوله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ ، وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (١).

«بيان الاستدلال بها : أمّا السموات والأرض» التي بدأ الله بذكرهما لكونهما أعظم المخلوقات في طريق الاعتبار وأبينها ولكونهما محلّا للّيل (٢) والنهار وغير ذلك «فإذا نظرنا في خلقهما فوجدناهما لم ينفكا عن إمكان الزيادة والنقصان» أي لم يفارقا إمكان الزيادة والنقصان أي يحكم العقل بأنه يمكن الزيادة فيهما والنقصان منهما لأنهما من جنس الزيادة والنقصان فكما جاز وجودهما ، ووقع كذلك الزيادة عليهما والنقصان منهما لا يستحيل إمكانه بل هو ملازم لهما «وكذلك التحويل والتبديل والجمع بينهما وتفريق كل منهما» أي يحكم العقل بأنهما لم ينفكا عن إمكان ذلك لأن الذي تعلّقت قدرته بإيجادهما

__________________

(١) البقرة (١٦٤).

(٢) (أ) محل الليل.

٩٨

ووضعهما في موضعهما تعلّق قدرته أيضا بالتحويل والتبديل والتفريق والجمع ، وهذا الإمكان ملازم لهما ، وليس ذلك إلّا لكونهما مقدورين ، ولا يكونان مقدورين إلّا بعد تقدم القادر عليهما إذ لو لم يكونا مقدورين لم يحكم العقل بإمكان ذلك كله ولم يعقله العقلاء بيانه قوله عليه‌السلام «فهما مع ذلك الإمكان إمّا قديمتان» لا أول لوجودهما «أو محدثتان» قد سبقهما العدم ومحدثهما ولا ثالث لهذه القسمة تعقل «ليس الأول» وهو أن يقال هما قديمتان ، «لأنّا قد علمنا ضرورة أنهما لا يعقلان ، منفكتين عنه» أي عن ذلك الإمكان لمعرفتنا بأن لهما حدودا ، وكل ذي حدّ لا يختلف العقلاء في تعلق قدرة القادر عليه بالزيادة والنقصان ونحوهما ، «وكل ذي حالة لا يعقل منفكّا عن حالته» تلك التي لم يعقل إلّا عليها فإنه «يستحيل ثبوته منفكا عنها» أي عن حالته التي لم يعقل إلّا عليها لأنها حالة لازمة له «كالعمارة» وهي ضم الأحجار بعضها إلى بعض فإنه «يستحيل وجودها منفكّة عن إمكانها» أي إمكان العمارة فإنها لا تعقل إلّا ممكنة وما ذاك إلّا لتقدم صانعها عليها وكونها مما يتعلق (١) به قدرته «وكالمستحيل» من الأشياء فإن له حالة وهو كونه لا يمكن وجوده «فإنه يستحيل تخلّفه عن عدم إمكانه» لأنه لا يعقل إلّا لازما لعدم الإمكان كوجود الليل والنهار في وقت واحد ، واجتماع السواد والبياض في محل واحد ، فلو كانتا «قديمتين لكانتا قد تخلّفتا عن ذلك الإمكان ، لأن الإمكان لا يكون إلّا مع التمكن منها» أي من الزيادة والنقصان والتحويل والتبديل ونحو ذلك.

والتمكن من ذلك «لا يكون إلّا بعد صحة الفعل» لأنه لو كان الفعل لا يصح وقوعه لما حكم العقل بالإمكان ولا التمكن.

«وصحة الفعل لا يكون إلّا بعد وجود الفاعل وما كان» من الأشياء «بعد وجود غيره فلا شك في حدوثه» إذ حقيقة المحدث ما سبقه عدمه أو غيره كما تقدم «ولزم حدوث ما توقف عليه» أي على ذلك الشيء الذي هو بعد غيره وهو صحة الفعل «من جميع ذلك» وهو وجود السموات والأرض وإمكان الزيادة والنقصان والتحويل والتبديل ونحو ذلك ، لتوقف ذلك على

__________________

(١) (أ) تعلق.

٩٩

صحة الفعل وقد ثبت حدوث صحة الفعل ولزم تخلفهما عنه أي عن ذلك الإمكان «لو كانتا قديمتين» كما ذكرنا من قبل «وهو محال» أي تخلّفهما عن الإمكان «فثبت الثاني وهو حدوثهما».

إلى هنا نسخة أثبتها الإمام عليه‌السلام ، وتوجد في بعض النسخ متأخرة ، والنسخة الأخرى التي هي عوض عنها قوله عليه‌السلام : «فذلك الإمكان إمّا قديم أو محدث ، ليس الأول لأن الإمكان لا يكون إلّا مع التمكن» من الفعل «والتمكن لا يكون إلّا عند أن يصح الفعل والفعل لا يصح إلّا بعد وجود الفاعل ضرورة ، وما كان بعد غيره فهو محدث ، فثبت الثاني وهو حدوثه» أي حدوث الإمكان «ولزم حدوث لازمه» وهو السموات والأرض وما بينهما لأن ذلك لازم للإمكان والإمكان لازم له وانفكاك الملازمة محال كما سبق ذكره.

قال عليه‌السلام : «وأيضا» أي يرجع رجوعا إلى الاستدلال بدليل آخر من آض (١) أي رجع فنقول «هما» أي السموات والأرض مختلفتان في الشكل والهيئة والارتفاع والانخفاض ، وكون إحداهما للنبات وأرزاق المخلوقات ، والأخرى مجرى الفلك والنجوم والشمس والقمر ونحو ذلك.

فاختلافهما لا يخلو إمّا أن يكون للعدم أي أثر فيه العدم ، أو لعلّة كما يزعم مثبتوها إن قدّرت وفرضت فرضا على استحالة تأثيرهما (٢) كما سبق ، أو لفاعل مختار ، ليس القسم الأول وهو العدم لأن العدم لا تأثير له عند العقلاء ، ولا هو الثاني وهو العلة المفروضة المقدّرة لأن تأثير العلة تأثير إيجاب بزعمهم أي بزعم من زعم أن العلل تؤثر كما سبق ذكره عنهم.

«فلو كان كذلك» أي لو كان المؤثر هو العلّة «لوجب» أي لجاز «أن تكون السماء أرضا والعكس» أي الأرض سماء ، «و» لجاز أن تكون «السفلى من السموات عليا والعكس» إذ ما جعل إحداهما أرضا والأخرى سماء ونحو ذلك» كالسفلى عليا والعكس «بأولى من العكس لعدم الاختيار» من المؤثر كما

__________________

(١) يعني أنه مصدر مشتق من آض تمت قواعد إعراب.

(٢) (ب) تأثيرها.

١٠٠