عدّة الأكياس في شرح معاني الأساس - ج ١

أحمد بن محمّد بن صلاح الشرفي القاسمي

عدّة الأكياس في شرح معاني الأساس - ج ١

المؤلف:

أحمد بن محمّد بن صلاح الشرفي القاسمي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الحكمة اليمانية للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٤
الجزء ١ الجزء ٢

عرضا وإيجاده من العدم كما ذلك في حكم المعلوم بضرورة العقل مثل المشاهدات من السحاب والمطر والأشجار وغير ذلك.

وقال «بعض صفوة الشيعة وبعض المعتزلة» كالشيخ أبي هاشم وأبي عبد الله وقاضي القضاة وغيرهم : «بل يجب ثبوتها» أي ثبوت ذوات ذلك المعلوم والمقدور في العدم.

قالوا : «ليصح تعلق العلم والقدرة بها» أي بالذوات المعدومة «إذ لو لم تكن ثابتة» في العدم «لم يكن الله عالما ولا قادرا» لاستحالة تعلق العلم والقدرة بزعمهم بالمعدوم.

«قلنا :» قولكم ذلك «يستلزم الحاجةعلى الله سبحانه وتعالى» إلى ثبوت ذلك في الأزل ليصح علمه وقدرته عليها «وقد مر بطلانها» أي الحاجة على الله سبحانه إذ هو الغني عن كل شيء «فلزم بطلان ما يستلزمها» وهو ثبوت الذوات في العدم «ولا فرق أيضا بين الثبوت والوجود في اللغة العربية» علم ذلك بالاستقراء وتناقض قول القائل : ثبت ولم يوجد ، أو وجد ولم يثبت «فلو كان لفظ ثابت يطلق عليها في الأزل حقيقة كما زعموا لكان لفظ موجود كذلك» أي يطلق عليها في الأزل أي في العدم «ولكانت» حينئذ «لا أول لوجودها» كما زعموا أنه لا أول لثبوتها «وبطلان ذلك متفق عليه» منا ومنكم إلّا من أنكر حدوث العالم ، «وأيضا» فإنا نقول إن «علم الله متعلق بصفة ما سيكون الوجودية» أي الصفة الوجودية لأن الله تعالى يعلم صفات المعدوم كما يعلم ذاته (١) وهذا لا يمكن دفعه ، وقد زعمتم أنه يستحيل تعلق علم الله سبحانه بالمعدوم.

«فلو كان» تعلق علم الله تعالى بالمعدوم «يوجب الثبوت لزم أن يكون ما سيكون» من الذوات المعدومة «موجودا في الأزل لثبوت صفته الوجودية لصحة تعلق العلم بها كالذوات» سواء فكما أن تعلق العلم بالذّات يوجب ثبوتها بزعمكم في العدم كذلك تعلق العلم بصفة الذات «لعدم الفرق» بين الذات وصفتها في ذلك «وذلك معلوم البطلان عند الجميع».

__________________

(١) أي كما يعلم ذات المعدوم تمت.

١٦١

فإن قالوا : إن الله سبحانه لا يتعلق علمه بصفة ما سيكون الوجودية وأنه لا يعلم هذه الصفة إلّا من بعد وجوده.

قلنا : هذا هو المحال وهو أن يعلم الذات ولا يعلم صفتها الوجودية (١) فإن من علم الذات علم صفتها الوجودية قطعا (٢) لأنه يستحيل تعقل الذات خالية عن صفتها الوجودية ، كما يستحيل تعقل الصفة خالية عن الموصوف.

وأيضا : فيلزم أن يكون الله تعالى جاهلا حيث لا يعلم صفته الوجودية قال «الإمام الحسن بن علي بن داود» بن الحسن بن علي بن المؤيد «عليهم‌السلام : ليس مرادهم ثبوتها» في العدم «إلّا تصورها» للعالم بها والقادر عليها أي تخيل صورتها وتمثيلها ليصح القصد إلى تلك الصورة كما أن العمّار لا يعمر إلّا ما قد تخيله وتصوّره.

قال عليه‌السلام : «قلت : وفيه» أي ما ذكره الإمام الحسن بن علي «نظر» لأنه خلاف ظواهر أقوالهم في ذلك أو لأن هذا الحمل وإن كان مرادهم غير مخلص لهم «لأن علم الله سبحانه» وتعالى للمعلومات «ليس بتصور» لأنّ التصور هو تخيل صورة الشيء وتمثيلها في الذهن فهو عرض يختص بالمحدثين والله سبحانه يتعالى عن ذلك ، ويتفرع على هذه المسألة تسمية المعدوم شيئا فمن أثبت الذوات في العدم سمّى المعدوم شيئا حقيقة ، ومن لا فلا يسميه شيئا حقيقة بل مجاز كقوله تعالى : (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) (٣) ويدل على هذا قوله تعالى : (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) (٤) وقوله : (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) (٥) وغير ذلك من آي القرآن.

وقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : «كان الله ولا شيء» ، وروي عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم في بعض خطبه : «إن الله مشيّئ الأشياء».

__________________

(١) (أ) ناقص الوجودية.

(٢) (أ) ناقص قطعا.

(٣) الحج (١).

(٤) مريم (٩).

(٥) مريم (٦٧).

١٦٢

«باب الاسم والصفة»

إنما جرت عادة أهل علم الكلام بذكر الاسم والصفة لما يتعلق بهما من أسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته.

والاسم في اللغة وهو المراد هنا : ما صح إطلاقه على ذات سواء كان اسما نحويّا كزيد أو فعلا نحويّا كضرب ويضرب.

وأما حد الإمام عليه‌السلام للاسم فإنما هو باعتبار اصطلاح أهل النحو فقال : «هو كلمة تدل وحدها على معنى غير مقترن بزمن وضعا» فقوله كلمة تعم الاسم والفعل والحرف ، والمراد بالكلمة هنا اللفظ الموضوع ، وقوله تدل (١) وحدها يخرج الحرف فإنه يدل على معنى لا مستقلّا بنفسه ، وقوله غير مقترن يخرج الفعل ، ويخرج بقوله وضعا نعم وبئس ونحوهما من سائر الأفعال غير المتصرفة فإن أصل وضعها على الاقتران والبسط في هذا مذكور في كتب العربية «وهو» أي الاسم «غير المسمّى» إذ هو الدّال والمسمّى المدلول ، وأيضا : الاسم مقدور لنا والمسمّى قد لا يكون مقدورا لنا. وقالت «الكرامية» من المجبرة «ومتأخرو الحنفية : بل الاسم هو» نفس «المسمّى».

قال النجري : وإنما قالوا ذلك لأن أسماء الله تعالى عندهم قديمة فأوجب ذلك أن تكون هي نفس المسمّى وإلّا لزم تعدد القدماء وهو محال ، «قلنا : إذا» أي لو كان الاسم هو المسمّى كما زعمتم «لكان» الأمر كما قال الشاعر :

__________________

(١) قوله (تدل خرج المهملات ككادث ومادث وقوله وحدها) إلخ هذا موجود في بعض النسخ أصل وبعضها ساقط كما في نسخة المؤلف وغيرها.

١٦٣

«لو كان من قال نارا أحرقت فمه

لما تفوّه باسم النار مخلوق»

وكان يلزم أن من نطق بالعسل أن يجد حلاوته ومن نطق بالصبر وجد مرارته ، ويلزم أن يوجد جرم السماء والأرض في فم من نطق بهما. قال النجري هذا الذي ذكرتموه معلوم بضرورة العقل فكيف تنكره علماء الحنفية وكثير من علماء الشافعية.

قال : قلنا : المسمّى على ما ذكروه هو المفهوم المرتسم في الذهن ، والاسم على ما ذهبوا إليه هو الكلام النّفسيّ فمن ثمّ وقع بينهما الاشتباه لقيام كل منهما بالنفس على ما هو مبسوط في كتبهم انتهى.

«والصفة» في اللغة وهو المراد هنا : القول المتضمن لمعنى في الموصوف كالوصف وقد يراد بالصفة المعنى من غير نظر إلى القول قال طرفة بن العبد :

إنّي كفاني من أمر هممت به

جار كجار الحذاقي الّذي اتّصفا

أي صار موصوفا بحسن الجوار.

ويقال : العلم صفة لزيد والأعراض صفات للأجسام.

قال في الصحاح : وأما النحويون فليس يريدون بالصفة هذا لأن الصفة عندهم هي النعت ، والنعت هو اسم الفاعل نحو ضارب ، والمفعول نحو مضروب أو ما يرجع إليهما من طريق المعنى نحو مثل وشبه انتهى.

وأما الإمام عليه‌السلام فقد أراد بالصفة المعنى المصطلح عليه الكلامي والنحوي واللغوي على ما يتبين لك فقال : «لفظها مشترك» بين معان خمسة :

الأول منها : ما هو «عبارة عن ثبوت الذات على شيء» من الأشياء «نحو ثبوت الحيوان» على حياته ، فثبوت الحيوان على الحياة صفة له وهذا في اصطلاح بعض أهل علم الكلام ، وفي اللغة الحياة نفسها صفة للحيوان.

«و» الثاني : ما هو «عبارة عن شيء هو الذات» وذلك «نحو قدرة الله» وعلم الله وحياة الله وسمع الله وبصره وجميع صفاته فإنما هي هو جل وعلا لا غيره وهذا معلوم بالعقل لا باللغة والله أعلم.

١٦٤

«و» الثالث : ما هو «عبارة عن اسم» وضع «لذات باعتبار تعظيم» لتلك الذات «نحو قولنا : أحد نريد به الله تعالى فإنه عبارة عن ذاته باعتبار كونه» سبحانه وتعالى «المنفرد» (١) أي المختص عمن سواه «بما لا يكون من الأوصاف الجليلة» أي العظيمة التي هي صفات الإلهية «إلّا له» جل وعلا عن كل شأن شأنه من مثل ما دلّنا عليه قوله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) وهذا باعتبار اللغة اسم متضمن للصفة وهي التعظيم ، وكل أسمائه تعالى كذلك على ما سيأتي إن شاء الله.

«و» الرابع : ما هو عبارة عن اسم لذات «باعتبار معنى» حاصل في تلك الذات وذلك المعنى «غير أسماء الزمان والمكان والآلة» وذلك «نحو قولنا : قائم نريد به إنسانا فإنه اسم له باعتبار معنى وهو القيام» وكذلك ضارب ومضروب وحسن وأحسن وقد عرفت أن هذا على مصطلح أهل النحو.

وأما أسماء الزمان والمكان والآلة نحو مضرب ومقتل لزمان الضرب ومكانه ومحلب للإناء الذي يحلب فيه فإن هذه أسماء لذوات باعتبار معنى وهو الضرب والقتل والحلب ، وليست بصفات بحسب وضع اللغة ولا اصطلاح أهل العربية.

«و» الخامس : أن تكون الصفة «بمعنى الوصف وهو عبارة عن قول الواصف زيد كريم مثلا» فإن هذا القول أعني زيد كريم يسمّى وصفا وصفة بحسب وضع اللغة ، وكذلك زيد شجاع وزيد حليم قال عليه‌السلام : «علم ذلك» أي التقسيم المذكور «بالاستقراء» أي تتبع لغة العرب.

وقال الإمام «المهدي» أحمد بن يحيى «عليه‌السلام : ليست» الصفة «إلّا بمعنى الوصف فقط» حيث قال : مدلول الاسم والصفة في أصل اللغة هو اللفظ لأنهما (٢) عبارة عن قول الواصف ولفظه.

قال النجري : إلّا أن الصفة عبارة عن جملة اللفظ والاسم عن جزأيه

__________________

(١) (ض) المتفرد.

(٢) (ض) لأنه وفي نسخة لأنها.

١٦٥

فقط فقولك : زيد كريم صفة لزيد وكريم اسم له لغويّان ، وكذا زيد يقوم صفة لزيد ويقوم اسم له لغويان لأنّ الاسم في أصل اللغة : لكل ما صح إطلاقه على ذات ، قال : قاله بعض المحققين.

قال عليه‌السلام : «قلنا :» في الجواب على الإمام المهدي عليه‌السلام : «يلزم منه» أي من القول بأن الصفة ليست إلّا بمعنى الوصف وأنها عبارة عن قول الواصف «أن تكون صفاته نحو كونه قادرا» وعالما وحيّا ونحوهما «عبارة عن قول واصف وذلك بيّن البطلان» أي (١) يؤدّي إلى أنه تعالى ليس له صفة إلّا قول ذلك الواصف فقط.

ويمكن أن يقال : النزاع إنما هو في أمر لغوي فإذا ثبت من وضع اللغة أنّ القائل إذا قال : الله سبحانه عالم قادر سمّي واصفا (٢) لفعله القول المتضمن للصفة صح ذلك ولا مانع منه ، ولا يلزم ما ذكر كما لا يلزم من قول القائل : زيد كريم أن لا يكون زيد موصوفا بالكرم ، إلّا إذا قيل : إن الصفة ليست إلّا بمعنى القول وهو بعيد لأنهم قد حدّوا الصفة في الاصطلاح فيما تقدم في المؤثرات أنها المزية التي تعلم الذات عليها شاهدا وغائبا والله أعلم.

«وقال» أي الإمام المهدي «عليه‌السلام : (لو كانت) الصفة (اسما لذات باعتبار معنى لزم أن يكون من قام صفة(٣) لأنه باعتبار معنى وهو القيام» لفظ الإمام المهدي عليه‌السلام ردّا على من زعم أن الصفة موضوعة لمعنى في الموصوف لا أنها عبارة عن قول الواصف.

فإذا قيل : زيد كريم فالصفة هي الكرم الذي في زيد فتكون الصفة ما أفاده اللفظ لا نفس اللفظ.

فقال عليه‌السلام في رد هذا القول : لو أفادت الصفة المعنى الذي زعمه

__________________

(١) (ض) إذ.

(٢) (أ) يسمّى واصفا.

(٣) في نسخة لزم أن يكون من قام قد فعل لنفسه صفة وفي نسخة أخرى لزم أن يكون من قام بنفسه قد فعل صفة.

١٦٦

المخالف في الموصوف للزم فيمن قام أن يكون قد فعل لنفسه صفة وهي القيام لأن القيام معنى في الموصوف فيجب أن يسمّى صفة كما زعمه المخالف (١) وحينئذ يلزم صحة أن يوصف ذلك القائم بأنه واصف لأنه فعل صفة ومن فعل الصفة فهو واصف ومعلوم أنه لا يسمّى واصفا ، فعلمنا أن القيام ليس بصفة كما ادّعاه الخصم بل الصفة هي اللفظ فقط.

ويمكن الجواب عن الخصم بأن نقول : لا يسمّى القيام الحاصل في زيد صفة مطلقا بل إذا كان مستفادا من اللفظ ، وسواء كان حاصلا في نفس الأمر أو لا فلا يلزم فيمن فعل القيام أن يسمّى واصفا لأنه لم يفعل صفة إذ القيام الذي فعله غير مستفاد من اللفظ هكذا ذكره النجري. قلت : ويمكن أن يقال : لا مانع من التزام ذلك كما قال الشماخ يصف بعيرا :

إذا ما أدلجت وصفت يداها

لها الإدلاج ليلة لا هجوع

يريد أجادت السير فقد سمّاها واصفة لفعلها الوصف ومن ذلك قولهم وصف الغلام بالضم إذا بلغ الخدمة فهو وصيف بيّن الوصافة.

قال عليه‌السلام : «قلنا :» أي في الجواب على الإمام المهدي عليه‌السلام «ليس باسم» وقد قلنا في الصفة إنها اسم لذات باعتبار معنى.

«وقال» أي الإمام المهدي عليه‌السلام «الاسم والصفة عبارة عن قول الواصف فقط» قد تقدم حكاية قوله عليه‌السلام في ذلك.

«قلنا :» في الرد عليه «يلزم أن لا يفهم إلّا مجرد قوله فقط لا معناهما» أي الاسم والصفة «وهو الذات وما يلازمها» من المعاني كالكرم ونحوه «وذلك خلاف المعلوم ضرورة» أي يعلم خلافه بضرورة العقل ، ويمكن أن يقال : مدلول القول الاسم والصفة ويفهم مع القول المعنى (٢) وهو الكرم المتعلق بزيد وهو الذي نريد بالصفة لأنه لمّا تضمن هذا القول الصفة سمّي صفة ووصفا وذلك معلوم. وسواء كان مطابقا للواقع بأن يكون زيد كريما في

__________________

(١) (ب) الخصم.

(٢) (أ) ويفهم منه المعنى.

١٦٧

الواقع ، أم لا فإن هذا اللفظ قد دل عليه ، وإذا دل عليه صح أن يسمّى صفة ووصفا وقد وقع ذلك بحسب وضع اللغة ، وكذلك الاسم مثل زيد أو ضرب مثلا فإنه قول لأنّ الاسم غير المسمّى ومع ذلك قد تضمن الدلالة على الذات وهي ذات زيد وذات الضرب والله أعلم.

«وقالت الأموريّة» وهم من زعم أن صفات الله أمور زائدة على ذاته جل وعلا : «ما هو اسم لذات باعتبار معنى المماثلة» كما قالوا في القادرية إنها مماثلة للعالمية في كونها أمرا زائدا (١) على الذات «أو المغايرة» (٢) كما قالوا في القادرية إنها غير العالمية وقد عرف مما تقدم أن المماثلة والمغايرة ما يعقل بين غيرين حقيقة «أو نحو ذلك» وهو ما يعقل بين غير وما يجري مجرى الغير (٣) فقالوا : ما كان كذلك «فحكم» أي فهو حكم وليس بصفة للذات بل حكم عليها بما ذكر.

«قلنا : لا فرق عند أهل اللغة بين ذلك» الذي زعمتم أنه حكم «وبين ما هو اسم لذات باعتبار معنى غيرها» أي غير المماثلة والمغايرة ونحوهما كما يقال : زيد كريم وزيد مثل عمرو وزيد غير عمرو فلا فرق عند أهل اللغة أن ذلك كله يسمّى صفة ووصفا «إلّا أسماء الزمان والمكان والآلة كما مر» فإن ذلك لا يسمّى صفة كما سبق ذكره وقد عرفت ما قيل في ذلك.

قال عليه‌السلام : «والملجئ لهم» أي للأمورية «إلى ذلك» الذي ذكرناه عنهم «وصفهم الأمور الزّائدة على الذّات بزعمهم بأنها غير نحو العالمية غير القادرية أو مثل نحو العالمية زائدة على الذات مثل القادرية» وقد ثبت منهم «منعهم وصفها» أي وصف الصفات حيث قالوا : الصفات لا توصف فلا توصف الأمور الزائدة على ذاته بزعمهم «بأنها قديمة أو محدثة» حين ألزمهم الخصم وصفها بأنها قديمة أو محدثة فدفعوا من ألزمهم وصفها بأن الصفات لا

__________________

(١) (أ) أمورا زائدة.

(٢) (ب) أو باعتبار معنى المغايرة.

(٣) الذي يجري مجرى الغير وهو الصفة فإنها عندهم جارية مجرى الغير فإن صحة تأثيرها مترتب على وجود المؤثر له تمت.

١٦٨

توصف ، فقال الخصم قد وصفتم الصفات فقلتم إن العالمية مثل القادرية أو غيرها ونحو ذلك فقالوا : هذه أحكام وليست بصفات.

قلنا : هذه مجرد دعوى «والفرق» بين الوصف بالمماثلة والمغايرة ونحوهما والوصف بالقدم والحدوث والقلة والكثرة وغير ذلك «تحكم» أي دعوى مجردة عن الدليل «إذ لا مانع من دعوى أن سائر ما توصف به الصفات أحكام مثلها» أي مثل المماثلة والمخالفة ونحوهما فيقال وصف العالمية بأنها قديمة أو محدثة حكم وليس بصفة إذ كان كلا القولين مجرد دعوى بلا دليل فما أحدهما بالصحة أولى من الآخر.

«تمهيد»

أي هذا القول الذي سيأتي ذكره من الحقيقة والمجاز تمهيد وتوطئة لمعرفة ما يجوز إطلاقه على الله تعالى من الأسماء بطريق المجاز أو الحقيقة وما لا يجوز.

فقال عليه‌السلام : «أعلم : أن من أقسام الاسم : الحقيقة والمجاز» يعني أن الاسم ينقسم إلى أقسام كثيرة ولا تعلق لها بهذا الفن إلّا الحقيقة والمجاز فذكرهما : «فالحقيقة لغة» أي في لغة العرب هي : «الرّاية» وهي العلم الذي يتخذ للحرب قال الهذلي :

حامي الحقيقة نسّال الوديقة

معتاق الوسيقة لا نكس ولا داني

الوديقة شدة الحرب ، ونسل في العدو ينسل أسرع ، والوسق الطّرد ومنه سمّيت الوسيقة وهي من الإبل كالرفقة من الناس وإذا سرقت طردت معا ، والوسق بالكسر ستون صاعا.

وحقيقة الرجل ما يحق عليه أن يمنعه ، وحقيقة الشيء ذاته ويقين أمره ذكر هذا كله في الصحاح.

وقد أشار عليه‌السلام إلى هذا المعنى الآخر بقوله : «ونفس الشيء» ومنه الحديث «لا يبلغ الرجل حقيقة الإيمان حتى لا يعيب على أخيه بعيب هو فيه».

١٦٩

«و» الحقيقة «اصطلاحا» أي في اصطلاح أهل العربية (١) «اللفظ المستعمل» يحترز من غير المستعمل كالمهمل ، واللفظ قبل الاستعمال فليس بحقيقة ولا مجاز «فيما وضع له» ليخرج المجاز «في اصطلاح» وقع به «التخاطب» ليخرج اللفظ المستعمل فيما وضع له في اصطلاح آخر غير الاصطلاح الذي وقع به التخاطب كالصلاة إذا استعملها المخاطب بعرف الشرع في الدعاء فإنها تكون مجازا لاستعمالها في غير ما وضعت له في الاصطلاح الذي وقع به التخاطب وهو عرف الشرع ، وإن كانت مستعملة فيما وضعت له في اللغة.

وتنقسم» الحقيقة «إلى لغوية» أي إلى حقيقة في أصل لغة العرب «كأسد» للسبع المفترس المخصوص «و» إلى حقيقة «عرفية» وهي ما نقل عمّا وضع له في أصل اللغة إلى معنى آخر بالعرف ، وهي إمّا «عامة وهي التي لا يتعين ناقلها» عن أصل وضعها إلى المعنى الآخر «كقارورة» للإناء المخصوص من الزجاج ودابة لذوات الأربع فإن القارورة في أصل اللغة اسم لكل ما يقر فيه الشيء ، والدابة لكل ما دبّ على الأرض ولم يتعيّن من نقل معناهما من أصل اللغة إلى عرفها «و» إما «خاصة وهي التي يتعين ناقلها كالكلام» حال كونه اسما «لهذا الفن» أي لأصول الدين وهو في أصل اللغة لكل ما يتكلم به وناقله أهل علم أصول الدين.

«و» تنقسم الحقيقة أيضا إلى «شرعيّة» وهي ما نقله الشارع من معناه اللغوي إلى معنى شرعي وهي نوعان :

فما نقله منهما إلى أصول الدين فحقيقة دينية ، وما نقله إلى فروعه فحقيقة فرعية.

فالشرعية «كالصلاة» والزكاة والصوم والحج فإن الصلاة في أصل اللغة الدعاء وقد نقلها الشرع إلى الأذكار والأركان المخصوصة حتّى لا يفهم من إطلاق لفظها إلّا ذلك وصارت حينئذ في معناها اللغوي مجازا وكذلك الزكاة والصيام والحج.

__________________

(١) (أ) أهل اللغة العربية.

١٧٠

«وهي» أي الشرعية «ممكنة عقلا» أي يحكم العقل بإمكان وقوعها ولا يحيله «واختلف في وقوعها» :

فقال «أئمتنا عليهم‌السلام والجمهور» من غيرهم «وهي واقعةأي قد وقعت «بالنقل عن معانيها اللغوية إلى معان مخترعة شرعية كالصلاة» فإنها قد نقلت عن معناها اللغوي وهو الدعاء إلى الأذكار والأركان المخصوصة كما سبق ذكره فلا يفهم من إطلاق لفظ الصلاة إلّا هي من غير نظر إلى الدعاء.

وقال الإمام يحيى عليه‌السلام والغزالي والرازي : إنها تدل على المعنيين اللّغوي والشرعي معا ثم اختلفوا :

فقال الإمام يحيى عليه‌السلام والغزالي : تدل عليهما حقيقة.

وقال الرازي : على اللغوي حقيقة وعلى الشرعي مجازا ، وتوقف الآمدي ذكر ذلك في الفصول.

قال عليه‌السلام : «قلت : وتصح» أي الحقيقة الشرعية «بغير نقل» عن معنى لغوي «كرحمان على ما سيأتي إن شاء الله تعالى» أنه حقيقة دينية غير منقول إذ لم يطلق إلّا على الله سبحانه.

وقال القاضي أبو بكر «الباقلاني» من المجبرة والقشيري «وبعض المرجئة : لم تقع الحقيقة» الشرعية وإن أمكن وقوعها وقالوا : إن لفظ الصلاة باق على معناه اللغوي.

«قلنا : الصلاة لغة : الدعاء ، وقد صارت للعبادة المخصوصة» بحيث إذا أطلق لفظها لم يفهم إلّا ذلك ، وذلك حقيقة النقل.

«قالوا : إنما صارت كذلك بعرف أهل الشرع لا بنقل الشارع» وهو الله سبحانه وتعالى إلى العبادة المخصوصة «لأنه» أي الشارع «إنما أطلق ذلك» أي لفظ الصلاة «عليها» أي على العبادة المخصوصة «مجازا» أي من باب إطلاق اسم البعض على الكل وذلك مجاز «فقط» لا حقيقة بالنقل «فهي حينئذ» أي حين أطلق الشارع عليها اسم الصلاة مجازا وتعارف أهل الشرع به حقيقة «عرفية خاصة لتعارف أهل الشرع فقط على تسميتها صلاة كما تعارف أهل

١٧١

أصول الدين على تسميته كلاما لا شرعية» كما زعمتم.

«قلنا :» المعلوم أن الشارع «أطلقه» أي لفظ الصلاة «عليها» أي على العبادة المخصوصة «وخصّها به ولم يعهد لها اسم قبله» أي قبل إطلاق لفظ الصلاة «خاص» لها «وذلك هو حقيقة وضع الحقائق لا» حقيقة وضع «التّجوّز» الذي ادّعاه المخالف «وإلّا» أي وإلّا يكن إطلاق لفظ الصلاة على العبادة المخصوصة حقيقة شرعية كما ذكرنا «لكان كل ما وضع من الأسماء لمعنى» في اللغة «عند ابتداء الوضع مجازا» غير حقيقة لأنه كما صح دعواكم أن الشارع لم يطلق لفظ الصلاة على العبادة المخصوصة إلّا مجازا مع أنه لم يعهد لها اسم قبله فيصح دعوى من يقول : إن لفظ (١) الأسد لم يرد به الحيوان المخصوص من حين ابتداء وضعه إلّا مجازا «ولا قائل به» فإن قيل : لا سوا فإن العبادة المخصوصة في أبعاضها الدعاء فسمّيت باسم ذلك البعض مجازا فهو مثل لفظ عين إذا أطلقت على الرقيب وذلك مجاز اتفاقا.

قلنا : أمرنا الشارع بأذكار وأركان مخصوصة وحدود مضروبة وسمّاها صلاة ولم يكن لها اسم قبل ذلك ودخول الدعاء في أثنائها لا يدلنا على أن الشارع إنما أراد التجوز بل لا مانع من أن يريد أن هذا الاسم موضوع لهذه العبادة المخصوصة من غير نظر إلى الدعاء لأن الشارع واضع الأسماء فمن أين أنه لم يرد إلّا التجوز ، «ومن جزئياتها» أي ومن أفراد مسمّيات الحقيقة الشرعية الحقيقة «الدينية وهي ما نقله الشارع» وهو الله تعالى «إلى أصول الدين نحو مؤمن» فإن الإيمان في اللغة : التصديق وقد نقله الشارع إلى من أتى بالواجبات واجتنب المقبّحات كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

وقال «الشيرازي» وهو أبو إسحاق إبراهيم بن علي الفيروزآبادي «وابن الحاجب» والجويني وغيرهم : «لم تقع» أي الدينية بل هي باقية على أصل وضعها اللغوي وقالوا : المؤمن هو المصدّق.

«قلنا : المؤمن لغة : هو المصدق وقد صار اسما لمن أتى بالواجبات واجتنب المقبّحات بدليل قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ

__________________

(١) (ض) إن لفظ أسد حين لم يرد الحيوان.

١٧٢

قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) .. الآية (١). فبيّن تعالى حقيقة المؤمن بطريق الحصر (بإنما) وهو : من أتى بهذه الخلال المذكورة مع اجتنابه لكبائر العصيان لأنّ الكبائر محبطة للإيمان كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

«قالا» أي الشيرازي وابن الحاجب : «قال الله تعالى : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً) (٢) وحق العطف المغايرة» وقد عطف العمل الصالح على الإيمان فعرف أن بينهما تغايرا لأنه لا يعطف الشيء على نفسه.

«قلنا : هو في هذه الآية حقيقة لغوية» لم ينقل عن معناه الأصلي «واستعمال الناقل القول المنقول في معناه الأول لا يدل على عدم نقله ذلك القول لمعنى آخر كناقل لفظ : طلحة اسما لرجل» من معناه الأصلي وهو الشجرة فإنه يصح أن يطلق لفظ طلحة على الشجرة وذلك واضح «فبطلت دعوى نفيها» أي الحقيقة الدينية «لعدم ما يدل عليه» أي على نفيها «وثبتت» أي الحقيقة الدينية «بما مر» من الأدلّة عليها.

«والمجاز لغة» أي في لغة العرب : «العبور» أي السير «والطريق» قال في الصحاح : جزت الموضع أجوزه جوزا سلكته وسرت فيه ، وأجزته خلفته وقطعته.

«و» المجاز «اصطلاحا» أي في اصطلاح أهل علم العربية : «اللفظ المستعمل» خرج المهمل والمستعمل عند ابتداء وضعه قبل الاستعمال ، وقوله : «في غير ما وضع له» تخرج الحقيقة وقوله «في اصطلاح به التخاطب» يدخل المجاز المستعمل فيما وضع له في اصطلاح آخر كلفظ الصلاة إذا استعمله المخاطب بعرف الشرع في الدعاء مجازا فإنه وإن كان مستعملا فيما وضع له في الجملة فليس مستعملا فيما وضع له في الاصطلاح الذي به وقع التخاطب أعني الشرع فيكون داخلا في حقيقة المجاز ، وإن استعمله المخاطب بعرف

__________________

(١) الأنفال (٢ ، ٣ ، ٤).

(٢) التغابن (٩).

١٧٣

اللغة في الأركان والأذكار المخصوصة فهو مجاز أيضا هكذا ذكره صاحب المطول.

وقوله «على وجه يصح» يخرج الغلط نحو أن يقال : خذ هذا الثوب مشيرا إلى كتاب.

قال عليه‌السلام : «ويزاد» في حد المجاز «على مذهب غير القاسم عليه‌السلام والشافعي» ومن تابعهما «مع قرينة عدم إرادته» أي إرادة ما وضع له لتخرج الكناية لأنها مستعملة في غير ما وضعت له مع جواز إرادة ما وضعت له كما إذا قيل : طويل النجاد فالمراد به الكناية عن طول القامة ، ويجوز أن يراد مع ذلك طول النجاد أيضا ، والمعنى : أن إرادة المعنى الحقيقي لا تنافي الكناية كما أن المجاز ينافيه.

وأما على مذهب القاسم والشافعي ومن تابعهما فقالوا : يجوز إرادة المعنى الموضوع له في اللغة مع إرادة المعنى المجازي (١) أيضا.

قال في الفصول ما لفظه : القاسمية والشافعية ومن تابعهما (٢) : ويصح أن يراد باللفظ حقيقته ومجازه كاللمس إذ لا مانع عقلي ولا لغوي خلافا لأبي حنيفة وأبي هاشم وأبي عبد الله.

«وهو» أي المجاز «واقع» في اللغة بل قال ابن جني : هو الأغلب في اللغة وأشعار العرب وكلامها مشحون به ، وأطبق البلغاء على أن المجاز والكناية أبلغ من الحقيقة والتصريح.

«خلافا لأبي علي الفارسي و» الشيخ أبي إسحاق «الأسفرائيني وغيرهما مطلقا» أي فإنهم أنكروا المجاز في القرآن وفي غيره وحملوا المجازات الواردة على الحقيقة وقالوا : إن الأسد موضوع لكل شجاع.

«لنا قوله» أي قول الهذلي :

«وإذا المنيّة أنشبت أظفارها»

ألفيت كل تميمة لا تنفع

__________________

(١) (ض) مع إرادة المعنى المجازي ويكون مجازا أيضا.

(٢) ومن تابعهما ساقط في (ب).

١٧٤

والمعلوم أن المنية هي الموت لا أظفارا لها ولكنه شبّهها بالسّبع ، ولنا ما يأتي الآن إن شاء الله تعالى وفيما بعد في أثناء تقسيم المجاز.

«و» خلافا «للإمامية في الكتاب العزيز» فإنهم قالوا : لا مجاز فيه «لنا» عليهم «قوله تعالى (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) (١) فإنه يعلم أنه قد شبه الولد بالطائر الذي يخفض جناحيه على ولده حين يحضنه ويدف بهما عليه لأنه لا جناح للولد حقيقة.

«و» خلافا «للظاهرية» أصحاب داود الأصفهاني الظاهري «فيه» أي في الكتاب العزيز «وفي السنة» فقالوا : لم يقع فيهما قالوا : لأن المجاز أخو الكذب وهو لا يجوز على الله تعالى.

«لنا» عليهم «ما مر» من قوله تعالى : (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِ) «و» في وقوعه في السنة : «قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : «أنا مدينة العلم وعليّ بابها» «فمن أراد المدينة فليأتها من بابها» والمعلوم أن العلم ليس له مدينة على الحقيقة وأن النبيء صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليس مدينة على الحقيقة ، وأن عليّا عليه‌السلام ليس بابا لها على الحقيقة.

وإنما شبّه صلى الله عليه وعلى آله وسلم العلم بالأشياء المحسوسة التي تجمعها المدينة على طريق الاستعارة بالكناية فأثبت له المدينة تخييلا وشبه ذاته الكريمة بتلك المدينة فجعلها ظرفا لتلك الأشياء المحسوسة بجامع أنه يؤخذ منه صلى الله عليه وعلى آله وسلم كل ما يحتاج إليه من المنافع كذلك المدينة فيها كل ما يحتاج إليه من المنافع.

وشبّه عليّا عليه‌السلام بباب تلك المدينة إشارة إلى أنه لا طريق لأحد إلى العلم الحقيقي النافع إلّا من عليّ عليه‌السلام.

وفي هذا دلالة على أنه من خالف عليّا عليه‌السلام فقد خالف الحق ومما يروى عن بعض منكري المجاز أنه لما سمع أبا تمّام ينشد قوله :

__________________

(١) الإسراء (٢٤).

١٧٥

لا تسقني ماء الكآبة إنّني

صبّ قد استعذبت ماء بكائي

قال لأبي تمّام : أعطني في هذا الكوز من ماء كآبتك العذب فقال أبو تمّام : خذ هذا المقراض واقصص لي ريشتين من جناح الذل.

«و» أما «تأويلهم» أي تأويل من أنكر المجاز «بأنها» أي تلك المجازات المذكورة وغيرها «حقائق» فهو «خلاف المعلوم من لغة العرب فلتتّبع» أي لغة العرب ، ومع تتبعها ومعرفة مقاصد أهلها يعرف بطلان قول منكري المجاز.

قال عليه‌السلام : «ولا بدّ» في المجاز «من علاقة» رابطة «بين المدلول الحقيقي والمجازي» فالحقيقي هو السبع مثلا ، والمجازي هو الرجل الشجاع ، والعلاقة الرابطة بينهما هي الشجاعة ونحو ذلك «فإن كانت» أي العلاقة «غير المشابهة بينهما» أي بين الحقيقي والمجازي «فالمرسل» أي فهو الذي يسمّى المجاز المرسل نحو اليد الموضوعة للجارحة إذا استعملت في النعمة لمّا كانت النعمة في الأغلب لا تصل المنعم عليه إلّا من اليد فسمّيت باسم سببها «وإلّا» أي وإلّا تكن العلاقة غير المشابهة بل كانت هي المشابهة «فالاستعارة» أي فذلك المجاز يسمّى استعارة.

وللمرسل والاستعارة أقسام وشروط مذكورة في كتب المعاني والبيان وقد أشار عليه‌السلام إلى طرف من ذلك فقال :

«فإن ذكر المشبه به» دون المشبه «نحو : رأيت أسدا يرمي» فقد ذكر هنا اسم المشبّه به وهو الأسد وطوى ذكر المشبّه وهو زيد مثلا مع أنه هو المراد باللفظ بادّعاء السّبعيّة له والقرينة قوله يرمي لأن الرمي من خصائص الإنسان «فالتحقيقية» أي فهي تسمّى استعارة تحقيقية لتحقق معناها حسّا أو عقلا كاهدنا الصراط المستقيم أي الطريق التي لا عوج فيها استعيرت لدين الحق والإيمان وهو متحقق عقلا «وإن ذكر المشبّه» وأريد به المشبّه به بالادّعاء والتخييل «نحو» قولنا : «عليّ كرم الله وجهه يفترس الأقران» فقد ذكر اسم علي عليه‌السلام وأريد به السبع المعروف بادّعاء السبعية له وإنكار أن يكون شيئا غيره ، ومثل هذا قول الهذلي :

وإذا المنية أنشبت أظفارها

١٧٦

«فالمكنّى عنها» أي فهي تسمّى استعارة مكنّي (١) عنها لعدم التصريح بها وتحقق معناها «وهي» أي المكنى عنها تستلزم الاستعارة التخييلية» والتخييلية هي ما لا تحقق لمعناها حسّا أو عقلا بل هي صورة وهميّة «نحو يفترس الأقران» في المثال المذكور فإنه لمّا شبه عليّا عليه‌السلام بالأسد في إهلاك الأقران أخذ الوهم في تصويره بصورة السبع واختراع لوازمه له من الافتراس وغيره توهّما وتخييلا ، ثم أطلق عليه لفظ يفترس استعارة تصريحيّة ، وكلفظ الأظفار في قول الهذلي فإنه لمّا شبه المنية بالسبع في الاغتيال أخذ الوهم في تصويرها بصورته واختراع لوازمه لها فاخترع لها مثل صورة الأظفار ثم أطلق على ذلك الذي اخترعه وتصوّره وتخيله للمنية لفظ الأظفار المحققة التي تكون في السبع المخصوص فتكون استعارة تصريحية لأنه قد أطلق لفظ المشبه به وهو الأظفار المحققة على المشبّه وهو صورة وهميّة شبيهة بصورة الأظفار المحققة ، والقرينة إضافتها إلى المنية وليست استعارة تحقيقية لأن المشبه هاهنا ليس متحققا حسّا ولا عقلا.

وهذا الذي ذكرناه من تفسير الاستعارة بالكناية هو قول السكاكي.

وأما صاحب التلخيص فإنه جعل الاستعارة بالكناية والاستعارة التخييلية من باب التشبيه المضمر في النفس وليستا من المجاز ، والحقّ هو الأول والله أعلم.

وإنما استلزمت الاستعارة بالكناية الاستعارة التخييلية لأن التخييلية قرينة المكنى عنها أما عند السكاكي فلأنه لو لم يذكر الأظفار وإنشابها لما عرف أن المراد بالمنية السبع بادّعاء السبعية لها. وأما عند صاحب التلخيص : فلأنه لا يعلم تشبيه المنية بالسبع إلّا بذلك.

«ولفظ يفترس» يسمّى «استعارة تبعيّة» وإنما سمّيت تبعية لأن الاستعارة في الأفعال وما أشبهها تابعة للاستعارة في المصادر لأنه لمّا شبّه قتل الأقران بالافتراس صلح أن يشتق من الافتراس الفعل واسم الفاعل واسم المفعول ونحو ذلك.

قال عليه‌السلام : «وقد حصرت العلاقة» التي بين المدلول الحقيقي

__________________

(١) (ن) مكيّا عنها.

١٧٧

والمجازي «بالاستقراء» أي بالتتبع لها «في تسعة عشر نوعا بيانها» أن نقول : «هي إما المشابهة» أو غيرها ، فإن كانت المشابهة «فهي إما بالشكل أو بالاشتراك في الجنس أو في صفة ظاهرة» فهذه ثلاثة أقسام في النوع الأول الذي هو المشابهة :

أما القسم الأول : «فنقول : هذا إنسان لصورة كالإنسان في الشكل والقامة وكتشبيه الجرّة الصغيرة بالكوز في مقداره وشكله.

والقسم الثاني : ما وجه المشابهة فيه الاشتراك في الجنس نحو قولنا : «ثوب زيد للمشاركة له في جنسه» من كونه قطنا أو حريرا من غير نظر إلى صفتهما في الطول والعرض والسواد والبياض.

والقسم الثالث : ما وجه المشابهة فيه الاشتراك في صفة ظاهرة نحو قولنا «أسد للشجاع» أي للرجل الشجاع ، والصفة الظاهرة هي الجرأة أما لو أريد الاشتراك في صفة خفية كالبخر وهو تغير رائحة الفم فإن استعماله قليل ومع ذلك فلا بدّ من ذكر العلاقة فلا يحسن أن يقال رأيت أسدا يرمي ويراد الاشتراك في تغيير رائحة الفم.

ومن الاشتراك في صفة ظاهرة تشبيه ثوب أسود بالغراب فيقال : غراب لثوب أسود فإن كانت العلاقة غير المشابهة فقد بيّنها عليه‌السلام بقوله «أو تسمية الشيء باسم ما يؤول إليه» في المستقبل «كالخمر» إذا جعل اسما «للعصير» أي المعتصر من العنب ونحوه.

والمراد أن في هذه الأنواع المعدودة علاقة وهي كون العصير يؤول إلى خمر ونحو ذلك لأن تسمية الشيء باسم ما يؤول إليه هو نفس العلاقة والله أعلم وهذا هو النوع الثاني.

والثالث : عكسه وهو قوله : «أو» تسمية الشيء «باسم ما كان عليه» في الماضي «كالعبد للعتيق» أي لمن قد أعتق ومنه قوله تعالى : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) (١) إذ لا يتم بعد البلوغ.

__________________

(١) النساء (٢).

١٧٨

والرابع : قوله «أو» تسمية الشيء «باسم محلّه نحو سال الوادي» فسمّي الماء السائل باسم محله وهو الوادي ونسب السيلان إليه وهو في الحقيقة للماء ومن هذا قولهم : جرى الميزاب.

والخامس : «أو العكس» وهو تسمية المحل باسم الحال «نحو» قوله تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ «فَفِي رَحْمَتِ اللهِ) (١) أي ففي موضع رحمة الله وهو (٢) جنة الخلد والمراد بالرحمة هنا : ما يسديه الله إلى عباده من النّعم أطلق عليها اسم الرحمة مجازا.

والسادس : «أو» تسمية الشيء «باسم سببه نحو صليت الظهر» أي الفريضة التي سبب وجوبها حصول وقت الظهر ، ومن ذلك : رعينا الغيث أي النبات الذي سببه الغيث.

والسابع : «أو العكس» أي تسمية السبب باسم مسببه «نحو» قوله تعالى : (إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً) (٣) فسمّي السبب وهو أموال اليتامى باسم المسبّب عنه وهو النّار ، ومنه قولهم : مطرت السماء نباتا.

والثامن : «أو تسمية الخاص باسم العام نحو» قوله تعالى : (جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) (٤) أي أطرافها» أي أطراف الأصابع وهي الأنامل وهذا في الحقيقة من تسمية الجزء باسم الكل ولهذا كرر المثال بما هو أوضح فقال «ونحو اتفق الناس على صحة خبر الغدير» وهو قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم «من كنت مولاه فعليّ مولاه ... الخبر» فلفظ النّاس عام وقد أريد به الخاص «أي العلماء» منهم إذ هم المرادون دون جهالهم.

ومنه قوله تعالى : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) (٥) والمراد علي عليه‌السلام.

__________________

(١) آل عمران (١٠٧).

(٢) (ب) وهي.

(٣) النساء (١٠).

(٤) نوح (٧).

(٥) المائدة (٥٥).

١٧٩

والتاسع : «أو تسمية الكل باسم البعض كالعين» الجارحة المخصوصة تجعل اسما «للربيئة» وهو الشخص الرقيب على الشيء ولا بدّ أن يكون ذلك البعض ممّا له مزيد اختصاص بالمعنى الذي قصد بالكل كالمثال المذكور لأن الربيئة وهو الحافظ إنما يتهيّأ حفظه وعلمه المقصود منه بالعين التي هي الجارحة.

والعاشر : «أو تسمية المقيد باسم المطلق نحو قول الشاعر :

ويا ليت كل اثنين بينهما هوى»

أي علاقة ومحبة من هوى النفوس أي حبها واشتياقها

«من الناس قبل اليوم يلتقيان

أي قبل يوم القيامة» فأجرى اسم اليوم الذي هو مطلق غير مقيد على المقيد الذي هو يوم القيامة.

والحادي عشر : «أو العكس» أي تسمية المطلق باسم المقيد «كقول شريح :» بن الحارث لمن قال له : كيف أصبحت فقال : «أصبحت ونصف الناس عليّ غضبان أي المحكوم عليهم» فأجرى اسم المقيد وهو نصف الناس وتقييده بكونه نصف الناس على المطلق وهو المحكوم عليهم وإطلاقه بعدم النظر إلى كونهم نصف الناس أو أقل أو أكثر.

والثاني عشر : «أو حذف المضاف» وإقامة المضاف إليه مقامه أو من دون إقامته ويسمّى مجاز النقص.

فالأول «نحو» قوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) (١) أي أهل القرية وأهل العير.

والثاني كقوله أكلّ امرئ تحسبين امرئ : ونار توقد باللّيل نارا ، أي وكل نار فحذف كل وبقي المضاف إليه على إعرابه والمعنى على ما كان عليه قبل الحذف.

واعلم : أنه كما وصفت الكلمة بالمجاز باعتبار نقلها عن معناها الأصلي

__________________

(١) يوسف (٨٢).

١٨٠