عدّة الأكياس في شرح معاني الأساس - ج ١

أحمد بن محمّد بن صلاح الشرفي القاسمي

عدّة الأكياس في شرح معاني الأساس - ج ١

المؤلف:

أحمد بن محمّد بن صلاح الشرفي القاسمي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الحكمة اليمانية للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٤
الجزء ١ الجزء ٢

تقدم ، فثبت أنه أي الاختلاف المذكور لفاعل قادر حيّ مختار حكيم عليم.

وأيضا : فإنا وجدنا في تضادّ الظلمة والنور واختلاف الليل والنهار من الحكمة الباهرة والنعمة الشاملة لجميع الخلق (١) البالغة ما يضطر ذوي العقول أن ذلك لفاعل مختار قاصد للحكمة والنعمة.

وإذا تأملت العالم وجدته كالبيت المبني المعتد فيه جميع عتاده فالسماء مرفوعة كالسقف والأرض ممدودة (٢) كالبساط والنجوم منضودة معلّقة كالقناديل ، والجواهر مخزونة في معادنها التي جعلت لها كالخزائن والإنسان كالملك المخول لجميع ما في البيت من ضروب النبات والحيوانات وهي مهيأة كلها مصروفة في مصالحه معدّة لمنافعه.

فكّر في لون السماء وما فيه (٣) من صواب التدبير فإن هذا اللون أشد الألوان موافقة للبصر وأعون على تقويته.

ألا ترى أن من صفات الأطباء لمن أصابته آفة أضرّت ببصره : أن يدمن الاطلاع في الماء والخضرة ويجعل تلقاء عينيه إجّانة خضراء فيها ماء فانظر كيف جعل أديم السماء بهذا اللون الأخضر الذي يضرب إلى سواد ليمسك البصر المتقلب فيه المدمن على رؤيته.

فكّر في طلوع الشمس وغروبها لإقامة دولتي الليل والنهار فلولا طلوعها لبطل أمر العالم كله ، فكيف كان الناس يسعون في معايشهم ويتصرفون في أمورهم والدنيا مظلمة عليهم ، وكيف كانوا يتهنئون الحياة (٤) مع فقدهم النور ولذته وروحه (٥) ، فالأرب في طلوعها ظاهر يستغني بظهوره عن الإطناب فيه.

ولكن تأمل المنفعة في غروبها فإنه لو لا غروبها لم يكن للناس هدوء ولا قرار ولا راحة مع عظم حاجتهم إلى ذلك لراحة أبدانهم وجموم حواسهم

__________________

(١) (ض) الخلائق.

(٢) (ض) مبسوطة.

(٣) (أ) فيها.

(٤) (أ) بالحياة.

(٥) (ض) وروحته

١٠١

وانبعاث القوة الهاضمة للطعام وتنفيذ الغذاء إلى الأعضاء بل (١) كان الحرص يحمل بعض الناس من أهل الحرص على مداومة العمل ومتابعته لتكثر منافعهم واكتسابهم فيضر ذلك بقواهم وبأجسادهم ، فإن كثيرا من الناس لو لا جثوم هذا الليل عليهم بظلمته لما هدءوا عن العمل رغبة في الكسب ولا قرّوا وربّما أداهم ذلك إلى التلف.

ثم كانت الأرض تحمى بدوام شروق الشمس عليها واتصاله بها حتى يحرق (٢) كل ما عليها من حيوان ونبات إلى غير ذلك من المصالح والمنافع فصار النور والظلمة على تضادهما متعاقبين على مصلحة الخلق وقوام العالم ومنفعتهم.

وأما منافع ما بثّ الله سبحانه في الأرض والسماء من الخلق العجيب من صنوف الحيوانات وأنواع الثمار والنبات ومسير الشمس والقمر في البروج وتعاقبهما فوجه الحكمة فيه واضح ، وسبوغ النعمة فيه للمخلوقين ظاهر لأولي البصائر ، وجميع ذلك لا يكون إلّا بتدبير مدبّر حكيم مختار وهو الله جل وعلا شأنه «فتبارك الله أحسن الخالقين» «ولزم تقدمه» أي ذلك الفاعل «ضرورة عدم اختياره وعدم صحة كونه فاعلا لو لا تقدمه» أي لأجل أنه يعلم بضرورة العقل أنه لو لم يتقدم الفاعل على فعله لكان غير مختار وغير فاعل وقد ثبت كونه فاعلا مختارا فثبت تقدمه.

«وأيضا هما» أي السموات والأرض وهذا دليل ثالث «كالمبنيات» من الدور والقرى مما يعمله (٣) البشر ويضم بعضه إلى بعض «إذ لم تثبت (٤) الزيادة والنقصان والتحويل والتبديل والجمع والتفريق في المبنيات إلّا لأنها محدثة» مقدورة لقادر متقدّم عليها إذ لو كانت قديمة لاستحال الإمكان فيها.

«والفارق» بين السموات والأرض والمبنيات التي يبنيها البشر في وجه العلّة «معدوم» ودليل القياس العقلي مفيد للعلم وهو الحجة العظمى التي احتج

__________________

(١) (ض) ثم كان.

(٢) (أ) تحرق.

(٣) (ض) يفعله.

(٤) (أ) تمكن.

١٠٢

بها الله تعالى على من جحد وكفر حيث قال عزوجل : (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ ..) الآية (١).

وقال تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى ..) الآية (٢).

«وأما غيرهما» أي غير السموات والأرض «مما ذكر في سياق الآية» المتقدم ذكرها «فحدوثه مدرك ضرورة» أي بضرورة العقل أي بالعيان والمشاهدة والعلم الذي لا يحتاج إلى نظر واستدلال بل علم بالضرورة أنه كان بعد إن لم يكن «فحدوث العالم لا يخلو إمّا أن يكون لفاعل أو لغيره» ممّا (٣) زعم أنه يؤثر كالعلّة ونحوها «أو لا لفاعل ولا لغيره ليس الثالث لأنّ تأثيرا لا مؤثر له محال» يعرف بضرورة العقل وبذا أي بكونه محالا «يعرف بطلان قول عوام الملحدة إن الدجاجة والبيضة محدثتان ولا محدث لهما» ، وكذا قولهم في الحوادث اليومية ، ويكفي في بطلان قولهم كونه جحدا للضرورة فإن العقلاء يحكمون بفطرة عقولهم أن المحدث لا بدّ له من محدث ، وأن الأثر لا بد له من مؤثّر «و» بذا يعرف أيضا بطلان «قول ثمامة» بن الأشرس من المعتزلة إنّ «المتولد» من الأفعال «حدث لا محدث له» وسيأتي تحقيق قوله وإبطاله إن شاء الله تعالى «وإلّا» أي وإن لم يكن تأثير لا مؤثر له محال عند العقلاء «لزم أن يوجد بناء بلا بان وهو» محال فثبت أن المحدث لا بدّ له من محدث ، ولا الثاني وهو كون المؤثر في العالم علّة أو نحوها ممّا زعم تأثيره وإن كان في الحقيقة غير مؤثر «إذ لا تأثير لغير الفاعل كما تقدم في فصل المؤثرات فثبت أنه» أي حدوث العالم «لفاعل» أحدثه وصنعه واخترعه من العدم المحض بعد أن لم يكن شيئا وهو الله رب العالمين.

«قالوا» أي من خالف في حدوث العالم من الفلاسفة وغيرهم «تعلّق القدرة به» أي بالعالم «في حال عدمه محال ، قلنا : بل محال أن تتعلق القدرة» من الفاعل «بالموجود» إذ هو بعد (٤) وجوده مستغن عن المؤثر.

__________________

(١) يس (٧٨).

(٢) الواقعة (٦٢).

(٣) (ب) كما زعم.

(٤) (أ) حال وجوده.

١٠٣

«وإنما تتعلّق» القدرة «بالمعدوم لتحصيله» أي لإيجاده لأنّ المقدور لو كان حاصلا عند تعلّق القدرة به لتحصيله [كما ذكرتم] لأغنى (١) ذلك أي حصوله عن تعلّق القدرة به فيبطل (٢) ما زعمتموه قالوا : دليلنا : العمارة فإنها تعلّقت القدرة بالحجارة للعمارة والحجارة موجودةحال العمارة.

قلنا : الحجارة ليست العمارة وإنما هي من جملة آلة العمارة لأن العمارة هي ضم الأحجار بعضها إلى بعض على الصّفة المخصوصة ، فتعلق القدرة بالعمارة إنما كان حال عدمها أي عدم العمارة بواسطة الآلةالتي هي الحجارة ونحوها.

قالوا : العمارة هي نفس الحجارة وإنما كانت العمارة كامنة في نفسهاأي في نفس الحجارة.

«قلنا» : هذا هو المحال الذي لا يخفى على أهل العقول لأن كون (٣) الشيء كامنا في نفسه لا يعقل لأنّا نعلم بضرورة العقل أنّا لو فتّشنا الحجارة وكسّرناها لم نجد فيها الدور والبيوت.

واعلم : أن كثيرا من المتأخرين يعتمدون في حدوث العالم على دليل الدعاوى وتقريره بأربعة أصول :

أحدها : أنّ في الجسم عرضا غيره. ثانيها : أن ذلك العرض محدث.

ثالثها : أن الجسم لم يخل منه ولم يتقدّمه. رابعها : أن ملازمته إياه يستلزم حدوثه.

أما إثبات الأصل الأول وهو : أن في الجسم عرضا غيره : فإنه معلوم بالضرورة لأنّ كل عاقل يفرق بين المجتمع والمفترق والمتحرك والساكن تفرقة ضرورية لا تندفع بشك ولا شبهة.

والمراد بالعرض : الصفة اللّازمة للجسم كالاحتراك والسكون والاجتماع

__________________

(١) (أ) لأغناه.

(٢) فبطل.

(٣) (ب) لأن كمون الشيء في نفسه لا يعقل.

١٠٤

والافتراق ونحو ذلك ، لا الكون الذي هو المعنى الذي يزعمه بعض المعتزلة كما سيأتي ذكره قريبا إن شاء الله تعالى.

قال الإمام أحمد بن سليمان عليه‌السلام : ولا خلاف عند أهل البيت عليهم‌السلام في العرض وثبوته وأنه مدرك إلّا الحركات.

قلت : الحركة مدركة بحاسة البصر لأنّ الحركة هي مرور الجسم في الهوى والسكون ضدّه وهو استقراره وقتا فصاعدا ، والاجتماع عدم تفرقه والافتراق ضدّه ، وهو مدرك.

ولعله عليه‌السلام يريد بالحركات المعاني التي زعموها مؤثرة فإنها غير مدركة والله أعلم.

قال : وقالت المطرفية : الأعراض كلّها تعلم ولا تدرك بالحواس.

وقالوا : هي لا تحل ولا تحل ولا تتوهم وأثبتوها شيئا.

وقالوا : لا يرى اللّون لكنه يعلم ، ولا يسمع الصّوت لكنه (١) يسمع الجسم المصوت ولا يدرك عندهم الطعم ولا الرائحة ولا الحرارة ولا البرودة ولا الألم لكن تدرك الأجسام وتعلم الأعراض انتهى.

قلت : وروي عن الأصم من النواصب ، وحفص الفرد من المجبرة وهشام بن الحكم من الروافض وغيرهم : أنه لا عرض في الجسم وأنكروا ما يعلم ضرورة ، وهؤلاء هم المعروفون بنفاة الأعراض.

وقيل : إنهم لا ينفون الصفات إذ هي ضرورية ، ولكنهم ينفون المعاني التي ذهب (٢) إليها بعض المعتزلة وهي الأكوان ونحوها.

وقد عدّ القرشي وغيره الأعراض اثنين وعشرين جنسا وهي :

الألوان ، والطعوم ، والروائح ، والحرارة ، والبرودة ، والرطوبة ، واليبوسة ، والشهوة ، والنفرة ، والحياة ، والقدرة ، والفناء ، والأكوان ، والاعتمادات ، والتأليفات ، والأصوات ، والآلام ، والاعتقادات ، والإرادات ،

__________________

(١) (ض) ولكنّه.

(٢) (ب) ذهبت.

١٠٥

والكراهات ، والظنون ، والأفكار.

قالوا : وتنقسم إلى مدرك وهي الخمسة الأول والصوت والألم ، وغير مدرك وهو سائرها.

وتنقسم أيضا إلى مقدور لله فقط وهي الاثنا عشر الأول.

وإلى مقدور للعباد أيضا وهي العشرة الباقية.

قالوا : وتنقسم أيضا إلى ما لا يوجب وهي المدركات ، وإلى ما يوجب وهو سائرها.

وتنقسم أيضا إلى باق وهو ما عدا الصوت والألم من المدركات والرطوبة واليبوسة والحياة والقدرة والكون والتأليف واللّازم من الاعتمادات وغير باقية وهو سائرها (١) ، إلى غير ذلك من القسمة. انتهى ما ذكره القرشي.

ومرادهم بالباقي ما يبقى وقتين فصاعدا.

قلت : وعدّ الإمام أحمد بن سليمان عليه‌السلام الضّياء والظلمة من جملة الأعراض.

وأرادوا بالفناء ما زعموه من أنه عرض يخلقه الله لإفناء العالم مضادّ له وسيأتي إبطاله إن شاء الله تعالى.

وأرادوا بالأكوان والعلم والقدرة المعاني التي زعموها في الأجسام الموجبة بزعمهم كنحو الحركة والسكون والعلم الموجب للعالميّة والقدرة الموجبة للقادريّة ، وقد مرّ إبطالها في فصل المؤثرات.

وأيضا : فإنا لا نجد طريقا إلى العلم بالكون الذي زعموه مؤثرا في الحركة والسكون ونحوهما ، وإنما نجد المؤثر فيها الفاعل لأن الطرق التي توصل إلى العلم بالأشياء إمّا العقل أو الحواس الظاهرة أو إدراك النفوس أو دليل الشرع ، فمن ادّعى علم شيء من غير هذه الطرق فقد أحال وهذا الكون الذي زعموه لا يدرك بأيها فبطل وجوده فضلا عن تأثيره ثم نقول :

__________________

(١) (ب) وهي.

١٠٦

يستحيل أن يفعل العاقل فعلا ولا يدركه بحسّ ولا غيره وإلّا فأوجدونا ذلك حتى يكون هذا الكون مثله.

وأما قولكم : إنه لا يقدر على صفات الذات إلّا من يقدر على الذات قياسا على الكلام فإنه باطل لأنّ الكلام صفة للمتكلم وليس بموصوف كما زعمتم ، وهو من جملة الأعراض القائمة بالأجسام ، وكونه أمرا أو نهيا أو خبرا لا يخرجه عن كونه صفة ، كلون البياض والسّواد والصفرة ونحوها وكالطول والقصر ، فإن جميع ذلك أعراض من صفات (١) الأجسام وهي معلومة معقولة لا تعقل الأجسام إلّا عليها ، وكذلك الاحتراك والسكون والاجتماع والافتراق صفات للجسم المتحرك والساكن والمجتمع والمفترق وهي معلومة مدركة بالحسّ لا تقوم إلّا بالجسم ولا ينفك الجسم عنها وهي غير الجسم ، والمؤثر فيها الفاعل ، وأما التّحيّز فهو نفس المتحيّز. وكذلك الوجود هو نفس الموجود كما سيجيء إن شاء الله تعالى في فصل الصفات.

وأما قولهم : إن الصفات زائدة على الذات لا هي الموصوف ولا غيره ولا شيء ولا لا شيء فبطلانه لا يخفى على أهل البصائر كما سيجيء إن شاء الله تعالى في فصل الصفات.

قال الإمام أحمد بن سليمان عليه‌السلام في كتاب حقائق المعرفة :

وقد أجمع المتكلمون المتقدمون والمتأخرون على أن الحركة والسكون حالتان حادثتان إلّا أصحاب الأسطوان وهم بعض أتباع بلعام فإنهم زعموا أن العالم لم يزل متحركا بحركات لا نهاية لها ، وقالوا : لو ثبت لها أول وآخر لثبت حدوث العالم.

قال : والحجة عليهم أن كونه متحركا بعد أن كان ساكنا يدل على حدوث (٢) الحركة ، وكونه ساكنا بعد أن كان متحركا يدل على حدوث (٣) السكون بالمشاهدة والعلم الضروري انتهى.

__________________

(١) (أ) أعراض صفات للأجسام.

(٢) (أ) حدث.

(٣) (أ) حدث.

١٠٧

فثبت أن الحركة والسكون مما يدرك بالمشاهدة.

والأصوات كما ذكرنا أعراض وشبحها الذي تحل فيه المتكلم في الابتداء والشجرة (١) التي خلق الله الكلام فيها ، وبعده الهوى فطره الله سبحانه على حمل الأصوات والدخول بها في الآذان السّامعات فهو شبحها بعد انقطاع كلام المتكلم.

وقولهم إن الحياة من جملة الأعراض إن أرادوا بالحياة الرّوح فالصحيح أنه جسم كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، وإن أرادوا به غيره فليس في الحيّ شيء يعقل يسمّى حياة غير الروح وغير الجسم الحي والله أعلم.

وأما الأصل الثاني : وهو أن هذه الأعراض محدثة : فإنا نعلم بالضرورة حدوث الحركة بعد أن لم تكن وكذلك باقيها ، وكذلك نعلم أنه ما من جوهر حاصل في جهة إلّا ويجوز انتقاله عنها ، ولا ساكن إلّا ويجوز تحركه ، ولا مجتمع إلّا ويجوز افتراقه ، ولا مفترق إلّا ويجوز اجتماعه لأنّ المصحّح لهذه الحصولات ليس إلّا كونها أجراما ، والجرميّة حاصلة في كل جوهر.

وأما الأصل الثالث : وهو أن الأجسام لا يجوز خلوّها عن هذه الأعراض فمعلوم بالضرورة أيضا لأنّ الأجسام لا تعقل إلّا لازمة لهذه الصفات (٢).

وأما الأصل الرابع : وهو أن ملازمة الأجسام للأعراض مستلزم لحدوث الأجسام فهو معلوم أيضا ، لما ثبت من ملازمة الجسم للعرض وعدم انفكاك العرض عنه ، وذلك واضح فثبت حدوث العالم.

واعلم أنه لا خلاف بين المسلمين في حدوث العالم.

قال الإمام عليه‌السلام : ومعناه عند أئمة أهل البيت عليهم‌السلام وجماهير علماء الإسلام من المعتزلة وغيرهم : أنه لا ذوات قبل إحداثها وأن الله سبحانه هو الموجد لها والمذوّت لها من العدم المحض ، وقالت البهشمية ، ومن

__________________

(١) (ض) أو الشجرة.

(٢) صوابه ملزومة تمت سيدي الحسين بن القاسم رحمه‌الله.

١٠٨

تابعها : إن ذوات العالم أشياء ثابتة في العدم وأن الله لم يخلقها شيئا ولا يقدر على جعلها شيئا ، وليس لله تأثير إلّا في صفتها الوجوديّة ، وهذه الصفة عندهم : أمر (١) زائد على ذات الموجود لا هي شيء ولا لا شيء ، وأما الذوات فلا تأثير لله بزعمهم في إثباتها وجعلها ذواتا.

ولنا عليهم ما ذكرنا من الأدلة العقلية والآيات القرآنية ، انتهى كلامه عليه‌السلام.

(فرع)

«قال جمهور أئمتنا عليهم‌السلام» وهم القدماء منهم «والجمهور من غيرهم : وصفات العالم» من كونه موجودا محدثا متحيّزا تحله الأعراض ونحو ذلك ، وكذلك صفات الأعراض من كونها قائمة بغيرها ومتنقلة وحالّة في غيرها ونحو ذلك «توصف بأنها محدثة» لأنها لم تتقدم الموصوف فكما يوصف العالم بأنه محدث فكذلك صفاته. وقالت «الأموريّة» وهم الذين يقولون : إن الصفات أمور زائدة على الذّات ، وقد عرفت أن الأمور والمزايا والأحوال بمعنى واحد وإنما هو مجرد اصطلاح في اختلاف العبارة ، لأنها لا هي الموصوف ولا غيره ، ولا شيء ولا لا شيء في الشاهد والغائب عندهم ، وإنما هي اعتبارية كما سيجيء إن شاء الله تعالى.

فقالوا : «الصفات لا توصف رأسا» (٢) لا صفات العالم ولا صفات الله تعالى.

قلنا : إن أردتم بالصفات ما زعمتموه من الأمور ونحوها الزائدة على الذات (٣) التي لا هي الموصوف ولا غيره ولا شيء ولا لا شيء فهي إذا عدم محض لأن ذلك لا يعقل ولا يوجد.

وإن أردتم بالصفة الأعراض القائمة بالأجسام كما هو قولنا ، وأن المراد

__________________

(١) (ض) أمور زائدة.

(٢) (أ) ناقص رأسا.

(٣) (ض) الذوات.

١٠٩

بأنها لا توصف أنه لا يقوم بها غيرها فتكون محلولة لأنه يؤدي إلى أن تكون موصوفة وهو قلب ذواتها وهو محال.

قلنا : ذلك مسلّم في صفات الأجسام القائمة بها أي الحالّة فيها بمعنى أنا لا نجعلها موصوفة أي محلولة لأنه يؤدي إلى عكس حقيقتها وهو رجوع إلى قولنا ، وبطل قولكم إن الصفات أمور زائدة على الذات لا هي الموصوف ولا غيره.

ثم نقول : وحينئذ ما المانع من أن نصفها بالوصف اللّغوي ، فنقول : إن صفات العالم محدثة لا بمعنى أن صفات العالم محلولة ، وأما صفات الله تعالى فهي ذاته لا حالّة ولا محلولة ، فما المانع من أن نصفها بالوصف اللّغوي فنقول صفات (١) الله سبحانه أسماء حسنى قال الله تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) (٢).

وإن أردتم أن الصفات لا توصف «لما يلزم من التسلسل» حيث وصفناها فيؤدّي إلى وصف وصفها وتسلسل إلى ما لا نهاية له «أو» لما يلزم من «التحكم» وهو إثبات فرق بين أمرين من غير دليل «حيث اقتصر على وصفها» أي وصف الصفات «دون وصف وصفها» فهو باطل أيضا بما أوضحه الإمام عليه‌السلام بقوله : «والجواب والله الموفق : أنه قد صح حدوثها لكونها لم تتقدم موصوفها المحدث» الذي هو العالم بل وجدت معه «فصح وصفها بأنها محدثة» مثله «إذ ذلك» أي كونها لم تتقدم موصوفها المحدث «دليل» على كونها محدثة «لا ينكر» أي لا ينكره أحد ، والمعلوم أنه وصف لها بالحدوث وليس الوصف إلّا كذلك فلا تحكّم» يلزم من ذلك إذ قد دل الدليل على صحة وصفها «ووصفها هو القول بأنها محدثة» كما ذكرنا «وكل قول محدث» بلا خلاف.

«فإن قيل فيه» أي في القول «بأنه محدث» أي إذا قلنا هذا قول محدث «فذلك وصف له محدث» لا ينكره عاقل ، «وإن لم نقل إنه محدث فلا وصف

__________________

(١) (ض) فنقول إن صفات الله سبحانه.

(٢) الأعراف (١٨٠).

١١٠

له حينئذ فلم يتسلسل» كما زعمتم.

قال عليه‌السلام : «والتحقيق أن ذلك» أي قولهم الصفات لا توصف «فرار منهم» عمّا لزمهم من ذلك القول واعتذار «كي لا يوصف ما ادعوا لله» سبحانه «من الأمور الزائدة على ذاته تعالى التي هي صفاته تعالى» (١) كالعالمية والقادرية ونحوهما هل هي موجودة أو معدومة ، قديمة أو محدثة كما سيأتي تحقيق قولهم في ذلك وإبطاله إن شاء الله تعالى.

«ثمّ لاذوا بهذا» أي اعتصموا بقولهم هذا إن الصفات لا توصف «ودفعوا به من ألزمهم وصفها بالقدم» فيلزم آلهة مع الله تعالى «أو الحدوث» فيلزم العجز والجهل لله تعالى عن ذلك «كما بيّنّاه ، فقد تبيّن لك بحمد الله بطلانه».

(فصل)

في ذكر صفات الله العليّ وأسمائه الحسنى

قال الإمام يحيى عليه‌السلام : أعلم أن لفظ الصفة يطلق وله معان ثلاثة :

أوّلها : في أصل اللغة وهو عبارة عن قول الواصف ، وليس مقصودهم أنه يطلق على كل قول ، بل القول الذي يدل على بعض أحوال الذات كقولنا طويل وقصير وعاقل وأحمق وكريم ، فيقولون إن هذه أوصاف لغويّة ، ولا يقولون في نحو رجل وفرس وزيد وعمرو إنه وصف لمّا كان الأول دالّا على بعض أوصاف الذات دون الثاني.

والمعنى الثاني : في عرف اللغة وهو يستعمل فيما يفيده قول الواصف ويتضمنه ، فالتأليف في الجسم وصف في العرف لما تضمّنه قولنا طويل وحصول العلم وصف في الواحد منّا لما تضمنه قولنا عالم.

ووجود السواد في المحل وصف لما تضمنه (٢) قولنا أسود ، وهكذا القول

__________________

(١) (ض) صفات الله العلى.

(٢) (ض) يتضمنه.

١١١

في جميع ما تضمنته الأوصاف الجارية فإنه وصف باعتبار ما تضمنته لا باعتبار إطلاقه في نفسه.

والمعنى الثالث : في مصطلح المتكلمين وقد ذكروا للصفة معنيين : عام وخاص : فالعام هو كل أمر زائد على الذات تابع للذات داخل في ضمن العلم بها والوصف لها ، وإنما كان هذا عامّا لأنه يشمل الحكم والصفة والسّلب والإيجاب جميعا.

وأما الخاص : فهي الخصوصية التي لا تستقل بنفسها ويكفي في تحقيق معقولها مجرد الذات ، فقولنا هي الخصوصية عام فيها وفي غيرها ، وقولنا التي لا تستقل بنفسها تنفصل عنها الذات.

وقولنا التي يكفي في تحقيق معقولها مجرد الذات يفصلها عن الحكم فإنه لا بد فيه من اعتبار غيرين يعلم بينهما ويكونان أصلا في معقول حقيقته كصحة الفعل فإنها مستندة إلى القادر والمقدور وهكذا القول في سائر الأحكام فإنها أمور إضافية لا تستقل بنفسها وتفتقر إلى الاعتبار كما ذكرنا ومعقولها مخالف لمعقول الذوات ، فإن الذوات في أنفسها مستقلّة لا تفتقر إلى أمر وراء حقائقها انتهى كلامه عليه‌السلام. وهذا الحد الاصطلاحي إنما هو على مذهب المعتزلة ومن تبعهم في أن الصفات شاهدا وغائبا خصوصية لا تستقل بالمعلومية زائدة على الذات ليست هي الذات ولا غيرها ، وهو مع كونه مخالفا للغة العرب كما عرفت باطل من وجه آخر وهو أنه يؤدي إلى أن تكون صفة الأجسام عدما محضا كما مرّ.

والحق الذي عليه أئمة أهل البيت عليهم‌السلام : أن صفات الأجسام هي الأعراض القائمة بها كما سبق ذكره ، وأما صفات الله سبحانه فهي ذاته كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

وقد أشار الإمام عليه‌السلام إلى ذكر صفاته تعالى بقوله : «ولا بدّ أن يكون المحدث للعالم موجودا إذ لا تأثير للعدم» يعرف ذلك عند العقلاء ضرورة.

١١٢

قال الفقيه العلامة فخر الدين عبد الله بن زيد العنسي رحمه‌الله تعالى ما لفظه : واعلم أنا إذا دللنا على إثبات صانع مختار كفانا ذلك الدليل في أن الله تعالى موجود قديم قادر عليم حيّ ، بحيث لا دليل لنا على هذه الأوصاف التي هي أوصاف الكمال سوى حدوث العالم وحاجته إلى محدث فاعل مختار لأنه لا يصح أن يكون فاعلا مختارا إلّا وهو قادر على ما خلق وعالم بذلك لما في حدوث العالم من الإحكام الذي قد (١) بيّنا بعضه الدال على علمه ، وحي بحيث لا يعقل أن يكون مواتا وهو قادر عالم فاعل مختار ، وموجود لأن المعدوم لا يكون فاعلا مختارا يعلم ذلك ضرورة.

قال : وإنما أردنا التقريب بأن نجري تأنيسا على عادة أصحاب أبي هاشم في أنهم يذكرون هذه الأوصاف فصولا بعد إثبات الصانع ويعتقدون أن إثبات الصانع دلالة مجملة لم يتعيّن بها اختصاصه تعالى بكونه قادرا عالما حيّا موجودا لاعتقادهم أنها صفات مقتضاة عن الصفة الذاتيّة لا يمكن العلم بها إلّا بنظر جديد فلهذا فصّلوا هذه الفصول.

قال : ونحن لا نعتقد الصفة الذاتية ولا المقتضاة ولا أن بعض الصفات تؤثر في بعض على جهة الاقتضاء ، ولا أن ذلك من مذاهب الأنبياء ولا من دين محمّد المصطفى ولا عليّ المرتضى ولا المتقدمين من أهل البيت النجباء صلوات الله عليهم جميعا.

قال : ومن سمع بمقالتهم هذه وهي : تجويز حصول العالم وحدوثه ممن ليس بموجود قادر حي عالم سخر بها غاية السّخرية.

بل ذكر الشيخ أبو الحسين البصري والشيخ محمود الملاحمي من المعتزلة أنهم يجوزون أن الإنسان يعلم أن للعالم صانعا مختارا عدلا حكيما باعثا للرّسل قبل أن يعلم أنه موجود قادر عالم حي ، وهذه ضحكة لا ينبغي ذكرها إلّا على وجه التحذير منها لأنه لازم لهم على ذلك المذهب الذي ذهبوا إليه ، فهم التزموا ما يلزمهم من ذلك وإن كان شنيعا جدّا.

__________________

(١) (أ) ناقص قد.

١١٣

قلت : ولأجل ذلك لم يستدلّوا على وجوده تعالى إلّا بأدلة ضعيفة واهية كدليل التّعلّق ونحوه الذي لا يدل على المقصود إلّا على سبيل التّمحل (١) والتكلف والله أعلم.

واعلم : أن الوجود ليس بأمر زائد على الذات في الشاهد والغائب فوجود الشيء هو نفس ذلك الشيء ، وهذا هو الحق الذي ذهب إليه أكثر العلماء منهم أبو الحسين والخوارزمي وكل من لم يثبت الذوات في العدم.

«قديما» أي لا أول لوجوده «لأن المقارنة» لو فرضت بين الصانع والمصنوع والمحدث والمحدث «تبطل كون المحدث محدثا لعدم الاختيار من الفاعل» لأن اختيار الفعل على تركه لا يكون إلّا قبل وجود الفعل «و» لو فرضنا المقارنة لزم أيضا «عدم صحة إحداثه» أي إحداث المحدث فيلزم قدم العالم وهو محال «لأنه ليس إحداث أحدهما» أي العالم ومحدثه «للآخر بأولى من العكس» لعدم المخصص لأحدهما بكونه صانعا والثاني بكونه مصنوعا لفرض مقارنتهما وذلك واضح البطلان «ولما يلزم» لو فرضنا المقارنة وقد ثبت حدوث العالم بما مرّ من الدلالة على ذلك «من حدوثه تعالى لمقارنته المحدث» الذي هو العالم «ابتداء» أي من (٢) ابتداء وجودهما «فيحتاج» محدث العالم حينئذ «إلى محدث» يحدثه ومحدثه إلى محدث «وتسلسل» إلى ما لا نهاية له «وهو» أي التسلسل «محال» لعدم النهاية فوجب أن يكون محدث العالم قديما «غير محدث» أي لم يكن مصنوعا لصانع البتة «لما يلزم من التسلسل كما مرّ آنفا أو التحكم» أي القطع والحكم بأن محدثا مقتصرا عليه إحداث (٣) محدث العالم بلا حجة ضرورية ولا دليل يستدل به عليه «في الاقتصار على البعض» حيث قلنا يحتاج إلى محدث ولا يحتاج محدثه إلى محدث «كما تزعمه المفوّضة» وهم فرقة من الرافضة زعموا أن الله سبحانه وتعالى يفوّض إلى أحد من خلقه أن يخلق ويرزق كما فوّض عندهم إلى نبيئنا صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهو

__________________

(١) (أ) ناقص التمحل.

(٢) (أ) في.

(٣) (ب) أحدث.

١١٤

عندهم خالق العالم ومن فيه «وكل منهما» أي من التسلسل أو التحكم «معلوم البطلان» لأن العقل يقضي ضرورة ببطلان محدث يحدث محدثا إلى ما لا نهاية له ، وكذلك الاقتصار على محدث يحدث محدث العالم بلا حجة معلومة لا ضرورة ولا استدلالا إلّا مجرد دعوى باطلة ، «قادرا» على كل الممكنات «لأن الفعل لا يصح إلّا من قادر» يعلم ذلك «ضرورة» وهو تعالى القادر حقيقة لأنه تعالى قادر لا بقدرة مجعولة له ، وغيره تعالى من القادرين قادر مجازا لا أنه قادر بقدرة جعلها الله له فهو على الحقيقة مقدور (١).

ولهذا الفرق الذي ذكرناه وقع الاختلاف في مقدور المخلوق ومقدور الخالق ، فمقدور الخالق الأجسام والأعراض ، ومقدور المخلوق نحو الحركة والسكون فقط «حيّا لأن الجماد لا قدرة له» يعلم ذلك «ضرورة» وهو سبحانه الحيّ حقيقة لأنه حيّ لا بحياة وغيره حيّ مجازا لأنه على الحقيقة محيا كما ذكرنا مثله في القادر ومعنى الحي في حقّه تعالى : أنه الذي يجوز منه الفعل والتدبير «عالما» وهو جل وعلا العالم حقيقة لا بعلم ، وغيره عالم بعلم كما سبق مثله في قادر «لأنا وجدنا العالم محكما رصين الإحكام» ولا يخفى إحكام العالم وإرصانه واشتماله على ما لا يحصى من الآيات الباهرة الدالة على الحكمة البالغة على ذوي العقول «على اختلاف أصنافه وتبيانها مميّزا كلّا منها عن الآخر أكمل تمييز نحو إحكام خلق الإنسان» وتركيبه بعد أن كان أصله ترابا ونسله نطفة أمشاجا من لحم ودم وعظم وعصب وعروق تركيبا بليغا في الحكمة.

قيل : إن عظام الإنسان ثلاثمائة وثلاثة وثلاثون عظما (٣٣٣) وعروقه ثلاثمائة وثلاثة وثلاثون عرقا (٣٣٣).

انظر إلى المفاصل وشدّة أسرها فلم تكن عظما واحدا فيبطل التصرف من الانقباض والانتشار والقيام والقعود ، ولم يكن رخوا فيبطل ذلك.

«وتمييزه بذلك» الإحكام «عن نحو إحكام خلق الأنعام» وهي الأزواج

__________________

(١) (ب) مقدر.

١١٥

الثمانية ، وكذلك غيرها من سائر المخلوقات ، من ذلك : أنه لا يشتبه اثنان من الآدميين وما يملكون من الحيوان على كثرتهم وتباينهم في الأقطار في صورة الوجه ولهجة الصوت ولو اشتبه من الناس اثنان أو امرأتان لوقع الفساد ، وكذلك ما يملكون من الأنعام ونحوها ، ولمّا لم يكن في الطيور وما لا يملك من الحيوان شيء من الفساد لو تشابهت جاز أن يشتبه منها اثنان أو أكثر فتبارك الله أحسن الخالقين.

«وذلك» الإحكام «لا يكون إلّا من عالم ضرورة» أي معلوم كونه من عالم بضرورة العقول التي فطرها الله عليها ، «وليس ذلك إلّا الله تعالى» العالم بما تجنّ الصدور وما في قعور البحور.

(تنبيه) : اعترض بعضهم على كلام الأئمة عليهم‌السلام في هذا الموضع فقال :

المعلوم أن قولنا زيد عالم وزيد قادر حقيقة لغوية كقولنا ضارب وقاتل مع أنه يلزم من القول بأن ذلك مجاز في المخلوق الجبر وهو معلوم البطلان.

والجواب والله الموفق : أن المعلوم عند كل عاقل مستقرئ للغة العرب أن معنى قولنا زيد قادر بقدرة خلقها الله تعالى له ، وزيد عالم بعلم خلقه الله له لأنه لم يصر عالما ولا قادرا إلّا بحصول العلم والقدرة علم ذلك باستقراء لغة العرب ، وعلم أنهم لا يشتقّون اسم فاعل إلّا من الفعل الذي يفعله من اشتقّ له وإن لم يفعله من اشتقّ له بل فعله غيره به اشتقوا له اسم مفعول ، فيقولون لمن وقع الضرب به من غيره مضروب ولا يقولون ضارب ، وهذه قاعدة لا يختلف فيها العارفون بلغة العرب وإذا ثبت أن معنى زيد قادر بقدرة خلقها الله له ، وزيد عالم بعلم أي عقل خلقه الله له فهو على الحقيقة مقدر ومعلم ، أي جعله الله يقدر ويعلم ولا يلزم الجبر لأن القدرة غير موجبة للمقدور وليس كذلك ضارب وقاتل فإنهما حقيقة لأن الضرب والقتل فعل زيد حقيقة بتمكين الله له من ذلك فهو الذي فعل الضرب والقتل حقيقة اللّذين اشتق ضارب وقاتل منهما ، بخلاف القدرة والعلم فلم يفعلهما لكن لمّا

١١٦

كان محلّا لهما ساغ بإذن الشارع أن يشتقّ له منهما اسم فاعل فيقال قادر وعالم مجازا كما يقال : التراب منبت للبقل.

فإن قيل : استعماله في المخلوق من غير قرينة دليل على أنه حقيقة. قلنا : العقل من أقوى القرائن على المجاز ، ولا يشترط في كل مجاز أن تكون قرينته لفظية بإجماع أهل اللغة لأنهم يقولون : سال الوادي ، وجرى الميزاب ، ومات زيد ، ومرض عمرو ونحو ذلك ممّا لا يحصى.

[ثم نقول : هل تقول إن اسم قادر في الخالق والمخلوق على سواء أو لا؟

فإن كان الأول لزم الكفر لأن الله تعالى قادر لا باعتبار غيره والمخلوق قادر باعتبار غيره] (١).

وإن كان الثاني فهو الذي نقول وكذلك عالم ، «وبذلك» الذي ذكرنا من الإحكام البالغ والترتيب الباهر «يعرف بطلان دعوى العليّة» كالفلاسفة والباطنية وغيرهم «والطبائعية» وهم كل من أثبت للطبع تأثيرا كالمطرفية وغيرهم «والمنجّمة» وهم من أثبت التأثير للأفلاك السبعة «إذ لا حياة للعلّة والطبع لو تعقّلا ولا للنجوم فضلا عن القدرة والعلم» أي لا قدرة لها ولا علم بالأولوية والقدرة والعلم إنما يكونان تابعين للحياة.

وأيضا : لو فرضنا تأثيرها مع استحالته لكان تأثير اضطرار.

ووجود الحكمة في العالم وصنوفه ينافيه كما مرت الإشارة إلى طرف من ذلك.

فإن قيل : كيف تزعمون أن النطفة تصير بشرا بالصانع القادر ونحن نرى أن (٢) الولد لا يحصل إلّا بعد اجتماع الذكر والأنثى وحصول النطفة في قرار الرحم ، فإن كان الله تعالى خلقه فلم لم يخلقه من غير هذا السبب لتكون الدّلالة أقوى؟

__________________

(١) نقص في نسخة المؤلف من قوله ثم نقول إلى هنا.

(٢) (أ) ناقص أنّ.

١١٧

والجواب والله الموفق : أنه قد ثبت بالأدلة القاطعة المضطرة لأهل العقول أن الله سبحانه هو المركّب للجنين والمصوّر له كيف شاء (١) لما اشتمل عليه من دقائق الحكمة التي تبهر العقول ، والذي يصلح أن نبين هاهنا وجه الحكمة في إجراء ما أجراه الله من العادة وإن كان لا يلزم منا ذلك ، لأنه إذا ثبت أن الله تعالى حكيم فلا يلزم منا معرفة وجه الحكمة في جميع مخلوقاته فنقول : إن الحكمة فيه من وجوه :

منها : أنه تعالى لو خلق البشر من غير هذا الوجه لبطل التعارف بالأنساب لأن التعارف بين الناس يحصل أكثره بأن يقال : فلان بن فلان ، ولو خلق ابتداء لبطل هذا التعارف وفي بطلانه سقوط المعاملات والمصالح الكبيرة بين الناس.

ومنها : لو لم يكن توالد لبطلت صلة الرّحم ، وزال تعطف القرابات والتناصر للأرحام الواشجة ، فيبطل تلذّذ الآباء بالأبناء وتعزّز الأبناء بالآباء وفي هذا زوال مصالح كثيرة من العالم يطول تفصيلها.

ومنها : أن العاقل قد أمر بالتواضع واجتناب الكبرياء ، وأجريت العادة على ما يكون ادّعاء إلى التواضع ، لأن العاقل إذا علم أنه خلق من نطفة قذرة وسار من (٢) مخرج البول مرّة بعد مرة ونشأ من نجاسة يتغذّى منها وينبت لحمه وعظمه منها كان هذا كاسرا لشرّته.

وقد نبّه الله سبحانه وتعالى على هذا فقال : (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) (٣) ... الآية وغيرها من الآيات المنبّهة على ذلك وكذلك القول في الثمار والأشجار والحبوب لا تنبت إلّا عند شروط مخصوصة من بذر وسقي وغرس في موضع تطلع الشمس عليه فالجواب فيه كالجواب في خلق الإنسان ، وهو أن في ذلك من المصالح ما لا يخفى لأن الله سبحانه خلق الدنيا للتكليف والامتحان.

__________________

(١) (ب) يشاء.

(٢) (ض) في.

(٣) المرسلات (٢٠).

١١٨

فحسن في الحكمة أن يجري الله العادة فيما يحدثه على وجه يكون ادّعا للمكلف إلى الصالحات.

وقد علمنا أن المكلف إذا علم أنه لا يحصل على ما ينتفع به من ثمار وزروع إلّا بتحمل مشاقّ من زرع وسقي ثم الحصاد في موضع قد حميت الشمس عليه ورأى ذلك حسنا في عقله لما يرجو من نفعه ، علم إذا نظر وفكّر أنّ تحمل المشاق في طاعة الله تعالى لنيل الثواب أولى ، مع ما أعدّ الله له من الثواب الجزيل على تحمل المشاق في ذلك ، وغير ذلك من أنواع الحكمة.

(فصل)

قال «جمهور أئمتنا عليهم‌السلام» وهم جميع المتقدمين منهم وبعض المتأخرين «والملاحميّة» وهم أصحاب محمود بن الملاحمي ومتابعوه : «وصفات الله تعالى هي ذاته» لا غير ذلك وذلك بناء منهم على ما اقتضاه دليل العقل والنقل والسمع :

أما العقل والنقل فإن المعلوم من لغة العرب أن الوصف والصفة هو المعنى القائم بالجسم كالعلم القائم بالإنسان ، ولمّا كان هذا مستحيلا في حق الله تعالى [لاستحالة (١) كونه تعالى] حالّا أو محلولا ، وقد ثبت أنه تعالى قادر وعالم وحيّ وموجود كانت صفاته هي ذاته تعالى لا غير.

وأما السمع : فقوله تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (٢) ... الآية.

وقول علي عليه‌السلام : (باينهم بصفته ربّا كما باينوه بحدوثهم خلقا فمن وصفه فقد شبّهه ومن لم يصفه فقد نفاه ، وصفته أنه سميع ولا صفة لسمعه).

وقوله عليه‌السلام : وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه بشهادة كل صفة أنها غير الموصوف ، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة فمن وصف الله

__________________

(١) (أ) ناقص لاستحالة كونه تعالى.

(٢) الشورى (١١).

١١٩

سبحانه فقد قرنه ومن قرنه فقد ثنّاه ومن ثنّاه فقد جزّأه ، ومن جزّأه فقد جهله.

ويؤكد هذا من أقوال الأئمة عليهم‌السلام شيء كثير أودعناه الشرح ، قال عليه‌السلام : «وفاقا لأبي الحسين» البصري «والرازي» من المجبرة «وغيرهما» كأبي القاسم البلخي وابن الإخشيدي وسائر شيوخ البغداديين فإن هؤلاء جميعا يوافقون «في صفته تعالى الوجودية» أنها ذاته.

قال عليه‌السلام «ومعناه» أي معنى أن صفات الله هي ذاته «أنه قادر بذاته لا بأمر غيره» زائد على الذات «ونحو ذلك» أي وعالم بذاته وحيّ بذاته وسميع بصير بذاته ، والمعنى أنه ليس إلّا ذاته كما ذكرناه من قبل أنه المتصف بها حقيقة وغيره مجازا وليس معنى الباء ، هنا كمعناها في قولنا : كتبت بالقلم بل كقولنا : جاء زيد بنفسه أي جاء هو لا غيره.

وقال «بعض أئمتنا عليهم‌السلام» وهو الإمام المهدي أحمد بن يحيى عليه‌السلام ومن تبعه على ذلك «وبعض شيعتهم» كالشيخ الحسن الرصاص والفقيه يحيى بن حسن القرشي وغيرهم «وأبو علي» في بعض الروايات «والبهشمية» وهم أبو هاشم وأتباعه : «بل هي» أي صفاته تعالى «أمور زائدة على ذاته تعالى» لا هي الموصوف ولا غيره ولا شيء ولا لا شيء كما قد تكرر عنهم.

قالوا : لما تقرر أن الله سبحانه مخالف لغيره ويستحيل وقوع المخالفة بينه وبين غيره بنفس كونه ذاتا فيجب أن تكون المخالفة بأمر زائد وراء كونه ذاتا وليس ذلك إلّا الصفة التي نريدها وهو المطلوب.

وقالوا أيضا إذا علمنا الله تعالى أوّلا ثم علمناه ثانيا أنه قادر فليس يخلو حال علمنا الثاني ، إما أن يكون متعلّقا بذاته فقط أو بأمر زائد على ذاته والأول باطل ، لأنه لو كان متعلّقا بذاته لوجب إذا علمنا ذاته في أوّل الأمر أن نعلمها قادرة وهذا باطل ، فإنا نعلم ذاته ولا نعلمها قادرة إلّا بنظر مستأنف ، فيبطل أن يكون عالما بذاته وإن كان الثاني فهو المطلوب ، لأنا لا نريد بالصفة إلّا أنها أمر زائد على الذات داخل في حيّز العلم بالذات.

١٢٠