عدّة الأكياس في شرح معاني الأساس - ج ١

أحمد بن محمّد بن صلاح الشرفي القاسمي

عدّة الأكياس في شرح معاني الأساس - ج ١

المؤلف:

أحمد بن محمّد بن صلاح الشرفي القاسمي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الحكمة اليمانية للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٤
الجزء ١ الجزء ٢

«وخلافا لمن قال : يجوز عليه تعالى البدء إذ هو فرع الغفلة» والغفلة عرض وهم فرقة من الروافض.

وقد روي أن أول من أحدث هذه المقالة : المختار بن أبي عبيد الثقفي والله أعلم.

وقيل : إن مرادهم بالبدء النسخ حكى ذلك النجري عن الشريف الموسوي وهو قريب والله أعلم.

«قلنا : الفكرة والغفلة» وكذلك المعاني التي زعمها الكرامية في صفاته تعالى «لا تحل إلّا في الأجسام ، وقد ثبت بما مرّ أنه تعالى ليس بجسم» ولما كان اللوح الذي ذكره الله في القرآن من مظان شبهة المشبهة ذكره عليه‌السلام فقال : «جمهور أئمتنا عليهم‌السلام» كالقاسم وولده محمد والهادي والحسين بن القاسم العياني عليهم‌السلام وغيرهم «واللّوح» المذكور في القرآن «عبارة عن علمه تعالى» ولا لوح على الحقيقة بل هو مجاز وتمثيل لأنّ المخلوق إنما يعقل حفظ الكلام عن الزيادة والنقصان بكتابته في لوح أو نحوه.

قال القاسم بن إبراهيم عليه‌السلام : وأما اللوح المحفوظ فهو علم الله المعلوم.

وقالت «الحشوية» وبعض المعتزلة» بل هو على حقيقته وهو أوّل مخلوق» من زبرجدة خضراء ينظر فيه كل يوم ثلاثمائة نظرة يخلق ويرزق ويحيي ويميت ويعزّ ويذلّ ويفعل ما يشاء.

قال الكسائي : أرادوا ينظر فيه إسرافيل.

قال الإمام المهدي عليه‌السلام : (وهو صحيح لما روي عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم) «ما من شيء قضاه الله إلّا وهو في اللوح المحفوظ وهو بين يدي إسرافيل لا يؤذن له بالنظر فيه حتى تعرق جبهته» «قلنا» ذلك يتضمن الحاجة إلى حفظ ما هو كائن وما يكون و «لا يحتاج إلى الرصد» أي كتابة ذلك وحفظه في لوح «إلا ذو غفلة» وسهو «وقد بطل بما ذكرناه آنفا أن يكون الله كذلك» أي ذا غفلة وسهو لكونهما عرضين يختصّان بالأجسام.

١٤١

«وقولكم : إنه أول مخلوق معارض برواية عن بعض أكابر أهل البيت عليهم‌السلام عن النبيء صلى الله عليه وعلى آله وسلم : «أن أول ما خلق الله فتق الأجواء» والأجواء جمع جوّ ، والجوّ الهوى ومعنى فتق الأجواء : أي الهوى المفتوق وليس المراد فتق ما كان مرتتقا وهذا الخبر ذكره السيد حميدان عليه‌السلام عن أهل البيت عليهم‌السلام جملة قالوا : ثم خلق الله سبحانه بعد خلق الهوى الماء ثم خلق الرياح حركت ذلك الماء حتى أزبد ، ثم خلق النار فأحرقت ذلك الزبد ، ثم خلق الأرض من الحراقة والسماء من الدخان.

«واشتهر» هذا «عن الوصي صلوات الله عليه» وسلامه في خطبته المشهورة في نهج البلاغة.

«وهو» أي القول بأن أول مخلوق الهوى «توقيف» أي مسموع عن النبيء صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأنه لا مساغ للعقل والاجتهاد في ذلك «فإن سلّمنا التعادل» بين الروايتين على استحالته «فالعقل يقضي» أي يحكم «بعدم صحة حالّ» وهو اللوح «لا في محل» أي لا في هوى ولا في أرض ولا في سماء فبطلت روايتهم بحكم العقل.

وقال الإمام «المهدي عليه‌السلام» أحمد بن يحيى : «يجوز» أن يكون اللوح على حقيقته ويكون «لتعليم الملائكة عليهم‌السلام» بما يقضيه الله سبحانه في عباده.

«قلنا : لا دليل على ذلك ولا وثوق برواية الحشوية» حيث لم يروه غيرهم من الثقات «وإن سلّم» أنه قد روي ذلك «فمعارض برواية الهادي عليه‌السلام عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم : «أن الله سبحانه يلقي ما يريد من وحيه إلى الملك ثم يلقيه الملك إلى الذي تحته أو كما قال» لفظ الهادي عليه‌السلام جوابا لمن سأله :

واعلم هداك الله أن القول فيه عندنا كما قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه سأل جبريل عليه‌السلام عن ذلك فقال : آخذه من ملك فوقي ويأخذه الملك من ملك فوقه ، فقال : كيف يأخذه ذلك الملك ويعلمه؟ فقال جبريل : يلقى في قلبه إلقاء ويلهمه الله إلهاما» وكذلك هو

١٤٢

عندنا أنه يلهمه الملك الأعلى إلهاما فيكون ذلك الإلهام من الله إليه وحيا كما ألهم تبارك وتعالى النحل ما تحتاج إليه وعرّفها سبيلها ... إلى آخر كلامه.

وفي ذلك إبطال اللوح على حقيقته.

«وإن سلّم التعادل في» الروايتين واستواؤهما في «العدالة» على بعده «فقولهم : هو أول مخلوق يستلزم الغفلة» من الله سبحانه وتعالى حيث زعموا أنه خلق لرصد ما هو كائن إلى يوم القيامة «إذ لا يحتاج إلى الرصد حتى تحضر الملائكة إلّا ذو غفلة» ونسيان «وذلك» أي الغفلة والنسيان «يبطله» أي يبطل أن يكون اللوح على حقيقته «لأنّ الله سبحانه ليس كذلك لما مرّ» من أنه سبحانه لا تحلّه الأعراض.

(فرع)

«قالت العترة جميعا وصفوة الشيعة والمعتزلة وغيرهم» كالخوارج والمرجئة وغيرهم : «والله سبحانه لا تدركه الأبصار لا في الدنيا ولا في الآخرة لأنّ كل محسوس» أي مدرك بأي الحواس إما بالبصر أو بالسمع أو بالشم أو الطعم أو اللمس «جسم أو عرض فقط وكل جسم أو عرض محدث لما مرّ» من الأدلّة على حدوث الجسم والعرض «والله تعالى ليس بمحدث لما مر» من الأدلة على أنه تعالى لا أول لوجوده هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم.

وأيضا : لو صح أن يرى الله تعالى لاختص بجهة من الجهات أو مكان من الأمكنة والله سبحانه وتعالى يتعالى عن ذلك إذ كان ولا مكان ولا جهة ولا زمان.

وقالت «الأشعرية : بل يرى» جل وعلا «في الآخرة بلا كيف» أي بلا تكييف ولا إشارة إلى جهة من الجهات أي لا فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال ولا خلف ولا قدّام.

«قلنا : لا يعقل» قولكم هذا.

قال «الرازي : معناه معرفة ضرورية وعلم نفسي بحيث لا يشك فيه».

١٤٣

قال عليه‌السلام : «قلت وبالله التوفيق : فالخلاف حينئذ لفظي» والمعنى واحد وهو أنه جل وعلا لا يدرك بالحواس ولا يقاس بالناس وقال «ضرار» بن عمرو من المجبرة «يرى تعالى» في الآخرة «بحاسّة سادسة» يخلقها الله تعالى غير الحواس الخمس.

«قلنا» لا يعقل ذلك فإن عنى به ما ذكره الرازي» وهو المعرفة الضرورية «فالخلاف» بيننا وبينه «لفظي أيضا» وقالت «المجسمة» والحشوية والمشبهة إنه يرى في الآخرة في جهة دون جهة وإنه يجوز لمسه تعالى الله عن ذلك «كالمرئيات من الأجسام والأعراض» بناء على مذهبهم وقد مر إبطاله قالوا : قال الله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) أي ناعمة من النضارة (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (١) فزعموا أن المراد إلى ربها مبصرة وقالوا : قد ورد «في الحديث سترون ربكم يوم القيامة كالقمر ليلة البدر».

«قلنا : معنى قوله (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) أي منتظرة لرحمة الله» وثوابه «كقوله تعالى» في قصة بلقيس : (فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) (٢) : أي منتظرة» لما يأتي به المرسلون من خير أو شر ويقول القائل : إنما ينظر العبد إلى سيده وإنما انظر إلى الله ثم إليك «و» مثل «قوله تعالى حاكيا عن الأشقياء» كالمنافقين وغيرهم «أنظرونا» أي انتظرونا أي تأنّوا في مسيركم إلى الجنة منتظرين لنا «نقتبس من نوركم» أي نستضيء بنوركم فنمشي في ضوئه معكم لأن المؤمنين يسرع بهم إلى الجنة ونورهم يسعى بين أيديهم ، والأشقياء في ظلمة شديدة.

فقوله تعالى : (انْظُرُونا) «أي انتظرونا ، ومثل قوله تعالى : (وَقُولُوا انْظُرْنا) أي انتظرنا» وذلك أن المؤمنين كانوا إذا ألقى عليهم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم شيئا من العلم يقولون : راعنا أي انتظرنا وأمهلنا حتى نتفقه.

وكان لليهود كلمة يتسابّون بها وهي راعنا فلمّا سمعوا من المسلمين

__________________

(١) القيامة (٢٢ ، ٢٣).

(٢) النمل (٣٥).

١٤٤

[قول] راعنا غنموا الفرصة وخاطبوا الرسول بها وعنوا كلمتهم المسبّة فنهي المسلمون عنها وأمروا بما في معناها وهو أنظرنا أي انتظرنا «وقال الشاعر» وهو حسان بن ثابت :

وجوه يوم بدر ناظرات

إلى الرّحمن يأتي بالخلاص»

أي منتظرة ونحو ذلك كثير.

«و» أمّا «الخبر» الذي احتجوا به فهو مع كونه مصادما لأدلة العقل «مقدوح فيه» أي قد قدح فيه علماء الحديث وذكروا أنه مكذوب على النبيء صلى الله عليه وعلى آله وسلم وذلك أنه روي عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله البجلي ، قال السيد مانكديم عليه‌السلام : وقيل هذا مطعون فيه من وجهين :

أحدهما : أنه كان يرى رأي الخوارج ، ويروى أنه قال : منذ سمعت عليّا على منبر الكوفة يقول : (انفروا إلى بقية الأحزاب) يعني أهل النهروان دخل بغضه في قلبي ، ومن دخل بغض أمير المؤمنين في قلبه فأقل أحواله أن لا يعتمد على قوله.

والثاني : قيل : إنه خولط في عقله آخر عمره والكتبة يكتبون عنه على عادتهم ولأنه كان متوليا لبني أميّة ومعينا لهم على أمرهم. «وإن صح» على سبيل الفرض والتقدير «فمعناه : ستعلمون ربكم» لأنّ الرؤية تستعمل بمعنى العلم كثيرا «كقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ) (١) وقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ) (٢) أي ألم تعلم و» كذلك «قول الشاعر :

رأيت الله إذ سمى نزارا

وأسكنهم بمكة قاطنينا

أي علمته».

ويقول القائل : رأيت عقل زيد صحيحا ونظرت إلى عقله.

فإن قالوا : هو على حذف مضاف. قلنا : وكذلك في الخبر وأيضا : يجب

__________________

(١) الفرقان (٤٥).

(٢) البقرة (٢٤٦).

١٤٥

ردّ المتشابه إلى المحكم ، والمتشابه ما تقدم من الآية والخبر ، والمحكم ما سيأتي من الآيتين قريبا إن شاء الله تعالى.

«و» أيضا «لنا» حجة من السمع «قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (١) ولم يفصل» بين الدنيا والآخرة في ذلك «وقوله تعالى (لَنْ تَرانِي) في جواب قول موسى (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) (٢).

قال صاحب الكشاف : إن بعض سفهاء بني إسرائيل طلبوا من موسى أن يريهم الله بدليل ما حكاه الله سبحانه عنهم من قولهم (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) (٣) فأنكر عليهم موسى صلوات الله عليه وألزمهم الحجة ونبّههم على الحق فتمادوا وضلوا وقالوا : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) (٤) فأراد موسى صلوات الله عليه أن يسمعوا النص من الله سبحانه باستحالة ذلك فقال الله سبحانه : (لَنْ تَرانِي) وخرّ موسى صلوات الله عليه مغشيّا عليه من تلك المقالة العظيمة ... إلى آخر كلامه.

وللقاسم والهادي عليهما‌السلام في تفسيرها خلاف ذلك وقد ذكرناه في الشرح.

(فرع)

(٥) «والله تعالى لم يلد ولم يولد» كما حكى الله سبحانه وتعالى في سورة الصمد حين سألت اليهود النبيء صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن الله ، فأنزل الله عليه سورة الصمد.

وقال «بعض اليهود» قال في الكشاف» وهم ناس من اليهود ممّن كان بالمدينة.

وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم سلام بن مشكم ونعمان بن أوفى وشاس بن قيس ومالك بن

__________________

(١) الأنعام (١٠٣).

(٢) الأعراف (١٤٣).

(٣) النساء (١٥٣).

(٤) البقرة (٥٥).

١٤٦

الصّيف فقالوا : «بل ولد الله سبحانه» وتعالى عن ذلك «عزير» قال في الكشاف : وسبب قولهم ذلك في عزير أن اليهود قتلوا الأنبياء بعد موسى عليه‌السلام فرفع الله عنهم التوراة ومحاها عن قلوبهم فخرج عزير وهو غلام يسيح في الأرض فأتاه جبريل عليه‌السلام فقال له : إلى أين تذهب؟ فقال : أطلب العلم فحفّظه التوراة فأملاها عليهم لا يخرم حرفا فقالوا : ما جمع الله التوراة في صدره (١) إلّا أنه ابنه.

وقال «بعض النصارى : بل ولد» سبحانه وتعالى عن ذلك «المسيح عيسى» ابن مريم ، وهؤلاء هم الذين حكى الله سبحانه مقالتهم بقوله عزوجل : (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) ... الآية (٢).

وقال «بعض اليهود وبعض النصارى معا» أي أجمعوا على هذا القول معا فقالوا : «هم أبناء الله» كما حكى الله عنهم في قوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) (٣).

قال في الكشاف : معنى قوله تعالى حاكيا أبناء الله أي أشياع ابني الله عزير والمسيح كما قيل لأشياع أبي خبيب وهو عبد الله بن الزبير الخبيبيّون ، وكما كان يقول رهط مسيلمة: نحن أنبياء الله ، وكما يقول الملك وذووه وحشمه : نحن الملوك أي كل فرقة منهم ادعت ذلك وإلّا فكل فرقة تضلل الأخرى.

«قلنا :» ردّا عليهم «الولد يستلزم الحلول» في الوالد «ثم الانفصال» عنه بعد ذلك «ولا يحل إلّا في جسم ولا ينفصل إلّا عنه ، والله تعالى ليس بجسم لما مر» من الأدلة على ذلك «و» من السمع ما «قال تعالى» (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ* لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ* وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) (٤).

__________________

(١) (أ) في قلبه.

(٢) التوبة (٣٠).

(٣) المائدة (١٨).

(٤) الإخلاص (١ ، ٤).

١٤٧

«و» ما «قال» جل وعلا «حاكيا» عن الجن الذين استمعوا (١) القرآن «ومقررا» لقولهم (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا) (٢) أي تعالى شأنه وسلطانه «ما اتخذ صاحبة ولا ولدا» أي تنزه عن ملامسة النساء وطلب الولد.

«و» ما «قال تعالى» (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ») «وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣).

«وقال تعالى : (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) (٤) «وقد صح» القرآن والاستدلال به «بما يأتي» في كتاب النبوءات إن شاء الله واعلم : أنه يجوز الاستدلال بالقرآن على تنزيه الله تعالى ووحدانيته ونفي التشبيه عنه اتفاقا.

(فصل)

قال المسلمون وأكثر أهل الملل الكفرية :

«والله تعالى لا يجوز عليه الفناء» والفناء هو ضد البقاء «لأن الفناء لا يكون إلّا بقدرة قادر إذ لا تأثير لغير القادر كما مر في فصل المؤثرات» لأنه إعدام الموجود فهو فعل يتعلق بالموجود لإعدامه ولا بد للفعل من قادر «والله تعالى ليس من جنس المقدورات» لأنّ المقدورات كلها إنما هي أجسام وأعراض فقط «فلا تعلّق به» جل وعلا «القدرة لما مر» من أنه ليس بجسم ولا عرض فاستحال عليه الفناء سبحانه وتعالى.

وقال «بعض العليّة» وهم من زعم أن للعلّة تأثيرا كتأثير الفاعل وهم بعض المعتزلة الذين زعموا أن العلل تؤثر في الصفات والأحكام فقالوا : «بل لأنّ ذاته» تعالى «أوجبت وجوده» وكذلك أيضا أوجبت قادريته وعالميته وحييته «والذات» أي ذاته تعالى «ثابتة في الأزل وهو» أي الوجود أمر زائد عليها كما مر لهم وهو «لا يتخلف عنها» أي عن الذات «كما مر لهم» في الصفات

__________________

(١) يستمعون.

(٢) الجن (٣).

(٣) الأنعام (١٠٠ ، ١٠١).

(٤) الإسراء (١١١).

١٤٨

والمؤثرات فلزم من ذلك وجوده تعالى في الأزل واستحالة الفناء عليه لوجود العلة المقتضية لوجوده تعالى في الأزل واستحالة الفناء عليه.

«لنا ما مر» عليهم من أنه لا تأثير للعلة وأن صفات الله سبحانه هي ذاته وأن وجود الموجود هو الموجود لا غيره ، «وإن سلّم» ما ادعوه على استحالته «لزم وجود سائر الذوات» أي ذوات الأجسام «بذلك الإيجاب» الذي زعموه وهو إيجاب الذوات للصفات والأحكام «عندهم» وإنما لزمهم ذلك «حيث جعلوها» أي الذوات «ثابتة في الأزل» ولا يعقل الفرق بين الثبوت والوجود «إذ هو» أي تأثير العلّة بزعمهم تأثير «إيجاب بلا اختيار» كما سبق لهم أن العلة توجب المعلول وتقارنه ولا اختيار لها «فما وجود بعض الذوات به» أي بذلك الإيجاب حيث جعلوه مختصّا بالباري تعالى عن ذلك علوّا كبيرا «أولى من بعض» وهو سائر ذوات الأجسام والأعراض إذ لا اختيار للعلة «كما مر» لناعليهم في فصل المؤثرات «ولزم عدم فنائها» أي سائر الذوات «كذلك» أي كما قالوا في ذات الله تعالى «وذلك» أي عدم فنائها «باطل» معلوم بطلانه ضرورة «بما سيأتي إن شاء الله تعالى» في فصل فناء العالم.

«ولزم أيضا» من قولهم ذلك «أن يكون لله تأثيران» اثنان مختلفان : «تأثير اختيار وهو خلقه لمخلوقاته» فإنه خلقها جل وعلا اختيارا «وتأثير اضطرار» أي يكون مضطرّا إليه غير واقف على اختياره «وهو إيجاب ذاته لصفاته» بزعمهم ، ومن جملة صفاته كونه موجودا «ولا يضطر إلّا المخلوق» إذ الضرورة تستلزم الحاجة ولا تجوز الحاجة على الله تعالى.

وقالت «المقتضية» وهم من أثبت تأثير المقتضى وهو الصفة الأخص وهم أبو هاشم ومن تابعه : «بل» إنما لم يجز عليه تعالى الفناء «لأنّ المقتضي» وهو الصفة الأخص «أوجبت وجوده تعالى كما مر» لهم حيث زعموا أن الصفة الأخص اقتضت صفاته الأربع.

«لنا» عليهم «ما مر» من أنّ المقتضى لا تأثير له ولا وجود له أيضا فضلا عن تأثيره.

١٤٩

«وإن سلّم» ما ادعوه على استحالته «لزم أن توجد سائر الذوات وجودا أزليّا «ولا تفنى كما مر» لهم من أن المقتضى وهو الصفة الأخص ثابت لكل ذات عندهم ومن أن تأثيره تأثير إيجاب لا اختيار «ولزم» منه أيضا «أن يكون» الله «تعالى محتاجا إلى ذلك المقتضى» الذي أوجب وجوده وصفاته تعالى عن ذلك علوّا كبيرا «إذ لولاه» بزعمهم «لما كان تعالى موجودا ولا حيّا ولا قادرا ولا عالما» كما سبق تقرير قولهم.

«فإن قيل : فهل يكفرون» (١) بهذه المقالات (٢) الباطلة «كالمجبرة» أي كما حكمتم بتكفير المجبرة لقولهم على الله بالباطل؟

قال عليه‌السلام : «قلت : لا» أي لا يكفرون بذلك «لأنهم لم يثبتوا شيئا محقّقا يكون الله تعالى مضطرّا بسببه أو محتاجا إليه تحقيقا لتلاشي ذلك» أي لبطلانه.

أما المقتضية فواضح قولهم في تلاشي المقتضى كما مر. وأما من جعل الذات علة في الصفات فإنهم قالوا : إن الصفات أمور زائدة على الذات لا تسمّى شيئا ولا لا شيء مع إنكارهم للتعليل أيضا «كما مر» ذكره عنهم في فصل المؤثرات «فلم يجهلوا بالله سبحانه ولم يتعمّدوا سب الله ، وإنما أخطئوا حيث لم ينتبهوا لذلك اللّازم» الذي لزمهم من قولهم «ومن لم يتعمد سب الله فلا إثم عليه لقوله تعالى : (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ) (٣) «ولم يفصل» بين خطإ وخطإ «ولقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» ، «ولم يفصل» صلى الله عليه وعلى آله وسلم بين خطإ وخطإ كذلك إلّا أنه يقال : الخطأ المعفو هو ما لم يتعمّد من الأفعال كقتل المسلم خطأ وأما هذه الأقوال والعقائد فإنّها متعمدة صادرة عن نظر واجتهاد ، فإن ساغ الاجتهاد في أصول الدين أدى ذلك إلى أن كل مجتهد مصيب فيه وهو ممنوع وإلّا أدّى إلى تصويب اليهود والنصارى ونحوهم.

__________________

(١) (ض) فهل يكفر.

(٢) (ب) بهذه المقالة.

(٣) الأحزاب (٥).

١٥٠

ثم يقال : هل وقفوا من معرفة الله سبحانه وما يحق له جل وعلا من الأسماء والصفات وما يجب أن ينفى عنه على ما يجب عليهم أو لا؟ إن وقفوا على ذلك ارتفع الخلاف في المعنى ، وإن لم يقفوا على ذلك فلم يعرفوا الله حق معرفته ، فينظر في ذلك والله أعلم.

قال عليه‌السلام : «بخلاف المجبرة فإنهم جهلوا بالله سبحانه حيث أثبتوا له أفعالا قبيحة لا تتلاشى» أي لا تبطل عندهم ولا يمكنهم الرجوع عنها عند البيان والمناظرة من نسبة الظلم إليه تعالى عن ذلك وخلف الوعد والوعيد وعقاب من لا يستحق العقاب وإثابة من لا يستحق الثواب «فكفروا بذلك» أي بجهلهم بالله تعالى «وسبّوا الله تعالى بنسبتها إليه» تعالى عنها «عمدا حيث نبّههم علماء العدلية في كل أوان» وأقاموا لهم الحق بالبراهين الواضحة فكابروا وعاندوا «فكفروا أيضا» مرة ثانية «بذلك» أي بسب الله سبحانه وتعالى.

(فصل)

أي لا مشارك له في الإلهية والربوبية إذ هو الواحد الذي ليس كمثله شيء ، ومعنى الواحد في حقه المتفرد بصفات الكمال «خلافا للوثنية» وهم عباد الأوثان وهي الأصنام على اختلاف طبقاتهم لتقربهم إلى الله زلفى بزعمهم «والثنوية» وهم من أثبت مع الله إلها غيره وهم فرق :

منهم من زعم أن العوالم كلها محدثة الصورة قديمة المواد وأن النور والظلمة قديمان وأن العالم ممتزج منهما «والمجوس وبعض النصارى» أما الثنوية فزعموا عن آخرهم أن حصول العالم وتكوينه من امتزاج النور والظلمة وأنهما كانا في الأصل متباينين (١) لا ثالث لهما ثم امتزجا في أنفسهما فكان حصول هذا العالم من امتزاجهما ، حكى هذا عنهم الإمام يحيىعليه‌السلام في الشامل وقد بسطنا شيئا من أقوالهم في الشرح.

قال : وأما المجوس فقد دانوا بأن لهذا العالم صانعا قادرا عالما حيّا ولهم أقاويل مضطربة وهم ثلاث فرق :

__________________

(١) (ض) قديمين متباينين.

١٥١

الأولى : زعموا أن النور قديم لم يزل وحده وأنه ذو أشخاص وصور وأن جميع الخير والصلاح والمنافع كلها من جهته وسمّوه يزدان ، وأن الشيطان متولد من شك عرض له ، وقالوا : إن جميع المضار والشرور والقتل والفساد كلها من الشيطان وسمّوه أهرمن ثم اختلفوا في كونه جسما ومحدثا فالأقلّون منهم زعموا أنه قديم والأكثرون منهم ذهبوا إلى أنه محدث وأنه جسم ثم اختلفوا :

فمنهم من قال : إنه حدث من شك عرض ليزدان وفكرة ردية.

ومنهم من زعم أنه حدث من عفونات الأرض.

والفرقة الثانية : زعموا أن النور في الأزل كان خالصا ثم امتسخ بعضه فصار ظلمة فلما رآها النور كرهها وذمّها ، وقالوا : إن الشيطان متولد من تلك الظلمة التي كانت ممسوخة من النور وأضافوا إلى النور جميع الخير والصلاح ، وأضافوا إلى الشيطان جميع المضار والفساد.

الفرقة الثالثة : زعموا أن النور والظلمة قديمان كلاهما وزعموا أنه كان بينهما خلا كانا يجولان فيه ويختلطان بسببه إلى غير ذلك من الخرافات التي لا يقبلها أهل الجنون فضلا عن أهل العقول وقد ذكرنا بعضها في الشرح.

وأما النصارى : فقال الإمام يحيى عليه‌السلام : حكى نقلة المقالات : أن مذاهبهم لا تنضبط ولا تنحصر مع تناقضها ، قال : وهم على ما اشتهر عنهم أربع فرق :

الأولى : الملكانية وهم أقدم فرق النصارى مذهبا وقد قالوا : بأن الله تعالى واحد بالجوهرية ثلاثة بالأقنومية وأن الاتحاد لعيسى عليه‌السلام ما كان من حيث أنه إنسان معيّن بل إنما وقع الاتحاد بالإنسان الكلي.

الثانية : اليعقوبية وهم القائلون بأن الاتحاد إنما كان من حيث الذات حتى قالوا : المسيح (١) جوهر من جوهرين وأقنوم من أقنومين ناسوتي ولاهوتي

__________________

(١) (ض) إن المسيح.

١٥٢

وأنهما امتزجا حتى صار منهما شيء ثالث كما تمتزج النار بالفحمة فيصير منها شيء ثالث وهو الجمرة.

الثالثة : النسطورية وهم القائلون بأن الاتحاد إنما كان من جهة المشيئة.

الرابعة : الأرمنوسيّة زعموا أن عيسى عليه‌السلام كان عبدا لله (١) ورسوله اصطفاه ولكنه اتخذه ابنا له على سبيل التشريف والتكريم.

قال : واشتهر على ألسنة المتكلمين أن النصارى يقولون : إن الله واحد بالجوهرية ثلاثة بالأقنومية.

فأما وصفهم الله تعالى بالجوهرية فالخلاف فيه معهم ليس إلّا من جهة اللفظ لأنهم متفقون على أن الله تعالى ليس بمتحيز وأنه تعالى منزه عن المكان والجهة فمرادهم أنه قائم بنفسه ليس بمفتقر إلى غيره ، وأما الأقنوم فهو اسم سرياني ومعناه عندهم الشيء المنفرد بالعدد والأقانيم عندهم ثلاثة : أقنوم الأب وهو ذات الباري.

وأقنوم الابن وهو الكلمة ، وأقنوم روح القدس وهو الحياة.

قال : وقد تخبط الناس في معرفة مقاصدهم بهذه الأقانيم فذهب بعضهم إلى أن هذه الأقانيم ذوات قائمة بأنفسها وكل أقنوم منها مستقل بنفسه وذهب آخرون إلى أنها أشخاص ، وقال آخرون إنها وجوه وصفات إلى غير ذلك من التفرق والخلاف.

قال : واعلم أن الأشبه عند التحقيق أن مراد النصارى من هذه الأقانيم التي زعموها هو هذه المعاني التي يثبتها هؤلاء الأشعرية وبيانه : أن النصارى يعتبرون في تقرير مذهبهم شرائط ثلاث :

الأولى : وحدة الذات فإن عندهم أن الله تعالى واحد بالجوهرية.

الثانية : أن الصحيح من مذهبهم أن هذه الأقانيم عندهم ذوات مستقلة بأنفسها ليست من قبيل الأحوال والصفات بل ذوات على حيالها منفردة.

__________________

(١) (ب) عبد الله ورسوله.

١٥٣

الثالثة : أن هذه الأقانيم متعدّدة في أنفسها وأعدادها ثلاثة كما سبق وهذه الشرائط الثلاث لا توجد على الكمال إلّا في مذهب الأشعرية فإن ذات الله عندهم هي أصل لهذه المعاني وهي غير متعددة ، وزعموا أيضا أن هذه المعاني متعددة مستقلة بأنفسها ذواتا على انفرادها وهي القدرة والعلم والحياة وغيرها.

وقالوا أيضا : إن هذه المعاني متعددة في أنفسها فبعضهم زعم أنها سبعة ، وزعم بعضهم أنها ثمانية فحصل من هذا (١) أن الشرائط التي اعتبرتها النصارى في قولهم بالأقانيم لا توجد إلّا في مذهب الأشعرية انتهى كلامه عليه‌السلام في الشامل.

قال في الكشاف في تفسير قوله تعالى : (وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا) (٢) ما لفظه : فإن صحت الحكاية عنهم بأنهم يقولون : هو جوهر واحد ثلاثة أقانيم أقنوم الأب وأقنوم الابن وأقنوم روح القدس ، وأنهم يريدون بأقنوم الأب الذات ، وبأقنوم الابن العلم ، وبأقنوم روح القدس الحياة فتقديره الله ثلاثة وإلّا فتقديره الآلهة ثلاثة ، والذي يدل عليه القرآن التصريح منهم بأن الله والمسيح ومريم ثلاثة آلهة ، وأن المسيح ولد الله من مريم ، ألا ترى إلى قوله تعالى : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) (٣) (وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) (٤).

والمشهور المستفيض عنهم أنهم يقولون في المسيح : لاهوتيّة وناسوتيّة من جهة الأب والأم انتهى.

«قلنا :» في الرد على من زعم أن مع الله إلها آخر وجميع المخالفين في المسألة «من لازم كل كفوين» أي مثلين. «اختلاف مراديهما» (٥) فيصح أن يريد أحدهما تسكين الجسم في حال ما يريد الآخر تحريكه. فأمّا أن يوجد مرادهما ويجتمع الضدان وهو محال وأمّا أن لا يوجد مراد واحد منهما وهو محال

__________________

(١) (أ) من هذه الشرائط. (ب) من هذه أن الشرائط.

(٢) النساء (١٧١).

(٣) المائدة (١١٦).

(٤) التوبة (٣٠).

(٥) (ض) صحة اختلاف مراديهما.

١٥٤

لخروجهما عن كونهما قادرين وإن وجد مراد أحدهما دون الآخر مع أنهما مثلان ويشتركان في جميع الصفات فهو (١) محال أيضا لأنه ينقض التماثل وخروج أحدهما عن كونه قادرا لعجزه عن إيجاده مراده «فلو كان فيهما آلهة إلّا الله لفسدتا» أي السموات والأرض «ولذهب كل إله بما خلق ولعلى بعضهم على بعض» بقهره إياه ، وفي هذا إشارة إلى دليل السمع وهو يصح الاستدلال به في هذه المسألة اتفاقا والقرآن مملوء بالآيات الناطقة بتوحيد الله تعالى «وإذا لرأينا آثار صنع كل إله» متميزا عن صنع غيره «ولأتتنا رسلهم» إذ لا بدّ للإله من رسول «ولم يقع شيء من ذلك» الذي ذكرناه «فهو» أي عدم وقوعه «إما أن يكون لعدم الآلهة إلّا الله فهو الذي نريد» وهو الذي قضى به العقل والسمع (٢) «أو» يكون «للاضطرار» من بعض الآلهة «إلى المصالحة» خوفا من المنازعة والفساد «أو لقهر الغالب» من الآلهة «المغلوب» منهم «وأيّا ما كان» من الاضطرار والقهر «فهو عجز» من المضطر والمقهور «والعجز لا يكون إلّا للمخلوقين» فهو من خواصهم «إذ هو» أي العجز «وهن العدد والآلات» أي ضعفها والعدد والآلات أعراض وأجسام ، فالأعراض كالشجاعة وقوة القلب وصفاء الذهن وجودة التدبير ، والأجسام كالسلاح والكراع ونحو ذلك ممّا يستعان به على المقاتلة «وليست» أي العدد والآلات «إلّا للمخلوقين» لا للخالق جل وعلا «لما ثبت من غناه سبحانه عن كل شيء بما مر ذكره» من الأدلة على ذلك «وذلك» الذي ذكرناه من العجز «مبطل لكونهم آلهة» وإنّما هي أسماء سموها هم وآباؤهم لا معنى لها «ولأنّ ما ادعوه من الآلهة محدثة» مخلوقة لوضوح آثار التدبير والحدوث فيها «والمخلوق» الذي قد ثبت عجزه «ليس بكفو للخالق» القادر على كل شيء «لكونه» أي المخلوق «مملوكا» مربوبا «والمملوك لا يشارك المالك في ملكه» بل هو وما تحت يده من جملة ملك مالكه.

قال السيد الإمام العلامة المرتضى بن مفضل قدس الله روحه قد ثبت وجود القرآن الكريم وفيه الآيات الكثيرة والدلالات الباهرة المنيرة القطعية

__________________

(١) (ب) وهو.

(٢) (ض) قضى به دليل العقل والسمع.

١٥٥

الجلية في نفي ثاني إله البرية فلا يخلو إمّا أن يوجداه معا أو يوجده أحدهما أو يوجده غيرهما :

إن أوجداه [معا] (١) كانا كاذبين جاهلين ولم يكونا إلهين.

وإن أوجده أحدهما كان كاذبا أيضا والثاني عاجزا إن (٢) لم يمنعه عن نفيه ولم يكونا ربّين.

وإن أوجده غيرهما فمع وجود الثاني يكون كاذبا ولم يكن ربّا ومع عدمه يكون صادقا وهو الله رب العالمين.

(فرع)

قالت «العترة عليهم‌السلام والجمهور» من العلماء من الزيدية وغيرهم : «ولا قديم» يوجد «غير الله تعالى» لما مر في فصل حدوث العالم من أن كل ما عدا الله سبحانه جسم أو عرض وكل جسم أو عرض محدث «خلافا لمن أثبت معاني قديمة» وهم الأشعرية والكرامية حيث جعلوا صفاته تعالى معاني قديمة قائمة بذاته على ما تقدم ذكره عنهم «و» خلافا لمن أثبت «كلاما قديما» وهم الأشعرية أيضا والحشوية فإنهم قالوا : إن كلام الله قديم وسيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى.

«قلنا : يلزم أن يكون للقدماء» الذين زعموهم «ما له تعالى من الإلهية» والصفات الحميدة والأسماء الحسنى «لعدم المخصص» لبعض القدماء على بعض مع الاشتراك في القدم.

«و» لعدم «الفرق» حينئذ بين قديم وقديم «وقد بطل أن يكون غيره» جل وعلا «إلها بما مر» من الأدلة.

(فصل)

«ولم يكلف الله» سبحانه «عباده العقلاء من معرفة ذاته إلّا ما مر» ذكره فيما سبق.

__________________

(١) (أب) ناقص معا.

(٢) (ض) إذا.

١٥٦

فأما من لا عقل له فلا تكليف عليه.

والذي يجب على المكلف : أن يعلمه جل وعلا ربّا مالكا للسماوات والأرض ومن فيهما أوّلا آخرا قادرا عليما سميعا بصيرا أوجد العالم من العدم المحض ، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير لا إله إلّا هو (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ...) الآية (١).

وذلك «لتعذر تصوره تعالى» أي لاستحالة تصوره «لما ثبت من أنه تعالى ليس بجسم ولا عرض والتصور إنّما يكون لهما» أي للجسم والعرض ضرورة أي يعلم بضرورة العقل لأنه لا يصح التصور إلّا فيما كان كذلك ، فثبت أنه لا طريق للمخلوق إلى معرفة كنه ذاته تعالى ، ولهذا قال الوصي عليه‌السلام : (ما وحّده من كيّفه ، ولا حقيقته أصاب من مثّله ، ولا إيّاه عنى من شبّهه ، ولا صمده من أشار إليه وتوهّمه).

وقال عليه‌السلام : (العقل آلة أعطيناها لاستعمال العبودية لا لإدراك الربوبية ، فمن استعملها في إدراك الربوبية فاتته العبودية ولم ينل الربوبية).

وقال القاسم بن إبراهيم عليه‌السلام : (جعل الله في جميع عباده فنّين (٢) الروح والعقل وهما قوام الإنسان لدينه ودنياه وقد حواهما جسمه وهو يعجز عن صفتهما فكيف يتعدّى هذا الجاهل إلى وصف الخالق ولا (٣) يقدر على وصف المخلوق).

وإلى مثل هذا أشار الإمام عليه‌السلام بقوله : «وتعذر فهم التعبير عن كنهها» أي لتعذر تصوره تعالى وتعذر فهم التعبير إلى آخره وكنهها أي حقيقتها «لأنّ التعبير إنما يفهم ضرورة عمّا يصح أن يدرك بالمشاعر» أي يعلم استحالة فهم التعبير بضرورة العقل عمّا لا يصح أن يدرك بالمشاعر وما يلحق بها.

«وهي» أي المشاعر «الحواس الخمس» السمع والبصر والطعم والشم واللمس «وما يلحق بها» أي بالحواس الخمس في الإدراك «وهو الوجدان» وهو

__________________

(١) الشورى (١١).

(٢) في نسخة شيئين.

(٣) (ب) وليس يقدر.

١٥٧

ما يدرك بالعرض النفسي «المدرك به نحو لذة النفس وألمها» واللذة إدراك ونيل ما هو عند المدرك كمال وخير ، والألم إدراك ونيل لما هو عند المدرك نقص وضرّ.

ومعنى الإدراك به أنه «يفهم المخاطب ما كان أدركه» أي الشيء الذي أدركه بعينه من المدركات «بها» أي بالحواس الخمس «وما يلحق بها» وذلك المدرك هو المسموع والمبصر والمطعوم والمشموم والملموس ولذة النفس وألمها «أو» يفهم المخاطب «مثله» أي مثل ما أدركه من المدركات يفهمه بالقياس على ما أدركه بعينه منها «بالتعبير المعروف الدّلالة» أي الذي عرفت دلالته «على نحو ذلك المدرك» الذي ثبت ووجد «عنده» أي عند المخاطب كما إذا عبر عن إنسان لم يدركه ببصره أو عن ملموس لم يلمسه أو مطعوم لم يطعمه أو ألم أو لذّة لم يدركهما فإنه يفهمه ويتصوره ويمكن التعبير عنه بالقياس على ما قد أدركه لأنه مثله «و» قد علم أنه «لا يصح أن يدرك بالمشاعر» المذكورة «والوجدان» المذكور (١) «إلّا جسما أو عرضا ، وقد بطل بما مر» وتكرر «أن يكون الله تعالى جسما أو عرضا فثبت» بذلك «تعذر فهم التعبير عن كنه ذاته تعالى».

«و» اعلم أن «العلم بأن للمصنوع صانعا لا يستلزم معرفة كنه ذات صانعه» أي معرفة حقيقة صانعه بالإحاطة به من جميع الوجوه وإنما يستلزم أن له صانعا حيّا قادرا عليما حكيما «كالآثار» المصنوعة «الموجودة بالقفار» فإن العقل لا يهتدي إلى معرفة كنه ذات صانعها من كونه طويلا أو قصيرا أو أبيض أو أسود أو نحو ذلك ، وإنما يحكم العقل بأن لها صانعا حيّا قادرا عالما عليما حكيما فثبت بذلك أن الله سبحانه لم يكلف عباده من معرفته إلّا ما مر.

وثبت بطلان قول من زعم أنه وقف من معرفة ذات الله سبحانه على خلاف ما ذكر وأنه لا يجوز أن يثبت له تعالى من الصفات إلّا ما دل عليه الفعل بنفسه أو بواسطة كونه تعالى عالما حيّا وما عداه لا دليل عليه وما لا دليل عليه وجب نفيه.

__________________

(١) (أ) المذكور ضرورة.

١٥٨

قال الإمام يحيى عليه‌السلام في الشامل : وهذا القول إنما قرروه على ما حكيناه من مذهبهم أنهم مطلعون على العلم بحقيقة ذات الله تعالى وصفاته ويعلمون منه ما يعلمه من نفسه.

قال : وهذا خطأ وهجوم على أمر عظيم من غير بصيرة.

قال : والمختار عندنا : أنه لا يمتنع اختصاص الله تعالى بأوصاف غير متناهية لا نطلع على شيء منها. انتهى.

قال الإمام عليه‌السلام : قال «الإمام يحيى» بن حمزة «وأبو الحسين البصري» من المعتزلة «وضرار» بن عمرو «وحفص الفرد» من المجبرة : «وله تعالى ماهيّة يختص» هو تعالى «بعلمها» ولا نعلمها نحن.

«قلنا : الماهيّة ما يتصور في الذهن» والتصور لا يعقل إلّا لما يدرك بالحواس وما يلحق بها «وقد امتنع أن يتصوره تعالى الخلق حيث لم يتمكنوا إلّا من تصور» الجسم أو العرض وهما من خواص «المخلوقات اتفاقا بيننا وبينهم» فإنه لا يصح التصور إلّا للجسم أو العرض «وعلم الله» أي علمنا بالله «سبحانه» وما يحق له «ليس بتصور» منا لحقيقته تعالى لأن التصور هو ارتسام صورة الشيء المتصور في الذهن وذلك مستحيل في حق الله تعالى «اتفاقا كذلك» أي بيننا وبينهم.

واعلم أن الإمام يحيى عليه‌السلام لم يرد هذا وقد صرح به في كتابه وإنما أراد أن الله سبحانه وتعالى يعلم من ذاته ما لا نعلم عكس قول أبي هاشم الذي سيأتي إن شاء الله ، وقد بسطنا الكلام في الشرح ، ولعل أبا الحسين وضرارا وحفصا لم يريدوا إلّا ذلك أيضا والله أعلم. «فإن أرادوا» أي الإمام يحيى ومن معه «بذلك» الذي ذكروه «ذاتا لا يحيط بها المخلوق علما فصحيح» أي فقولهم حق وهو الذي أرادوه كما عرفت.

وقال «أبو هاشم مقسما» أي حال كونه مقسما بالله سبحانه «أنه ما يعلم الله من ذاته جل وعلا إلّا مثل ما يعلم هو» أي مثل ما يعلم أبو هاشم.

«قلنا :» هذا غلو وخروج عن حد العقل وارتكاب لأمر عظيم بغير بصيرة وقد «قال تعالى : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ

١٥٩

عِلْماً) (١) أي لا يحيطون بذاته علما أي لا يعلمون كنه ذاته تعالى «والله سبحانه قد أحاط بكل شيء علما بمعنى لا يغيب شيء عن علمه» بل هو العالم بكل شيء عالم الغيب والشهادة ومن جملة الأشياء المعلومة له جل وعلا ذاته جل وعلا «لا كإحاطة الأسوار» وهي الجدران المحيطة بما هو داخلها إذ هي من صفات الأجسام.

واعلم : أنه يحرم التفكر في ذات الله تعالى لأنه يؤدي إلى الشك مع أن الفكر لا يناله جل وعلا.

ولقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : «تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق فإنكم لن تقدّروا قدره».

وقال علي عليه‌السلام : (من تفكر في خلق الله وحّد ، ومن تفكر في الله ألحد).

وقال مصنف شرح نهج البلاغة (وهو ابن أبي الحديد) في معنى هذا :

والله ما موسى ولا عيسى المسيح ولا محمّد

عرفوا ولا جبريل وهو إلى محل القدس يصعد

من كنه ذاتك غير أنّك أوحدي الذّات سرمد

عرفوا إضافات ونفيا والحقيقة ليس توجد

 ... إلى آخرها.

(فصل)

قال «أئمتنا عليهم‌السلام» وبعض المعتزلةكالشيخ أبي الحسين البصري والشيخ أبي الهذيل ومحمود بن الملاحمي وأبي القاسم بن شبيب التهامي وغيرهم فهؤلاء قالوا العدم نفي محض فلا ذات ثابتة في حال العدم «وكون الله عالما بما سيكون ، وقادرا على ما سيكون لا يحتاج إلى ثبوت ذات ذلك المعلوم والمقدور في الأزل» أي في العدم والقدم بل يصح أن يتعلق علمه تعالى وقدرته بالمعدوم بمعنى أنه تعالى يعلم أنه سيوجد المعدوم على الصفة التي يوجده عليها وكذلك يقدر الله تعالى على اختراع المقدور المعدوم جسما كان أو

__________________

(١) طه (١١٠).

١٦٠