صيانة القرآن من التحريف

الشيخ محمّد هادي معرفة

صيانة القرآن من التحريف

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


المحقق: مؤسسة التمهيد
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-90596-0-0
الصفحات: ٢٧٢

هذا ما عرفت من شهادات ضافية بنزاهة موقف علماء الإماميّة من مسألة التحريف وأنّه لم يذهب إلى ذلك أحد من أعلامهم المحقّقين سوى الشرذمة القلية ممّن لا اعتداد بهم في الأوساط الشيعية المعروفة ، نظير الحشوية من نقلة الحديث الذين لا موضع لهم يذكر في أوساط أهل السنّة المعروفين.

وهذا أمر معروف لا غبار عليه ، ولا تصحّ نسبة شيء إلى فريق ما لم يعتقده أعلامهم الشاخصون.

ومن ثمّ فلعلّ الأمر قد اشتبه على بعض المؤلّفين في نسبة هذا القول إلى الشيعة رميا بلا هدف.

هذا ابن حزم الظاهري تراه يرمي الشيعة بوجه عام بتهمة القول بالتحريف ـ حاشا الشريف المرتضى وصاحبيه ـ يقول فيما يقول :

ومن قول الإمامية كلّها قديما وحديثا أنّ القرآن مبدّل زيد فيه ما ليس فيه ، ونقص منه كثير ، وبدّل منه كثير ، حاشا علي بن الحسين (المرتضى علم الهدى) وكان إماميا يظاهر بالاعتزال ، مع ذلك فإنّه كان ينكر هذا القول ويكفّر من قاله. وكذلك صاحباه أبو يعلى ميلاد الطوسي وأبو القاسم الرازي. (١)

وليته سمّى القائلين بالتحريف من الشيعة ، إذ ليس مذهب الشيعة (القائلين بالإمامة والمعتقدين بأصل العدل) سوى الطريقة التي مشى عليها السيّد وشيخه المفيد وزميله الطوسي وأضرابهم من أعلام الطائفة ، فاستثناء هؤلاء الأمثال يعني استثناء رؤوس المذهب وأعيان الملّة لأنّ المذهب والملّة إنّما يتمثّل فيهم لا في غيرهم من الشراذمة!

وعلى غراره مشى الخيّاط المعتزلي أبو الحسين عبد الرحيم بن محمد في كتابه

__________________

(١) ـ الفصل في الملل والنحل ، ج ٤ ، ص ١٨٢.

وأبو يعلى هو الشريف محمد بن الحسن بن حمزة الطالبي ، توفّي سنة ٤٦٣ ، وهو الذي تولّى غسل الشريف المرتضى. طبقات أعلام القرن الخامس للطهراني ، ص ١٢٧.

وأمّا أبو القاسم الرازي ، فالظاهر أنّه علي بن محمد بن علي الخزّاز ، صاحب كتاب «كفاية الأثر في النصوص على الأئمّة الاثني عشر». الطبقات ، ص ١٥٩ ؛ ومعالم العلماء ، ص ٧١.

٨١

«الانتصار» الذي وضعه ردّا على ابن الراوندي ، فيه مواضع رمى فيها الشيعة رمية عشواء بتهمة القول بالتحريف ، ففي موضع من كتابه يزعم أنّ جماعة من الشيعة تنسب الامّة إلى أنّها تصدّت إلى القرآن فنقصت منه وزادت فيه. ويتكرّر منه ذلك في كتابه ... (١)

ولم ندر من هم الجماعة المنتمية إلى الشيعة ، إنّما ندري أنّه لم يذهب إلى القول بالزيادة في القرآن أحد من الشيعة من أيّ الفئات منهم ، على ما عرفت من كلام الطبرسي بالإجماع على عدم الزيادة إطلاقا.

وليس هذا غريبا من مثله ، إنّ الغريب ما صدر من القاضي عبد الجبار بن أحمد من رؤساء المعتزلة المرموقين.

قال ـ عند كلامه عن أنحاء الخلاف في القرآن الكريم ـ : منها خلاف جماعة من الإمامية الروافض ، الذين جوّزوا في القرآن الزيادة والنقصان ، وقالوا : إنّه كان على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أضعاف ما هو موجود فيما بيننا ، وحتّى قالوا : إنّ سورة الأحزاب كانت بحمل جمل ، وإنّه قد زيد فيه ونقص وغيّر وحرّف ، وما اتوا في ذلك إلّا من جهة الملاحدة الذين أخرجوهم من الدين من حيث لا يعلمون. (٢)

قلت : هذا الرمي المفترى من مثل هذا العالم المحقّق غريب جدّا ، وقد صحّ المثل المعروف : الجواد قد يكبو ، والصارم قد ينبو!

على أنّ القول بزيادة سورة الأحزاب عمّا عليه الآن هو المعروف عن كبار أهل السنّة المعروفين ، وقد عرفت نسبة ذلك من ابن حزم الظاهري إلى ابيّ بن كعب ، زاعما صحّة الإسناد إليه كالشمس لا مغمز فيه. (٣) فكيف يا ترى خفي ذلك على القاضي ونسبه إلى الشيعة الأبرياء!

وبهذه المناسبة نستطرف ما ذكره الشريف رضيّ الدين أبو القاسم علي بن موسى ،

__________________

(١) ـ الانتصار ، ص ١٦٤ ، تحقيق د. نيبرج ، ط مصر ، ١٩٢٥ م ـ ١٣٤٤ ق ، وراجع الصفحات ٦ ، ١٠٦ ، ١٠٧ و ١٥٩ منه. وصفحات ٢٣٦ و ٣٧ ـ ٣٨ ، ط مصر ـ مكتبة الثقافة الدينيّة بمقدّمة محمد الحجازى.

(٢) ـ شرح الاصول الخمسة ، ص ٦٠١.

(٣) ـ راجع المقدّمة ، عن كتابه المحلّى ، ج ١١ ، ص ٢٣٥.

٨٢

ابن طاووس (ت ٦٦٤) بصدد تفنيد ما نسبه أبو علي الجبائي (ت ٢٣٥) إلى الشيعة الإمامية من القول بالتحريف ، قال : كلّما ذكرته من طعن وقداح على من يذكر أنّ القرآن وقع فيه تبديل وتغيير فهو متوجّه على سيّدك عثمان ، لأنّ المسلمين أطبقوا على أنّه جمع الناس على هذا المصحف الشريف ، وحرّف وأحرق ما عداه من المصاحف ، فلو لا اعتراف عثمان بأنّه وقع تبديل وتغيير من الصحابة ما كان هناك مصحف محرّف ، وكانت تكون متساوية ، ويقال له : أنت مقرّ بهؤلاء القرّاء السبعة وهم مختلفون في حروف وحركات وغير ذلك ، ولو لا اختلافهم لم يكونوا سبعة ، بل كانت هناك قراءة واحدة ... فمن ترى ادّعى اختلاف القرآن وتغيّره؟ أنتم وسلفكم لا الرافضة على حدّ تعبيركم! ومن المعلوم من مذهبنا أنّ القرآن واحد نزل من عند واحد ، كما صرّح بذلك إمامنا جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام.

ويقال له : إنّك ادّعيت في تفسيرك أنّ «بسم الله الرحمان الرحيم» ليست من القرآن ولا ترونها آية من القرآن ، وهي مائة وثلاث عشرة آية في المصحف الشريف تزعمون أنّها زائدة وليست من القرآن ، وأنّ عثمان هو الذي أثبتها فيه على رأس السور فصلا بين السورتين ، فهل هذا إلّا اعتراف منك يا أبا علي بزيادتكم أنتم في المصحف الشريف زيادة لم تكن من القرآن ولا من آية الكريمة. (١)

* * *

تلك امّة قد خلت لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ، ولكن ما بال أقوام حاضرة ومتحضّرة تتابع أقواما بائدة وبالية. يتابعون أسلافهم تقليدا أعمى ومن غير هوادة (قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) (٢) فيرمون امّة كبيرة إسلامية عريقة بما هم منه براء.

هذا «الاستاذ الرافعي» وهو كاتب قدير نراه قد لهج ما لاكه سلفه المفتري (ابن حزم الظاهري) في رمي الشيعة الإمامية بالقول بالتحريف افتراء عليهم ناشئا من عصبيّة عمياء

__________________

(١) ـ سعد السعود ، ص ١٤٤ ـ ١٤٥.

(٢) ـ الزخرف ٤٣ : ٢٣.

٨٣

«فإنّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب الّتي في الصّدور». (١)

انظر إلى هذر هذا الاستاذ الناقد : أمّا الرافضة ـ أخزاهم الله ـ فكانوا يزعمون أنّ القرآن بدّل وغيّر ، وزيد فيه ، ونقص منه ، وحرّف عن مواضعه ، وأنّ الامّة فعلت ذلك بالسنن أيضا.

وكلّ هذا من مزاعم شيخهم وعالمهم (هشام بن الحكم) لأسباب لا محلّ لشرحها هنا ، وتابعوه عليها جهلا وحماقة. (٢)

كلّ كلمة من تعابيره هذه كذب فظيع وفرية شنيعة ، وإن شئت فقل : كلّها مسبّات وشتائم لاذعة ، لا تليق بقلم كاتب أديب له شأن في امّته وبلاده ، اللهمّ إلّا إذا استحوذ عليه الشيطان فأنساه ذكر الله ، والعياذ بالله ، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم والعاقبة للمتّقين.

هذر المستشرقين الأجانب

لو كان المسلمون أخذوا بحرمة أنفسهم فلم يعملوا في تفريق كلمتهم وتمزيق وحدتهم الشاملة ، لما استطاع عدوّهم الغدور استغلال الفجوة الحاصلة فيما بينهم فيعمل في توسيعها ، وتغليظ التهم التي وجّهها بعضهم إلى بعض.

إنّ سفاسف أمثال ابن حزم في غابر الأيّام ، وشتائم أمثال الرافعي في العهد الحاضر ، هي التي جرّأت اولئك الأباعد وأفسحت لهم المجال لقذف التهم إلى طوائف المسلمين ، ولا سيّما بشأن أقدس شيء في حياة المسلمين القرآن العظيم ، فيجعلوه عرضة لسهامهم السامّة على حساب الجدل المسيحي العتيد.

هذا المستشرق العلّامة الشهير «إجنتس جولد تسيهر» في كتابه «مذاهب التفسير الإسلامي» يحاول بكلّ جهده الحطّ من قيمة نصّ الوحي الإلهي المعجز القرآن الكريم ، ويأخذ من ظاهرة اختلاف القراءات ذريعة لإثبات وجود اختلاف في نصّ الوحي النازل من السماء ، بما يوجب سلب الثقة عن النصّ الأصل ، فيما زعم!

__________________

(١) ـ الحج ٢٢ : ٤٦.

(٢) ـ إعجاز القرآن ، ص ١٤٢ ، هامش رقم ٢.

٨٤

يقول في مفتتح كتابه : فلا يوجد كتاب تشريعي اعترفت به طائفة دينية اعترافا عقديّا على أنّه نصّ منزل أو موحى به ، يقدم نصّه في أقدم عصور تداوله ، مثل هذه الصورة من الاضطراب وعدم الثبات ، كما نجد في نصّ القرآن. (١)

ولم يدر المسكين أنّ مسألة اختلاف القراءات لا تمسّ مسألة تواتر نصّ القرآن الموحّد المحتفظ به لدى جمهور المسلمين يتوارثونه جيلا عن جيل ، من غير اختلاف. وقد أسبقنا ـ في مبحث القراءات ـ اتّفاق كلمة الأئمّة على أنّ القرآن شيء والقراءات شيء آخر ، لا يمسّ أحدهما الآخر.

الأمر الذي ليس ينبغي لأهل التحقيق الذهول عنه ، ولعلّه تجاهل خبيث!

ثمّ نراه يعرّج على مسألة اخرى ذات خطورة بالغة في حياة المسلمين ، هي : مسألة التحريف. ولعلّه من وراء ذلك يحاول الغضّ من شأن هذا الكتاب العزيز من جانب آخر.

إنّه يحاول إثبات القول به ناسبا له إلى أعظم طائفة عريقة في الإسلام ، ذات قدم وقدم في تشييد أركانه ونشر أحكامه ، ولا سيّما العمل في خدمة القرآن وتفسيره وتبيينه ، هم شيعة آل بيت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والسائرون في ضوء تعاليمهم.

فإذ كان أمكنه إثبات القول منهم ـ وهم أمسّ الناس بالقرآن والإسلام ـ فقد ساعده الحظّ في رمي هذا الكتاب بالوهن والحطّ من شأنه.

هكذا حسب حسابه ، ولكن خاب ظنّه ، (أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ). (٢)

يقول في افتراءاته المصطنعة : إنّه وإن كان الشيعة قد رفضوا الرأي الذي ذهبت إليه طائفة متطرّفة منهم من أنّ القرآن المأثور لا يمكن الاعتراف به مصدرا للدين (٣) فإنّهم قد تشكّكوا على وجه العموم منذ ظهورهم ، في صحّة صياغة النصّ العثماني ، لأنّه يشتمل

__________________

(١) ـ مذاهب التفسير الإسلامي ، ص ٤.

(٢) ـ الطور ٥٢ : ٤٢.

(٣) ـ لعلّه يقصد ما نسب إلى الأخبارية المتأخّرة من القول بعدم حجّية ظواهر الكتاب وعدم إمكان الاستناد إليها لفهم أحكام الشريعة. ولكنّا أو عزنا ـ في مباحثنا عن التفسير والمفسرين ـ أنّ هذه النسبة مفتعلة ، وليس من فقهاء الامّة من يذهب إلى هذا الرأي الغريب إطلاقا ، لا في حشوية العامّة ولا في الأخبارية المتطرّفة ، على حدّ تعبيرهم.

٨٥

على زيادات وتغييرات هامّة بالنسبة إلى الذي جاء به محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله. كما استؤصلت فيه أيضا من جانب آخر قطع هامّة من القرآن الصحيح بالإبعاد والحذف.

قال : ويسود الميل عند الشيعة ـ على وجه العموم ـ إلى أنّ القرآن الكامل الذي أنزله الله كان أطول كثيرا من القرآن المتداول في جميع الأيدي.

ويضيف قائلا : إنّهم يعتقدون من سورة الأحزاب (وهي تشتمل على ٧٣ آية) أنّها كانت تعدل سورة البقرة المشتملة على ٢٨٦ آية. وسورة النور (تشتمل على ٦٤ آية) كانت تحتوي على أكثر من ١٠٠ آية. وسورة الحجر (٩٩ آية) كانت ١٩٠ آية.

وزاد شناعة قوله : وحديثا وجدت في مكتبة «بانكيبور» بالهند نسخة من القرآن تشتمل على سور ساقطة من مصحف عثمان ، منها : سورة نشرها «جارسان دى تاسى» وهي سورة النورين (٤١ آية). وسورة اخرى شيعيّة ، ذات سبع آيات ، وهي سورة الولاية. وكلّ هذه الزيادات الشيعيّة نشرها «كلير تدال» باللغة الإنجليزية.

قال : وكلّ ذلك يدلّ على استمرار افتراض الشيعة حصول نقص غير قليل في نصّ القرآن العثماني بالنسبة إلى المصحف الأصلي الصحيح. (١)

هذا ، وقد جعل من كتابين منسوبين إلى الشيعة ، موضوعهما التفسير ـ أحدهما على نهج التأويل الصوفي ، والآخر التفسير بالمأثور ـ موضع دراسته لآراء الشيعة ـ على وجه العموم ـ في التفسير. في حين أنّهما لا يمسّان عقائد الطائفة ، بل وساقطان ـ لديهم ـ عن درجة الاعتبار إلى حدّ ما.

أحدهما : كتاب «بيان السعادة في مقامات العبادة» من وضع قطب من أقطاب الصوفيّة ، هو : سلطان محمد بن حيدر البيدختي الگنابادي ، زعيم فرقة «نعمة اللهي» الملقّب ـ في الطريقة ـ ب «سلطان علي شاه». كان من مواليد سنة ١٢٥١ ه‍ ق. وقد فرغ من تأليفه عام ١٣١١ وطبع الكتاب لأوّل مرّة في طهران عام ١٣١٤. ونسخ الكتاب مبذولة يجدها الطالب في عامّة المكتبات.

__________________

(١) ـ راجع كتابه مذاهب التفسير ، صفحات ٢٩٣ ـ ٢٩٥ و ٣٠٤.

٨٦

وهنا اشتبه الأمر على «جولد تسيهر» في موضعين :

أوّلا : زعم أنّ تأليف الكتاب تمّ عام (٣١١ ه‍ ٩٢٣ م)! ولعلّ رقم الألف كان مشوّها في نسخته فلم يحقّقه تماما!!

وثانيا : حسب من اسم المؤلّف : سلطان محمد بن حجر البجختي ، بدلا من محمد بن حيدر البيدختي!!

وأمّا الكتاب الثاني فهو التفسير الموسوم بتفسير القمي علي بن إبراهيم بن هاشم.

لكنّه ـ حسبما يأتي ـ من صنع أحد تلامذته المعروف بأبي الفضل العلوي (من هو؟) وأكثره خليط من تفاسير غيره ، ولا سيّما تفسير أبي الجارود المعروف بالسرحوب رأس الجارودية من غلاة الزيديّة. وكان موضع إنكار الإمام الصادق عليه‌السلام.

وعليه ، فكيف يا ترى يجعل مثل مستشرقنا العلّامة من مثل هذه الكتب الساقطة عند الشيعة وعند أئمّتها وعلمائها ، موضع دراسته لفهم آرائهم في التفسير؟!

أتراه كان يجهل ذلك ، أم كان يتجاهل؟ الله أعلم بسرائر القلوب!

نعم (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) (١) صدق الله العليّ العظيم.

* * *

وهنا لا بدّ من التنبيه على امور :

أوّلا : كيف نسب إلى الشيعة بالذات الاعتقاد بأنّ سورة الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة؟ وكذا غيرها من السور التي عدّها في مزعومته؟

إنّ هذا الاعتقاد لم يوجد له أثر في كتب الشيعة ورسائلهم ، ولا هو معروف عنهم في مستند وثيق.

إنّما المعروف والثابت في كتب الصحاح ، نقله عن عروة بن الزبير ناسبا له إلى خالته عائشة ، قالت : كانت سورة الأحزاب تقرأ زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مائتي آية ، فلمّا كتب عثمان

__________________

(١) ـ النور ٢٤ : ٤٠.

٨٧

المصاحف لم نقدر منها إلّا على ما هو الآن ... (١) وهكذا نسب إلى الصحابي ابيّ بن كعب (٢) وحاشاه.

فيا ترى كيف زوّر علّامتنا المستشرق ونسبه إلى الشيعة زورا!؟

ثانيا : لماذا اختار لدراسته كتاب «بيان السعادة» وحسبه من أقدم تفاسير الشيعة ، وزعمه قيد تاريخ ٣١١ ه‍ أي قبل عشرة قرون فيما حسب. ثمّ حرّف في اسم مؤلّفه إلى ابن حجر البجختي ، بما لا يمكن تعرفته في تراجم الرجال؟!

أتراه هل وقع ذلك من مثله ذهولا وغفلة ، أم تجاهل الأمر قصدا إلى تلبيسه على القرّاء؟!

أترى محقّقا مثله يقتصر على أرقام مشوّهة على صفحات كتاب ، أم يتثبّت الأمر في تراجم المؤلّفين والكتب ، وهي مبذولة لديه في أيّ مكان ، فلم لم يراجعها واقتصر على أرقام غير مقروءة في الكتاب؟!

فلو كان راجع التراجم ، أو راجع النسخ المطبوعة من الكتاب ، لوجد الأمر على خلاف ما حسبه.

وكان الكتاب من مؤلّفات القرن الرابع عشر للهجرة لا القرن الرابع ولكن عند ذلك لم يكن ليمكنه إثبات مقصوده الملتوي.

ثالثا : هلّا يعلم مثله أنّ الذوق الصوفي يتنافى تماما مع عقيدة الشيعة على وجه العموم ، وأنّ علماء الشيعة ـ على مختلف آرائهم في الفروع ـ فإنّهم متّفقون جميعا على رفض النظرات الصوفية المستوردة من يونان القديم؟!

أفلا يعلم ذلك ، أم كان تجاهل الأمر لغرض لئيم؟!

إذن فكيف صحّ له أن يجعل كتابا صوفيّا ، ألّفه قطب معروف من أقطاب الصوفيّة ،

__________________

(١) ـ أخرجه أبو عبيد بإسناده إلى عروة ... الإتقان ، ج ٣ ، ص ٧٢.

(٢) ـ أخرجه أحمد بن حنبل في المسند ، ج ٥ ، ص ١٣٢. وظنّه ابن حزم من أصحّ الأسانيد لا مغمز فيه. المحلّى ، ج ١١ ، ص ٢٣٥.

٨٨

كيف يجعل مثل هذا الكتاب موضع دراسته ، بصدد فهم عقائد الشيعة المتبرّئين من الصوفيّة وعقائدهم إطلاقا؟!

رابعا : كيف لم يدر أنّ الكتاب الآخر الذي وضعه موضع دراسته ، أي التفسير المنسوب إلى علي بن إبراهيم القمي ، ليس من صنعه ، وإنّما هو من صنع أحد تلاميذه المجهول الشخصيّة لحدّ الآن.

على أنّه مزيج ممّا نسب إلى القمي ومن تفسير أبي الجارود الملعون على لسان الإمام الصادق عليه‌السلام وتفاسير اخرى أيضا.

ألم يعلم ذلك ، وعساه راجع «الذريعة إلى معرفة تصانيف الشيعة» ، (١) ليعرف قيمة هذا الكتاب لدى علماء الشيعة الإمامية وسقوطه عن درجة الاعتبار وعن صلاحيّة الاستناد ، حسبما يأتي.

* * *

وأخيرا ، فهلّا تستغرب أن يأتي كاتب إسلامي فيلحس ما لعقه الأجنبي الكافر ، متابعة عمياء ومن غير دراية! هو الشيخ خالد عبد الرحمن العكّي المدرّس بإدارة الإفتاء العام بدمشق.

يقول : ولعلّ أنشط الطوائف في تفسير القرآن تفسيرا مذهبيّا أو سياسيّا هم الشيعة. وقد توسّعوا في ذلك ، وصارت لهم تفاسير خاصّة ، وغالى البعض في هذا المجال مغالاة سيّئة.

ثمّ يأتي مثلا بما رواه أبو الجارود الآنف ، ويذكر أنّ أقدم تفسير شيعي هو تفسير جابر الجعفي (ت ١٢٨). ثمّ يجيء تفسير «بيان السعادة في مقام العبادة» للسلطان محمد بن حجر البجختي ، وقد انتهى منه سنة ٣١١. وتفسير القمي في القرن الرابع. ثمّ تفسير أبي جعفر الطوسي في عشرين جزء ... (٢)

__________________

(١) ـ تأليف المحقّق الشيخ آغا بزرگ الطهراني ، وهو كتاب معروف ومبثوث في أقطار العالم الإسلامي وخارجه.

(٢) ـ اصول التفسير وقواعده ، ص ٢٤٩ ـ ٢٥٠.

٨٩

أمّا الجعفي فقال عنه النجاشي : روى عنه جماعة غمز فيهم وضعّفوا. وكان في نفسه مختلطا. وقلّ ما يورد عنه شيء في الحلال والحرام ، له كتب منها التفسير (١) وكانت نسخة جمع فيها ما زعمه حديثا عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام وليس تفسيرا شاملا. وعلى أيّ تقدير فهي كسائر النسخ القديمة البائدة ، وقد أكل عليها الزمان وشرب ، ولا يصحّ أن يجعل موضع دراسة اليوم ، ولا سيّما مع هذا الوصف الذي وصفه النجاشي بشأنه!

وأمّا تفسير البجختي ، فلا يعدو تقليدا لما ذكر المستشرق الآنف بلا رويّة.

وقد عرفت قيمة التفسير المنسوب إلى القمي.

أمّا تفسير أبي جعفر الطوسي ، وهو تفسير «التبيان» ، وطبع في عشر مجلّدات ، فهو تفسير حافل وشامل ، ويعدّ من جلائل الكتب التفسيرية ، وهو الأصل لبنية التفسير الشهير «مجمع البيان» للطبرسي العظيم.

وهذان التفسيران (التبيان ومجمع البيان) يعدّان من أحسن كتب التفسير الجوامع ، ولم يغلب عليهما أيّ نزعة سياسية أو غيرها من نزعات هي بعيدة عن روح الإسلام.

توجيه كلام بما لا يرضى صاحبه

تلك كانت مواقف علمائنا الأعلام المشرّفة بشأن الدفاع عن قدسيّة القرآن الكريم ، وكانت مواقف حاسمة وكلمات صريحة في رفض احتمال التحريف.

غير أنّ جماعة من أصحاب السلائق المعوجّة ـ حيث لم يرقهم ذلك الدفاع النزيه ـ حاولوا توجيه كلماتهم إلى غير وجهها في تأويلات بعيدة.

فقد حاول الشيخ النوري تأويل صمود أقطاب الإماميّة في قولهم بعدم التحريف إلى أنّها مماشاة مع الخصوم في ظاهر الأمر ، أمّا العقيدة فعلى خلاف ظاهر المقال!!

قال : إنّ لكلام هؤلاء الأجلّاء تأويلا غير ظاهر كلامهم ، فإنّه صادر مجاراة مع المخالفين أو سدّا لباب الطعن في الدين!

__________________

(١) ـ رجال أبي العباس النجاشي ، ج ١ ، ص ٣١٣ ـ ٣١٤ في ترجمة جابر.

٩٠

قال ـ تعقيبا على كلام الصدوق الآنف ـ : والأولى توجيهه بما نوجّه كلام السيّد والشيخ وغيرهما من سائر المحقّقين الأعاظم. (١) وقال ـ في توجيه كلامهما ـ : إنّ طريقتهما المماشاة والمداراة مع المخالفين. (٢)

واستند ـ في هذا التوجيه غير الوجيه ـ إلى رواية رواها الصدوق في كتابه «معاني الأخبار» إنّ عائشة قرأت : حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر. (٣) وهكذا نقل عن الشيخ أنّه ذكر في تفسيره «التبيان» قراءة ابن مسعود : فما استمتعتم به منهنّ إلى أجل مسمّى. (٤) وعن السيّد ـ في الشافي ـ أنّه طعن على عثمان إحراقه للمصاحف وإبطاله سائر القراءات. (٥)

واستنتج أخيرا : إنّهم ذهبوا في مسألة التحريف مذهب التقيّة!

وذكر أنّ هؤلاء المشايخ الأربعة (الصدوق والمفيد والمرتضى والطوسي) خالفوا المذهب ، وقد شاعت هذه المخالفة حتى صارت مذهب الاصوليين من أصحابنا الإمامية واشتهر بينهم حتى قال المحقّق الكاظمي في شرح الوافية : إنّه حكى عليه الإجماع.

قال النوري : وبعد ملاحظة ما ذكرنا تعرف أنّ دعوى الإجماع هنا جرأة عظيمة! قال : وكيف يمكن دعوى الإجماع بل الشهرة المطلقة على مسألة خالفها جمهور القدماء وجلّ المحدّثين وأساطين المتأخّرين. بل رأينا كثيرا من كتب الاصول خالية عن ذكر هذه المسألة ، ولعلّ المتتبّع يجد صدق ما قلنا. (٦)

انظر إلى هذا التهافت الباهت ، كيف يجعل من المشايخ الأربعة مخالفين للمذهب ، وهم أساطينه وعلى عواتقهم رست قواعدها. فإن كانت لمذهب الحقّ طريقة فإنّهم مهّدوها وعبّدوها وأسّسوا معالمها ، ولا يعرف المذهب إلّا من قبلهم هم لا عن سواهم من أغيار!

__________________

(١) ـ فصل الخطاب ، ص ٣٢.

(٢) ـ المصدر ، ص ٣٤.

(٣) ـ معاني الأخبار ، ص ٣١٤.

(٤) ـ التبيان ، ج ٣ ، ص ١٦٦.

(٥) ـ فصل الخطاب ، ص ٣٢ ـ ٣٤.

(٦) ـ المصدر ، ص ٣٤ ـ ٣٥.

٩١

والأغرب أنّه جعل جماعة الإمامية أيضا مخالفين للمذهب ، ولا ندري ما هذا المذهب الذي اختصّ به هو وسائر الأخباريين المساكين؟! وقد خالفهم جماعة الشيعة الإمامية من اصوليين والمتعهّدة من قدامى المحدّثين!

قوله : «جمهور القدماء» أراد بهم جماعة من أصحاب الحديث القدامى كالصفّار (ت ٢٩٠) والعيّاشي (ت ٢٣٣) والنعماني (ت ٣٦٠) وأضرابهم من أصحاب الكتب ، وفيها روايات حسبها دالّة على التحريف حسب فهمه. وسنبحث ـ في فصل قادم ـ إنّ رواية الحديث لا تكشف عن معتقد الراوي إطلاقا. وما ذلك إلّا تحميل في الرأي يشبه الافتراء.

وكذا نسب إلى بني نوبخت (١) من متكلّمي الشيعة قولهم بالتحريف في مثل الكلمة أو الكلمتين ممّا لا يضرّ بجانب الإعجاز ، كقراءات ابن مسعود. وفي مثل قراءة بعضهم : «وسارعوا» وآخر : «سارعوا» بلا واو.

ومن الواضح أنّ ذلك يرجع إلى اختلاف القراءات ممّا لا يمسّ حديث التحريف ، ولكن الغريق يتشبّث بكلّ حشيش!

وهكذا نسب إلى ابن شاذان (ت ٢٦٠) أيضا ذهابه إلى التحريف ، بحجّة أنّه في كتاب «الإيضاح» انتقد على العامّة رواياتهم بشأن ضياع كثير من القرآن كحديث داجن البيت وحديث رجم الشيخ والشيخة وحديث جوف ابن آدم وما شاكل ، المستلزم تحريفا في الكتاب العزيز! فقد أنكر على أهل الحشو في روايتهم ما يتنافى وقدسية القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. (٢) وهذا الإنكار اللاذع إن دلّ فإنّما يدلّ على عقيدته الخلاف ، ومع ذلك فقد زعم النوري أنّه يعتقد الوفاق. قال : وممّن ذهب إلى القول بالتحريف الفضل بن شاذان ، لأنّه يظهر من كتابه أنّ ضياع طائفة من القرآن كان من

__________________

(١) ـ بنو نوبخت بيت معروف من الشيعة منسوبون إلى نوبخت الفارسي المنجّم. نبغ منهم كثير من أهل العلم والمعرفة بالكلام والفقه والأخبار والآداب ، واشتهر منهم بعلم الكلام جماعة أشهرهم أبو سهل إسماعيل بن علي النوبختي وأبو محمد الحسن بن موسى النوبختي ، وكان لهم إلمام بالفلسفة وسائر علوم الأوائل. ومن هذه الجهة كانت لبعضهم مخالفات يسيرة في خصوص بعض المسائل مع سائر المتكلّمين من الإمامية وأهل الفقه والحديث. راجع : هامش أوائل المقالات ، ص ٢.

(٢) ـ الإيضاح ، ص ٢٠٩ فما بعد.

٩٢

المسلّمات عند العامّة! (١) استنتاج غريب!!

نعم ، هكذا تشبّثات غريبة تكشف عن وحشة العزلة التي أحسّ بها الشيخ النوري عند تأليف «فصل الخطاب» ، فحاول اختلاق معاضدين له ولو في عالم الأوهام. الأمر الذي لمسه المسكين من أوّل يومه ، فجعل يتسلّى بنفسه بموافقة الدليل فلا يستوحش الانفراد. قال : لا نستوحش الانفراد ما دام يوافقنا الدليل. (٢) ولكن أين الدليل الذي زعمه مرافقا له ، سوى روايات عامّية شاذّة ومخالفة لصريح القرآن ولإجماع الامّة على الإطلاق.

وأمّا قوله : «جلّ المحدّثين وأساطين المتأخّرين» فأراد بهم تلك الفئة الأخبارية التي جعلت أساطينها المتزعزعة تتداعى تجاه صرخة الحقّ المدوّية ، ولا كلام لنا معهم سوى إبداء خطئهم في هذا الاختيار.

نقل الحديث لا ينمّ عن عقيدة ناقله

من سفه القول أن ينسب إلى جماعة ما لم يقولوه وإنّما نقلوه نقلا. ومجرّد نقل الحديث لا ينمّ عن عقيدة ناقله ما لم يتعهّد صحّة ما يرويه والتزامه به. وهكذا نسبوا إلى جماعة من أعاظم أهل الحديث ـ كمحمد بن يعقوب الكليني وعلي بن إبراهيم القمي ومحمد بن مسعود العيّاشي ـ أنّهم ذهبوا إلى القول بالتحريف ، بحجّة أنّهم أوردوا في كتبهم أحاديث قد تستدعي ـ حسب زعم الناسب ـ وقوع تغيير في الكتاب العزيز.

وهي نسبة جاهلة لا تعتمد على أساس ، وترفضه ضرورة فنّ التحقيق.

وللسيّد الشهرستاني الكبير (الميرزا محمد حسين الحائري (ت ١٣١٥) كان من أجلّة علماء عصره وصاحب فنون) برهان لطيف في تزييف هكذا مزعومات باطلة ، ذكره في رسالة وضعها دحضا لشبهة القائل بالتحريف ، نورده هنا مع شيء من تفصيل وتوضيح حسب المناسبة :

__________________

(١) ـ فصل الخطاب ، ص ٢٨ وفي المقدّمة ، ص ١٥.

(٢) ـ في آخر المقدّمة من فصل الخطاب ، ص ٣٥.

٩٣

قال : إنّما تستقيم نسبة عقيدة التحريف إلى هؤلاء الأجلّاء إذا ما تجمّعت هناك مقدّمات أربع ضروريّة :

اولاها : تعهّد صاحب الكتاب بصحّة ما يرويه على الإطلاق تعهّدا صريحا وشاملا.

ثانيتها : ظهور تلكم الأحاديث في التحريف ظهورا بيّنا بحيث لا يحتمل تأويلا أو محامل اخر معتمدة على شواهد من عقل أو نقل متواتر.

ثالثتها : عدم وجود معارض لها بحيث يترجّح عليها حسب نظر صاحب الكتاب.

رابعتها : حجّية خبر الواحد عند صاحب الكتاب ، كما هو حجّة عند الأخباريين ، في مسائل الاصول والفروع على سواء.

فإذا ما توفّرت المقدّمات الأربع صحّت نسبة التحريف إلى أرباب تلكم الكتب المشتملة على روايات التحريف كما زعموا! ولكن أنّى لهم بإثبات ذلك ، ودون إثباته خرط القتاد. (١)

ثمّ مع فرض التعهّد أيضا فهو أمر تقريبي لا تحقيقي. هذا الصدوق رحمه‌الله قد التزم في مفتتح كتابه «الفقيه» بأنّ ما يرويه في هذا الكتاب مضمون الصحّة ويعتقد حجّيته فيما بينه وبين ربّه ، ومع ذلك نراه قد يروي المراسيل أو شواذّ الأخبار ، وربّما على خلاف فتواه صريحا.

ومن ثمّ فمن الجفاء نسبة القول بالتحريف إلى أرباب الكتب الأقدمين الأجلّاء لمجرّد العثور على بعض ما يستدعي التحريف في كتبهم ، حسب زعم الناسب لا غير.

نسبة مفضوحة

هذا المحدّث النوري ينسب إلى ثقة الإسلام الكليني ذهابه إلى القول بالتحريف استنادا إلى إيراده في الكافي الشريف روايات قد تستدعي تحريف الكتاب دلالة تبعية لا ذاتية.

__________________

(١) ـ البرهان للبروجردي ، ص ١٣٩.

٩٤

قال : وهو ـ أي القول بالتحريف ـ مذهب الكليني ، على ما نسبه إليه جماعة ، لنقله الأخبار الكثيرة الصريحة (!) في هذا المعنى ، في كتاب الحجّة خصوصا في باب النكت والنتف من التنزيل ، وفي الروضة. من غير تعرّض لردّها أو تأويلها ، كما استظهر شارح الوافية من الباب الذي عقده لبيان أنّه لم يجمع القرآن كلّه إلّا الأئمّة عليهم‌السلام ، فإنّ الظاهر من طريقته أنّه إنّما يعقد الباب لما يرتضيه. (١)

قلت : غالبيّة الروايات التي أشار إليها ، إنّما أوردها الكليني إيرادا من غير التزام بصحّتها. وقد صرّح العلّامة المجلسي ـ في الشرح ـ بضعف أسنادها في الأكثر. هذا فضلا عن عدم دلالتها على التحريف ولا إشارة إليه. بل لها معان غيره ، سنذكره بتفصيل عند التعرّض لآحاد الروايات.

ولنذكر هنا أهمّ ما تمسّكوا به في هذا الشأن ونجعله مثلا باقيا في سائر الموارد. ونتبيّن كيف غرّ هؤلاء المساكين ظواهر العبائر من غير أن يتدبّروا في حقيقة الأمر. وإليك شاهدا من تلك الشواهد :

ليس في الكافي ما يريب

عقد الكليني في كتاب الحجّة من اصول الكافي بابا أسماه : «باب أنّه لم يجمع القرآن كلّه إلّا الأئمّة عليهم‌السلام وأنّهم يعلمون علمه كلّه». (٢)

هذا عنوان الباب ، ومقصوده من جمع القرآن كلّه هو ما ذكره في العبارة التالية له التي هي عطف تفسيري : أي العلم بجميع القرآن ظاهره وباطنه.

والدليل على ذلك هي نفس الروايات التي ذكرها تحت هذا العنوان ، وهي ست روايات ، كانت الثانية حتى الخامسة ضعيفة الإسناد ، والاولى مختلف فيها ، والأخيرة حسنة كالصحيحة. صرّح بذلك المجلسي في الشرح. (٣)

__________________

(١) ـ فصل الخطاب ، المقدّمة الثالثة ، ص ٢٥.

(٢) ـ الكافي ، ج ١ ، ص ٢٢٨.

(٣) ـ مرآة العقول ، ج ٣ ، ص ٣٠ ـ ٣٤.

٩٥

جاء في الحديث الأوّل : «ما ادّعى أحد من الناس أنّه جمع القرآن كلّه كما انزل إلّا كذّاب ، وما جمعه وحفظه كما نزّله الله تعالى إلّا علي بن أبي طالب والأئمّة من بعده صلوات الله عليهم».

قوله : «جمع القرآن كلّه كما انزل» إشارة إلى مصحف علي عليه‌السلام ، حيث كان على ترتيب النزول تماما ، مشتملا على التنزيل والتأويل ـ حسبما شرحناه في التمهيد ـ (١) وقد ورثه أولاده الأئمة المعصومون عليهم‌السلام. ولو وجد لوجد فيه علم كثير ، كما قال الكلبي. الأمر الذي لا يرتبط ومسألة الزيادة أو النقص في نصّ الكتاب.

ففي الحديث الثاني : «ما يستطيع أحد أن يدّعي أنّ عنده جميع القرآن كلّه ، ظاهره وباطنه ، غير الأوصياء».

وفي الحديث الثالث : «اوتينا تفسير القرآن وأحكامه».

وفي الحديث الرابع : «إنّي لأعلم كتاب الله من أوّله إلى آخره كأنّه في كفّي».

وفي الحديث الخامس : «وعندنا ـ والله ـ علم الكتاب كلّه».

وفي الحديث السادس : ـ عند تفسير قوله تعالى : (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) ـ (٢) : «إيّانا عنى».

هذه هي الأحاديث التي ذكرها الكليني تحت العنوان المذكور. وهي لا تعدو دلالتها على أنّ علم الكتاب كلّه ظاهره وباطنه إنّما هو عند أهل البيت الذي هم أدرى بما في البيت. فإذا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هو مدينة العلم ، فإنّهم أبوابها المؤدّية إليه ، بإجماع الامّة.

هذا هو محتوى مجموع هذه الأحاديث الشريفة ، وقد أوردها الكليني الخبير بمواضع كلمات الأئمّة عليهم‌السلام مع علمه بظهورها في نفس المحتوى. الأمر الذي يطلعك على مراده من عقد ذلك العنوان الفخم الرهيب.

ومن ثمّ كان من الجفاء ، نسبة الخلاف إليه ، إن هو إلّا افتراء وقول زور. لا سامح الله أصحاب التسامح في القول بلا علم.

__________________

(١) ـ التمهيد ، ج ١ ، «وصف مصحف علي عليه‌السلام».

(٢) ـ الرعد ١٣ : ٤٣.

٩٦

الفصل الخامس

موقفنا مع الفئة المتطرّفة

(أخبارية مستحدثة منحدرة عن أهل الحديث)

كان علماؤنا الأعلام منذ عهد الحضور فإلى طول عصر الغيبة على طريقتين في الاتّجاه الاصولي وفي استنباط مباني شريعة الإسلام : أهل نظر وتحقيق ، وهم : المجتهدون. وأهل نقل وتحديث ، وهم : المحدّثون.

يختلف المحدّثون عن المجتهدين بالاعتماد على النقل أكثر من العقل ، ولا سيّما في مسائل الاصول ، حيث لا حجّية لأخبار الآحاد هناك عند المجتهدين.

وقد كان لأهل الحديث أساليب معروفة بالإتقان والإحكام في الأخذ والتلقّي والتحديث ، في أسانيد الروايات وفي متونها عرضا ومقابلة مع الاصول المعتمدة.

وعلى هذا الاسلوب الروائي المتقن دوّنت الاصول الأربعة الجامعة لأحاديث أهل البيت عليهم‌السلام. مأخوذة من مشايخ أجلّاء وعن كتب ذوات اعتبار ، وهي : «الكافي» لثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني (ت ٣٢٩) و«من لا يحضره الفقيه» لشيخ المحدّثين محمد بن علي بن الحسين الصدوق (ت ٢٨٠) و«التهذيب» و«الاستبصار» كلاهما لشيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي (ت ٤٦٠) قدّس الله أسرارهم.

وقد سادت طريقة الإتقان في النقل والتحديث حقبا من الزمان ، وانتهت بدور

٩٧

خاتمة المحدّثين الشيخ الحرّ العاملي (١٠٣٣ ـ ١١٠٤) صاحب الموسوعة الحديثية الكبرى «وسائل الشيعة» وفيها ما يسدّ حاجة الفقيه في استنباط مختلف أحكام الشريعة ، (جزاه الله خيرا) وفرغ من تأليفه عام ١٠٨٢.

وسار على منهاجه المحدّث الفقيه المولى محسن الفيض (١٠٠٧ ـ ١٠٩١) في تأليفه كتاب «الوافي» الجامع لأحاديث الكتب الأربعة مع الشرح والبيان. وقد فرغ من تأليفه عام ١٠٦٨.

أمّا وبعد هذا الدور ، فيأتي دور الانحطاط والاسترسال في نقل الحديث وفي رواية الأخبار ، وأصبح أهل الحديث مجرّد نقلة آثار وحفظة أخبار ، من غير اكتراث لا بالأسانيد ولا بصحّة المتون. فقد زالت الثقة بأحاديث ينقلها هؤلاء (الأخباريون) المسترسلون ، بعد انتهاء دور (المحدّثين) المتقنين!

إنّهم اهتمّوا بتضخّم الحجم أكثر من الدقّة في المحتوى ، ومن ثمّ لم يأبهوا ممّن يأخذون وعلى أيّ مصدر يعتمدون ، إنّما المهمّ حشد الحقائب وملء الدفاتر بنقول وحكايات هي أشبه بقصص القصّاصين وأساطير بني إسرائيل.

ومن ثمّ واكبوا إخوانهم الحشوية الذين سبقوهم في هذا المضمار ، وساروا على منهجهم في الابتذال والاسترسال!

فإن كانت محنة أهل السنّة قد جاءتهم من قبل أهل الحشو في الحديث ، فكذلك جاءتنا البليّة من قبل هؤلاء المسترسلين في نقل الحديث!

* * *

وقد عرفت أنّ علماءنا المحقّقين أطبقوا على رفض احتمال التحريف في كتاب الله الذي (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ). (١)

وكذلك محدّثونا القدامى من لدن شيخهم ورئيسهم الصدوق ، حتى عصر العلمين خاتمتي المحدّثين الحرّ العاملي والفيض الكاشاني.

__________________

(١) ـ فصّلت ٤١ : ٤٢.

٩٨

نعم ، جاءت فكرة التحريف ـ قصدا إلى رفض حجّية الكتاب ـ من قبل هذه الفئة المتطرّفة التي نبعت على حاشية البلاد في جوّ مظلم بغياهب الجهل والعامّية ، مضافا إليه بعض السذاجة وسرعة الاسترسال.

كان من طابع هذه الفئة هي السذاجة في التفكير ، الناجمة عن حياتها البدائية ، بعيدة عن معالم الحضارة العلمية التي كان عليها علماؤنا في مراكز العلم المعروفة.

وهذا ممّا جعل من كتبهم لا تشبه شيئا من كتب أقطاب الشيعة الإمامية المليئة بالتحقيق والتدقيق في اصول الشريعة وفروعها.

هذا السيّد نعمة الله الجزائري ـ غفر الله له ـ (١٠٥٠ ـ ١١١٢) علم هذه الفئة الشاخص (١) والمبدع لفكرة التحريف على أساس جمع الشوارد من الأخبار ، نراه يعتمد الغرائب والشواذّ في كتبه ويشحنها بأقاصيص اسطوريّة ، لا سابقة لها في كتب علمائنا الأعلام!

بينما الصدوق عليه الرحمة يقول في مقدّمة كتابه «من لا يحضره الفقيه» :

ولم أقصد فيه قصد المصنّفين في إيراد جميع ما رووه ، بل قصدت إلى إيراد ما افتي به وأحكم بصحّته وأعتقد فيه أنّه حجّة فيما بيني وبين ربّي تقدّس ذكره وتعالت قدرته وجميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة عليها المعوّل وإليها المرجع.

__________________

(١) ـ يحاول في رسالته «منبع الحياة» إثبات جواز تقليد الأموات ، ميزة أخبارية متطرّفة تشبه طريقة العامّة في نبذ طريقة الاجتهاد ، والأخذ بتقليد الأموات ، على خلاف طريقة المجتهدين من الخاصة بفتح باب الاجتهاد ولزوم الرجوع إلى آراء الأحياء من الفقهاء.

وهو أوّل من طرح مسألة تحريف الكتاب على منصّة البحث ، مستدلّا عليه بدلائل على أساس شوارد الأخبار وغرائب الآثار ، هادفا وراء ذلك إلى عدم إمكان الاستفادة من ظواهر الكتاب.

وقد عارضني بعض أحفاده في نسبة جدّهم إلى الفئة الأخبارية ... لكن ماذا يا ترى في هذا الإصرار على طبع الرسالة ونشرها تباعا ومكرّرا في أهمّ مراكز النشر ، بغداد وبيروت؟!

إنّ في ذلك سرّا يستهدفه من يريد الإطاحة بشأن هذا الكتاب العزيز ، والمسّ بحريم مقدّسات المسلمين والشيعة بالذات.

فإن كان أحفاده يريدون الدفاع عن كرامة جدّهم فعليهم الحؤول دون نشر أمثال هذه الرسائل الضالّة المضلّة والتي تخالف طريق الشيعة في طول تاريخهم المجيد.

٩٩

نرى المحدّث الجزائري يقول : نحن نروي جميع أحاديث الكتب الأربعة عن المحمّدين الثلاثة ، بواسطة رجل مجهول الحال ، مجهول الحسب والنسب ، مع بعد الطريق بقرون!

يا لها من سذاجة مفجعة!

يحكي من أوثق مشايخه «السيّد البحراني» أنّه نقل عن شيخه «الحرفوشي» إنّه لاقى رجلا في مسجد مهجور من مساجد دمشق ، ادّعى أنّه «المعمّر أبو الدنيا» كان يقول : إنّه صحب عليا والأئمّة عليهم‌السلام وسمع حديثهم واحدا واحدا ، وسمع مشايخ الحديث وأرباب الكتب وسمع حديثهم! فاستجازه الحرفوشي في الإسناد إليه فأجازه! فكان شيخه يقول : إنّا نروي عن أصحاب الكتب منذ ذلك الوقت بهذا الإسناد القصير! وهكذا ابتهج السيّد الجزائري بهذه المفاجئة السانحة فجعل يقول : وها نحن أيضا نروي الكتب الأربعة للمحمّدين الثلاثة بنفس هذا الإسناد! (١)

وكتابه الذي أسماه «الأنوار النعمانية» ـ من خير تآليفه ، وعدّه القوم من جلائل كتبهم ـ مليء بأخبار وقصص خرافية غريبة ، ممّا لا نظير لها في كتب أصحابنا الإماميّة. (٢)

وهذا الكتاب هو المنبع الأصل للقول بالتحريف (٣) والذي اعتمده النوري صاحب «فصل الخطاب» ، وكان قدوته في هذا الاختيار. (٤)

قال ـ بصدد تزييف القراءات المعروفة ـ : تسليم تواتر القراءات السبع يفضي إلى طرح الأخبار المستفيضة بل المتواترة الدالّة على وقوع التحريف في القرآن ، كلاما ومادّة

__________________

(١) ـ الأنوار النعمانية ، ج ٢ ، ص ٧ ؛ وقد جاءت روايته بهذا الإسناد التافه في ج ٢ ، ص ٣٨٢ بالتصريح ، في قصّة خيالية محضة ، فراجع.

(٢) ـ ذكرنا منها مقتطفات في الطبعة الاولى ، ولم تعد حاجة بعدئذ إلى إعادة تلكم الأساطير.

(٣) ـ راجع : الأنوار النعمانية ، ج ٢ ، ص ٣٥٧ وج ١ ، أيضا ، ص ٩٧ و ٩٨ و ٢٧٧.

(٤) ـ راجع : فصل الخطاب ، ص ٢٥٠.

١٠٠