عدّة الأكياس في شرح معاني الأساس - ج ١

أحمد بن محمّد بن صلاح الشرفي القاسمي

عدّة الأكياس في شرح معاني الأساس - ج ١

المؤلف:

أحمد بن محمّد بن صلاح الشرفي القاسمي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الحكمة اليمانية للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٤
الجزء ١ الجزء ٢

«والقدر» في اللغة له معان :

«بمعنى القدرة والإحكام كما قال تعالى : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) (١) أي كل شيء مخلوق لنا فهو بتقدير وإحكام وترتيب عجيب على حسب مقتضى الحكمة ، (وقرئ بقدر بفتح الدالة وسكونها).

قال في الصحاح : قدر الله وقدره بمعنى واحد.

قال الله تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) (٢) أي ما عظّموه حق تعظيمه والقدر والقدر أيضا : ما يقدّره الله من القضاء ، وأنشد الأخفش :

ألا يا لقوم للنّوائب والقدر

وللأمر يأتي المرء من حيث لا يدري

 «وبمعنى العلم كما قال تعالى : (وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ) (٣) أي بعلم منه ، ويجوز أن يكون المعنى : بتقدير منه.

«و» قد يكون «بمعنى القدر» بسكون الدال كما «قال تعالى : (فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها) (٤) أي بقدرها أي مقدارها.

«و» قد يكون «بمعنى الإعلام كما قال العجاج :

واعلم بأنّ ذا الجلال قد قدر (أي اعلم

في الصحف الأولى الّتي كان سطر»

أي في الكتب السماوية المتقدمة.

وبعده : (أمرك هذا فاجتنب منه النّتر) بالنون والتاء المفتوحة المثنّاة من أعلى الفساد والضياع ، ذكره في الصحاح.

«و» قد يكون «بمعنى الأجل كما قال تعالى» (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ) (٥) أي إلى أجل معلوم.

«و» قد يكون «بمعنى الحتم كما قال تعالى : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً

__________________

(١) القمر (٤٩).

(٢) الزمر (٦٧).

(٣) الشورى (٢٧).

(٤) الرعد (١٧).

(٥) المرسلات (٢٠ ـ ٢١ ـ ٢٢).

٢٦١

مَقْدُوراً) (١) أي حتما محتوما لازما.

إذا عرفت ذلك «فيجوز أن يقال : الواجبات بقدر الله بمعنى حتمه» وإلزامه مع نصب القرينة على ذلك.

قالت «العدلية : لا بمعنى خلقها» في العباد بقدرته «خلافا للمجبرة» فإنّهم جوزوه بل أوجبوه.

«لنا» عليهم «ما مرّ».

قالت «العدلية» ولا المعاصي» لا يجوز أن يقال إنها بقدر الله «بمعنى خلقها بقدرته أو حتمها ، خلافا للمجبرة».

«لنا» عليهم «ما مر» وتكرر ذكره.

«وقدّر مشدّدا» له معان :

«بمعنى خلق كما قال تعالى : (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) (٢) أي خلقها.

«وبمعنى : أحكم كما قال تعالى : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) (٣) أي أحكمه إحكاما.

«وبمعنى : بيّن يقال : قدّر القاضي نفقة الزوجة والقريب».

«أي بيّنها» بالجنس والصفة والمقدار.

«وبمعنى : قاس» وماثل «كما يقال : قدّرت هذا» أي الثوب «على ذاك أي قسته» به وجعلته مثله إمّا في كل أوصافه أو بعضها «وبمعنى فرض كما يقال : قدّر ما شئت أي افرض وأوجب ما شئت».

إذا كان كذلك «فيجوز أن يقال : إن الله قدّر الطاعة بمعنى فرضها» وأوجبها «وقدّر الطاعة والمعصية بمعنى بيّنهما» للعباد.

قالت «العدلية : لا بمعنى خلقهما» فلا يجوز «خلافا للمجبرة» فإنهم أوجبوه كما مر لهم.

__________________

(١) الأحزاب (٣٨).

(٢) فصلت (١٠).

(٣) الفرقان (٢).

٢٦٢

حكى الإمام يحيى عليه‌السلام في الشامل عن الغزالي : أنه ما من خير ولا شر أو نفع أو ضر أو إيمان أو كفر أو بر أو عفاف أو عهر يوجد في الملكوت إلّا وهو كائن بقضاء الله وقدره وإرادته ومشيئته ، وهذا هو الموجود في لسان العوام والخواص منهم لعنوا بما قالوا.

«لنا» عليهم «ما مر» وتكرر من الأدلة العقلية والسمعية وأما ما روي عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : «لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه».

فالمراد : الإيمان واليقين بأنّ كل ما خلقه الله سبحانه من ملاذ العباد ومنافعهم ونحوها وهذه من خير قضائه تعالى.

ومن مكروهاتهم وآلامهم وانتقاصهم في الأنفس والأولاد والأموال ونحوها وهذه من شر قضائه ، أطلق عليها اسم الشر مجازا لمّا كان العباد المجبولون على الشهوة والنفرة والحاجة يكرهونها كائن بقضاء الله تعالى وقدره أي بخلقه وتقديره على وفق الحكمة والمصلحة وإن جهلها من جهل فيجب الاعتراف بها وأنها مقضيّة لحكمة ومصلحة ، ولا يجوز أن ينكر خلقها وينسب إلى غير الله سبحانه كما فعلت المطرفية في الإحالة والاستحالة ، وأنكروا خلق الله سبحانه في كثير من الفروع كموت الأطفال وآلامهم.

واعلم : أنه لا بدّ في إطلاق أي هذه الكلمات المتشابهات على الله سبحانه وتعالى بالمعنى الذي يجوز في حقه جل وعلا من قرينة ظاهرة تصرف عن الخطإ ، وإلّا فلا يجوز إطلاقه منّا من غير قرينة ، ولا يكفي النيّة والقصد وليس كذلك ما جاء في الكتاب العزيز أو السنة الصحيحة من ذلك ، فإنه يكفي في تخصيصه بالمعنى الجائز في حقه تعالى العقل بما قد عرف من الأدلة القطعيّة.

(فرع)

اعلم : أنه قد جاء عن الرسول الصادق صلى الله عليه وعلى آله وسلم

٢٦٣

أن القدرية مجوس هذه الأمة ، واتفق أهل الملّة على صحة هذا الخبر واختلفوا فيمن أراده الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم بهذا الخبر : فقالت «العدلية» كافة : «والقدرية» الذين أرادهم النبيء صلى الله عليه وعلى آله وسلم «هم المجبرة».

والمجبرة : كل من زعم أن المكلف لا اختيار له في فعله وأنه مجبور عليه مخلوق فيه.

وقالت المجبرة : بل المراد بهذا الخبر من أثبت للمكلفين أفعالا ولم يجعل أفعالهم خلقا لله تعالى وهم العدلية.

وروى الحاكم في السفينة عن يونس أنه قال : كان اسم القدرية اسما لنا فنبزنا به المعتزلة وأعاننا السلطان على ذلك فسمّونا باسم شرّ من ذلك وهو المجبرة انتهى.

وإنما كان القدرية الذين لعنهم الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم وذمّهم هم هؤلاء المجبرة دون العدلية : «لأنهم يقولون : المعاصي بقدر الله» أي حصلت بخلقه وتكوينه.

«ونحن ننفي ذلك» عن الله سبحانه وتعالى وننزهه عنها وعن فعل كل قبيح تعالى الله ربّنا وتقدّس عمّا يقول الكافرون علوّا كبيرا.

وكذلك كل طاعة له جل وعلا فإنما فعلها العبد باختيار نفسه بما ملّكه الله سبحانه من القوّة والقدرة على أن يفعل وأن لا يفعل كما قال جل ثناؤه : (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) (١) (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٢).

«والنّسبة في لغة العرب من الإثبات لا من النّفي».

فيقولون : هاشميّ لمن أثبت نسبه إلى هاشم ، وأمويّ لمن أثبت نسبه إلى أميّة ونحو ذلك.

__________________

(١) البلد (٨ ـ ١٠).

(٢) الأنفال (٤٢).

٢٦٤

لا لمن لم ينسب إليهما ، كذلك القدري هو من أثبت أفعال العباد خلقا لله وزعم أنها بقدر الله أي بخلقه «كثنويّ» فإنه اسم «لمن أثبت إلها ثانيا مع الله تعالى عن ذلك ، لا لمن ينفيه» أي الثاني.

فإن قيل : هو منسوب إلى القدرة لأنّ العدلية أثبتوها للعبد فهو اسم لهم باعتبار ذلك؟

قلنا : فالنسبة إليه حينئذ (قدريّ) بضم القاف وسكون الدال.

فإن قيل : إن العدلية أثبتوا القدر للعبد حيث قالوا : إن المعاصي بقدر العبد فصحّت النسبة إليهم من الإثبات؟

قلنا : هذا ليس من عباراتهم فهم لا يقولون : إن المعاصي ولا الطاعات بقدر العبد فلم يضيفوا القدر إلى العبد البتّة ولم يلهجوا بذكر القدر أصلا ، وإنما يقولون : المعصية والطاعة فعل للعبد فعله باختياره ومع ذلك لا يمتنع أن يسمّى خلقا لأنه أحدثه وأوجده ، وكل موجود محدث مخلوق بخلاف المجبرة فإنهم يلهجون بذكره ويفزعون عند معاصيهم إليه ويضيفونه إلى الله تعالى فيقولون : قضاء الله وقدره أوجب العصيان.

وقد أوضحه عليه‌السلام بقوله : «ولأنهم يلهجون به» أي بالقدر ومن لهج بالشيء نسب إليه كما يقال : أموريّ لمن يثبت الصفات أمورا زائدة على الذات ، وطبعيّ لمن يثبت للطبع تأثيرا. وأيضا فقد صحّ أنهم القدرية لما ذكرناه «و» الدليل سمعي وذلك «لما روي عن النبيء صلى الله عليه وعلى آله وسلم في المجوس» أي في صفتهم لعنهم الله تعالى «أن رجلا من فارس جاء إلى النبيء صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقال : رأيتهم ينكحون أمهاتهم وبناتهم وأخواتهم فإذا قيل لهم : لم تفعلون ذلك؟ قالوا : قضاء الله وقدره ، فقال النبيء صلى الله عليه وعلى آله وسلم : «أما إنّه سيكون من أمّتي قوم يقولون مثل ذلك».

فصرح صلى الله عليه وعلى آله وسلم بأن الذين أشبهوا المجوس من أمّته هم الذين يفعلون المعصية ويقولون هي بقضاء الله وقدره.

٢٦٥

«وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم : «القدرية مجوس هذه الأمّة» «ولا يشبههم من الأمّة أحد غيرهم».

وعنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم : «وهم خصماء الرحمن وشهود الزور وجنود إبليس».

وروي عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال : «ينادي مناد يوم القيامة : أين القدريّة خصماء الله وشهود الزور وجنود إبليس؟ فتقوم طائفة من أمتي يخرج من أفواههم دخان أسود».

وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم : «صنفان من أمتي لا تنالهما شفاعتي : وهم القدرية والمرجئة.

قيل له : ومن القدرية؟ قال : قوم يعملون المعاصي ويقولون : إن الله قدّرها عليهم.

قيل : ومن المرجئة؟ قال : الذين يقولون : الإيمان قول بلا عمل» وهذا صريح في أنهم هم القدرية.

وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم : «يكون في آخر الزمان قوم يعملون المعاصي ثم يقولون : هذا بقضاء الله وقدره ، الرّاد عليهم كالمشرع سيفه في سبيل الله». وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خصماء الرحمن وشهود الزّور وجنود إبليس أوصاف تخص المجبرة.

أمّا كونهم خصماء الرحمن : فإن الله سبحانه إذا احتجّ على العصاة يوم القيامة بأنهم أتوا من قبل أنفسهم وأنه ليس ظالما لهم قام المجبرة فردّوا عليه الحجة وقالوا : بل أنت الذي خلقت فيهم العصيان وطلبت منهم ما لا قدرة لهم عليه وهو الطاعة ثم أخذت الآن تعاقبهم على فعلك وتوبّخهم عليه (١).

__________________

(١) هذه المخاصمة منهم تقدريّة وبلسان حالهم وإن كانوا هم وإبليس لعنهم الله تعالى في الآخرة أحقر من أن يحاجّوا الله بالأباطيل وينطقوا بالهجر من الأقاويل والمعنى أن هذا يكون قولهم لو قالوا لما كانوا عليه من الاعتقاد وهيهات هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون. نسأل الله النجاة من عذابه.

عزي هذا الكلام إلى الإمام يحيى عليه‌السلام ، وكذا في المعراج للإمام عزّ الدين عليه‌السلام تمت.

٢٦٦

وأمّا كونهم شهود (١) الزور : فإن الله سبحانه إذا سأل الشياطين : لم أضللتم العباد؟

قالوا : أنت الذي أضللتهم وأغويتهم ، ثم لا يجدون من يشهد لهم على ذلك إلّا المجبرة ومن وافقهم من المجوس.

وأما كونهم جنود إبليس : فهم الذين يتعصّبون لإبليس ويحتجّون له على مقالته : (رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي) (٢) تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

(فصل)

قالت «العدلية : والله تعالى عدل حكيم» لفظا ومعنى «لا يثيب أحدا إلّا بعمله ولا يعاقبه إلّا بذنبه».

حقيقة الثواب : المنافع المستحقّة على وجه الإجلال والتعظيم.

وحقيقة العقاب : هو المضار المستحقة على وجه الإهانة. هكذا ذكروه.

وقالت «المجبرة» كافة بل الله سبحانه عدل حكيم لفظا لا معنى لأنه «يجوز أن يعذب الأنبياء ويثيب الأشقياء».

ويجوز أن يخلق حيوانا في نار جهنم يعذبه ابتداء من غير استحقاق ، قالوا : وهذا عدل منه تعالى لأنه مالك يفعل في ملكه ما شاء ، أو لأنه لا يأمره ولا ينهاه أحد فلا يقبح منه شيء.

«قلنا» ردّا على المجبرة : «من أهان وليّه» وهو من المخلوقين المحتاجين بأن عاقبه وأنزل الضّرر به «وأعزّ عدوّه» بأن أثابه وعظّمه «فلا شك في سخافته» أي نقصه وقلّة عقله ، وتعظيم من يستحق الإهانة وإهانة من يستحق التعظيم صفة نقص لا شك فيها فكيف بها في حق رب العالمين الذي هو أعلم العلماء بقبح القبائح ، وأغنى الأغنياء عن كل حاجة؟

«والله سبحانه يتعالى عن ذلك» وعن كل صفة نقص.

__________________

(١) (ب) شهدا.

(٢) الحجر (٣٩).

٢٦٧

ثم نقول : القرآن مملوء من نحو قوله تعالى : (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) (١) (وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) (٢) فما الظلم الذي تمدّح الله بنفيه عنه أخبرونا عنه؟

«وأيضا ذلك» الذي افترته المجبرة على الله سبحانه «شك في آيات الوعد والوعيد» كقوله تعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ..) الآية (٣).

وقوله تعالى : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها ..) الآية ونحوها (٤).

«والله يقول : (لا رَيْبَ فِيهِ) (٥) أي في القرآن «فهو ردّ لهذه الآية» ونحوها ، ومن رد آية من كتاب الله تعالى كفر.

«وقال قوم : و» هم الحشوية وفرقة من المجبرة «يعذب الله أطفال المشركين لفعل آبائهم القبائح».

قالوا : لما روي عن خديجة رضي الله عنها أنها سألت النبيء صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقالت : أين أطفالي منك؟

«فقال : في الجنّة. فقالت : وأين أطفالي من غيرك؟

فقال : في النار وإن شئت أسمعتك صغاءهم».

ولما روي أنه قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم : «الوائدة والموءودة في النار».

وربّما يحتجون بأنهم يدفنون في مقابر الكفار ويسبون ويستخدمون ولا يصلّى عليهم وهذه عقوبة لهم.

«قلنا : ذلك ظلم ولا يظلم ربك أحدا ، وقال تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ

__________________

(١) الكهف (٤٩).

(٢) العنكبوت (٤٠).

(٣) النساء (١٣).

(٤) النساء (١٤).

(٥) البقرة (٢).

٢٦٨

وِزْرَ أُخْرى) (١) وغير ذلك من الآيات.

وأما ما رووه من الخبرين فلا يصحّان لمصادمتهما دليل العقل والسمع وقد قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم : «سيكذب عليّ كما كذب على الأنبياء من قبلي ، فما أتاكم عنّي فاعرضوه على كتاب الله فما وافقه فهو منيّ وأنا قلته ، وما لم يوافقه فليس منيّ ولم أقله» أو كما قال ولو سلّمنا صحة الخبرين فالمراد بالأطفال البالغون إذ قد تسمّي العرب البالغ طفلا قال الشاعر :

عرضت لعامر والخيل تردي

بأطفال الحروب مشمّرات

وقال :

وأسرع في الفواحش كلّ طفل

يجرّ المخزيات ولا يبالي

وكذلك الموءودة تحمل على البالغة.

ويعارض ما رووه ، بما رواه أنس بن مالك عن النبيء صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه سئل عن أولاد المشركين؟

فقال : «هم خدم أهل الجنة».

وأما دفنهم في مقابر الكفار وسبيهم واستخدامهم فهذه تكاليف للمؤمنين يثيبهم الله تعالى على إجرائها.

وما كان فيه مضرّة على الأطفال فهو امتحان جار مجرى الأمراض والموت فلا وجه لما ذكروه.

ويحتمل أن يراد (٢) بالخبر الموءودة أي الموءودة لها وهي الأم الرّاضية بوأد ابنتها والله أعلم.

واعلم : أن للمجبرة شبها عقليّة وسمعيّة قد استوفيناها في الشرح وأوضحنا بطلانها فليطالع.

__________________

(١) الأنعام (١٦٤).

(٢) (ض) أن يكون المراد.

٢٦٩

(فصل)

«والله سبحانه متفضّل بإيجاد الخلق مع إظهار الحكمة» أي إظهار كون الله حكيما وكون فعله حكمة لا يفعل تعالى العبث وما لا حكمة فيه ، والتّفضّل والإحسان من الله سبحانه على الخلق في إيجادهم وكونهما داعيين إلى فعل الإحسان والجود مقرّر في بداية العقول في حق من يجوز عليه الانتفاع فكيف حال من لا يجوز عليه الانتفاع ، فيكون الإحسان من جهته أكمل ، ووقوعه في هذه الحالة أبلغ. هكذا ذكره الإمام يحيى عليه‌السلام.

قالت : «العدليّة : خلق الله المكلّف ليعرّضه على الخير» أي ليجعله متمكّنا من نيل الخير وهو الفوز بجزيل الثواب والتنعّم بسوابغ النعم الدائمة في الدرجات الرفيعة والمنازل العظيمة وهذا من النفع الذي لا نفع أعظم منه ولا منزلة أعلى منها.

وقالت «المجبرة» بل خلقه «للجنّة أو النّار» أي ليدخل بعضهم الجنة وبعضهم النار.

وقيل : لإظهار قدرته تعالى وهو مروي عن قاضي القضاة.

وقيل : لا لغرض وهو مروي عن برغوث والرازي.

«لنا : قوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (١) أي : ليعبدوني ويطيعوني «وإلزامه تعالى لهم عبادته عرض على الخير» أي على إيصال الخير إليهم «الّذي هو الفوز بالجنة والسّلامة من النار» فإذا كان كذلك وكانت أعمال التكليف اليسيرة المنقطعة سببا إلى الفوز بالنعيم الدائم الكثير الذي لا يحصى له عدد ولا ينتهي إلى (٢) أمد تفضّلا منه جل وعلا على الفعل اليسير بالشيء العظيم والنعيم الدائم الجسيم فأيّ تفضّل يساوي هذا أو يقرب منه أو يدانيه؟

«إذ لا يكون ذلك لأحد من المكلفين إلّا لمن عبده» أي أطاعه «لما يأتي إن شاء الله تعالى» في فصل الإثابة.

__________________

(١) الذاريات (٥٦).

(٢) (ض) له.

٢٧٠

«قالوا :» أي المجبرة «قال الله تعالى : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ...) الآية (١)؟

«قلنا» ليس كما توهمتم بل : «اللّام فيه للعاقبة» أي تسمّى لام العاقبة أي المئال أي ما يؤول إليه كثير من الجن والإنس «كقوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) (٢) أي ليكون مآل أمر موسى عليه‌السلام عدوّا وحزنا لهم.

إذ المعلوم أنهم لم يلتقطوه لغرض العداوة والحزن وإنما التقطوه لغرض التّبنّي والنّفع لهم ، وذلك كقول الشاعر :

لدوا للموت وابنوا للخراب

فكلّكم يصير إلى ذهاب

وقال الزمخشري : هذه اللّام للتعليل كقولك : جئتك لتكرمني سواء سواء ولكن معنى التعليل فيها وارد على طريق المجاز دون الحقيقة لأنه لم يكن داعيهم إلى الالتقاط أن يكون لهم عدوّا وحزنا ولكن المحبّة والتّبنّي غير أن ذلك لمّا كان نتيجة التقاطهم له وثمرته شبّه بالداعي الذي يفعل الفاعل الفعل لأجله.

قال وتحريره : أن هذه اللّام حكمها حكم الأسد حيث استعيرت لما يشبه التّعليل كما يستعار (٣) الأسد لمن يشبه الأسد.

قلت : وهذا قول جيد وفيه معنى التّمليح كما يقال للبخيل : ما أكرمك وقال القاسم عليه‌السلام في تفسير قوله تعالى : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ ..) الآية المراد هو الذّرء الثّاني فتكون اللّام على أصلها.

ومثله كلام الهادي عليه‌السلام والله أعلم.

قالت «العدلية : وخلق الله غير المكلف» أما الجمادات من النّاميات وغيرها فإنه خلقها جل وعلا «لنفع الحيوان» من بني آدم وغيرهم «مجرّدا»

__________________

(١) الأعراف (١٧٩).

(٢) القصص (٨).

(٣) (ض) كاستعارة الأسد.

٢٧١

خلقها «عن اعتبار لغير العقلاء» كالبهائم وسائر ما لا يعقل من الحيوان (١) فإن الله سبحانه خلق الجماد لنفعه من غير اعتبار لأنّ الاعتبار يختص بالعقلاء.

ولهذا قال عليه‌السلام : «ومعه للعقلاء» أي وللنفع مع الاعتبار في حق العقلاء من بني آدم وغيرهم «وخلق الله سبحانه سائر الحيوان» وهو كل ما تحلّه الحياة من كل شيء «غير المكلف ليتفضّل عليه» بأنواع التّفضّلات من التلذذ بالمأكول والمشروب ونحو ذلك.

ويجوز أن يقصد بخلق غير المكلف مع ذلك نفع غيره من المكلفين ، وصرح كثير من العلماء أنها إنما خلقت لذلك وهو محمول على ما ذكرنا وذلك النفع إمّا دنيوي كركوب البهائم والحمل عليها والانتفاع بأصوافها وأوبارها وألبانها وجلودها ولحومها وغير ذلك والقرآن يدل على ذلك : قال الله تعالى : (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ ، وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٢).

وإما ديني : وهو الاعتبار في خلقها.

قيل : وقد يقصد بخلق بعض المكلفين نفع غيره تبعا لنفع نفسه بالتفضل عليه.

«وفي كل حيوان اعتبار» أي وفي خلق كل حيوان اعتبار لمن نظر فيه بعين الاعتبار والتفكر أي دليل على الله سبحانه وربوبيّته وعدله وحكمته وتوحيده «وإباحة الله بعض الحيوان» بالذبح والأكل «لبعض» كما أباح لنا «نحو المذكّيات» من المواشي وغيرها «و» كذلك «التخلية» بين بعض الحيوان والبعض الآخر «حسنة» من الله تعالى «لمّا كانت لمصالح لها» أي للمذكّيات ونحوها ممّا خلّى الله بينه وبين ما قتله أو جرحه من سائر السباع والطيور ونحوها وتلك المصالح «يعلمها الله تعالى» لأنه سبحانه الحكيم العليم العدل

__________________

(١) (ض) الحيوانات.

(٢) النحل (٥ ـ ٧).

٢٧٢

«فهي» أي الإباحة والتّخلية «كالفصد» أي يصار إليه لدفع مضرّة أعظم أو لجلب (١) منفعة تدفع ألم الفصد وتزيد عليه.

(فصل)

في ذكر الآلام وما في حكمها

وما يتعلّق بها من الأعواض ووجه حسنها

والذي في حكمها هو الغمّ فإنه يستحقّ عليه العوض كما يستحقّ على الألم.

قال عليه‌السلام : «والألم» الحاصل في الحيوان «من فعل فاعل قطعا» وهو إمّا الله سبحانه أو العبد.

قالت «الطبائعية» الذين زعموا أن التأثير في الحوادث للطبع : «بل الألم» الذي ليس من العبد حاصل «من الطبع» وانحراف الأمزجة وتغيرها.

«قلنا : لا تأثير لغير الفاعل كما مر» في فصل المؤثرات.

والطبع ليس فاعلا مختارا إن سلّمنا أنه معقول.

أعلم : أن الآلام سبب ضلال كثير من الفرق ، والخلاف فيها بيننا وبين فرق الكفر من الثنوية والطبائعية.

فالثنوية فرقتان : المجوس وأصحاب النور والظلمة ذكره الإمام المنصور بالله عليه‌السلام قال : وأصل أهل المقالة بالطبع ثلاث فرق وهم يتشعبون إلى فرق كثيرة لاختلافهم في فروع لهم لا وجه لتطويل الكلام بذكرهم هاهنا لأنّا إذا قطعنا مقالة أهل الأصول انحسم خلاف أهل الفروع قال : ولا خلاف نعلمه بين أهل الإسلام في أن الآلام والمحن الخارجة عن مقدور العباد لا فاعل لها إلّا الله سبحانه إلّا ما يذهب إليه طائفة من المطرفية ، وقد طابقهم على ذلك ممن ينتسب إلى الإسلام : الباطنية إلّا أن آباءنا عليهم‌السلام لا يذكرون خلافهم في خلاف فرق الإسلام لإلحادهم في أسماء الله.

__________________

(١) (ض) مصلحة.

٢٧٣

قال : والمطرفية لا يرجعون في نفيهم الآلام عن الله سبحانه إلى أصل معيّن فيتعين الكلام عليهم ، لأنهم ربّما رجعوا بالآلام إلى إحالات الأجسام وتأثيرات الطبائع وهذا يدخل الكلام عليه تحت الكلام على الطبائعية ، وربّما أضافوا الآلام إلى الشيطان ، وهذا يدخل في مقالة المجوس.

قال : والذي يدل على بطلان قول أهل هذه المقالات جميعا : أن هذه الامتحانات حوادث ولا بدّ لكل محدث من محدث ، ويستحيل أن يكون حدوثها من جهة القادرين بقدرة لأنها لا تدخل تحت إمكانهم ولا تحصل بحسب إرادتهم ولا تنتفي بحسب كراهتهم ولأنّهم لو قدروا عليها لقدروا على أضدادها ولأنّ القدرة على الشيء هي القدرة على ضدّه بدليل أن القدرة على الحركة قدرة على السكون ولهذا يصح من أحدنا أن يفعل أحدهما بدلا من (١) الآخر.

وأما أنهم لا يقدرون على أضدادها : فلأنّا نعلم من العليل أنه مجتهد في برء نفسه فلو كان البرء مقدورا له ما أخّره ساعة واحدة.

وأمّا الطبائع وإحالات الأجسام وانحراف الأمزجة : فلأنها غير حيّة ولا قادرة والفعل لا يصح إلّا من حيّ قادر على ما أجمع عليه أهل الإسلام.

قال : وإن رجع بالإحالة إلى أمر محدث فالمحدث هو الأجسام والأعراض ولا يجوز حصولها من جهة الأجسام.

أما الجماد فظاهر ، وأما الحيوان فلأنه قادر بقدرة والقادر بقدرة لا يعدّي الفعل إلى غيره إلّا بأن يعتمد في جسم يوصله إليه لأن الاختراع عليه في غير جسم مستحيل (٢) ، ونحن نعلم أن هذه الآلام وقعت علينا من غير اعتماد من غيرنا عدّاها في جسم إلينا يعلم ذلك كل عاقل ، وبهذا يبطل قول المجوس إن الآلام من الشيطان ، وأما الأعراض فإنه يستحيل تأثيرها لأنها ليست حيّة ولا قادرة لما مرّ في المؤثرات.

__________________

(١) (ض) عن.

(٢) (ض) يستحيل.

٢٧٤

فإن قيل : إن الآلام يقف حصولها على أمور كوقوف السّدم على وصول بعض البلدان وما شاكل ذلك؟

قلنا : قد ثبت أن الآلام من فعله تعالى ، وثبت أنه جلّ وعلا يفعل الأفعال المبتدأة والمسبّبة ، ولا يمتنع أن يكون في فعله تعالى للآلام بسبب وصول البلدة (١) المخصوصة ، وخلقه للولد من النّطفة في الموضع المخصوص وإنبات الحب بسبب المطر والتراب ونحو ذلك مما يكثر تعداده من الحكمة والمصلحة مما يخفى علينا ، وإن كان الفطن اللّبيب قد يدرك وجه الحكمة والله أعلم.

«و» اعلم : أن الآلام «تحسن من الله تعالى لغير المكلف» كالأطفال والمجانين والبهائم ونحوها ، إمّا «لمصلحة يعلمها الله سبحانه وتعالى له» وإن جهلنا ماهيتها ، فهي أعم من العوض لأنه تعالى الحكيم الغني على الإطلاق ، والحكيم الغني على الإطلاق لا يفعل إلّا الحسن ووجه حسنها ما ذكرناه.

وإمّا لما ذكره «أبو علي وأصحاب اللّطف» من أنه «يحسن» الألم «من الله تعالى له» أي لغير المكلف وظاهر كلامهم الإطلاق سواء كان مكلّفا أو غير مكلّف «للعوض فقط» أي لإيصال العوض إلى المؤلم من دون اعتبار ولطف لأحد من المكلفين.

وكذلك يحسن الألم منه تعالى لدفع الضّرر عن المؤلم فقط أي من دون اعتبار وعوض.

وأصحاب اللّطف هم : بشر بن المعتمر ومتابعوه سمّوا (٢) أصحاب اللّطف لقولهم : إنه يمكن أن يلطف الله بكل مكلّف حتى يؤمن ولا يكفر ، ولكن لا يجب اللّطف على الله تعالى إذ لو وجب عليه لكان جميع المكلفين مؤمنين هكذا ذكره الحاكم.

وقال الإمام «المهدي» أحمد بن يحيى «عليه‌السلام وجمهور البصرية : لا

__________________

(١) (ض) البلدان و (ب) البلد.

(٢) (ض) وسموا.

٢٧٥

يحسن» لمجرد العوض ودفع الضرر «إلّا مع اعتبار» للمؤلم أو غيره (١).

قالوا : «إذ يمكن» من الله تعالى «الابتداء بالعوض» ودفع الضرر على جهة التفضل «من دون ألم» فصار الألم حينئذ عبثا والعبث قبيح لا يجوز على الله تعالى.

«قلنا : قد ثبت لنا أن الله تعالى عدل حكيم ، ومن حكمته تعالى أن لا ينزل الألم» بأحد من خلقه «إلّا لمصلحة لذلك المؤلم» تربي (٢) على ضرر الألم «غير العاصي» فأما العاصي فالألم في حقه عقوبة كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

«وذلك» أي إنزال الألم لمصلحة «تفضّل» من الله تعالى «عند العقلاء» كالتكليف فإنه تحميل مشقّة لمصلحة للمكلّف وهو تفضّل محض لأنه عرض على الخير فكذلك الألم ، وذلك كاف في حسن الألم.

وقال «عباد بن سليمان» الصّيمريّ ويحسن الألم من الله تعالى «لاعتبار الغير فقط» من دون مصلحة ولا عوض.

«قلنا : ذلك ظلم (٣) ولا يظلم ربك أحدا ، ويحسن إيلام المكلف المؤمن» لأمور أيضا :

إمّا «لاعتبار نفسه» أي لازدياد يقينه وازدجاره عن المعصية «فقط» أي من دون عوض ولا اعتبار لغيره «إذ هو نفع له كالتأديب» فإنه حسن لأنّ فيه نفع للمؤدّب.

«و» إمّا «لتحصيل سبب الثواب» وهو الصبر والرضى اللّذان يستوجب بهما صاحبهما عظيم الأجر ، سواء (٤) حصلا أو لم يحصلا يؤيده : ما رواه الإمام أحمد بن سليمان عليه‌السلام في الحقائق أن في التوراة : «يا موسى : إنّي لم أفقر الفقير لذنب قدّمه إليّ ، ولم أغن الغنيّ لصنيعة قدّمها إليّ ، وإنما أفقرت

__________________

(١) (ض) أو لغيره.

(٢) (ض) تزيد.

(٣) (ض) قلنا ذلك ظلم عند العقلاء

(٤) (ض) وسواء.

٢٧٦

الفقير لأنظر صبره وأغنيت الغني لأنظر شكره ، يا موسى : فلا الفقير صبر ولا الغني شكر».

«فقط» أي من دون اعتبار ولا عوض كما سيأتي إن شاء الله قريبا عند قوله : وله (١) على الصبر عليه والرضى به ثواب لا حصر له.

«و» إمّا «لحطّ الذنوب فقط» أي من دون اعتبار ولا عوض ولا لتحصيل سبب الثواب.

والمراد بالذنوب : بعض العمد ، لأنّ مراده عليه‌السلام أن الألم سبب حامل على التوبة المسقطة للذنوب ، أو أن الله تعالى يجعل عقاب بعض المعاصي المتعمّدة في الدنيا كذا ذكره عليه‌السلام كما سيأتي قريبا إن شاء الله تعالى.

«وفاقا للزمخشري في حط الصغائر» من الذنوب فإنه ذهب إلى حسن الألم من الله سبحانه لحطّها ، وهو بناء على أن بعض العمد من الصغائر وهو كذلك عنده وعند الجمهور.

وأما عند الإمام عليه‌السلام فكل عمد كبيرة.

«إذ هو» أي الألم لحطّ الذنوب «دفع ضرر كالفصد» لدفع الضرر فإنه حسن «و» يؤيّده ما ورد «في الحديث : عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم «من وعك» أي حمّ «ليلة كفّر الله عنه ذنوب سنة» أو كما قال» أي هذا لفظ الخبر أو مثله.

«وفي النهج أي نهج البلاغة «فإنّ الآلام تحط الأوزار وتحتّها» أي تسقطها «كما تحتّ أوراق الشجر» أو كما قال» الذي ذكره في النهج : أن الوصي صلوات الله عليه عاد بعض أصحابه فقال : (جعل الله ما كان (٢) من شكواك حطّا لسيّئاتك ، فإن المرض لا أجر فيه لكنّه يحطّ السيئات ويحتّها حتّ الأوراق ، وإنما الأجر في القول باللّسان والعمل بالأيدي والأقدام ، وإن الله

__________________

(١) (ض) فله.

(٢) (ض) ما تجد.

٢٧٧

سبحانه يدخل الجنّة بالنّيّة والسريرة الصالحة من يشاء من عباده) انتهى.

وقد روي عن النبيء صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال :

«المريض تتحاتّ خطاياه كما تتحاتّ ورق (١) الشّجر».

قال (٢) عليه‌السلام في جواب من سأله ما معناه : إن الآلام من أسباب التوبة لمن وفّقه الله سبحانه إليها.

قال : ولا يبعد أن الله سبحانه وتعالى يجعل عقاب بعض المعاصي المتعمّدة في الدنيا. وقد حكيت لفظ جوابه في الشرح.

«و» إمّا «لمصلحة له» أي للمكلف في الألم «يعلمها الله سبحانه وتعالى كما مرّ» في غير المكلف.

«و» إمّا «لمجموعها» أي للاعتبار وتحصيل سبب الثواب وحط الذنوب وحصول المصلحة «لجميع ما مرّ» من الأدلّة.

«والأدلة السمعية» دالّة «على أن الألم في حق المؤمن لحطّ الذنوب فقطكما سبق ذكره كقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : «من وعك ليلة ... الخبر المتقدم ونحوه» كقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : «من وعك ليلة فصبر ورضي عن الله عزوجل خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه».

وقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : «إنما مثل العبد المؤمن حين يصيبه الوعك والحمّى كحديدة تدخل (٣) النّار فيذهب خبثها ويبقى طيّبها» وغير ذلك كثير.

«حتى تواتر معنى» أي تواتر معناه أنه لحط الذنوب فأفاد العلم قلت : ولفظ الذنوب يعم الخطأ والعمد ولا يمتنع (٤) أنّ يجعل الله سبحانه عقاب

__________________

(١) (أ) أوراق.

(٢) أي الإمام القاسم عليه‌السلام تمت.

(٣) (ض) في النّار.

(٤) (ض) ولا يبعد.

٢٧٨

بعض المؤمنين في الدنيا لمصحلة إمّا بالآلام أو نحوها فيكون كلام الإمام عليه‌السلام قريبا من قول الجمهور في ذلك والله أعلم.

«وكقول الوصي صلوات الله عليه : «جعل الله ما تجد من شكواك حطّا لسيّئاتك .. إلى قوله : وإنما الجزاء على الأعمال» أو كما قال» وقد تقدم ذكر لفظه عليه‌السلام ، وفيه تصريح بعدم الثواب على الألم ، وأمّا حصول مصلحة غير ذلك للمؤلم فلا مانع منه لسعة رحمة الله وقد قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم : «إذا أحبّ الله عبدا وأراد أن يصافيه صبّ الله عليه البلاء صبّا وثجّه عليه ثجّا ، فإذا دعا العبد فقال : يا ربّاه قال : لبيك عبدي لا تسألني شيئا إلّا أعطيتك إمّا أن أعجّله لك وإمّا أن أدّخره لك» والله أعلم.

«وهو» أي قول الوصي عليه‌السلام «توقيف» أي لا مجال للاجتهاد (١) فيه فهو مما قاله الرسول الصادق صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله عن الله عزوجل.

«وله» أي للمكلف «على الصّبر عليه» أي على الألم «والرّضى به» وعدم السخط الموجب للإحباط «ثواب» من الله سبحانه وتعالى «لا حصر له» أي لا يحصر بحساب لكثرته فلا يعلمه إلّا الله سبحانه وتعالى «لأنهما» أي الصّبر والرّضى «عمل لقوله تعالى : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) (٢).

«وقوله تعالى : (الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ...) الآية (٣).

فنبّه الله سبحانه في هاتين الآيتين على أن الصّبر والرّضى عمل بقوله تعالى : (أَجْرُهُمْ) لأنّ الأجر لا يكون إلّا على العمل ، وبقوله تعالى قالوا : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) على الرّضى ، لأنّ المعنى : رضينا بحكم الله فينا لأنّا عبيده يفعل بنا ما يشاء لأنه الرب المالك ليس لنا إلّا فضله ، والصّبر والرّضى من أفعال القلوب وثوابهما أعظم من ثواب سائر الأعمال.

__________________

(١) (ش) للعقل.

(٢) الزمر (١٠).

(٣) البقرة (١٥٦ ، ١٥٧).

٢٧٩

وما رواه علي عليه‌السلام عن النبيء صلوات الله عليه وعلى آله «أنّ الرجل لتكون له درجة رفيعة في الجنة لا ينالها إلّا بشيء من البلايا تصيبه ، وأنه لينزل به الموت وما بلغ تلك الدّرجة فيشدد عليه حتى يبلغها» والمراد به ثواب الصبر على الألم والرضى به. قال الإمام المنصور بالله عليه‌السلام في الرسالة الناصحة : فقد روينا عن نبيئنا صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال : إن الله «إذا أنزل على عبده ألما أوحى إلى حافظيه أن أكتبا لعبدي أفضل ما كان يعمل في حال صحته ما دام في وثاقي. فإذا أبل (١) من علّته خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه».

قال : ووجه هذا الخبر أنّا نقول : إن الله سبحانه أعلم بمقادير الثواب من خلقه الملائكة وغيرهم فلا يمتنع على ذلك أن يعلم أن ثواب صبر المؤمن يزيد على ثواب طاعته من صلاته وصومه وحجّه وجهاده وسائر أعمال الصّحة ، يؤيّد ذلك قوله تعالى : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) وهذا دليل على كثرته وعظمه فصدّق الكتاب السّنّة للمتوسّمين وما يعقلها إلّا العالمون. انتهى.

وروى البخاري بإسناده إلى أبي بردة قال : سمعت أبا موسى مرارا يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : «إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمله (٢) مقيما صحيحا».

«ويمكن أن يكون إيلام من قد كفّر الله عنه جميع سيّئاته كالأنبياء صلوات الله عليهم تعريضا» من الله تعالى لهم «للصّبر على الألم والرّضى به فقط» أي لا غير ذلك «إذ هو» أي إيلامهم لهذه المصلحة العظيمة «حسن كالتأديب» للصّبيّ ونحوه فإنه حسن لمّا كان لمصلحة تعود عليهما ، وذلك أن الأنبياء صلوات الله عليهم معصومون عن تعمّد المعصية ، وإذا (٣) وقع منهم العصيان فإنما يكون على سبيل الخطإ والنّسيان والتأويل(٤).

__________________

(١) قوله إذا أبل قال في القاموس بل بلولا وأبل نجا من مرضه.

(٢) (ض) يفعله و (ب) يعمل.

(٣) (ض) وإن وقع.

(٤) (ض) أو التأويل.

٢٨٠