عدّة الأكياس في شرح معاني الأساس - ج ١

أحمد بن محمّد بن صلاح الشرفي القاسمي

عدّة الأكياس في شرح معاني الأساس - ج ١

المؤلف:

أحمد بن محمّد بن صلاح الشرفي القاسمي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الحكمة اليمانية للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٤
الجزء ١ الجزء ٢

«و» أما إيلام أهل المعاصي فإنه يحسن من الله تعالى «إيلام أهل الكبائر» المحبطة للطاعات «تعجيل عقوبة» لهم «فقط» أي لا عوض لهم فيه ولا منفعة وإنما هو تعجيل عقوبة لهم.

«وقيل» بل لهم عوض لأنه «لا عقاب قبل الموافاة» أي قبل موافاة يوم القيامة ، وهذا قول أبي هاشم ، وخالفه أبوه أبو علي فقال : يجوز أن يكون إيلامهم عقوبة فقط (١) «لنا» حجة على قولنا : «قوله تعالى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) (٢) «ويعفو عن كثير» فدلّت على أن المصائب النّازلة بهم من الآلام وغيرها بسبب كسبهم المعاصي ، وهذا حقيقة العقوبة ، والآية عامّة في العصاة جميعا.

وفي الكشاف : عن النبيء صلوات الله عليه وعلى آله وسلم : «ما من اختلاج عرق ولا خدش عود ولا نكبة حجر إلّا بذنب» ولما يعفو الله أكثر وأيضا : إيلامنا أهل الكبائر بإقامة الحد عليهم كأنه من الله لأنه أمر به «ولا خلاف بين العلماء : أن الحدّ عقوبة» لا عوض فيه و «لقوله تعالى : (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٣) فنص الله على أن الحد عذاب والعذاب عقوبة «ونحوه» كقوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) (٤).

وقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : «من بدّل دينه فاقتلوه ومن سبّني فاقتلوه» فإن ذلك مشعر بأن ذلك عقوبة لا عوض فيه إذ لو كان فيه عوض لبطل كونه عقوبة.

«و» يحسن إيلام صاحب الكبيرة أيضا «لاعتبار نفسه فقط» أي من دون عوض ولا عقوبة «كما مرّ» في حق المؤمن.

«ولقوله تعالى (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ)

__________________

(١) (ض) عقوبة لهم فقط.

(٢) الشورى (٣٠).

(٣) النور (٢).

(٤) المائدة (٣٨).

٢٨١

بالمرض والقحط وغير ذلك (ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) (١) أي لا يعتبرون أي عرّضناهم بالفتنة والامتحان للاعتبار والتذكّر والرجوع إلى الحق فلم يجد ذلك شيئا بل لجّوا في طغيانهم يعمهون.

«ولمجموعهما» أي يحسن من الله سبحانه إيلام صاحب الكبيرة للعقوبة والاعتبار لا للعوض فلا عوض لصاحب الكبيرة لمنافاته العقاب «خلافا لرواية الإمام المهدي أحمد بن يحيى عليه‌السلام عن العدلية» فإنه روى عنهم : أنه لا بدّ في جميع الآلام ونحوها من العوض والاعتبار في جميع المؤلمين والممتحنين ، فالعوض يدفع كونه ظلما ، والاعتبار يدفع كونه عبثا.

«لنا» حجّة عليهم «قوله تعالى» (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) (٢) الآية فلو كانت لهم أعواض لكانت مخفّفة من العذاب وإلّا فلا فائدة إذا فيها «وقوله تعالى» (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) (٣) فهذه الآية نص في عدم دخولهم الجنة «فلا عوض» لأهل الكبائر «حينئذ».

وقالت «المجبرة : يحسن» الألم من الله لكل أحد «خاليا عن جميع ما ذكر» بناء على قاعدتهم المنهدة : إن الله تعالى يفعل كل ظلم وقبيح ولا يقبح ذلك منه تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

«قلنا : ذلك ظلم» لأنه عار عن جلب نفع للمؤلم أو دفع ضرر عنه أو استحقاق وهذه صفة (٤) الظلم (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) ، وهذه الوجوه المذكورة في حسن الآلام حيث كانت من الله تعالى.

«و» أما حسنهاإن كانت «من العبد» فهي تحسن منه لأمور :

«إمّا عقوبة» للظالم لغيره «كالقصاص» فإنه يحسن قتل المتعدّي قصاصا

__________________

(١) التوبة (١٢٦).

(٢) فاطر (٣٦).

(٣) الأعراف (٤٠).

(٤) (ض) حقيقة.

٢٨٢

لأنه عقوبة «أو لظن حصول منفعة كالتأديب» للصبي والعبد والمرأة فإنه يحسن لمنفعة المؤدّب إمّا لدينه أو لدنياه أو لهما معا «أو لدفع مضرّة» أعظم منه «كالفصد والحجامة» والكيّ ونحوها كشرب الدواء الكريه فإن ذلك كله حسن لأنه لدفع مضرّة أعظم منه وسواء كانت المنفعة أو دفع المضرة معلومة أو مظنونة.

«أو لإباحة الله تعالى» للعبد ما يتألم به بعض الحيوان «كذبح الأضاحي» وسائر ما يذبح من الحيوان والصيود فإنه يحسن من العبد لإباحة الله سبحانه ذلك لعلمنا أن الله سبحانه ما أباح ذلك إلّا لمصلحة قد ضمنها للمؤلم.

(فصل)

قال «الهادي» يحيى بن الحسين بن القاسم «عليه‌السلام : وما وقع من المكلف» من الآلام ونحوها على غيره عدوانا ، والعدوان : هو المتعرّي عن النفع والدفع الموفيين على (١) الألم «ولم يتب» ذلك المتعدّي «زيد في عذابه» أي عذاب المتعدّي «بقدر جنايته وأخبر المجنيّ عليه بذلك» أي يخبر بأنه قد زيد في عذاب من تعدّى عليه بقدر جنايته عليه عقوبة له وإنصافا من الله سبحانه للمجني عليه.

«فإن كان» أي المجني عليه «مؤمنا أثيب على صبره» على ألم الجناية أو ذهاب المال.

قال الإمام عليه‌السلام : «قلت وبالله التوفيق : ويحط بالألم» الذي لحقه بسبب الجناية «من سيئاته» أي يسقط من سيئات المجني عليه أو أي مصلحة تصير إليه كما مر «بسبب التخلية» بين الجاني والمجني عليه التي اقتضتها حكمة الله سبحانه.

«ولقول الوصي» علي «عليه‌السلام» لأصحابه :

(أمّا إنّه سيظهر عليكم من بعدي رجل رحب البلعوم مندحق البطن

__________________

(١) (ض) عن الألم.

٢٨٣

يأكل ما يجد ويطلب ما لا يوجد فاقتلوه ولن تقتلوه ، ألا وإنه سيأمركم بسبّي والبراءة منّي «فأمّا السب فسبّوني فهو لي زكاة) أي تطهرة أي كفارة» للذنوب (ولكم نجاة ، وأما البراءة فلا تتبرءوا منّي فإني ولدت على الفطرة وسبقت إلى الإيمان والهجرة) انتهى كلامهعليه‌السلام وهو يريد بالرجل معاوية بن أبي سفيان فإنه سبّ عليّا كرم الله وجهه في الجنة وأمر بسبه واستمر ذلك مدة طويلة نحوا من ثمانين سنة فكان يسبّ على ثمانين ألف منبر وجعل ذلك السّبّ سنّة.

وإنما منع عليه‌السلام من البراءة منه مع الإكراه لأن البراءة من أفعال القلوب وهم لا يغلبون عليها بخلاف السّبّ باللسان.

«وإن كان» المجني عليه «ذا كبيرة» أي صاحب معصية كبيرة «فلا يزاد على إخباره» بأن المتعدّي عليه بالجناية قد زيد في عذابه بقدر جنايته عليه ولا ثواب للمجني عليه ولو صبر لأنه لا يتقبل عمله مع عصيانه لقوله تعالى : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (١) ولا عوض له أيضا «لانحباط العوض بمنافاته العذاب كما مر» من الأدلة على بطلان العوض في حق صاحب الكبيرة.

قلت : لفظ الهادي عليه‌السلام قد أثبته في الشرح ، ومعناه ما ذكره الإمام عليه‌السلام سواء إلّا أنه ساقه في جواب من سأله عمّن ظلم في الدنيا من دراهم ودنانير والجناية بالألم مثل ذلك.

قال الإمام عليه‌السلام «ويمكن أن يجعله الله» أي الألم أو الغم الواقع على صاحب الكبيرة «تعجيل» بعض «عقوبة» في حقه «فلا يخبر» بأنه قد زيد في عذاب من جنى عليه «كما فعل الله ببني إسرائيل حين سلط عليهم بخت نصّر فقال تعالى : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً) (٢) فإن تسليط بخت نصر عليهم والتخلية بينهم وبينه عقوبة لهم على ما اقترفوه من قتل أنبيائهم وسائر عصيانهم كما أخبر الله سبحانه وتعالى.

__________________

(١) المائدة (٢٧).

(٢) الإسراء (٥).

٢٨٤

قال في البرهان : المبعوث عليهم في المرّة الأولى جالوت ، وقيل بخت نصر ، وفي المرة الثانية بخت نصر.

وفي الكشاف قال أولاهما قتل زكريا عليه‌السلام وحبس إرميا حين أنذرهم سخط الله.

والآخرة : قتل يحيى بن زكريا وقصد قتل عيسى ابن مريم عليه‌السلام والعباد الذين ذكرهم الله في الآية : سنحاريب وجنوده ، وقيل بخت نصر. وعن ابن عباس جالوت قتلوا علماءهم وأحرقوا التوراة وخرّبوا المسجد وسبوا منهم سبعين ألفا.

قال فإن قلت : كيف جاز أن يبعث الله الكفرة على أولئك ويسلطهم عليهم؟

قلت : معناه خلّينا بينهم وبين ما فعلوا ولم نمنعهم كقوله تعالى (وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (١).

قلت : وهو الحق ومثله ذكر الهادي عليه‌السلام في تفسير قوله تعالى (أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ ...) الآية (٢).

«وإن كان» المجنيّ عليه «غير مكلّف» كالصّبيان والمجانين وسائر الحيوانات مع كون الجاني متعدّيا ولم يتب «فلمصلحة» أي فلا بدّ من مصلحة للمجني عليه «يعلمها الله تعالى له» أي لغير المكلف كما مرّ ذكره في الألم الحاصل من الله تعالى على غير المكلّف ، وإنما كان كذلك «للتخلية» من الله سبحانه بين الجاني والمجني عليه وهي حسنة من الله سبحانه ، وإن كان الفعل من جهة الجاني قبيحا.

«ولعدم أعواض الجاني كما مرّ» من أنّ ذا الكبير لا عوض له لمنافاته

__________________

(١) الأنعام (١٢٩).

(٢) مريم (٨٣).

٢٨٥

العقاب (١) ، فثبت أنه لا بدّ من مصلحة من الله سبحانه للمجنيّ عليه بسبب التخلية.

وقال الإمام «المهدي» أحمد بن يحيى «عليه‌السلام» حاكيا «عن العدلية : لا بدّ من آلام» تلحق الجاني في الدنيا إمّا في بدنه أو ماله أو ولده ، وسواء كانت جنايته على مكلف أو غير مكلف فلا يخرج من الدنيا إلّا وقد ناله (٢) آلام «يستحق بها العوض» من الله سبحانه وتعالى.

قالوا : وإلّا كان تمكينه من الجناية والتخلية بينه وبين المجني عليه ظلما والله يتعالى عنه «فيعطى المجني عليه» كائنا من كان «منها» أي من تلك الأعواض.

«لنا» عليهم «ما مر» من أنه لا عوض لصاحب الكبيرة بل ذلك معلوم بالمشاهدة من حال كثير من المتجبّرين في الأرض كفرعون والحجاج وغيرهما ممن أكثر الفساد في الأرض بالقتل والحبس وأخذ الأموال وغير ذلك وأنهم يموتون من دون أن يقع بهم من الآلام ما يوفي من جنوا عليه (٣).

«قالوا» لا يصح أن يكون العوض للمجني عليه من الله تعالى لأن «الذي من الله تفضّل لا إنصاف» للمجني عليه من الجاني.

«قلنا : قد حصل الإنصاف بزيادة العذاب» للجاني وإخبار المجني عليه إن كان مكلّفا «كالقصاص» من الجاني في الدنيا فإنه إنصاف اتفاقا مع أنه لم يصر إلى المجني عليه شيء من عوض الجاني.

«فإن تاب» الجاني بعد وقوع جنايته ولم يصر إلى المجني عليه من جهة الجاني شيء في الدنيا عوضا عن جنايته «جاز أنّ يقضي الله عنه كما لا يعاقبه» بعد توبته كذلك يجوز أن لا ينقصه شيئا من أعواضه فيتفضّل الله سبحانه بالقضاء عنه «وجاز أنّ يقضي الله» المجني عليه إمّا «من أعواضه» أي أعواض

__________________

(١) (ب) للعقاب.

(٢) (أ) نالته.

(٣) (ض) ما يوفي بحق من جنوا عليه.

٢٨٦

الجاني : «إن جعل له أعواضا» من بعد توبته «أو من أحد نوعي الثواب وهو النعم» أي المنافع والملاذ والمشتهيات «دون التعظيم» وهو الإجلال برفع المنازل ونحو ذلك لأنّ الثواب نوعان : نعم وتعظيم.

وقال «جمهور المعتزلة : لا يجوز إلّا من أعواضه» أي أعواض الجاني ولا يجوز أن يقضي الله عنه ولا من أحد نوعي الثواب «كما لا يسقط الأرش بالعفو عن الجاني» فيما يجب فيه القصاص.

وقال أبو القاسم «البلخي» وروي عن ابن الملاحمي وغيره : «لا يجوز إلّا الأول» وهو أن يقضي الله عنه لأن التوبة صيّرت الفعل كأن لم يكن «وكما لا يعاقبه» على الذنب الذي تاب منه لا ينقصه شيئا من أعواضه بسببه.

قال عليه‌السلام : «قلت وبالله التوفيق : لا مانع من تفضله تعالى بالقضاء كالمتفضل» من بني آدم على غيره «بقضاء الأرش» عنه «وقد حصل الإنصاف» بذلك «لأنه عن الجناية» التي وقعت من التائب «ولا موجب» لأن يقضي الله عنه «مع وجود ما يقضي» من أعواض الجاني لأن جنايته توجب عليه حقين : حق للمجني عليه وحق لله سبحانه فجاز الأمران.

واعلم : أن الغمّ كالألم في جميع ما مرّ ، فما كان سببه من الله ففيه ما مرّ وما كان سببه من العبد فكما مرّ [أيضا في جناية المكلف].

«وإن كان الجاني غير مكلف» كالصبيان والمجانين والبهائم فكأنها من الله سبحانه بسبب التخلية «فللمجني عليه ما مر على التفصيل» وهو إما مصلحة يعلمها الله له أو الاعتبار أو تحصيل سبب الثواب أو حط الذنوب أو لمجموعها ، وإن كان ذا كبيرة فتعجيل عقوبة أو لاعتبار نفسه أو لمجموعهما لا للعوض «لسلبها العقول المميزة» بين الحسن والقبيح والمنفعة والمضرة «مع التخلية» أي وخلى الله سبحانه بينها وبين المجني عليه ومكنها من الجناية بأن جعل لها قوة ولم يمنعها.

«والتمكين منه تعالى» لها «كالإباحة».

«وفي بعض النسخ : لأنّ سلبها العقول المميّزة مع التخلية والتمكين

٢٨٧

كالإباحة فكان ذلك كألم المذكّيات بإباحة الله تعالى).

«و» أمّا «جناية المؤمن» على غيره إذا كانت «خطأ» فهي «كجناية التائب» سواء سواء على ما مر.

«وجناية ذي الكبيرة خطأ كما مر» في جناية العامد من أهل الكبائر سواء إلّا في شيء واحد «و» هو أنه «لا عقاب عليه بسببها لعموم أدلة العفو عن الخطإ» في العاصي وغيره في سقوط العقاب من نحو قوله تعالى : (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ) الآية (١).

وقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : «رفع عن أمّتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه».

وأمّا ضمان الأموال في جناية الخطأ فلدليل خاص لأنّ غرامة المال ليست من العقاب وإنّما رفع الله سبحانه عن المخطى العقاب.

(فصل)

قال «جمهور أئمتناعليهم» «السلام ، وأبو الهذيل وأحد قولي أبي علي وغيرهم» كبعض البغدادية : «ويدوم العوض» الذي من الله سبحانه لمن استحقّه «خلافا لبعض أئمتنا عليهم» «السلام» كالإمام المهدي عليه‌السلام «والبهشمية» أي أتباع أبي هاشم فقالوا : لا يدوم كالأروش المستحقّة بالجنايات ، فكما لا يجب دوامها لا يجب دوامه.

«قلنا : انقطاعه يستلزم» إمّا «تضرر المعوّض» حيث لا ثواب له كالبهائم والأطفال ونحوه «أو فناؤه» أي فناء المعوّض لانقطاع عوضه ومنفعته «وحصول أيّهما بلا عوض لا يجوز على الله تعالى» لأنه يكون حينئذ ظلما والله يتعالى عنه.

«و» إذا حصل أيهما «بعوض» آخرمن الله سبحانه «يستلزم ذلك بأن تكون الآخرة دار امتحان وبلاء» لوقوع ذلك الضرر أو الفناء الذي وقع

__________________

(١) الأحزاب (٥).

٢٨٨

لأجلهما العوض فيها «لا دار جزاء فقط» أي يلزم أن لا تكون دار جزاء فقط «والإجماع» منعقد «على خلاف ذلك» وهو أنّها دار جزاء فقط ثواب ونعيم أو عقاب وجحيم.

«فإن قيل» وما المانع من انقطاع العوض عن المعوّض ثم «يتفضل الله عليه بعد انقطاعه؟» بمنافع أخرى تفضّلا منه جل وعلا لا تنقطع؟

«قلنا : قد استحق» المؤلم «بوعد الله الذي لا يبدل القول لديه أن يبعث للتنعّم» وللانتصاف له لما مرّ ولقوله تعالى (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) (١) فالمكلفون يحشرون لمجازاتهم بالثواب والعقاب وللانتصاف والتفضّل عليهم وسائر غير المكلفين لتوفية أعواضهم والتفضل عليهم.

وقال أبو هاشم : يجوز أن تعوض البهائم في الدنيا فلا تعاد.

وقال الأكثر : بل لا بد من إعادة ما كان له عوض منها ، ولكن اختلفوا في حكمها بعد الإعادة :

فقال عباد : يبطل إما بمصيرها ترابا أو غير ذلك.

وقال بعضهم : يجوز أن الله يدخل النّار ما كان مبغضا منفورا عنه كالحيّات والسّباع مع كونها متلذذة بذلك ، ويدخل الجنة ما كان حسن الصورة محبوب المنظر وأمّا ما (٢) لا عوض له كمن يموت مغافصة من دون ألم فقالوا : لا يقطع بوجوب إعادته.

قلنا : قد دل الدليل القاطع على إعادة جميع الدواب وهو حكمه العدل والآية المتقدمة.

«فلا وجه لتخصيص العوض بجعل بعضه مستحقّا» وهو الذي في مقابلة الألم «وبعضه غير مستحقّ» وهو الذي يتفضل الله به على المؤلم بعد انقطاع عوضه.

__________________

(١) الأنعام (٣٨).

(٢) (ض) وأمّا من لا عوض له.

٢٨٩

ولو جوزنا حصول أعواضها في الدنيا لكان إيلامها بالموت ظلما ، ولجوّزنا ذلك في حق المكلفين أيضا ، ولو جاز في حقهم لم يعلم أن الواصل إليهم في الدنيا عوض عن آلامهم ولكان إيلامهم بالموت ظلما.

وأما أنها تصير بعد انقطاع عوضها ترابا بغير ألم فلا دليل عليه والله أعلم.

واعلم : أنه لا تناصف بين الأطفال والمجانين وكذلك سائر ما لا يعقل كما ذكره الإمام عليه‌السلام وفاقا للإمام يحيى عليه‌السلام والإمام المهدي عليه‌السلام وأبي القاسم البلخي وأبي الحسين ومحمود بن الملاحمي لأنّ سلب العقول كالإباحة كما سبق ذكره.

وقال أكثر المعتزلة : بل يناصف الله بينهم. لنا ما مر.

«تنبيه» : لا بدّ أن يكون العوض بالغا مبلغا بحيث لا يختلف حال العقلاء في اختيار الألم لمكانه.

وهل يجوز توفيره على صاحبه في الدنيا ذهب الإمام يحيى عليه‌السلام وصاحب الكشاف : إلى أنه يجوز أن يعجل الله سبحانه عوض بعض المؤمنين فيوفّره عليه في الدنيا ، ويجوز أن يؤخّره إلى الآخرة (١) فيوفّره مع ثوابه بحيث يتميّز أحدهما عن الآخر ويعلمه ، ويجوز أن يوفر بعضه في الدنيا وبعضه في الآخرة.

قالوا : فهذه الوجوه لا مانع منها في العقل.

قلت : أمّا توفيره كله في الدنيا فلا يجوز لتأديته إلى أن يكون إيلامه بالموت ظلما ، وأما بعضه فمحتمل والله أعلم.

(فصل)

«والأجل» في الاصطلاح : «وقت ذهاب الحياة» أي خروج الرّوح من جسد الحيوان.

__________________

(١) (ض) دار الآخرة.

٢٩٠

وقد يستعمل أيضا لمدة استمرار حصول الحياة.

وأما في اللغة : فهو الوقت المضروب لأمر من الأمور كآجال حلول الدين وغيرها ، «وهو» أي الأجل بالمعنى الأول «واحد إن (١) كان ذهابها» أي الحياة «بالموت اتفاقا» بين علماء الإسلام.

قال «بعض أئمتنا عليهم» «السلام والبغدادية : وهو أجلان» اثنان «إن كان ذهابها بالقتل» أحدهما «خرم وهو الذي يقتل فيه المقتول» وسمّي خرما لأن القاتل خرم عمره أي قطعه بما مكنه الله سبحانه من القدرة ولم يمنعه بل خلّى بينه وبينه لمصلحة الابتلاء والتمكين.

والثاني «مسمّى» أي مقدّر مفروض بعدم القتل «وهو الذي لو سلم» المقتول «من القتل لعاش» مدة يعلمها الله «قطعا» أي يعلم (٢) ذلك علما ويقطع (٣) به قطعا «حتى يبلغه» أي يبلغ ذلك الأجل المسمّى «ويموت فيه».

وقال «بعض أئمتنا عليهم» «السلام» كالإمام المهدي عليه‌السلام وغيره : «وبعض شيعتهم» كالقرشي والرصاص «والبهشمية» أتباع أبي هاشم وأبو علي وقاضي القضاة وغيرهم فهؤلاء قالوا : لا نقطع بأن المقتول لو لم يقتل لعاش ولكنّا «نجوز ذلك» ولا نقطع به لأنه يجوز من الله سبحانه في ذلك الوقت حياته وموته.

قال الحاكم : هذا التجويز إنما هو «قبل وقوع القتل» بمعنى أنه إنما يجوز موته وحياته لو سلم من القتل قبل أن يقع عليه القتل «لا بعده» أي بعد وقوع القتل فلا تجويز «إذ قد حصل موته بالقتل» فيقطع حينئذ أنه لم يكن يجوّز غيره لأن الأجل هو وقت الموت وهو قد مات في ذلك الوقت فقد مات في أجله.

قال النجري : وإلى هذا أشار السيد مانكديم في شرح الأصول حيث

__________________

(١) (ض) إذا.

(٢) (أ) نعلم.

(٣) (أ) ونقطع.

٢٩١

قال : ولا خلاف فيمن مات حتف أنفه أو قتل أنه مات بأجله ، لأن الأجل هو وقت الموت وهما جميعا قد ماتا وقت موتهما ، وإنما الخلاف في المقتول لو لم يقتل كيف كان يكون حاله في الحياة والموت. انتهى.

وهذا من الحاكم تأويل لكلام البهشمية ومن وافقهم.

وفي هذا التأويل نظر إذ المسألة مفروضة بعد وقوع القتل هل كان يجوز من الله سبحانه إبقاء حياة المقتول مع الفرض بأنه لم يقتل لأن القتل ليس فعلا له تعالى ، أو كان تعالى يميته في ذلك الوقت الذي قتل فيه ، وهذه المسألة لا تحتمل غير ثلاثة أوجه :

إمّا أن يقطع بحياته لو سلم من القتل كما هو مذهب قدماء أهل البيت عليهم‌السلام أو يجوز حياته وموته كما هو مذهب البهشمية وأتباعهم.

أو يقطع بموته كما هو مذهب الجبرية بناء منهم أن الأفعال من الله تعالى الله عن ذلك.

ولا تحتمل القسمة غير هذه الأوجه الثلاثة.

وأما قولهم : إنّا نجوز ذلك قبل وقوع القتل لا بعده فنقول لهم : ما المراد بقولكم هذا أتريدون أن الرّجل السّويّ الصحيح يجوّز موته في أي وقت من الأوقات ويجوّز حياته؟ فهذا صحيح ولا نزاع فيه ، وإن أردتم أن هذا التجويز مستمر إلى أن يقع عليه القتل ومتى وقع انتفى التجويز ، قلنا : التجويز قبل وقوع القتل متفق عليه وليس بمحل النزاع.

وقولكم : بعد وقوع القتل ينتفي التجويز ويقطع أنه مات بأجله هو محل النزاع وهذا هو مذهب الجبرية بعينه ، وإن بقي التجويز بعد وقوع القتل كما كان قبله بطل قولكم أنه ينتفي التجويز بعد القتل ، فعرفت من هذا أن تأويل الحاكم لقول البهشمية لا يصح.

وأما قولهم (١) لا خلاف أن المقتول مات بأجله فهو صحيح ولا نزاع

__________________

(١) (ض) أنه لا خلاف.

٢٩٢

فيه ، وإنما النزاع في الأجل الثاني وهو المفروض المقدّر هل يثبت للمقتول على تقدير عدم وقوع القتل.

فالذي ذهب إليه قدماء أئمة أهل البيت عليهم‌السلام : أن له أجلا مقدّرا مفروضا بعدم القتل يعلمه الله سبحانه لو سلم من القتل لعاش حتى يبلغه.

وقالت «المجبرة» والحشوية ومن وافقهم كأبي الهذيل : «لا تجوّز» حياته «قبله» أي قبل القتل «ولا بعده» أي بعد القتل «البتة» بل لو لم يقتل لمات قطعا في الوقت (١) الذي قتل فيه.

«لنا» حجة على ما ذهبنا إليه من أن القتل خرم «قوله تعالى (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) (٢) «وهو نص صريح يفيد القطع بأن القتل خرم» أي قطع لحياة المقتول إذ لو ترك المقتول خشية القصاص» من قاتله «لعاش» ذلك المقتول «قطعا ولو ترك المقتصّ منه» وهو القاتل «لتركه القتل الموجب للقصاص لعاش قطعا كما أخبر الله تعالى» في هذه الآية الكريمة بقوله (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) أي حياة عظيمة.

قال الهادي عليه‌السلام في معنى هذه الآية : «والحياة الّتي في القصاص فهي ما يداخل الظالمين من الخوف من القصاص في قتل المظلومين فيرتدعون عن ذلك إذا علموا أنهم بمن يقتلون مقتولون فتطول حياتهم إذا ارتدعوا عن فسادهم وينكلون عن قتل من به يقتلون وبإبادته بحكم الله يبادون. انتهى.

ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى في قصة نوح عليه‌السلام وقومه (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ) (٣).

فالمعنى : أنهم إن أطاعوه أخّرهم إلى أجل مسمّى وهو أجل الموت وهو الذي لا يؤخر.

__________________

(١) (ت) في هذا الوقت.

(٢) البقرة (١٧٩).

(٣) نوح (٤).

٢٩٣

وإن عصوه اخترمهم الله قبل ذلك كما أهلكهم بالإغراق.

وهذا الأجل الذي يؤخر لأنهم لو آمنوا لما أغرقوا.

وقد بسطت من كلام الهادي وغيره من الأئمة عليهم‌السلام في هذا الموضع في الشرح.

«و» لنا أيضا حجة على قولنا «قصة قتل الخضر الغلام» الذي ذكره الله في الكتاب العزيز «لأنه لو لم يقتله لعاش قطعا حتى يرهق أبويه» أي يغشيهما «طغيانا وكفرا كما أخبر الله تعالى» أي يكون سببا في كفرهما بأن يطيعاه في اختيارهما الكفر.

وذلك نص في أن القتل خرم وأنه لو لم يقتل المقتول لعاش قطعا «و» لنا أيضاأن نقول «لو لم يكن» الأجل «إلّا أجلا واحدا» وهو وقت خروج الروح بالقتل أو الموت «لزم» من ذلك «أن لا ضمان على من ذبح شاة الغير عدوانا» أي بغير إذن شرعي «إذ أحلّها له» أي لأنه أحلها له «فهو محسن عند المجبرة غير آثم للقطع بالإحسان» بعد وقوع القتل إذ لو لم يذبحها لماتت عندهم قطعا.

«و» هو «آثم عند غيرهم» أي عند البهشمية ومن تابعهم «بالإقدام» على ذبحها بغير إذن شرعي «غير ضامن لانكشاف الإحسان» منه بذبحها لقولهم : إنه لا تجويز بعد وقوع القتل لأنّ المقتول قد مات بأجله فلا يجوّز أن تفرض حياته لو سلم من القتل وهذا هو مذهب الجبرية.

والأولى في الردّ عليهم ما قررناه من قبل أن يقال : هو غير ضامن لتجويز الإحسان والأصل براءة الذمة.

وممّا يؤيد ما ذهب إليه أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ما روي عن النبيء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «الدّعاء يرد القضاء وأن البرّ يزيد في العمر وأن صلة الرّحم تزيد في العمر».

وعن علي عليه‌السلام أنه قال : (وصلة الرّحم فإنها ثروة في المال ومنسأة في الأجل وتكثير في العدد).

٢٩٤

وقال المؤيد بالله عليه‌السلام : فأمّا ما روي أن صلة الرحم تزيد في العمر فهو جائز غير ممتنع أن يعلم الله سبحانه من حال الإنسان مثلا أن الصّلاح في أن يعمر ثلاثين وأنه إن وصل الرّحم كان الصّلاح في أن يعمر أربعين ، وإن قطع رحمه كان الصّلاح في أن يعمر عشرين سنة ، وهذا معنى الخبر. انتهى.

وعن محمد بن علي الباقر عليهما‌السلام قال : حدثني أبي عن جدي عن عليّ عليهم‌السلام قال : (سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن قول الله سبحانه : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ)؟ (١).

فقال : «لأسرّنّك بها يا عليّ فسر بها أمّتي من بعدي : الصّدقة على وجهها واصطناع المعروف وصلة الرّحم وبرّ الوالدين تحوّل الشّقاء سعادة وتزيد في العمر ، وتقي مصارع السّوء».

ويدل على ذلك قوله تعالى : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ ...) (٢) الآية على أحد التفسيرين.

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «برّ الوالدين يزيد في العمر والكذب ينقص الرزق ، والدعاء يرد القضاء ، ولله في خلقه قضاء آن : قضاء نافذ ، وقضاء محدث يحدث فيه ما يشاء» رواه في شمس الأخبار عن أمالي المرشد بالله عليه‌السلام.

«قالوا» أي قال من خالفنا في هذه المسألة : «يلزم» من ثبوت الأجلين ثبوت «آجال» كثيرة إذ لا فرق بين الأجلين والثلاثة فما فوقها.

«قلنا : لا دليل على غيرهما» أي المسمّى والخرم «فلا يلزم» ما ذكروه ، ثم وإن دل دليل على غيرهما فلا يقدح.

وقالت «المجبرة» القول بأن القتل خرم «يكشف عن الجهل في حق الله

__________________

(١) الرعد (٣٩).

(٢) فاطر (١١).

٢٩٥

تعالى إذ قطع القاتل أجله» المسمّى الذي زعمتم أن المقتول يصله لو لم يقتل.

«قلنا» لايكشف عن الجهل في حقه تعالى لأن الله سبحانه «عالم بالبقاء» أي بقاء الحيّ إلى أجله المسمّى «وشرطه» أي شرط البقاء «وهو ترك الجناية» عليه من الجاني ، «و» عالم «بالقتل وشرطه» أي شرط القتل «وهو حصول الجناية» من الجاني عليه وعلمه تعالى سابق غير سائق «فلم يكشف عن الجهل في حقه تعالى إلّا لو كان تعالى لا يعلم إلّا البقاء وشرطه فقط» دون القتل وشرطه «ألا ترى أن قتل الخضر الغلام لم يكشف عن الجهل في حقه تعالى حيث علم تعالى أنه يرهق أبويه طغيانا وكفرا لو تركه الخضر عليه‌السلام» ولم يقتله كما أخبر الله تعالى ، فقد علم سبحانه بقاء الغلام وشرطه وهو عدم قتل الخضر له ، وعلم قتله وشرطه وهو وقوع القتل عليه من الخضر عليه‌السلام فلم يجهل سبحانه أي الأمرين.

«قالوا» أي المجبرة : «قال الله تعالى : (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ) (١) وفي هذا (٢) دليل على أن الأجل واحد وأن المقتول لو لم يقتل لمات قطعا ، والضمير في (كنتم) راجع إلى المؤمنين.

«قلنا» ليس كما زعمتم بل «معنى الآية الكريمة : الشّهادة للقتلى رحمهم‌الله تعالى بصدق إيمانهم» ورسوخ أقدامهم في الدّين «وبامتثالهم أمر الله» وأمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتوطين أنفسهم على الصبر على تأدية جميع فرائض الله.

والضمير في «كنتم» راجع إلى المنافقين «أي لو كنتم أيها المنافقون في بيوتكم متخلفين» عن أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «وعن الحرب مثبّطين» من استطعتم تثبيطه عن الخروج مع المؤمنين «لم يكن القتلى من المؤمنين» الصادقي الإيمان «رحمهم‌الله تعالى» بمتخلّفين (٣) «مثلكم» عن القتال

__________________

(١) آل عمران (١٥٤).

(٢) (ن) وهذا يدل.

(٣) (ب) متخلفين.

٢٩٦

مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «اقتداء بكم ولا» كانوا «سامعين (١) لكم أن تثبطوهم» عن القتال بل كانوا يخرجون فيقاتلون حتى يقتلوا ، ومعنى «كتب عليهم القتل» : أي علم الله أنهم يقتلون ، وعلم الله سابق غير سائق «بدليل أول الكلام وهو قوله تعالى حاكيا عنهم» أي عن المنافقين (يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا) (٢) أي لو كان الأمر لنا ما خرجنا للقتال في (أحد) اعتقادا منهم أن الدّائرة للكافرين (٣) على المؤمنين ، هكذا ذكره الإمام عليه‌السلام وهو ظاهر الآية الكريمة.

وفي الكشاف : أن الضمير في (كنتم) يعود إلى المؤمنين وقد انقطع ذكر المنافقين عند قوله تعالى : (ما قُتِلْنا هاهُنا) وأن المعنى : لو كنتم أيها المؤمنون وقد علم الله أنكم تقتلون في موضع كذا لبرز الذين علم الله أنهم يقتلون إلى مضاجعهم وهي مصارع القتل لداع يدعوهم إلى ذلك تصديقا لما علم الله سبحانه كما ورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا علم الله سبحانه وفاة عبد في جهة جعل له فيها حاجة». وهذا محتمل ، والأول أظهر ولا يلزم منه ما ادّعته المجبرة لأنّ الله عالم بالأمرين وشرطهما وعلم الله سابق غير سائق.

وذهبت المطرفية إلى أن الآجال ليست من الله إلّا أجل من بلغ مائة وعشرين سنة فالله أماته ، ومن مات قبل ذلك فلم يرد الله موته وإنما ذلك بتعدّي من تعدّى وظلم.

وبأسباب وأعراض وأمراض ليست من الله ولا قصدها ولا قصد موت الميّت إلّا إذا بلغ الحد الذي ذكروه ، وقالوا : هو العمر الطبيعي ، وقالوا : إن الله ساوى بين الناس في ستة أشياء :

في الخلق ، والرزق ، والموت ، والحياة ، والتعبّد ، والمجازاة. وهذا منهم خطأ عظيم.

ونكتفي في الرد عليهم بطرف مما ذكره الإمام أحمد بن سليمان عليه

__________________

(١) (أ) مساعدين لكم أن تثبّطوهم.

(٢) آل عمران (٥٤).

(٣) (ض) للكفّار.

٢٩٧

السلام في حقائق المعرفة : أما المساواة في الخلق فليس الذكر كالأنثى ولا الكامل كالنّاقص ، ولا الفصيح كالأعجم ولا الصبيح كالقبيح ولا الأبيض كالأسود ونحو ذلك كثير وهذا مشاهد لا ينكره عاقل ، والقرآن مملوء من نحو قوله تعالى : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) (١).

وأمّا الرزق : فقد رزق بعضهم أكثر من بعض ، وقلّ ما يوجد أخوان لأب وأمّ مستويين في الرزق ، وبعض الناس رزق في ذاته كالولد والمملوك فإنهما رزق الوالد والمالك ، فكيف يستوي الرزق والمرزوق وقد قال (٢) الله تعالى : (وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) (٣) وغير ذلك كثير والمواريث رزق بالإجماع وليست مستوية.

وأمّا الموت والحياة : فمن الناس من عمره مائة وثلاثون أو أكثر (٤) إلى ألف سنة أو أكثر فكما كان الاختلاف في الزّيادة على مائة وعشرين كذلك فيما دون المائة والعشرين ،

وقال الله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) ـ إلى قوله عزوجل ـ (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ) (٥).

والأمّة مجمعة على أن النبيء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مات بقضاء الله وقدره ومات وهو ابن ثلاث وستين سنة.

وقال تعالى : (نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ ..) الآية (٦).

وأما التعبد : فإن الله تبارك وتعالى تعبد الأنبياء صلوات الله عليهم بتبليغ الرسالة والقيام بصلاح الرعية ، وتعبد الأئمة بإقامة الحدود وتنفيذ الأحكام والقيام مقام الأنبياء.

__________________

(١) البقرة (٢٥٣.

(٢) (أ) ناقص قد.

(٣) النحل (٧١).

(٤) (ب) وأكثر.

(٥) غافر (٦٧).

(٦) الواقعة (٦٠).

٢٩٨

فصح أن الناس على فرقتين رعاة ورعيّة ولم يساو في التعبد بين الرّعاة والرّعيّة.

وأيضا ، فلم يتعبّد المملوك بمثل ما تعبد المالك ، ولم يتعبّد المرأة بمثل ما تعبّد الرجل ونحو ذلك.

وأما المجازاة : فالجزاء من الله سبحانه على وجهين : جزاء واجب للعبد أوجبه الله على نفسه كقوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (١) وليس الناس فيه على سواء بل يجزى كلّ بقدر عمله والأعمال مختلفة.

ونقول : إنه تعالى يساوي في أنه يجزي كلّا منهم على قدر عمله ولا يظلم ربك أحدا.

والجزاء الثاني هو الزيادة على الأجر وليس بسواء بل قد زاد الله بعض الناس أكثر من بعض ، وفضّل أيضا بعض الأعمال على بعض.

وروي عن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام أنه قال : (أيها الناس : إن الله لمّا خلق خلقه فضّل بعضهم على بعض ، فكان فيما فضّل من الأيام يوم الجمعة فجعله سناء ورفعة ، وكان فيما فضّل من الشّهور شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن).

قال الإمام المنصور بالله في المهذب : وكان أول من أحدث كفرهم وضلالهم رجل يقال له : أبو الغوازي في زمن الشريف العالم زيد بن علي من ولد الحسن عليهم‌السلام وهو الذي أظهر مذهب الزيدية بصنعاء ونسب (٢) إليه دار الشريف ، وأنكر هذا المذهب في زمانه.

وكذلك الشريف العابد عبد الله بن المختار بن الناصر عليهم‌السلام والشريف العالم الحسن بن عبد الله بن المهوّل الحسني والإمام الناصر أبو

__________________

(١) الزلزلة (٧ ـ ٨).

(٢) وينسب.

٢٩٩

الفتح بن الحسين الديلمي فله رسالة عليهم تسمّى المبهجة في الرد على الفرقة الضالة المتلجلجة وكذلك الشريف العالم حمزة بن أبي هاشم والإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان عليه‌السلام في كتاب تبيين كفر المطرفية وفي كتاب الرسالة العامة وكتاب المطاعن والهاشمة لأنف الضّلال وشرحها العمدة.

وصرح عليه‌السلام في هذه الكتب بأنهم أهل دار حرب ، فهؤلاء كبار أهل البيت عليهم‌السلام في ديار اليمن صرح كل واحد منهم في زمانه بكفرهم وارتدادهم.

(فصل)

«والرّوح أمر استأثر الله تعالى بعلمه» أي شيء خلقه الله تعالى لا يعلمه إلّا هو جلّ وعلا «لقوله تعالى» (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) أي من خلقه وعطيته وآياته (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) (١).

«وهو ما لا يكون الحيوان حيا إلّا به (٢) ، وادّعاء معرفة حقيقته قريب من دعوى علم الغيب لفقد الدليل» أي لعدم الدليل على معرفة حقيقته «إلّا التّخيّل» أي التوهم الكاذب والاستثناء منقطع أي لكن كثيرا من أهل علم الكلام خاضوا فيه وذكروا أقوالا في ماهيّته هي على الحقيقة خيالات.

«فاكتساب أقوال الخائضين فيها ارتواء من آجن الارتواء افتعال من الرّيّ وهو شرب الماء بعد العطش ، والآجن الماء المتغير الكدر «واستكثار من غير طائل» أي من شيء غير نافع ولا حظّ فيه غير العبث واللغو والرجم بالغيب.

«والله تعالى يقول : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (٣) أي لا تتبع ما لا تعلم «ويقول عزوجل في مدح المؤمنين (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ)» (٤).

__________________

(١) الإسراء (٨٥.

(٢) (ب) إلّا معه.

(٣) الإسراء (٣٦).

(٤) المؤمنون (٣).

٣٠٠