عدّة الأكياس في شرح معاني الأساس - ج ١

أحمد بن محمّد بن صلاح الشرفي القاسمي

عدّة الأكياس في شرح معاني الأساس - ج ١

المؤلف:

أحمد بن محمّد بن صلاح الشرفي القاسمي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الحكمة اليمانية للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٤
الجزء ١ الجزء ٢

الصفة من المستقبل.

وأما اشتقاقها من الماضي كضارب لمن قد وقع منه الضرب في المدة المتقدمة فحكى في الفصول عن الجمهور أنه يكون مجازا ، وأنه يشترط في كونه حقيقة بقاء معناه مطلقا.

وحكى عن أبي هاشم وابن سيناء : أنه لا يشترط بقاء معناه مطلقا بل يكون في الماضي حقيقة كالحال.

قال : وقيل : إن كان بقاؤه ممكنا لوجود أجزائه دفعة كضارب اشترط ، وإلّا فلا كمتكلم قال وهو في الاستقبال مجاز اتفاقا انتهى.

فعرفت ضعف الرواية عن أبي هاشم وأنه إنما خالف في اشتقاق الصفة من الماضي ، وقوله هو الحق أعني أنه حقيقة في الماضي كالحال لأنه يقال : فلان ضارب وقاتل لمن وقع منه الضرب أو القتل من غير نظر إلى بقاء المشتق منه وانقطاعه ، لأن الموجب للحقيقة هو حصول معناها اللغوي وهو حصول المشتق منه وقد حصل وهذا هو السابق إلى الفهم.

حتى لو قال قائل : فلان ضارب لم يترجح فهم الحالية منه على المضي بخلاف المستقبل فإنه لا يفهم إلّا بقرينة والله أعلم.

والذي حكاه عليه‌السلام عن بعض أهل العربية لم أقف عليه لأحد منهم إلّا أنه حكي عن الكسائي وغيره أن اسم الفاعل يعمل عمل فعله وإن كان بمعنى المضي وهذا بمعزل عن الحقيقة والمجاز والله أعلم. قال عليه‌السلام : «قلنا» ردّا على الجمهور : «الاشتقاق لا يفتقر إلى حصول معنى المشتق منه إذ ليس» حصوله «بمؤثر فيه» أي في صحة الاشتقاق» بل للواضع أن يشتق من اسم ما سيحصل له مثل تسميته له» أي لما سيحصل ، فكما صحّ تسمية الواضع لما سيحصل كذلك يصح الاشتقاق بما سيحصل ولا مانع من ذلك.

ويمكن أن يقال : المخالف لم يمنع من ذلك ، وإنما منع كونه حقيقة (١)

__________________

(١) (ض) من كونه.

٢٠١

وكذلك تسمية ما سيوجد مجازا كتسمية المعدوم شيئا كما سبق تقريره والدليل على ذلك : سبق الفهم والقرينة والله أعلم.

قال عليه‌السلام : «وقد حصل» أي ذلك الاشتقاق في مثل قولنا زيد ضارب غدا والله سبحانه خالق يوم القيامة «حيث يطلق» ضارب وخالق «على المشتق له قبل حصول معنى المشتق منه وحاله وبعده على سواء» فيقال : الله خالق آدم في الثالث ، ورازق العباد في الثاني ، ويوم القيامة في الأول ، فجعله حقيقة في أحدها مع استوائها في الإطلاق عليها تحكم.

«و» أما «نصب القرينة فهو لا بدّ منها لكل واحد من الثلاثة» المعاني الماضي والحال والاستقبال «عرف ذلك بالاستقراء وليس ذلك» أي نصب القرينة «إلّا للاشتراك فقط» أي لكونه اسما مشتركا بين الثلاثة المعاني كالقرء والعين «ففي دعوى الحقيقة في البعض دون البعض تحكّم» أي مجرد دعوى بغير دليل.

ويمكن أن يقال : إنه مع الإطلاق لا يفهم منه إلّا الحاليّة والمضي دون الاستقبال إلّا بقرينة وهذا هو المتبادر إلى الفهم والله أعلم.

«وأيضا : لا مانع من أن يقال : الله تعالى خالق ما سيكون قبل ورود السمع ، فلو كان مجازا لامتنع» القول به لما ثبت من أنه لا يجوز أن يطلق على الله سبحانه شيء من الأسماء المجازية إلّا بأذن سمعي.

ويمكن أن يقال : إن وصف الله سبحانه بما يفعله قطعا يجوز وفاقا بغير إذن سمعي ، وإن كان مجازا كما تقدم من رواية النجري نحو : مثيب الأنبياء ومعذّب الأشقياء.

واعلم : أن الناس اختلفوا في كيفية ابتداء وضع اللّغات.

فقال الشيخ أبو هاشم ومن تابعه : إنه كان بالمواضعة والمواطأة على أن يكون هذا اللفظ علامة لهذا المعنى.

وقال الشيخ أبو القاسم وابن فورك والأشعري : بل ابتداء وضعها

٢٠٢

توقيف بتعليم الله تعالى كما قال تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) (١) وجوز أبو علي الأمرين ، وقد بسطنا الاحتجاج في الشرح وذكرنا ما هو المختار في ذلك.

(فصل)

«ويختص الله من الأسماء بالجلالة» وهي لفظ الله «وبرحمن مطلقا» أي سواء أضيف أم لا «وبرحيم غير مضاف» أما مع الإضافة فيجوز : زيد رحيم بعشيرته وبجيرانه لأن الرحمة إذا علّقت بشيء مخصوص فقد خرج لفظ رحيم عن إفادته عموم الرحمة في كل شيء المختص بالله تعالى وكذلك زيد رحيم لأنّ جريه على زيد تقييد له «ورب كذلك» أي غير مضاف ولا مقيّد.

وقال أبو القاسم «البلخي» يجوز أن يطلق رب على غيره تعالى غير مضاف» ولا مقيّد «إذ هو من التربية كما مرّ له» فهو اسم لكل مربّ كما يقال : مالك لكل من ملك شيئا ، وأما مع التقييد فيجوز اتفاقا كما قال صفوان بن أميّة : لئن يربّني رجل من قريش أحبّ إليّ من أن يربّني رجل من هوازن.

«قلنا» ردّا على أبي القاسم : «لا يحمله السامع على غير الله تعالى» مع عدم التقييد فامتنع إطلاقه على غير الله تعالى من غير تقييد.

قلت : وينظر هل صرح أبو القاسم البلخي بذلك أو أخذ له من قوله في رب أنها صفة فعل مأخوذة من التربية لأنه لا يمتنع اختصاصها بالله سبحانه مع الإطلاق إمّا بالغلبة وكثرة الاستعمال أو بتربية مخصوصة لا يقدر عليها إلّا الله سبحانه وتعالى وإن كانت صفة فعل والله أعلم.

ويختص الله سبحانه وتعالى «بذي الجلال وذي الكبرياء وبديع السموات والأرض ونحوها» كسبوح وقدوس ومهيمن وعالم الغيب ومحيي الموتى ومولج الليل في النهار ونحو ذلك مما يشتمل على غاية التعظيم الذي لا يستحقه غيره تعالى.

«قال أئمتنا عليهم‌السلام» ويختص الله «بثابت في الأزل» فلا يقال ذلك

__________________

(١) البقرة (٣١).

٢٠٣

في حق غير الله تعالى لأنّ معناه كمعنى موجود في الأزل «لا بقديم» فلا يختص به تعالى بل يجوز إطلاقه على غيره كما سيأتي إن شاء الله تعالى الآن.

«خلافا لقوم في الطرفين :» ..

أما الطرف الأول : فقال من أثبت الذّوات في العدم لا يختص الله سبحانه بثابت في الأزل لأن سائر الذوات ثابتة في الأزل وفرقوا بين الثبوت والوجود وقد مر الكلام عليهم.

وأما الطرف الثاني : فقال أبو علي الجبّائي : لا يجوز إطلاق لفظ قديم إلّا على الله إذ معناه هو الموجود في الأزل ، وجعل قوله تعالى : (كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) من قبيل التوسع والتجوز ، وخالفه ابنه أبو هاشم فقال : معناه المتقدم على غيره في الوجود وهو الصحيح.

«قلنا : لم تثبت الأشياء» التي هي «غيره تعالى في الأزل» ولم توجد وهذا في الطرف الأول.

«و» أما في الطرف الثاني (١) : فلنا : «قوله تعالى : (كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) (٢) فوصف العرجون بالقدم وهو عود عذق النخل ما بين شماريخه إلى منبته من النخلة.

«و» لنا أيضا «ثبوت نحو : رسم قديم» وبناء قديم «بين الأمّة بلا تناكر» فلو كان مختصا بالله لأنكر ذلك العلماء ، ولم يجمعوا على جوازه.

وأما قول من قال : إن ذلك توسّع ومجاز : فهو مخالف لما ثبت بين المسلمين من التخاطب به في غير الله بلا قرينة.

وإلى هنا انتهى بنا الكلام في القسم الأول من أقسام هذا الكتاب المبارك ونشرع في القسم الثاني بمعونة الله سبحانه ، وهو الكلام في عدل الله سبحانه وتنزيهه وتقديسه عن الجور ونحو ذلك.

__________________

(١) (ض) فقال عليه‌السلام لنا.

(٢) يس (٣٩).

٢٠٤

قال عليه‌السلام :

«كتاب العدل»

الكلام في العدل راجع إلى أفعال الله سبحانه ما يجوز منها وما لا يجوز والعدل في أصل اللغة : من أسماء الأضداد يقال : عدل أي أنصف وحكم بالحق ، وعدل أي جار ومال عن الحق وهو مصدر.

وقد يراد به الفاعل مبالغة فيقال : هو عدل أي عادل كما يقال هو برّ أي بارّ وحينئذ يطلق على الواحد والمثنّى والمجموع.

قال زهير : فهم رضا وهم عدل.

وفي عرفها هو إنصاف الغير بتوفير حقّه واستيفاء الحق منه وترك ما لا يستحق عليه مع القدرة عليه وهو مأخوذ من تعادل الشيئين أي تساويهما وقد يراد به الفاعل أيضا فمن فعل ذلك سمّي عدلا.

وفي اصطلاح المتكلمين : هو العلم بتنزيه الله تعالى عن فعل القبيح وأن أفعاله كلها حسنة وقد يراد به الفاعل أيضا وهو الذي لا يفعل القبيح وأفعاله كلها حسنة وهذا في حق الباري تعالى.

فمعنى قولنا : إن الله عدل أي منزّه عن صفات النقص في أفعاله أي لا يفعل القبيح وأفعاله كلها حسنة.

فمن اعتقد أن الله تعالى على هذه الصفة فهو من أهل العدل ولهذا

٢٠٥

سمّيت العدليّة بهذا الاسم أي لقولهم بذلك (١).

ويزاد في حق المخلوق هو من لا يفعل القبيح ولا يخل بالواجب وأفعاله كلها حسنة ، وقد أشار الإمام عليه‌السلام إلى هذه المعاني بقوله : «هو لغة : الإنصاف ، واصطلاحا : ما قال الوصي» أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه لمن سأله عن التّوحيد والعدل فقال : (التّوحيد أن لا تتوهّمه «والعدل أن لا تتّهمه») أي الباري تعالى وهذا الكلام من أفصح القول وأبلغه وأجمعه للمعاني وأوضحه ألا ترى كيف أحاط عليه‌السلام بحقيقة التوحيد والعدل في هذا اللفظ القريب وأتى في ذلك منه بأعجب عجيب إذ لا توحيد لمن توهم الله سبحانه ولا يوصف بعدل من اتهمه جل وعلا في فعله.

(فصل)

«في حقيقة الحسن والقبيح مطلقا» أي عقليّا أو شرعيّا.

«الحسن ما لا عقاب عليه» سواء كان واجبا أو مندوبا أو مباحا وهذا أحسن حدوده.

«والقبيح ضده» وهو ما يعاقب عليه فاعله ويزاد فيه على بعض الوجوه ليدخل في القبيح صغائر الذنوب والقبائح الواقعة من الصبيان (٢) والمجانين فإنها توصف بالقبح عند بعضهم ولا عقاب عليها وهذا أيضا أحسن حدوده لوضوحه وقل ألفاظه وعلى هذا لا واسطة بين الحسن والقبيح.

قال عليه‌السلام : «قال أئمتنا عليهم» «السلام وموافقوهم» من الزيدية والبصرية من المعتزلة «لا يقبح الفعل» عقليّا كان أو شرعيّا «إلّا لوقوعه على وجه من الظلم ونحوه» كالكذب والعبث والجهل وكفر النّعمة.

قال النجري : وضابطه أن نقول : الوجه الذي إذا وقع عليه الفعل كان قبيحا إما أن يكون من حيث تعلّقه بغيره أو من حيث الفعل نفسه.

فالأول الكذب والجهل إذ وجه قبحهما كون متعلّقهما لا على ما هو به ،

__________________

(١) في بعض النسخ لقولهم بالعدل.

(٢) في نسخة المؤلف الواقعة من الصبيان (ومن لا عقل له).

٢٠٦

والثاني لا يخلو إمّا أن يكون عدم الغرض في الفعل وهو العبث أو كان ضررا خالصا وهو الظلم.

فإن قيل : فيقبح الظن الذي متعلّقه لا على ما هو به لحصول علّة القبح.

قلنا له مقتض وهو الأمارة بخلاف الكذب والجهل انتهى.

ولعل كفر النعمة خارج عن هذا التقسيم لأنه يتعلق بغيره وليس متعلقه لا على ما هو به.

وأيضا : فإن الجهل والكذب إنما قبحا (١) لكونهما صفة نقص لا لكون متعلقهما لا على ما هو به والله أعلم.

وكذلك القبيح الشرعي كالزنا وشرب الخمر فإنه لا يقبح إلّا لوقوعه على وجه إمّا كونه (٢) مفسدة عند المعتزلة ، أو كونه (٣) مؤديا إلى كفران النعمة لمخالفته أمر المالك المنعم عند قدماء أئمة أهل البيت عليهم‌السلام.

وإنما كان حد الحسن والقبيح ما ذكرنا «إذ الأصل في مطلق الأفعال» أي الأفعال التي ليس لها جهة قبح ولا حسن ظاهرين فالأصل فيها «الإباحة» كالتمشّي في الأرض وتناول الأحجار والأشجار التي لا ملك لأحد فيها.

وقال بعض «البغدادية» وهو أبو القاسم البلخي ومن وافقه «وبعض الإمامية» وبعض «الفقهاء» المراد بالفقهاء : الشافعية والحنفية والمالكية والحنبلية وهذه رواية صاحب الفصول عنهم «بل» إنما يقبح الفعل «لعينه» أي لذاته وجنسه ، قالوا : «لأن الأصل في مطلقها الحظر» أي المنع.

قال النجري : وقد تؤوّل كلام البغدادية بأن معنى كون القبيح (٤) مثلا ذاتيّا للظلم أنه لا يقع ظلم إلّا وهو قبيح وكذلك الكذب وسائرها فهو ذاتي لما قد حصل فيه وجه القبح لا لمجرد ذات الفعل.

__________________

(١) (ض) قبحهما.

(٢) (ض) لكونه.

(٣) (ض) لكونه.

(٤) (أ) القبح.

٢٠٧

ومثله ذكره الإمام يحيى عليه‌السلام حيث قال : لا يخلو قولهم من أوجه ثلاثة : إمّا أن يريدوا بذلك أنه لا يتغيّر قبحه بحسب حال فاعله خلافا لما يقوله هؤلاء الأشعرية فهذا لا ننكره وهو خلاف في عبارة.

وإما أن يكون مرادهم أن قبح القبيح إنما هو لأمر يخصّه ووجه يقع عليه من غير أن يكون المؤثر أمرا خارجا عن ذاته من فاعل أو علّة فهذا جيّد لا ننكره ، وغالب ظني أن مراد أبي القاسم هو هذا الوجه فإنّ وجوه القبح والحسن ظاهرة جلية لا تغيب على مثله لتقدّمه في الفضل.

وإما أن يكون مرادهم هو أن القبح مضاف إلى ذات القبيح وعينه فهذا فاسد لأن المثلين قد يكون أحدهما قبيحا والآخر حسنا.

ومن حق ما كان ثابتا للذّات لا يختلف فيه الأمثال ، وقد يكون المختلفان مشتركين في حكم هذه الأحكام (١) فكان يلزم أن تكون متماثلة فبطل إسناد هذه الأحكام إلى الذّات انتهى.

«قلنا» في الرّد على المخالف : «لا تذم العقلاء من تناول شربة» من ماءغير محاز أو تمشى في الأرض «ولا تصوّب من عاقبه قبل معرفة إباحة الشرع» له ذلك فلو كان الأصل في مطلق الأفعال الحظر لذمّت العقلاء من تناول الشربة أو تمشّى في الأرض أو تناول الأحجار التي لا ملك لأحد فيها ، ولصوّبت من عاقبه لتعدّيه في الفعل قبل معرفة أذن الشرع وقالت «الأشعرية وبعض الشافعية» والكراميّة والكلابيّة من المجبرة : «بل» إنما يقبح الفعل «للنّهي» أي لنهي الشارع (٢) فالقبائح كلها عندهم شرعيّة قالوا : «إذ لا يعلم حسن الفعل ولا قبحه» من العقل بل من الشرع تقريرا لمذهبهم في الجبر وأن العبد عندهم غير مختار في فعله.

«لنا» عليهم «ذم العقلاء الظالم والكذّاب وتصويبهم من عاقبهما» وقد تقدّم بسط الكلام في ذلك في فصل التحسين والتقبيح «و» لنا في الاستدلال على أن الفعل لا يقبح إلّا لوقوعه على وجه وأن الأصل في مطلق الأفعال

__________________

(١) (ض) في حكم من هذه الأحكام.

(٢) (ض) لنهي الشارع عنه.

٢٠٨

الإباحة «عدم ذينك» أي الذم وتصويب (١) المعاقبة «في» حق «من تناول شربة من ماء غير محاز» أو استظلّ تحت شجرة أو نحو ذلك.

وأيضا : فإن القبح قد يعلمه من لا يعلم النهي كالملحدة فإنهم لا يعلمون النّاهي فضلا عن النهي.

وأيضا : فإن الملحد وغيره ممن لا يعلم النهي لو رأى صبيا يريد أن يتردّى في بئر أو في نار أو يمدّ يده ليلزم حيّة لاستحسن منعه من ذلك واستقبح تركه إيّاه وإن لم يكن له برحم وإنكار ذلك سفسطة.

وقالت «الإخشيدية» من المعتزلة : «بل» إنما يقبح الفعل «للإرادة» المتعلّقة به من جهة فاعله أي لإرادة القبيح.

قيل : وهو دور لأنّ الإرادة إنّما تقبح لقبح المراد فكيف يقبح المراد لقبح الإرادة وفيه نظر.

وشبهتهم : أن الكذب إنما يكون كذبا بإرادة الإخبار عن الشيء لا على ما هو به.

«قلنا : العقل يقضي باستقباح الإضرار» بالغير «ولو صدر» ذلك الإضرار «من غير مريد» للإضرار به كمن يذبح غيره مريدا به معرفة حد شفرته فقط ونحو ذلك يعلم ذلك من العقل «ضرورة» أي بضرورته.

وأيضا فإنّ إرادة القبيح قبيحة بالاتفاق فلو كان القبيح لا يقبح إلّا للإرادة لاحتاجت الإرادة إلى إرادة وتسلسل وهو محال ، وأما أنّ الكذب إنما يكون كذبا بالإرادة فغير صحيح لأن الكذب يكون كذبا بمخالفته الواقع من دون إرادة ولا تأثير للإرادة إلّا في حصول الإثم وعدمه فهو كالضرر الحاصل من المجانين ونحوهم يطلق عليه اسم القبيح ولا يستحق فاعله عقابا.

وقال «بعض المجبرة بل» إنما يقبح الفعل «لأنّ الفاعل مربوب» أو عبد مملوك.

__________________

(١) (ض) وتصويب العقلاء المعاقبة.

٢٠٩

«قلنا : يلزم أن يفعل الله تعالى» القبائح من «نحو الكذب» والظلم وغيرهما وهم يلتزمونه ولا يسمونه ظلما ولا قبيحا «لأنه تعالى غير مربوب» وحينئذ «فلا وثوق بخبره» لجواز أن يكون كذبا «وذلك كفر شرعا» أي بحكم الشرع «لردّه» أي لأن هذا القول يردّ «ما علم من الدين ضرورة» من كون خبره صدقا لا ريب فيه ، ومن ردّ ما علم أنه من الدين ضرورة فلا شك في كفره إجماعا.

قال «أئمتنا عليهم» «السلام وموافقوهم :» كأبي عبد الله البصري وغيره : «ويحسن الفعل» عقليّا كان أو شرعيّا «إذا عري عن وجه القبح» إذ لا واسطة بين القبيح والحسن وقال أبو علي وأبو هاشم : يحسن الفعل لوقوعه على وجه وهو كونه للنفع أو لدفع الضرر أو الاستحقاق.

قال الإمام يحيى عليه‌السلام : وهذا الخلاف عندي ليس له جدوى ولا فيه فائدة فإنهم متفقون من جهة المعنى لأن الشيخين أبا علي وأبا هاشم يعتبران أنه لا بد من وجه يحسن الفعل لأجله ويشترطان فيه أنه لا يضايفه وجه قبح ولهذا قالا : إن القبح والحسن متى اجتمعا في فعل فالغلبة للقبح وهذا بعينه قول الشيخين أبي عبد الله وأبي إسحاق وقاضي القضاة فإنهم يعتبرون أنه لا بدّ فيه من غرض يتعرّى به عن سائر وجوه القبح فثبت بما ذكرنا أنه لا نزاع بينهم من جهة المعنى انتهى.

وقال بعض «البغدادية» من المعتزلة» وموافقوهم» من سائر الفرق «والمجبرة» جميعا : «بل» إنما يحسن الفعل «لإباحة الشرع» الفعل «في حق العبد» ولا حكم للعقل في تحسين ولا تقبيح كما سبق ذكره وتكرر.

وقد عرفت بما تقدم أن كلام البغدادية إنما هو في مطلق الأفعال التي ليس لها جهة حسن ولا قبح ظاهرين كما مرّ ، لأنهم لا يخالفون أن ابتداء الإحسان وصنائع المعروف حسنة بحكم العقل من غير نظر إلى أذن الشرع وإباحته.

وأما في حق الله تعالى فقالت «الأشعرية» ويحسن الفعل «لانتفاء النهي في حق الله تعالى».

٢١٠

قالوا : فلمّا كان تعالى هو الآمر النّاهي ولا يأمره تعالى ولا ينهاه أحد كانت أفعاله كلها حسنة وقد تقدمت رواية السيد الشريف عن أكثر الأشعرية أن القبيح عندهم ما نهى عنه الشرع والحسن بخلافه فعلى هذا يكون ما سكت عنه الشرع حسنا عندهم والله أعلم.

وقال «بعض المجبرة : بل» يحسن الفعل منه تعالى «لكونه ربّا» فله أن يفعل في المربوب ما شاء وهذا «في حقه تعالى» وأما في حق العبد فلإباحة الشرع كما سبق.

وقالت «المجبرة جميعا» ويفعل الله تعالى عن ذلك نحو الكذب» وسائر المقبّحات عموما ، قالوا : ولا يقبح ذلك منه.

واختلفوا في العلّة على حسب اختلافهم في قبح الفعل من العبد : فقيل : «لعدم النهي» وهذا «عند الأشعرية، وقيل : لكونه ربّا» وهذا «عند غيرهم» أي غير الأشعرية وهم القائلون : بأن الفعل يقبح من العبد لكونه مربوبا.

ولقد أعظموا قاتلهم الله الفرية على الله جل وعلا حيث جعلوا القبائح مستقبحة عندهم من المخلوق الذي يفعلها لحاجته وشهوته ولم يجعلوها قبيحة في حق الخالق الذي لا تجوز عليه الحاجة ولا الشهوة ولا يفعل خلاف ما تقتضيه الحكمة تعالى الله عمّا يقولون علوّا كبيرا.

«قلنا :» ردّا عليهم : «لا يفعل الله» عزوجل «ذلك» الذي افتريتموه على الله تعالى كذبا من الكذب ونحوه «لكونه صفة نقص» في غيره (١) تعالى فكيف في حقه «تعالى الله عنها ويلزم أن لا يوثق بخبره» تعالى لتجويز كونه كذبا «وذلك تكذيب لله تعالى حيث يقول» في كتابه الكريم (الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ) (٢) وقوله تعالى» في وصفه (٣) كتابه الكريم : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِه «تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (٤) ومن سبّ الله

__________________

(١) (ض) في حق غيره تعالى.

(٢) البقرة (١ ، ٢).

(٣) (نسخة) في صفة (ض) في وصف.

(٤) فصلت (٤٢).

٢١١

أو كذّبه أو ردّ آية من كتابه كفر إجماعا.

(تنبيه) قد تقدمت الإشارة إلى أن وجه قبح القبيح الشرعي كوجه قبح القبيح العقلي ، ووجه حسن الحسن الشرعي كوجه حسن الحسن العقلي ولم نبسط فيه الكلام فحسن البسط في ذلك لوقوع خلاف بعض المعتزلة وغيرهم في ذلك فنقول :

وجه قبح القبيح الشرعي كالزنا وشرب الخمر عند قدماء أئمتنا عليهم‌السلام هو كونه كفرا لنعمة المنعم وكفران النعمة قبيح عقلا بيانه : أن امتثال أمر المالك المنعم واجب عقلا لمكان نعمته فامتثال أمره شكر لنعمته إذ الشكر يكون باللسان والجنان والأركان ، وإذا ثبت ذلك ثبت أن ترك امتثال أمره وعصيانه يكون كفرا.

وعلى مثل هذا يكون وجه حسن الحسن الشرعي كالصلاة والصيام وهو كونه شكرا للمالك المنعم بامتثال أمره ، وإلى مثل هذا الذي ذكرناه في القبيح الشرعي والحسن الشرعي ذهب أبو القاسم البلخي وطائفة من البغداديين حكاه عنهم القاضي عبد الله بن زيد العنسي في المحجة البيضاء قال :

ويظهر كثيرا في كلام أصحابنا البصريين : أن العبادات شكر لنعم الله تعالى ، قال : وهو قول الطائفة الكثيرة من أهل البيت عليهم‌السلام انتهى.

وحكى أبو مضر عن أهل البيت عليهم‌السلام أنهم يقولون (١) إن الشرعيات من العبادات ونحوها وجبت عقلا كالعقليّات سواء والسمع إنما كان شرطا للأداء لا للوجوب ذكره في شمس الشريعة وهو معنى كونها وجبت شكرا.

وقال القاسم بن إبراهيم عليه‌السلام : إن الله خلق عباده العقلاء المكلفين لعبادته ، قال : والعبادة تنقسم إلى ثلاثة وجوه :

أولها : معرفة الله سبحانه.

والثاني : معرفة ما يرضيه وما يسخطه.

__________________

(١) (أ) ناقص انهم يقولون.

٢١٢

والثالث : اتباع ما يرضيه.

فهذه الثلاثة كمال العبادة ، وجميع العبادات غير خارجة عنها فمعرفته عبادة لمن ضاق عليه الوقت انتهى.

وقال بعض المعتزلة ومن وافقهم من المتأخرين : إن وجه قبح القبيح الشرعي (١) هو كونه مفسدة في التكاليف العقلية.

قالوا : والمفسدة ما يكون المكلف معه أقرب إلى فعل القبيح وترك الواجب وقال أبو علي من رواية النجري عنه : بل وجه قبحه كونه ترك لطف ومصلحة.

قال النجري : وهذا بناء منه على مذهبه أن التروك أفعال وأن أحدنا لا يخلو من فعل إما الشيء وإما ضده وهو تركه.

ووجه حسن الحسن الشرعي عندهم كونه لطفا ومصلحة في التكاليف العقلية قالوا : واللّطف ما يكون المكلف معه أقرب إلى فعل الواجبات العقليّة وعدم الإخلال بها.

وأما المندوب فوجه ندبه كونه مسهّلا للواجبات العقلية (٢) وليس لطفا فيها وإلّا لوجب.

وأمّا المكروه : فإنما كره لكون تركه مسهّلا لترك القبائح وليس فعله مفسدة فيها وإلّا لقبح.

وبعض المعتزلة يعلل ندب المندوبات الشرعية بكونها ألطافا في فعل المندوبات العقلية وترك المكروهات العقلية.

ويعلل كراهة المكروهات الشرعية بكونها مفاسد في فعل المندوبات وترك المكروهات العقلية.

__________________

(١) (ض) القبيح العقلي.

(٢) (أ) ناقص العقلية.

٢١٣

والجواب عليهم : ما مرّ في وجوب معرفة النظر وما سيأتي إن شاء الله تعالى في النبوءات (١).

(فصل)

قالت «العترة» عليهم‌السلام «وصفوة الشيعة» أي الزيدية منهم «والمعتزلة والقطعية» وهم فرقة من الإمامية يقطعون بموت موسى بن جعفر عليه‌السلام ويقولون : إن الأئمة بعد الحسين عليه‌السلام من ولده وأنهم اثنا عشر إماما فقط وهم :

علي بن أبي طالب عليه‌السلام والحسن والحسين وولده علي وولده محمد وولده جعفر وولده موسى وولده علي وولده محمد وولده علي وولده الحسن العسكري وولده وهو المنتظر وهو الحجة بزعمهم محمد بن الحسن العسكري وقد مات الحسن العسكري سنة ستين ومائتين (٢٦٠ ه‍) ولم يخلف ولدا.

فقال هؤلاء : «وللعبد فعل يحدثه على حسب إرادته» وداعيه لا يشاركه الله تعالى في ذلك وذلك معلوم بضرورة العقل بل يعلمه الصبيان وغيرهم.

وقالت «المجبرة جميعا : لا فعل له» أي للعبد ومن هنا أطلق عليهم اسم الجبر فيقال لهم : مجبرة لقولهم إن العبد مجبر على فعله أي مكره عليه لا اختيار له فيه ، ثم اختلفوا :

فقالت «الصوفيّة والجهمية» أصحاب جهم بن صفوان : لا فعل للعبد ولكن «يخلقه الله فيه» فالعبد عندهم كالشجرة التي تتحرك بتحريك الله سبحانه وإرادته ونسبة الفعل إليه كنسبة الطول والقصر والسواد والبياض.

وقالت «النجارية» وهم فرق كثيرة من المجبرة بناحية الرّيّ منسوبون إلى الحسين بن محمد النجار «والكلابية» فرقة منهم منسوبون إلى عبد الله بن سعيد بن كلّاب «والأشعرية» فرقة منهم (٢) منسوبون إلى عمرو بن أبي بشر الأشعري وقيل علي بن أبي بشر «والضرارية» أصحاب ضرار بن عمرو

__________________

(١) (ض) في كتاب النبوءات.

(٢) (أ) ناقص منهم.

٢١٤

«وحفص الفرد : بل الله تعالى يخلقه كذلك» أي في العبد فهو فعله تعالى «وللعبد منه كسب» فأثبتوا لفعل العبد جهتين : كونه خلقا لله وكونه كسبا للعبد لما رأوا من بطلان قول الصوفية والجهمية والفرق الضروري بين أفعالنا وألواننا ونحوها ولكنهم أثبتوا ما لا يعقل فكانوا أعظم جهلا.

وربّما قالت الأشعرية في المتولّد كقول الجهمية ، وفي المباشر كقول النجارية حكى هذا عنهم النجري.

قال : وأمّا متأخرو علمائهم كالجويني والغزالي والرازي والأسفرائيني فذهبوا إلى أن قدرة العبد هي المؤثرة لكنهم جعلوها موجبة مقارنة فلزمهم نسبة الأفعال إلى الله سبحانه لأن فاعل السّبب فاعل المسبّب وذلك فرار عمّا لزم الأولين ولم يوصلهم ذلك الفرار إلى ملجأ ولا منجى «قلنا :» ردّا على المخالف في المسألة : «حصوله» أي فعلنا منّا بحسب دواعينا وإرادتنا» له وانتفاؤه بحسب صوارفنا عنه وكراهتنا له «معلوم» عند كل عاقل «ضرورة» أي بضرورة العقل وذلك «عكس نحو الطول والقصر» والسواد والبياض فإن ذلك لا يقف على اختيارنا ولا إرادتنا وكراهتنا (١) «و» لنا من السمع «قوله تعالى (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) (٢) فنص تعالى على أن العمل من العباد بحسب مشيئتهم ولذلك توعّد جل وعلا وتهدّد عليه «ونحوها» كثير من القرآن نحو قوله : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً) (٣) وهو مملوء من نحو «خبير بما تعملون ، وتصنعون».

«و» لنا على المخالفين أنه «يلزم» من قولهم ذلك «أن يجعلوا الله تعالى علوّا كبيرا كافرا لفعله الكفر وكاذبا لفعله الكذب ونحو ذلك» من القبائح التي افترتها المجبرة على الله سبحانه من أفعال عبيده ويجعلوا نحو الكافر والكاذب» ومرتكب سائر القبائح «أبرياء من ذلك لعنوا بما قالوا» أي لعنهم الله والملائكة والناس أجمعون بنسبة القبائح إلى الله تعالى وتنزيه أنفسهم عنها ، والمجبرة في هذه المسألة يكابرون عقولهم وينكرون الضرورة كقولهم في

__________________

(١) (ث) ولا كراهتنا.

(٢) فصلت (٤٠).

(٣) المؤمنون (٥١).

٢١٥

التحسين والتقبيح العقليين لتلازم هاتين المسألتين.

روي أن الإمام الهادي عليه‌السلام لما دخل صنعاء اجتمع لمناظرته سبعة آلاف فقيه منهم ، واختاروا منهم سبعمائة فقيه وكبيرهم النّقوي ، فلما حضروا للمناظرة قال النقوي للهاديعليه‌السلام :

يا سيدنا : ما تقول في المعاصي؟

فقال الهادي عليه‌السلام : (ومن العاصي؟).

فلم يجبه النقوي بشيء وبقي متحيّرا فلامه أصحابه بعد ذلك فقال :

إن قلت الله كفرت ، وإن قلت العبد خرجت من مذهبي.

ثم ثبت الحكم في صنعاء بعد ذلك بمذهب أهل العدل.

«ويلزم» من إفكهم ذلك «بطلان الأوامر والنواهي» من الله تعالى «وإرسال الرسل» إلى المكلفين «لأنه لا فعل للمأمور» بزعمهم فكيف يحسن أمر من لا يستطيع الفعل ونهيه؟

وكيف يحسن إرسال الرسل وإنزال الكتب مع ذلك؟

«والكل» مما اعتقدوه ولزمهم «كفر» لا ريب فيه.

«قالوا : قال الله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) (١) وجعلوا ما مصدريّة أي والله خلقكم وعملكم.

«قلنا :» ليس كما زعمتم «بل معناه : والله خلقكم والحجارة التي تعملونها» وتنحتونها «أصناما لكم» تعبدونها من دون الله فكيف تعدلون عن عبادة الله ربكم إلى عبادة الحجارة التي تعملونها أنتم بأيديكم أصناما وتصورونها بزعمكم آلهة هذا من أحول المحال أن تصنعوا لكم أربابا بأيديكم وهي من الحجارة والخشب التي خلقها الله تعالى غير أصنام.

«بدليل أول الكلام وهو قوله تعالى : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) أي : أتوجهون العبادة لما تصنعونه بأيديكم وهذا إنكار عليهم فلو كان النّحت والعبادة فعل الله لما تمّ الإنكار عليهم ولاستقامت لإبراهيم عليه‌السلام حجة

__________________

(١) الصّافات (٩٦).

٢١٦

على الكافرين ، وكيف ينكر عليهم ما هو من فعل الله سبحانه ، فثبت أن لفظ (ما) في الموضعين بمعنى الذي.

وقال أبو عثمان عمرو بن بحر «الجاحظ : لا فعل للعبد إلّا الإرادة» له فقط «وما عداها» (١) مباشرا كان أو متولدا «متولد بطبع المحل» أي محل الفعل فلا تأثير لله ولا للعبد فيه فلا مباشر عنده إلّا الإرادة فقط وجميع الأفعال عنده متولدة بطبع المحل.

وقال إبراهيم بن سيار «النظام : ما خرج عن محل القدرة ففعل الله تعالى» لكن لم يفعله الله ابتداء بل «جعله طبعا للمحل» فهو فعله تعالى بواسطة ذلك الطبع ، قال : فطبع الحجر صلوحيّته للاندفاع وقبوله للذهاب في الجهة فذلك الذهاب هو فعل الله بواسطة ذلك الطبع الذي هو الصلوحية ، وما وقع في محل القدرة وهو المباشر سواء كان بواسطة كالعلم أم لا ففعل العبد.

وقال صالح قبّة من المعتزلة : إن جميع ما خرج عن محل القدرة لا تأثير للعبد فيه ولا للمحل وإنما هو فعل الله يبتديه وإنما ينسب إلى العبد لوقوعه بواسطة فعله عادة كالاحتراق في النار عقيب الإلقاء فيها مع كون الإحراق من الله تعالى اتفاقا.

وقال «ثمامة» بن الأشرس من المعتزلة : «ما ذكره النظام» وهو ما خرج عن محل القدرة «حدث لا محدث له» ليس من فعل الله ولا فعل (٢) العبد والعجب منه كيف أثبت صنعا من غير صانع ولم يثبت ذلك كثير من الملحدة.

«قلنا» ردّا على الجميع : «لو كان» الأمر «كذلك» أي كما زعم الجاحظ والنظام وصالح قبّة وثمامة «ما جاز القصاص رأسا» إذ الفعل عند الجاحظ مطلقا للطبع والطبع غير فاعل مختار وغير معقول ، وعند النظام القتل خارج عن (٣) محل القدرة لأن محل القدرة اليد فهو فعل الله بزعمه بواسطة الطبع.

__________________

(١) (ض) وأمّا ما عداها.

(٢) (ض) ولا من فعل العبد.

(٣) (ض) من محل القدرة.

٢١٧

وعند صالح قبّة فعل الله بلا واسطة ، وعند ثمامة هو قتل من غير قاتل ، وكل هذه الأقوال توجب عدم القصاص وذلك باطل معلوم بالضرورة «ولا العقاب» للقاتل ونحوه «إلّا على» مجرد «الفعل الذي هو الإرادة» عند الجاحظ «والمبتدأ فقط» عند النظام وصالح قبة وثمامة.

«وإن سلّم» أي وإن التزموا ما ألزمناهم وسلمناه لهم على استحالته «لزم استواء عقاب من قتل زيدا وعقاب من أراد قتل عمرو» ولم يقع القتل إذ قد وقعت الإرادة التي هي فعل العبد في الموضعين وهو لا يعاقب إلّا عليها «و» حينئذ يجب إمّا «الاقتصاص منهما» جميعا أو عدمه منهما كما مرّ «وكذلك» يلزم استواء عقاب «من قتل بالمتولد» من الأفعال «ومن فعل فعلا» مباشرا «غير متولّد ولم يقتل به» أي بغير المتولد «وذلك باطل» قطعا قال الإمام يحيى عليه‌السلام في الشامل : ولنا في الدلالة على أن هذه الأفعال المتولدة من فعلنا : طريقان :

الأولى : دعوى الضرورة بأن هذه الأفعال نحو الكتابة والرّمي والقتل وما أشبهها أفعال لنا وهذه طريقة الشيخ أبي الحسين والخوارزمي قال : وهو المختار ، قال : ويتضح كونه ضروريّا بوجوه أربعة :

الأول : أنها واقعة (١) على حسب قصودنا ودواعينا ومنتفية بحسب كراهتنا وصارفنا.

وثانيها : أنها واقعة على حسب قدرنا في القلة والكثرة.

وثالثها : أنها واقعة على حسب آلاتنا ولهذا فإن الواحد منّا متى كان له يد فإنه يتأتى منه الكتابة ومتى انقطعت يده فإنه يتعذّر منه تحصيلها وهكذا القول في الرجل فإنها آلة المشي والقوس فإنها آلة الرمي.

ورابعها : أن العقلاء يستحسنون الأمر بالكتابة والرمي وينهون عنهما وكل هذه الأمور توضح أن العلم بكونها أفعالا (٢) لنا ضرورة (٣) ... إلى آخر ما ذكره عليه‌السلام تركته اختصارا.

__________________

(١) (أ) واقفة في الثلاثة المواضع.

(٢) (ض) بكونها أفعالنا.

(٣) (أ) توضح أن العلم بكوننا محدثين لها ضروري.

٢١٨

قال : واعلم : أنه لا عجب من المجبرة في القول بأن هذه الأفعال المتولدة من فعل الله تعالى مع قولهم بالجبر والتزامهم له ، إنما العجب من هؤلاء الجماهير من المعتزلة مع اعتزائهم إلى الفئة العدلية واعترافهم بالاختيار وكونهم خصوما للمجبرة في كل مقام : كيف قالوا بهذه المقالة ووقعوا في عميقات هذه الجهالة وكرعوا في آجن هذه الضّلالة ... إلى آخر كلامهعليه‌السلام.

وقال «ابن الولهان : فعل المعصية ليس من فعل العبد بل من الشيطان يدخل في العبد فيغلبه على جوارحه ويتصرف فيها» على حسب إرادته ولا فعل للعبد فيها رأسا.

«قلنا : لو كان ذلك لم يجز العقاب عليها لأنّ ذلك» أي العقاب حينئذ «ظلم والله سبحانه يقول : (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) (١) ، (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) (٢) أي لا يحمل مذنب ذنب مذنب آخر فكيف يعاقب العبد على فعل غيره ، مع أن مداخلة الشيطان للإنسان وتغلّبه على جوارحه يكون مغالبة لله سبحانه في فعله وأمره وذلك من أحول المحال.

واعلم : أن الداعي ليس شرطا في وجود الفعل من جهة فاعله بل يصح وقوعه من جهة القادر لا الداعي وقد بسطنا الكلام في ذلك في الشرح.

(فصل)

«وأفعال الله سبحانه أفعال قدرة لا غير» أي ما أراده الله جل وعلا كان ووجد وثبت من غير واسطة شيء.

فأفعاله عزوجل هي مخلوقاته لا فعل لله سبحانه غيرها من حركة ولا عرض يخلق بهما المخلوقات ولهذا قال عليه‌السلام «وهي نفس المفعول عرضا كان» ذلك المفعول «أو جسما أو إفناء» أي إعدام الأشياء بخلاف فعل غيره تعالى فإنّما هو حركة أو سكون فقط.

وقالت «البصرية و» أحمد بن محمد بن عبد الرحمن «البرذعي ومحمد بن

__________________

(١) الكهف (٤٩).

(٢) فاطر (١٨).

٢١٩

شبيب» وهما من المعتزلة : «بل» الله تعالى يحدث الجسم» بعرض يسمونه إرادة بها يوجد المراد «و» كذلك الإفناء فإنه بزعمهم «يفنيه بعرض» يسمونه الفناء يخلقه الله لإفناء الجسم وإعدامه ثم اختلفوا :

فقالت «البصرية» وذلك العرض «لا محلّ له» أي لا يحل في شيء قالوا : ليكون وجوده على حدّ وجود العالم لا في محل.

وقال «ابن شبيب» بل : «يحل في العالم» في الوقت الأول «عند فنائه ، ويذهب» في الوقت الثاني.

وقال «أبو الهذيل» محمد بن الهذيل : «بل» الله يوجد الجسم أو يفنيه «بقوله كن» وبقوله افن اغترارا بظاهر قوله تعالى : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (١) وقاس عليه الفناء. «قلنا :» ما ذكرتموه باطل قطعا لا دليل عليه من عقل ولا سمع ولأنه «يستلزم الحاجة» على الله تعالى «إليه» أي إلى ذلك العرض «لإحداث الأجسام» وإفنائها والله سبحانه لا تجوز عليه الحاجة ، «وإن سلّم» لهم ما ذكروه من المحال «فلا يعقل عرض لا محلّ له» وما لم يعقل ولم يقم عليه دليل وجب نفيه.

فإن قيل : قد ثبت أن العالم لا في محل فيكون هذا العرض مثله.

قلنا : قد ثبت بالدليل القطعي حدوث العالم وكل شيء سوى الله وكان الله ولا مكان فاستحال أن يخلق الله العالم في مكان ، إذ لو كان العالم في مكان لاستحال حدوثه ولاحتاج المكان إلى مكان والمكان الآخر إلى مكان وتسلسل وهو محال.

وأما ما قاله أبو الهذيل : من أنه يوجد الجسم أو يفنيه بقوله كن أو افن فليس على ما توهّمه بل «القول» الذي ذكره الله تعالى في الآية تمثيل «عبارة عن إنشائه تعالى للمخلوق» وإحداثه له في أسرع من طرفة عين من غير أن يكون هناك قول مقول فعبّر الله سبحانه وتعالى عن ذلك بما يفهمه المخاطب من امتثال أمر الآمر المطاع وحصول مراده عقيب قوله : افعل من غير تراخ.

__________________

(١) يس (٨٢).

٢٢٠