عدّة الأكياس في شرح معاني الأساس - ج ١

أحمد بن محمّد بن صلاح الشرفي القاسمي

عدّة الأكياس في شرح معاني الأساس - ج ١

المؤلف:

أحمد بن محمّد بن صلاح الشرفي القاسمي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الحكمة اليمانية للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٤
الجزء ١ الجزء ٢

علّقت بالفعل فمعناه أراده فقط.

قلنا : هذا بناء على أصل فاسد.

«والكراهة» هي «ضد المحبّة» في الشاهد والغائب «وتحقيقها» في حق الله تعالى : «الحكم» من الله سبحانه «باستحقاق العبد العذاب قبل وقته» أي قبل حصول دار الآخرة وذلك بعد ارتكاب المعصية «وإيصاله إليه في وقته» أي في الآخرة. «والسخط» من الله سبحانه «بمعنى الكراهة» فمعناه معناها وكذلك البغض والغضب ، ومثل هذا ذكره الهادي عليه‌السلام حيث قال : (فأما الولاية من الله للمؤمنين فإنما يتولى تعظيمهم ومدحهم ويأمر بذلك بعد استحقاقهم لذلك بأفعالهم.

والمحبة من الله للمؤمنين فإنما المراد بها منه إيصال المنافع إليهم تفضّلا واستحقاقا.

قال : والرّضى والسّخط والولاية والمحبة من الله سبحانه مستحقة على الأعمال بمعنى أنه لا يسخط ولا يرضى ولا يوالي ولا يعادي إلّا عند وجود الأفعال من العبيد التي يستحقّون بها ذلك.

قال : وذكر عن سليمان بن جرير أنه قال : إن الله تعالى لم يزل ساخطا على من علم أنه يعصيه وراضيا على من علم أنه يطيعه مواليا من لم يوجد من أوليائه معاديا لمن هو معدوم من أعدائه وأن العبد قد يكون مؤمنا والله تعالى معاد له ساخط (١) عليه إذا كان ممن يكفر في آخر عمره ، ويكون راضيا عن الكافر قبل وقوع سببه وهو الطاعة مواليا له محبّا له إذا كان يؤمن في آخر عمره.

قال : فأما ما ذكر عن (٢) سليمان بن جرير فقد دللنا على بطلان قوله ببطلان أصله الذي يتعلّق به في أن الإرادة من صفات الذات وما يبين ذلك أن الساخط إنما يحسن أن يسخط على من فعل قبيحا لا لعلمه أن الفعل

__________________

(١) (ض) معاد له وساخط عليه.

(٢) (ب) وأمّا ما ذكره سليمان بن جرير.

٢٤١

المسخط له سيقع ، ألا ترى أن ذلك يقبح منه قبل وقوع القبيح كما يقبح منّا أن نعاقب بالضرب والإيلام من لم يأت ما (١) يستحق ذلك منه فإذا كان كذلك لم يجز منه تعالى أن يسخط على المؤمن حيث (٢) علم أنه سيكفر في آخر عمره.

وأما سليمان بن جرير فقد سلك طريقة ما سلكها أحد من الأئمة والعلماء سوى هذه الفرقة المجبرة أعلم ذلك. انتهى كلام الهادي عليه‌السلام.

قلت : ومراد الهادي عليه‌السلام أن السخط والولاية مستحقّة على الأعمال أي أعمال المكلف.

وما حكاه عن سليمان بن جرير أن الإرادة من صفات الذات يريد أن السخط والولاية مستحقّان لذات المكلف لا بالنظر إلى فعله ، وهذا مذهب المجبرة والله أعلم.

(فصل)

والمعنى : أنه تعالى خلقها وهو عالم بها على وفق الحكمة والصواب لا عن غفلة وسهو «خلافا لمن أثبت له تعالى إرادة مخلوقة غير مرادة» (٣) وكذلك كراهة مخلوقة غير مرادة (٤) توجب للشيء كونه مكروها ، وهم من تقدّم ذكره من المعتزلة (٥) «لنا» عليهم «ما مر» من بطلان ذلك.

__________________

(١) (ض) بما يستحق.

(٢) (أ) من حيث.

(٣) (ض) غير مراده.

(٤) عبارة السيد أحمد بن محمد لقمان رحمه‌الله تعالى في شرحه على الأساس غير مرادة في نفسها تمت.

(٥) قالوا لأنّ الإرادة جنس الفعل وجنس الفعل لا يحتاج إلى إرادة يبين ذلك أن الإرادة لا تقع مقصودة وإنما تقع تبعا ألا ترى أن الآكل إذا أراد الأكل فإن إرادته تابعة للأكل لا أنها مقصودة بل المقصود هو الأكل ثم ما يدعو إليه يدعو إلى إرادته فكذلك الحال في غير الأكل وقد بسط القاضي عبد الجبار بن أحمد والسيد مانكديم الكلام على المسألة في شرح الأصول الخمسة ص ٤٣١ إلى ٤٧٣ الطبعة الثانية سنة ١٤٠٨ ه‍ ، ١٩٨٨ م مطبعة أم القرى القاهرة.

٢٤٢

«و» هو تعالى «مريد لفعل الطاعات وترك المقبّحات» أي : أمر بالطاعات ونهى عن المقبحات.

قال الإمام يحيى عليه‌السلام في الشامل : اتفق أهل القبلة على أن الله تعالى مريد لجميع أفعاله ما خلا الإرادة والكراهة فإنه قد خالف فيهما من قدمنا ذكره ، ثم اختلفوا بعد ذلك فيما يريده الله عزوجل من أفعال غيره وما لا يريده :

فذهب القائلون بالعدل من الزيدية والمعتزلة إلى أنه تعالى مريد لجميع الطاعات من أفعالنا ما حدث منها وما لم يحدث ، وأنه تعالى كاره لجميع المعاصي ما حدث منها وما لم يحدث.

وذهب سائر فرق المجبرة من الأشعرية والنجارية إلى أن الله تعالى مريد لجميع الكائنات طاعة كانت أو معصية وأنه لا كائن في عالمنا هذا إلّا وهو متعلق بقدرة الله وإرادته ، وأن سائر الفواحش كلها والمعاصي صادرة عن إرادته وأن ما لم يحدث فإن الله تعالى لا يريده طاعة كانت أو معصية انتهى.

وقال أبو القاسم «البلخي» ومن تابعه :

«و» هو تعالى مريد «لفعل المباحات».

قال : «لأن فعلها شاغل» لفاعلها «عن فعل المعصية» وهذا فيما لم يكن يسيرا كالأكل والشرب ، أما ما كان يسيرا كالحركة اليسيرة والكلام اليسير فإن الله تعالى لا يريده ولا يكرهه وفاقا لأنه لا يوصف بحسن ولا قبح.

«قلنا» ردّا على البلخي : «ليس» المباح «بنقيض لها» أي للمعصية حتى لا يمكنه ترك المعصية إلّا بالاشتغال بالمباح وحينئذ لا يكون المباح مقصودا لله تعالى ولا مرادا ولا مكروها وإن شغل عن فعل المعصية وإنما المراد لله تعالى ترك المعصية وهو يمكن تركها من غير اشتغال بمباح «وما ورد بصيغة الأمر منها» أي من المباحات نحو : «وإذا حللتم فاصطادوا ، وكلوا واشربوا ، وانتشروا في الأرض» ونحو ذلك «فإرادة الله تعالى» فيها إنما هو «لمعرفة حكمها» أي ليعرف المكلف حكمها وإنه إن شاء فعلها وإن شاء تركها «وكل الأحكام» من الوجوب والندب والحظر والكراهة والإباحة «معرفتها واجبة»

٢٤٣

لتعرف الطاعة والمعصية ويوقف على الحدود «كالخبر به» أي كما ورد بصيغة الخبر بالمباح فإن معرفة مراد الله تعالى منه واجبة ليعرف المكلف حكمه «والله تعالى مريد لأكل أهل الجنة» في الجنة وشرابهم وتلذّذهم بمنكوحاتهم وملبوساتهم وسائر نعيمهم «وفاقا لأبي هاشم» وخلافا لأبيه أبي علي قال «لأنه» من المباح.

قلنا : ليس كذلك إذ هو من الجزاء الذي أعدّه الله لأهل الجنة فإرادته تنعمهم (١) وتلذذهم به «أكمل للنعمة» عليهم من الله سبحانه ولقوله تعالى : (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٢).

«وإذ لا خلاف بين العقلاء أن الموفّر العطاء من أهل المروءة والسخاء» من المخلوقين الذين جبلوا على الحاجة «يريد أن يقبل المعطى ما وفّر إليه» ذلك المعطي بل يعلم من حاله الكراهة لعدم قبول عطاياه «والله تعالى بذلك أولى» لأنه الغني عن كل شيء وقد ورد بذلك الحديث عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

قلت : ولا يبعد أن يريد الله سبحانه المباح بهذا الوجه لا لما ذكره البلخي من أنه شاغل عن المعصية ويؤيده ما روي عن النبيء صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال : «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه» أو كما قال والله أعلم.

إن قيل : فما هذه الإرادة في المباح وفي نعيم أهل الجنة وقد منعتم أن تكون الإرادة في حقه تعالى غير المراد أو غير العلم باشتمال الفعل على المصلحة أو المفسدة كما مر؟

فالجواب والله الموفق : أنها ما ذكرناه لاستحالة التشوّق وميل القلب في حقه تعالى فيكون الأمر بالمباح والإخبار به وتبيين حكمه وكذلك نعيم أهل الجنة مع نصب القرينة المرجحة للفعل على الترك من عقل أو نقل أو علمه

__________________

(١) (ض) نعيمهم.

(٢) المرسلات (٤٣).

٢٤٤

تعالى بحكميّة ذلك الفعل واشتماله على المصلحة إرادة له تعالى توسّعا ومجازا والله أعلم.

قالت «العدلية» جميعا : «ولا يريد الله» جل وعلا «المعاصي خلافا للمجبرة» فقالوا : يريد كل واقع كما سبق ذكره.

«قلنا : إرادته تعالى لها صفة نقص والله يتعالى عنها».

ثم نقول (١) : لو كان كذلك للزم أن يكون الأمر بالواقع كالأمر للمرمي من شاهق بالنزول ، وأن يكون الأمر بغير الواقع كالأمر بالجمع بين النقيضين والضدّين وإيجاد الأجسام وهكذا القول في النهي وهذا يبطل الأمر والنّهي والمدح والذم ويسد باب المجازاة بالثواب والعقاب وتهدم قاعدة الشريعة والعمل عليها ويؤدّي إلى إفحام الرسل وإبطال البعثة ذكر هذا الإمام يحيى عليه‌السلام.

وهو حق قال : وليس العجب من البله وأهل البلادة من المجبرة فلو سكت الجاهل ما اختلف الناس وإنما العجب كله من أهل الفطنة والكياسة منهم حيث قالوا بهذه الأقوال الرديّة ودانوا بمثل هذه المذاهب المنكرة فتبّا للجبر وسحقا لأصحابه وقبحا وترحا لأتباعه وأربابه كيف أضربوا عن التنزيه صفحا وطووا عن إحراز محاسنه كشحا.

وأما الأدلة النّقلية فهي كثيرة :

«قال الله تعالى : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) (٢).

«وقال تعالى : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) (٣).

«وقال تعالى : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) (٤) وغير ذلك كثير كقوله تعالى :

(كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً) (٥).

__________________

(١) (ض) ثم نقول للمجبرة.

(٢) غافر (٣١).

(٣) البقرة (٢٠٥).

(٤) الزمر (٧).

(٥) الإسراء (٣٨).

٢٤٥

وقوله تعالى : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا) ـ إلى قوله ـ (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) (١).

«قالوا» أي المجبرة : «الله» سبحانه «مالك» لعباده والمالك «يتصرف في مملوكه» بما شاء وكيف يشاء (٢) ولا يقبح ما أراده وفعله ، قالوا : وقد ورد بذلك القرآن حيث قال تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) (٣).

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (٤).

«قلنا : قولكم : مالك يتصرف في مملوكه سبّ لله تعالى حيث نسبتم إليه صفة النقص» وهي إرادته لفعل المقبّحات والفساد «لأن من أراد من مملوكه الفساد» وظلم العباد «فقد تحلّى بصفة النقص عند العقلاء» ولهذا يسفهونه ويصوبون من ذمّه وعاقبه على ذلك فكيف بذلك في حق رب العالمين؟ تعالى الله عمّا يقول به الملحدون علوّا كبيرا.

وقولكم أيضا : «ردّ للآيات المتقدمة» ونحوها.

«والآية الأولى معناها : لو شاء الله لأماتهم قبل فعل المعصية أو سلب قواهم أو أنزل ملائكة تحبسهم» عن فعل المعاصي فلا يقدرون على فعل شيء منها «لكنّه» تعالى «خلّاهم وشأنهم» أي مكّنهم من الفعلين (٥) ووكلهم إلى اختيارهم ليتمّ التكليف ويعظم الأجر «ولأن أمامهم» أي قدّامهم «الحساب» في يوم القيامة «ومن وراءه العقاب» كما «قال» الله «تعالى» : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ

__________________

(١) الأنعام (١٤٨).

(٢) (ب) وكيف شاء بحذف الياء.

(٣) الأنعام (١١٢).

(٤) يونس (٩٩).

(٥) الحسن والقبيح تمت.

٢٤٦

غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) (١) وكذلك معنى الآية الأخرى وما شابهها من الآيات.

(فصل)

«في بيان معاني كلمات من المتشابه»

لمّا أتمّ عليه‌السلام الكلام على أهل الجبر حسن أن يذكر بعض معاني كلمات من متشابه القرآن الذي ربّما توهموه شبهة في اعتقادهم الفاسد قال الله سبحانه : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ ، فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) (٢).

و «اعلم أن» المتشابه في القرآن كثير وكذلك في السنّة فمن ذلك «الهدى» فإنه في أصل اللغة بمعنى» الدّلالة والإرشاد و «الدّعاء إلى الخير» كما «قال الله تعالى :» (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى) (٣).

وقال تعالى : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ) (٤) أي دعوناهم إلى الخير ودللناهم عليه بما ركّبنا فيهم من العقول وإرسال الرّسل والتمكين من العمل «فاستحبوا العمى» وهو الكفر وآثروه «على الهدى» وهو الإيمان ، «و» قد يكون الهدى أيضا «بمعنى زيادة البصيرة» وهي التبصر فيما يقرّب إلى الله سبحانه وتعالى وذلك «بتنوير القلب» أي بتوفيق لفعل الطاعات واجتناب المقبّحات ومحبة لذلك وتأييد عليه «بزيادة منه تعالى في العقل» الذي هو القائد إلى كل خير كما «قال الله تعالى : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) (٥) أي زيادة في بصائرهم بتنوير قلوبهم «ومثله قوله تعالى : (إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) (٦) «أي

__________________

(١) إبراهيم (٤٢).

(٢) آل عمران (٧).

(٣) الليل (١٢).

(٤) فصّلت (١٧).

(٥) محمد (١٧).

(٦) الأنفال (٢٩).

٢٤٧

تنويرا» في قلوبكم أي زيادة في العقول «تفرقون به بين الحق والباطل» وتأييدا على فعل الطاعات واجتناب المقبّحات وروي عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال : «ألا إنه من زهد في الدنيا وقصّر فيها أمله أعطاه الله علما بغير تعلّم وهدى بغير هداية ألا ومن رغب في الدنيا وأطال فيها أمله أعمى الله قلبه على قدر رغبته فيها».

«و» قد يكون الهدى «بمعنى الثواب» كما «قال تعالى» : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) (١).

«أي يثيبهم» ربهم بسبب إيمانهم «في حال جريّ الأنهار» من تحتهم ، والمعنى : أنه أوصلهم إلى مطلوبهم وقضى لهم بالفوز فيما أعطاهم وأكرمهم ومن ذلك :

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ) (٢).

كذا ذكره الإمام يحيى عليه‌السلام قال : ومتى جرى في كلام أصحابنا أن الهدى يستعمل في معنى الإثابة فهو تقريب ، والتحقيق : أنه بمعنى الظفر بالبغية والفوز بالمطلوب لأن غرضنا بيان معانيها اللغوية والمستعملة في لسانهم ولم يكونوا مقرّين بالمعاد الأخرويّ ولا قائلين بثواب ولا عقاب وقيل : معنى الآية الأولى (يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ) أي يسدّدهم بسبب إيمانهم للاستقامة على سلوك السبيل المؤدّي إلى النعيم وجريّ الأنهار من تحتهم لأن التمسك بسبب السّعادة كالوصول إليها.

«و» قد يكون الهدى «بمعنى الحكم والتسمية كما قال الشاعر :

ما زال يهدي قومه ويضلّنا

جهرا وينسبنا إلى الفجّار»

أي يحكم على قومه بالهدى ويسمّيهم به ويحكم علينا بالضلال ويسمينا

__________________

(١) يونس (٩).

(٢) النحل (١٠٤).

٢٤٨

به ، إذا عرفت ذلك «فيجوز أن يقال : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (١) بمعنى لا يزيدهم بصيرة» ولا تنويرا في قلوبهم لمّا لم يتبصّرواأي يعملوا بموجب البصيرة والهدى من الطاعة واجتناب المعصية.

«أو» بمعنى «لا يثيبهم» لعدم استحقاقهم الإثابة.

ومثل هذا ذكره الهادي عليه‌السلام حيث قال : (الهدى هديان : هدى مبتدأ ، وهدى مكافأة .. إلى آخره).

«أو» بمعنى «لا يحكم لهم بالهدى ولا يسمّيهم به» لعدم إيمانهم الّذي يستوجبون به ذلك.

قالت «العدلية : ولا» يجوز أن يكون «بمعنى أنه لا يدعوهم إلى الخير» ولا يدلّهم على الرّشد لأنه تعالى قد دلّهم على الرّشد ودعاهم إليه كما سبق ذكره «خلافا للمجبرة» بناء على قاعدتهم المنهدة قالوا : لو دعاهم لأجابوا.

«قلنا : ذلك ردّ لما علم من الدين ضرورة لدعاء الله الكفار وغيرهم» إلى الإيمان وتصديق رسله صلوات الله عليهم وذلك «بإرساله إليهم الرّسل وإنزاله إليهم الكتب» الصادقة الشاهدة بصحة الرسالة المتضمنة لدعاء الخلق إلى عبادة الله تعالى وشكره ، وقد ورد به السمع «قال الله تعالى : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) (٢) كما مر ذكره وقال تعالى : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) (٣) أي رسول داع (٤) لها إلى الإيمان ولكن أبى أكثرهم ذلك وأجابوا هوى النفوس ودواعي الشيطان.

وأما قوله تعالى : (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها ..) (٥) الآية فالمعنى : لو شئنا لأريناها من قدرتنا وآياتنا الباهرة عيانا ما نحدث به لها معرفة وإيقانا لا يكون لها معه أجر ولا يجب به لها ذخر ويكون منها ذلك اضطرارا

__________________

(١) الأنعام (١٤٤).

(٢) فصلت (١٧).

(٣) فاطر (٢٤).

(٤) (أب) داعي.

(٥) السجدة (١٣).

٢٤٩

لا درك نظر ولا فكرة ولا اعتبار وفي ذلك وبه ما يجب الجزاء والثواب ، وفي ترك ذلك وإغفاله ما يجب العقاب وهو وإن كان كذلك فهو هدى وتبصرة ، هذا لفظ القاسم بن إبراهيم عليه‌السلام.

«والضّلال في لغة العرب» يكون لمعان منها ما هو «بمعنى الهلاك» والضّياع «قال تعالى : (وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) (١) أي إذا هلكنا وضعنا في الأرض وصرنا ترابا كأن لم نكن.

قال في الصحاح : ضل أي ضاع وهلك والاسم الضّل بالضمّ ومنه قولهم : هو ضلّ بن ضلّ إذا كان لا يعرف ولا يعرف أبوه. انتهى.

ومنه قوله تعالى : (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) (٢) (ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) (٣).

«و» قد يكون الضّلال «بمعنى العذاب» والعقوبة «قال تعالى : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) (٤) أي في عذاب ونيران ذات سعر وقال الزمخشري : في هلاك ونيران أو في ضلال عن الحق في الدنيا ونيران في الآخرة.

وكما قال تعالى : (بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ) (٥) أي في العذاب والعقوبة المبعدة.

«و» قد يكون «بمعنى الغواية عن واضح الطريق ، ومنه قوله تعالى : (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى) (٦) أي أغواهم» أي أمالهم «عن طريق الحق» وهو الإيمان بالله ورسوله والقبول لما جاءوا به عن الله عزوجل.

«والإضلال» في لغة العرب «بمعنى الإهلاك والتعذيب والإغواء كما مر» في ذكر الضلال سواء.

__________________

(١) السجدة (١٠).

(٢) الأنعام (٢٤).

(٣) الكهف (١٠٤).

(٤) القمر (٤٧).

(٥) سبأ (٨).

(٦) طه (٧٩).

٢٥٠

«و» قد يكون الإضلال «بمعنى الحكم والتّسمية قال الشاعر :

ما زال يهدي قومه ويضلنا

«البيت» الذي تقدم ذكره أي يحكم علينا بالضلال ويسمينا به.

وقد يكون الضلال بمعنى النسيان كما قال تعالى : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) (١).

وبمعنى الذهاب عن الشيء والغفلة عنه نحو قوله تعالى : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) (٢) أي وجدك غافلا عما أرادك به من النبوءة والكرامة إذا عرفت ذلك «فيجوز أن يقال : إن الله يضل الظالمين ، بمعنى يحكم عليهم بالضلال ويسميهم به لمّا ضلوا عن طريق الحق» أي مالوا عنها وهكذا ذكره الهادي عليه‌السلام.

«وبمعنى يهلكهم أو يعذبهم» لاستحقاقهم ذلك.

قالت «العدليّة : لا بمعنى يغويهم عن طريق الحق» فلا يجوز لأنه قبيح والله تعالى لا يفعله «خلافا للمجبرة» فإنهم جوّزوا ذلك جريا على منهاجهم الجائر من عدم التحاشي من سبّه تعالى ونسبة القبائح إليه تعالى عنها.

«قلنا : ذلك ذمّ لله تعالى وتزكية لإبليس وجنوده» وتنزيه لهم عن الإغواء والإضلال الذي هو دأبهم وعملهم بنص القرآن حيث قال تعالى حاكيا عنه : (قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (٣) «وذلك» الذي ذهبوا إليه من سبّ الله تعالى وتزكية إبليس «كفر» بلا ريب.

«والإغواء» في لغة العرب يكون لمعان :

«بمعنى الصّرف عن واضح الطريق» أي الإمامة عن طريق الحق.

«و» يكون «بمعنى الإتعاب» للحيوان «يقال : أغوى الفصيل إذا أتعبه بحبسه عن الماء واللّبن».

__________________

(١) البقرة (٢٨٢).

(٢) الضحى (٧).

(٣) ص (٨٢ ـ ٨٣).

٢٥١

قال في الصحاح : الغيّ : الضلال والخيبة أيضا ، والتغاوي التجمع على الشر من الغواية والغيّ والغوى مصدر قولك غوي السّخلة والفصيل بالكسر يغوى غوى.

قال ابن السكيت يقال : هو أن يروى من لباء أمّه ولا يروى من لبن أمّه حتى يموت هزالا.

وقال غيره : هو أن يشرب اللبن حتى يتخم ويفسد جوفه.

«و» قد يكون «بمعنى الحكم والتسمية» كما ذكرنا في الهدى والضلال «فيجوز أن يقال : إن الله أغوى الضّلال بمعنى حكم عليهم» بالإغواء «وسمّاهم به لمّا غووا» أي ضلّوا ومالوا «عن طريق الحق و» أنه تعالى «يغويهم في الآخرة بمعنى يتعبهم» بالعذاب الدائم «جزاء على أعمالهم» التي عصوا الله بها في الدنيا. قالت «العدلية : لا بمعنى صرفهم عن طريق الحق» إلى طريق الضلال فلا يجوز لأنه جور تعالى الله عنه «خلافا للمجبرة» فقالوا : يجوز ذلك لما قد عرف من مذهبهم.

«قلنا : ذلك ذمّ لله تعالى وتزكية لإبليس» لعنه الله «كما مر» آنفا.

«والفتنة في لغة العرب» تكون لمعان أيضا :

«بمعنى المحنة والتمحيص كما قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم : «ستأتي من بعدي فتن متشابهة كقطع الليل المظلم فيظن المؤمنون أنهم هالكون عندها ، ثم يكشفها الله بنا أهل البيت ... الخبر».

تمامه : «برجل من ولدي خامل الذكر لا أقول خاملا في حسبه ودينه وعلمه ولكن لصغر سنه وغيبته عن أهله واكتتامه في عصره». فالمراد بالفتن هنا : المحن والشدائد.

«و» قد تكون الفتنة «بمعنى الاختبار» والتمييز كما «قال تعالى : (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا ..) (١) الآية «أي اختبرناهم» أي ميّزنا بعضهم من بعض بما يظهر من أعمالهم عند الشدائد «بالتكاليف»

__________________

(١) العنكبوت (٣).

٢٥٢

الصعبة «والشدائد من الخوف» والجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات فليعلمنّ الله الذين صدقوا في إيمانهم فصبروا في طاعة ربهم ، وليعلمنّ الكاذبين الذين لم يصدقوا في إيمانهم ولم يثبتوا عليه في السّراء والضّراء وكانوا كما قال سبحانه : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ)(١).

«و» قد تكون الفتنة «بمعنى الإضلال عن طريق الحق» كما «قال تعالى : (فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ) (٢) أي ما أنتم بمضلين عن طريق الحق إلّا من هو من أهل الضلال الذين لا تنفع فيهم الهداية.

وأما من قبل هدى الله ورفض ما سواه فلا تقدرون على إضلاله.

«و» قد تكون الفتنة أيضا «بمعنى العذاب كما قال تعالى : (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) (٣) أي يعذبون.

قال في الصحاح : تقول : فتنت الذهب إذا أدخلته النار لتعرف ما جودته ودينار مفتون.

وقال الخليل : الفتن الإحراق ، وورق فتين أي فضة محرّقة.

إذا عرفت ذلك «فيجوز أن يقال : فتن الله المكلفين بمعنى اختبرهم بالتكاليف» أي فعل بهم فعل المختبر بالتكاليف التي حمّلهم إياها «والشدائد» التي تلحقهم في الدنيا من نقص الأنفس والأموال ويجوز أن يقال : إن الله تعالى «يفتن المسخوط عليهم بمعنى يعذبهم» بذنوبهم التي ارتكبوها.

قالت «العدلية» لا بمعنى يضلهم عن طريق الحق» أي يغويهم ويميلهم عن طريق الحق فلا يجوز لأنها صفة ذم «خلافا للمجبرةقلنا : ذلك صفة نقص وذم لله تعالى» بل هو ذم في حق المخلوق المحتاج فكيف في حق الخالق

__________________

(١) الحج (١١).

(٢) الصافات (١٦١ ، ١٦٢ ، ١٦٣).

(٣) الذاريات (١٣).

٢٥٣

الغني عن كل شيء.

«و» مع ذلك هو «تزكية لإبليس لعنه الله» وجنوده «كما مر» لهم وقد عرف بحمد الله فساد عقائدهم وبطلان أقوالهم وتهافتهم في الضلال واجترائهم على الله ذي الكبرياء والجلال.

واعلم : أن هذه الكلمات ونحوها من المتشابه يجب ردها إلى المحكم كما قال تعالى : (هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) ولا يجوز أن يطلق على الله سبحانه وتعالى منها شيء إلّا مع قرينة صارفة عن إرادة الخطإ ونسبة النقص إليه سبحانه وتعالى.

وكذلك غيرها من سائر الكلمات المشتركة بين معان لا يجوز إطلاق بعضها على الله تعالى.

(تنبيه): لمّا سبق ذكر : الاختبار والابتلاء في أثناء ما تقدم وكان معناهما في اللغة أن يتصفح الجاهل أحوال المختبر والمبتلى ويعرف ما يؤول إليه أمرهما ، وكان هذا المعنى لا يجوز على الله سبحانه وتعالى لأنه عالم الغيب والشهادة أراد عليه‌السلام أن يبيّن معنى الاختبار والابتلاء في حق الله سبحانه وتعالى فقال :

«تنبيه» : «أعلم : أن من الناس من يعبد الله على حرف» أي على طرف من الدين غير متمكّن فيه ، وهذا تمثيل لمن قعد في طرف جبل أو هوّة غير متمكن في قعوده بحيث أن أقل محرك له يزعجه فيوقعه في الهلاك «فإن أصابه خير اطمأن به» وثبت على دينه «وإن أصابته فتنة» أي فقر أو سقم أو نقص مال أو ولد «انقلب على وجهه» أي ارتدّ عن الإسلام وتشاءم به فذلك الذي «خسر الدنيا والآخرة ، ومن الناس» من هو «مثل ما قال الله سبحانه (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍ) أي كثير من الأنبياء «قاتل معه ربّيون كثير» الربيون والربانيون هم العلماء لأنهم يقضون بعلم الرّبّ (فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ..) الآية (وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) (١) أي ما ضعفوا عن الاستمساك بدينهم مع ما حصل في أصحابهم من القتل والاستضعاف بل

__________________

(١) آل عمران (١٤٦).

٢٥٤

قاموا في القتال والجهاد مع أنبيائهم أبلغ قيام بعزيمة صادقة ونيّة صحيحة لأنهم على بصيرة من دينهم وطمأنينة في أمرهم فهم بحبل الله مستمسكون وبدينه معتصمون ، إذا عرفت ذلك فالاختبار والابتلاء من الله سبحانه مجاز عبّر به عن الامتحان والتّمييز «فشبه الله الامتحان لتمييز صادق الإيمان» أي الرّاسخ إيمانه «من المتلبّس (١) به» وهو «على حرف» أي طرف لم يكن إيمانه براسخ «بالاختبار» أي شبّه الله ذلك الامتحان باختبار الجاهل من المخلوقين لمن يريد الوقوف على حقيقة أمره «فعبر الله عنه» أي عن الامتحان «بما هو بمعناه» أي بمعنى الامتحان وهو الاختبار : «من نحو قوله تعالى : (وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) (٢) أي نختبركم بالشدائد فيتميّز بذلك من هو ثابت الإيمان وراسخ القدم فيه عمّن هو متلبّس به وهو على شفاء جرف هار بما يظهر من الأعمال عند ذلك والله سبحانه عالم بذلك قبل ظهوره لما في ذلك من الحكمة وهو الفرق بين ثابت الإيمان راسخ القدم فيه وبين المتلبّس به ، ولا يظهر الفرق إلّا بالامتحان لأن الله عزوجل لا يجازي إلّا على الأعمال «لا أنه تعالى اختبرهم مثل اختبار الجاهل» من الخلق لما يؤول إليه أمرهم لأنّ الجهل في حقه تعالى مستحيل.

وكذلك ما كان من نحو هذا كقوله في قصة أهل الكهف (ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً ...) (٣) الآية أي ليظهر متعلّق العلم «والطّبع والختم» اللذان ذكرهما الله تعالى في القرآن قد يكونان «بمعنى التّغطية» يقال : طبع الإناء أي غطّاه وكذلك ختمه.

«وبمعنى العلامة» يقال : طبع على الشيء إذا جعل عليه علامة وكذلك ختم عليه وحتمه.

قالت «العدليّة : ولا يجوز أن يقال : إن الله ختم على قلوب الكفار وطبع بمعنى غطّى» عليها ومنعها من وصول الإيمان إليها لأن ذلك قبيح ينافي

__________________

(١) (ض) عمّن هو متلبس به.

(٢) محمد (٣١).

(٣) الكهف (١٢).

٢٥٥

التكليف «خلافا للمجبرة» فإنهم جوّزوا ذلك.

«قلنا : أمرهم ونهاهم» أي أمر الكفار ونهاهم «عكس من لم يعقل نحو المجانين» فلم يأمرهم ولم ينههم فلو غطى على قلوبهم كما زعموا لم يأمرهم ولم ينههم «إذ خطاب من لا يعقل صفة نقص والله يتعالى عنها».

وقال «بعض العدلية» كالإمام المهدي عليه‌السلام وغيره :

«ويجوز» أن يكون الطبع والختم من الله سبحانه «بمعنى جعل علامة» في قلب الكافر أو الفاسق إما نقطة سوداء أو غيرها ليتميّز بها الكافر والمؤمن للملائكة عليهم‌السلام ، وأنها تكثر بكثرة ارتكاب المعصية حتى يسودّ القلب جميعا.

قالوا : وهو الرّين الذي ذكره الله تعالى في الكتاب العزيز.

قالوا : ومع اسوداد القلب لا يقبل الإيمان ولا بدّ أن يكون في ذلك نوع لطف للملائكة عليهم‌السلام أو غيرهم.

قالوا : وتكون علامة المؤمن نكتة بيضاء لقوله تعالى : (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ).

وقال عليّ صلوات الله عليه في نهج البلاغة : الإيمان يبدو لمظة كلّما ازداد الإيمان ازدادت اللّمظة).

واللّمظة النكتة أو نحوها من البياض.

قال عليه‌السلام : «وفيه» أي فيما ذهب إليه بعض العدلية «نظر لأنها(١)» أي العلامة «إن كانت للحفظة عليهم‌السلام فأعمال الكفار» والفسّاق «أوضح منها ، مع أنهم» أي الملائكة عليهم‌السلام «لا يرون ما واراه اللّباس من العورة كما ورد» عن النبيء صلى الله عليه وعلى آله وسلم : «أنهم يصرفون أبصارهم عند قضاء الحاجة» أي عند البول (٢) والغائط.

__________________

(١) (أ) فإنها.

(٢) (ب) عند البول أو الغائط.

٢٥٦

وإذا كان كذلك «فبالأحرى أنهم لا يرون القلب» فكيف يرون النقطة السوداء أو البيضاء.

«وإن كانت» العلامة «لغير ذلك فالمعلوم أن الله غنيّ عنها لأنه عالم الغيب والشهادةلا يعزب عنه شيء».

وما روي عن علي عليه‌السلام على طريق التمثيل والمجاز والله أعلم. إذا عرفت ذلك «فالتّحقيق أنه» أي الطبع والختم في حق الله سبحانه وتعالى : «مجاز عبارة عن سلب الله تعالى إيّاهم» أي الكفار والفساق «تنوير القلب» الذي خص الله به المؤمنين «الزّائد على العقل الكافي» في التكليف.

فأما العقل الكافي الذي تلزمهم به الحجة فهو لا شك معهم بل وأكثر منه يعلم ذلك ضرورة في محاوراتهم ومناظراتهم وتدبير أمورهم «لأن من أطاع الله تعالى نور الله قلبه» وزاده هدى ونورا.

«و» كما «قال تعالى (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) (١) وكما قال الله تعالى : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) (٢) أي يزده هدى ونورا.

«وقال تعالى : (إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) (٣) إي تنويرا كما مر» ذكره في بيان معاني الهدى.

«ومن عصى الله لم يمدّه الله بشيء من ذلك» التنوير الزائد على العقل الكافي «ما دام مصرّا على عصيانه ، فشبّه الله سبحانه سلبه إيّاهم ذلك التنوير بالختم والطبع» على الحقيقة.

والجامع بين المشبّه والمشبّه به عدم الانتفاع بالقلوب ، وكذلك الكلام في الختم على الأسماع والأبصار لأن من سلبه الله التنوير المذكور لا ينتفع بما سمع وأبصر من البيّنات والهدى فكأنّه لا يسمع ولا يبصر ، ومثل هذا ذكره الهادي عليه‌السلام.

__________________

(١) محمد (١٧).

(٢) التغابن (١١).

(٣) الأنفال (٢٩).

٢٥٧

«وأما» ذكر الغشاوة في قوله تعالى : (وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) (١) أي غطاء «و» الوقر في «قوله تعالى حاكيا» عن الكفار : (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) الحجاب في قوله تعالى : (وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) (٢) فتشبيه لحالهم» أي فهو مجاز ، ووجه التّشبيه لحال الكفار «حيث لم يعملوا بمقتضى ما سمعوا» من الأوامر والنّواهي «وأبصروا» من الآيات الباهرة الدّالة على معرفة الله جل وعلا وعلى صدق رسله «ولا» عملوا «بنصيحة الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم» لهم وإنذاره إيّاهم «بمن في أذنيه وقر» أي شبّه حالهم بمن في أذنيه وقر أي صمم فلا يسمع من دعاه (عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) (٣) أي غطاء «فلا يبصر شيئا وبمن بينه وبين الناصح حجاب لا تبلغ إليه نصيحته مع ذلك الحجاب» ووجه التشبيه عدم الانتفاع كما مر ولا وقر ولا غشاوة ولا أكنّة على الحقيقة وهو من المجاز على سبيل الاستعارة والتّمثيل وقد بسطته في الشرح.

«والتّزيين» في اللغة «التّحسين» يقال : زيّن عمله أي حسّنه قالت «العدلية : والله لا يزين المعاصي» لعباده ولا يحسنها لهم لأن تزيين القبيح وتحسينه قبيح «خلافا للمجبرة» فقالوا : زين الله تعالى عن ذلك : المعاصي وحسّنها للعاصين.

«قلنا : تزيين القبيح صفة نقص والله يتعالى عنها» أي عن صفة النقص.

«قالوا : قال الله تعالى : (كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) (٤) فنسب التزيين إليه تعالى؟

«قلنا : ردّا عليهم : «المراد من الآية : تزيين عملهم اللّائق بهم وهو المفروض والمندوب زيّنه الله تعالى بالوعد لهم بالثواب والسّلامة من العقاب ، فلم يقبلوا إلّا ما زيّنه لهم الشيطان من المعاصي كما قال تعالى : (وَإِذْ زَيَّنَ

__________________

(١) البقرة (٧).

(٢) فصلت (٥).

(٣) الجاثية (٢٣).

(٤) الأنعام (١٠٨).

٢٥٨

لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) (١) أي «التي عملوها» في معادات رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ووسوسته لهم وأنهم لا يغلبون وغير ذلك «من المعاصي» التي نهاهم الله تعالى عنها.

ومثل هذا التفسير ذكر الناصر للحق الحسن بن علي عليه‌السلام في كتاب البساط.

وقال في الكشاف : إسناد التزيين إلى الله تعالى مجاز وله طريقان :

أحدهما : أن يكون من المجاز الذي يسمى الاستعارة.

والثاني : أن يكون من المجاز الحكمي.

فالأول : أنه لمّا متعهم بطول العمر وسعة الأرزاق وجعلوا إنعام الله عليهم لذلك وإحسانه إليهم ذريعة إلى اتّباع شهواتهم وبطرهم وإيثارهم الرّوح والتّرفه ونفارهم عمّا يلزمهم فيه من التكاليف الصعبة فكأنه زين لهم بذلك أعمالهم ، وإليه أشارت الملائكة عليهم الصلاة والسلام في قولهم : (وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ) (٢) الآية.

قلت : ومثل هذا ذكره الهادي عليه‌السلام.

والطريق الثاني : أن إمهاله الشيطان وتخليته حتى يزين لهم ملابسة ظاهرة للتزيين فأسند إليه لأن المجاز الحكمي يصحّحه بعض الملابسات. «والقضاء» في اللغة يكون لمعان :

«بمعنى الخلق» والتّقدير «كما قال تعالى : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) فِي يَوْمَيْنِ (٣) أي خلقهنّ وقدّرهن ، ومنه قول أبي ذؤيب :

وعليهما مسرودتان قضاهما

داود أو صنع السّوابغ تبّع

يقال : قضاه أي صنعه وقدّره.

«و» قد يكون القضاء «بمعنى الإلزام» والحكم كما «قال تعالى : (وَقَضى

__________________

(١) الأنفال (٤٨).

(٢) الفرقان (١٨).

(٣) فصلت (١٢).

٢٥٩

رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) (١) أي ألزم وحكم.

وتقول : قضى القاضي بكذا أي حكم وألزم.

«و» قد يكون «بمعنى الإعلام» والإنهاء «كما قال تعالى : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً) (٢) أي أعلمناهم وأنهينا إليهم ذلك.

ومنه : (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ ..) الآية (٣).

وقد يكون بمعنى الفراغ تقول : قضيت حاجتي وضربه فقضى عليه أي قتله كأنه فرغ منه ، وسمّ قاض أي قاتل ، وقضى نحبه أي مات.

وقد يكون بمعنى الأداء تقول : قضيت ديني.

إذا عرفت ذلك «فيجوز أن يقال : الطاعات بقضاء الله بمعنى إلزامه» وحكمه بوجوبها على عباده «لا بمعنى خلقها» فلا يجوز لأنها فعل العبيد وخلقهم لا فعله كما تقرر» خلافا للمجبرة» كما عرفت من مذهبهم.

«قلنا : صحة الأمر بها والنهي عن تركها ينافي خلقه لها» علم ذلك «ضرورة» فلو خلقها لم يأمر بها ويعدهم على فعلها الثواب العظيم ولم ينههم عن تركها ويتوعدهم على ذلك بالعذاب (٤) الأليم «وأيضا هي» أي الطاعات «تذلّل من العبد لمالكه» وهو الله رب العالمين «فيلزم» حيث جعلوها خلقا لله تعالى «أن يجعلوا الله متذلّلا» لفعله التّذلّل «وذلك كفر» لا ريب فيه.

قالت «العدلية : ولا يجوز» أي يقال : «المعاصي» بقضاء الله بمعنى «خلقها» في العباد «بقدرته وألزم بها» لأن الله جل وعلا لا يفعل القبيح ولا يأمر بالفحشاء «خلافا للمجبرة» كما (٥) قد عرفت من مذهبهم.

«لنا» عليهم «ما مر».

__________________

(١) الإسراء (٢٣).

(٢) الإسراء (٤).

(٣) الحجر (٦٦).

(٤) (ض) ويعدهم على ذلك العذاب الأليم.

(٥) (أ) لما قد عرفت و (ب) كما عرفت.

٢٦٠