صيانة القرآن من التحريف

الشيخ محمّد هادي معرفة

صيانة القرآن من التحريف

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


المحقق: مؤسسة التمهيد
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-90596-0-0
الصفحات: ٢٧٢

الآن ، فهو على ما كان من غير تحريف. (١)

وقال ـ فيما كتبه ردّا على مسلك الأخباريين ـ : وصدرت منهم أحكام غريبة وأقوال منكرة عجيبة ، منها : قولهم بنقص القرآن ، مستندين إلى روايات تقضي البديهة بتأويلها وطرحها. وفي بعضها : نقص ثلث القرآن أو ربعه ونقص أربعين اسما في سورة «تبّت» منها أسماء جماعة من المنافقين. وفي ذلك منافاة لبديهة العقل ، لأنّه لو كان ذلك ممّا أبرزه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقرأه على المسلمين وكتبوه لافتضح المنافقون ، ولم يكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مأمورا إلّا بالستر عليهم ، ولقامت الحرب على ساق ، وكان في ابتداء الإسلام من الفتن ما كان في الختام. ثمّ لو كان حقّا لتواتر نقله وعرفه جميع الخلق ، لأنّهم كانوا يضبطون آياته وحروفه وكلماته تمام الضبط ، فكيف يغفلون عن مثل ذلك. ولعرف بين الكفّار ، وعدّوه من أعظم مصائب الإسلام والمسلمين. ولكان القارئ لسورة من السور الناقصة مبعّضا في الحقيقة. ولكان القرآن غير محفوظ ، وقد أخبر الله بحفظه ، ولعرف بين الشيعة ، وعدّوه من أعظم الأدلّة على خروج الأوّلين من الدين ، لأنّ النقص ـ على تقدير ثبوته ـ إنّما هو منهم.

قال : يا للعجب من قوم يزعمون سلامة الأحاديث وبقائها محفوظة وهي دائرة على الألسن ومنقولة في الكتب ، في مدّة ألف ومائتي سنة ، وأنّها لو حدث فيها نقص لظهر واستبان وشاع!! لكنّهم يحكمون بنقص القرآن ، وخفي ذلك في جميع الأزمان!! (٢)

قلت : أكرم به من محقّق خبير ، وأجدر به من ناطق بالحقّ المبين.

٩ ـ وقال حفيده الفقيه المحقّق ، الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء (ت ١٣٧٣) ـ في رسالته التي وضعها في اصول معتقدات الشيعة الغرّاء ـ : وإنّ الكتاب الموجود في أيدي المسلمين هو الكتاب الذي أنزله الله إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله للإعجاز والتحدّي ولتعلّم الأحكام وتمييز الحلال من الحرام. وأنّه لا نقص فيه ولا تحريف ولا زيادة. وعلى هذا إجماعهم

__________________

(١) ـ كشف الغطاء ، كتاب القرآن من كتاب الصلاة ، المبحث السابع والثامن ، ص ٢٩٨ ـ ٢٩٩.

(٢) ـ عن كتابه «الحقّ المبين» ، ص ١١. ونقله القاضي الطباطبائي في هامش الأنوار النعمانية ، ج ٢ ، ص ٣٥٩.

٦١

(أي إجماع الشيعة الإمامية). ومن ذهب منهم أو من غيرهم من فرق المسلمين إلى وجود نقص فيه أو تحريف فهو مخطئ نصّ الكتاب العظيم (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (١) والأخبار الواردة من طرقنا أو طرقهم الظاهرة في نقصه أو تحريفه ضعيفة شاذة ، وأخبار آحاد لا تفيد علما ولا عملا ، فإمّا أن تؤوّل بنحو من الاعتبار أو يضرب بها الجدار. (٢)

١٠ ـ وقال شيخ الإسلام بهاء الملّة والدين ، محمد بن الحسين الحارثي العاملي (ت ١٠٣١) : والصحيح أنّ القرآن العظيم محفوظ من التحريف ، زيادة كانت أو النقصان بنصّ آية الحفظ من الذكر الحكيم. وما اشتهر من الإسقاط في مواضع من الكتاب فهو غير معتبر عند العلماء. (٣)

١١ ـ وقال المحدّث العارف المحقّق محمد بن المرتضى المشتهر بالفيض الكاشاني (ت ١٠٩٠) في المقدّمة السادسة التي وضعها قبل التفسير ـ بعد نقل روايات توهّم وقوع التحريف في كتاب الله ـ قال : على هذا لم يبق لنا اعتماد بالنصّ الموجود ، وقد قال تعالى : (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ). (٤) وقال : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ). (٥) وأيضا يتنافى مع روايات العرض على القرآن. فما دلّ على وقوع التحريف مخالف لكتاب الله وتكذيب له. فيجب ردّه والحكم بفساده أو تأويله. (٦)

وقال في كتابه الذي وضعه في بيان اصول الدين ـ عند الكلام عن إعجاز القرآن ، واستعراض جملة من روايات تسند التحريف إلى كتاب الله ـ قال : ويرد على هذا كلّه إشكال ، وهو : أنّه على ذلك التقدير لم يبق لنا اعتماد على شيء من القرآن ، إذ على هذا يحتمل كلّ آية منه أن تكون محرّفة ومغيّرة وتكون على خلاف ما أنزله الله ، فلم يبق في

__________________

(١) ـ الحجر ١٥ : ٩.

(٢) ـ أصل الشيعة واصولها ، ص ١٣٣.

(٣) ـ آلاء الرحمان ، ج ١ ، ص ٢٦.

(٤) ـ فصّلت ٤١ : ٤١ ـ ٤٢.

(٥) ـ الحجر ١٥ : ٩.

(٦) ـ الصافي في تفسير القرآن ، ج ١ ، ص ٣٣ ـ ٣٤ ، المقدمة السادسة ؛ والوافي ، ج ٢ ، ص ٢٧٣ ـ ٢٧٤.

٦٢

القرآن لنا حجّة أصلا ، فتنتفي فائدته وفائدة الأمر باتّباعه والوصيّة به.

وأيضا ، قال الله عزوجل : (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ). فكيف تطرّق إليه التحريف والنقصان والتغيير!؟ وأيضا ، قال الله عزوجل : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ).

وأيضا قد استفاض عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعن الأئمّة عليهم‌السلام عرض الخبر المرويّ عنهم على كتاب الله ، ليعلم صحّته بموافقته له وفساده بمخالفته. فإذا كان القرآن الذي بأيدينا محرّفا مغيّرا فما فائدة العرض ، مع أنّ خبر التحريف مخالف لكتاب الله مكذّب له ، فيجب ردّه والحكم بفساده أو تأويله.

قال : ويخطر بالبال في دفع الإشكال ـ والعلم عند الله ـ أنّ مرادهم عليهم‌السلام بالتحريف والتغيير والحذف إنّما هو من حيث المعنى دون اللفظ ، أي حرّفوه وغيّروه في تفسيره وتأويله ، أي حملوه على خلاف ما هو عليه في نفس الأمر ، فمعنى قولهم عليهم‌السلام : كذا انزلت أنّ المراد به ذلك ، لا ما يفهمه الناس من ظاهره. وليس المراد أنّها نزلت كذلك في اللفظ ، فحذف ذلك إخفاء للحقّ وإطفاء لنور الله.

وممّا يدلّ على ذلك ما رواه في الكافي بإسناده عن أبي جعفر عليه‌السلام أنّه كتب في رسالته إلى سعد الخير : «وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرّفوا حدوده ، فهم يروونه ولا يرعونه. والجهّال يعجبهم حفظهم للرواية ، والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية». (١)

١٢ ـ وقال خاتمة المحدّثين المتعهّدين ، محمد بن الحسن بن علي المشتهر بالحرّ العاملي ، صاحب الموسوعة الحديثية الكبرى «وسائل الشيعة» (ت ١١٠٤) ـ في رسالة كتبها بالفارسية ، دحضا لسفاسف بعض معاصريه ما تعريبه ـ :

إنّ من تتبّع أحاديث أهل البيت عليهم‌السلام وتصفّح التاريخ والآثار علم علما يقينيّا أنّ القرآن قد بلغ أعلى درجات التواتر ، قد حفظه الالوف من الصحابة ونقلته الالوف ، وكان

__________________

(١) ـ كتاب علم اليقين في اصول الدين للمحقّق الفيض الكاشاني ، ج ١ ، ص ٥٦٥.

٦٣

منذ عهده صلى‌الله‌عليه‌وآله مجموعا مؤلّفا ... (١)

١٣ ـ وقال المحقّق التبريزي (ت ١٣٠٧) ـ في تعليقته على رسائل أستاذه المولى المحقّق الأنصاري : (٢) القول بالتحريف هو مذهب الأخباريين والحشوية ، خلافا لأصحاب الاصول الذين رفضوا احتمال التحريف في القرآن رفضا قاطعا ، وهو الحقّ ، للوجوه التالية :

أوّلا : إجماع الطائفة ، على ما حكاه الشيخ الطوسي والطبرسي والمرتضى علم الهدى والصدوق وغيرهم من أقطاب الإمامية.

ثانيا : صراحة القرآن بعدم إمكان التغيير فيه ، كآية التدبّر (النساء : ٨٢) وآية الحفظ (الحجر : ٩) وآية عدم إتيانه الباطل (فصّلت : ٤٢). وكذا الروايات الكثيرة الدالّة على وجوب الرجوع إلى القرآن.

ثالثا : دليل العقل ، حيث القرآن عماد الدين وأساس الشرع المبين ، لكونه معجزا ومصدّقا لمقام النبوّة إلى قيام القيامة. ويؤيّد ذلك عناية الامّة بحفظه وحراسته على ما كان عليه في العهد الأوّل في رسم الخطّ ونحوه. فلا بدّ من تأويل ما ورد بخلاف ذلك أو طرحه. (٣)

١٤ ـ وقال الحجّة البلاغي (ت ١٣٥٢) ـ بعد نقل كلمات الأعلام كالصدوق والمرتضى والطوسي وكاشف الغطاء والبهائي وأضرابهم ـ : وقد جهد المحدّث المعاصر في كتابه «فصل الخطاب» في جمع الروايات التي استدلّ بها على النقيصة ، وكثّر أعداد مسانيدها بأعداد المراسيل ، مع أنّ المتتبّع المحقّق يجزم بأنّ هذه المراسيل مأخوذة من تلك المسانيد.

__________________

(١) ـ بنقل الشيخ رحمة الله الدهلوي في كتابه القيّم «إظهار الحقّ» ، الجزء الثاني ، ص ٢٠٨. وراجع : الفصول المهمّة للسيد شرف الدين ، ص ١٦٦. وهامش الأنوار النعمانية ، ج ٢ ، ص ٣٥٧.

(٢) ـ وقد كان تلميذه الموفّق ، واقفا على دقائق نظرات شيخه واستاذه ، وأحسن من أبان في شرحه على رسائل الشيخ من آرائه في دقائق علم الاصول ، ومنها هذه المسألة في صيانة القرآن عن التغيير والتحريف.

(٣) ـ أوثق الوسائل بشرح الرسائل ، ص ٩١.

٦٤

قال : وفي جملة ما أورده من الروايات ما لا يتيسّر احتمال صدقها. ومنها ما هو مختلف بما يؤول إلى التنافي والتعارض. مع أنّ القسم الوافر منها ترجع أسانيدها إلى بضعة أنفار ، وقد وصف علماء الرجال كلّا منهم إمّا بأنّه ضعيف الحديث فاسد المذهب مجفوّ الرواية ، وإمّا بأنّه كذّاب متّهم لا أستحلّ أن أروي من تفسيره حديثا واحدا ، وأنّه معروف بالوقف وأشدّ عداوة للرضا عليه‌السلام ، وإمّا بأنّه فاسد الرواية يرمى بالغلوّ.

قال : ومن الواضح أنّ أمثال هؤلاء لا تجدي كثرتهم شيئا.

قال : ولو تسامحنا بالاعتناء برواياتهم في مثل هذا المقام الخطير لوجب من دلالة الروايات المتعدّدة ، أن ننزلها على أنّ مضامينها تفسير للآيات أو تأويل أو بيان لما يعلم يقينا شمول عمومها له لأنّه أظهر الأفراد وأحقّها بحكم العام ، أو ما كان مرادا بخصوصه عند التنزيل ، أو هو مورد النزول ، أو ما كان هو المراد من اللفظ المبهم.

قال : وعلى أحد هذه الوجوه الثلاثة الأخيرة يحمل ما ورد أنّه تنزيل وأنّه نزل به جبرئيل كما يحمل التحريف الوارد في الروايات على تحريف المعنى ، كما يشهد بذلك مكاتبة سعد إلى أبي جعفر عليه‌السلام «وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرّفوا حدوده». وكما يحمل ما ورد بشأن مصحف أمير المؤمنين عليه‌السلام وابن مسعود أنّه من التفسير والتأويل ، لقوله عليه‌السلام : «ولقد جئتهم بالكتاب كملا مشتملا على التنزيل والتأويل».

قال : وهكذا ما ورد من زيادة «بولاية علي» في مصحف فاطمة عليها‌السلام. ومعلوم أنّه كان كتاب تحديث بأسرار العلم ، وقد ورد أنّه لم يكن فيه شيء من القرآن. وأيضا ما ورد من تنزيل «الأئمّة» موضع «الامّة» ، لا بدّ من حمله على التفسير ، وأنّ التحريف إنّما هو في المعنى. وكذا نظائره من سائر الروايات.

ثمّ قال أخيرا : وإلى ما ذكرنا وغيره يشير ما نقلناه من كلمات العلماء الأعلام قدّس الله أسرارهم. (١)

__________________

(١) ـ راجع : تفصيل كلامه في الأمر الخامس من مقدمة تفسيره «آلاء الرحمان» ، ج ١ ، ص ٢٥ ـ ٢٧.

٦٥

١٥ ـ وللمحقّق البغدادي السيّد محسن الأعرجي (ت ١٢٢٧) في شرح الوافية (١) كلام واف بإثبات صيانة القرآن من التحريف. قال : اتّفق الكلّ ، لا تمانع بينهم ، على عدم الزيادة ، ونطقت به الأخبار. وقد حكى الإجماع على ذلك جماعة من أئمّة التفسير والحديث ، كشيخ الطائفة في التبيان ، وشيخنا أبي علي في مجمع البيان. وإنّما وقع الخلاف في النقيصة ، والمعروف ـ بين أصحابنا حتّى حكى عليه الإجماع ـ عدم النقيصة أيضا ...

ثمّ أخذ في مناقشة محتمل النقص ، وأخيرا في الاستدلال على عدمه رأسا في تفصيل وإسهاب يقرب من كونه رسالة مستقلّة في بابه ، لا تزال مخطوطة ، أخذنا منه صورة فتوغرافية ، لكثرة فوائدها.

جزاه الله خيرا عن القرآن وأهله. (٢)

وفي ضمنها التعرّج إلى رسالة قيّمة للمحقّق الكركي في نفس الموضوع أيضا.

١٦ ـ قاضي القضاة المحقّق الكركي : قال السيّد الأعرجي : ثمّ إنّي رأيت للفاضل المحقّق قاضي القضاة علي بن عبد العالي (ت ٩٤٠) رسالة في نفي النقيصة ، صدّرها بكلام الصدوق ، ثمّ اعترض بورود ما يدلّ على النقيصة ، وأجاب بأنّ الحديث إذا جاء على خلاف الدليل القاطع من الكتاب أو السنّة المتواترة أو الإجماع ولم يمكن تأويله ولا حمله على بعض الوجوه وجب طرحه ، ثمّ حكى الإجماع على هذه الضابطة واستفاضة النقل عنهم وروى قطعة من أخبار العرض ، ثمّ قال : ولا يجوز أن يكون المراد بالكتاب المعروض عليه غير هذا المتواتر الذي بأيدينا وأيدي الناس ، وإلّا لزم التكليف بما لا يطاق. فقد وجب عرض الأخبار على هذا الكتاب ، وأخبار النقيصة إذا عرضت عليه كانت مخالفة له ، لدلالتها على أنّه ليس هو ، وأيّ تكذيب يكون أشدّ من هذا!

ثمّ ذكر أنّ التأويل الذي يتخلّص من معارضة الحكم ويتحقّق الردّ إليه هو أن ننزل أنّ

__________________

(١) ـ هي للمولى عبد الله بن محمد المشتهر بالفاضل التوني (ت ١٠٧١) قال فيها : والمشهور بين علمائنا الأعلام أنّه محفوظ ومضبوط كما انزل ، لم يتبدّل ولم يتغيّر ، حفظه الحكيم الخبير ، قال تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ).

(٢) ـ شرح الوافية ، باب حجّية الكتاب من أبواب الحجج في الاصول.

٦٦

المراد بقولهم عليهم‌السلام : «إنّ القوم غيّروه وبدّلوه ونقصوا منه» التغيير في تفسيره وتأويله بأن فسّروه بخلاف ما هو عليه في نفس الأمر ... وأنّ المراد من الكتاب الذي نزل به جبرئيل وهو عند أهل البيت أو عند القائم من آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ التفسير والتأويل الحقّ هو الّذي عندهم عليهم‌السلام.

ثمّ وجّه سؤالا : لماذا لم يطرح الأصحاب تلك الأخبار المخالفة للكتاب؟

وأجاب بأنّها ممّا صحّ طريقها عندهم ومن ثمّ أودعوها في كتبهم مع عدم العمل بظواهرها ، وإمكان تأويلها ... (١)

١٧ ـ وقال الإمام السيد شرف الدين العاملي (ت ١٣٨١) ـ ردّا على من حاول إلصاق تهمة القول بالتحريف إلى جماعة الشيعة ، ظلما وزورا وتفريقا بين المسلمين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله ـ قال : وكلّ من نسب إليهم تحريف القرآن فإنّه مفتر عليهم ظالم لهم ، لأنّ قداسة القرآن الحكيم من ضروريات دينهم الإسلامي ومذهبهم الإمامي ، ومن شكّ فيها من المسلمين فهو مرتدّ بإجماع الإمامية. وظواهر القرآن ـ فضلا عن نصوصه ـ من أبلغ حجج الله تعالى ، وأقوى أدلّة أهل الحقّ بحكم البداهة الأوّلية من مذهب الإمامية. ولذلك تراهم يضربون بظواهر الأحاديث المخالفة للقرآن عرض الجدار ، ولا يأبهون بها وإن كانت صحيحة. وتلك كتبهم في الحديث والفقه والاصول صريحة بما نقول. والقرآن الحكيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه إنّما هو ما بين الدفّتين وهو ما في أيدي النّاس ، لا يزيد حرفا ولا ينقص حرفا ولا تبديل فيه لكلمة بكلمة ولا لحرف بحرف ، وكلّ حرف من حروفه متواتر في كلّ جيل تواترا قطعيّا إلى عهد الوحي والنبوّة ... (٢)

وقال في أجوبته لمسائل جار الله : نعوذ بالله من هذا القول ، ونبرأ إلى الله تعالى من هذا الجهل وكلّ من نسب هذا الرأي إلينا جاهل بمذهبنا أو مفتر علينا ، فإنّ القرآن العظيم

__________________

(١) ـ المصدر.

(٢) ـ الفصول المهمّة ، ص ١٦٥.

٦٧

والذكر الحكيم متواتر من طرقنا بجميع آياته وكلماته وسائر حروفه وحركاته وسكناته تواترا قطعيّا عن أئمّة الهدى من أهل البيت عليهم‌السلام ، لا يرتاب في ذلك إلّا معتوه ، وأئمّة أهل البيت كلّهم أجمعون رفعوه إلى جدّهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الله تعالى ، وهذا أيضا ممّا لا ريب فيه ... (١)

١٨ ـ وقال السيّد محسن الأمين العاملي (ت ١٣٧١) ـ ردّا على ابن حزم وأذنابه كصادق الرافعي وأمثاله في افترائهم القول بالتحريف على الشيعة ـ : لا يقول أحد من الإمامية ، لا قديما ولا حديثا أنّ القرآن مزيد فيه قليل أو كثير ، فضلا عن كلّهم. بل كلّهم متّفقون على عدم الزيادة. ومن يعتدّ بقوله من محقّقيهم متّفقون على أنّه لم ينقص منه ... ومن نسب إليهم خلاف ذلك فهو كاذب مفتر مجترئ على الله ورسوله ... (٢)

وهكذا تجده رحمه‌الله في كتابه «الشيعة والمنار» يرفض التهم التي وجّهها صاحب المنار إلى الشيعة ونصب لهم العداء العارم من غير مبالاة ، منها تهمة القول بالتحريف. (٣)

١٩ ـ وقال العلّامة الأميني ـ ردّا على افتراءات ابن حزم ـ : ... لكن القارئ إذا فحص ونقّب لا يجد في طليعة الإمامية إلّا نفاة هذه الفرية ... هؤلاء أعلام الإمامية وحملة علومهم الكالئين لنواميسهم وعقائدهم قديما وحديثا يوقفونك على مين الرجل فيما يقول ، وهذه فرق الشيعة وفي مقدّمهم الإمامية مجمعة على أنّ ما بين الدفّتين هو ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه. وهو المحكوم بإحكامه ليس إلّا.

وإن دارت بين شدقي أحد من الشيعة كلمة التحريف فهو يريد التأويل بالباطل بتحريف الكلم عن مواضعه ، لا الزيادة والنقيصة ، ولا تبديل حرف بحرف ، كما يقول التحريف بهذا المعنى هو وقومه ويرمون به الشيعة. (٤)

__________________

(١) ـ أجوبة مسائل جار الله ، ص ٢٨.

(٢) ـ أعيان الشيعة ، ج ١ ، ص ٤١.

(٣) ـ في الجزء السادس وما بعده من المجلّد التاسع والعشرين تباعا. راجع : الفصول المهمّة ، ص ١٦٤.

(٤) ـ الغدير ، ج ٣ ، ص ١٠١.

٦٨

٢٠ ـ ولسيدنا الطباطبائي قدس‌سره (ت ١٤٠٢) بحث واف بإثبات صيانة القرآن عن التحريف في جميع أشكاله وصوره ، ذكره في سبعة فصول ، في استدلال قويّ وبرهان حكيم ، لا يستغني الباحث عن مراجعته ، وإليك ملخّص تلك الفصول :

١ ـ إنّ للقرآن في آيه وسوره أوصافا خاصة ونعوتا قد تحدّى بها من أوّل يومه ، ونجدها كما هي محفوظة حتّى اليوم ، كالإعجاز ، وعدم الاختلاف ، والهداية ، والنورية ، والذكرية ، والهيمنة ، وما شاكل ذلك. فلو كان وقع فيه تحريف لزالت منه بعض تلك السمات.

٢ ـ ويدلّ على عدم التحريف روايات العرض على كتاب الله ، والرجوع إليه عند مشتبكات الامور ، وحديث الثقلين ، ونحو ذلك.

٣ ـ إنّ الوجوه التي تمسّك بها القائل بالتحريف كلّها مخدوشة غير وافية بإثبات مقصوده.

٤ ـ تعرّض لمسألة الجمع الأوّل على عهد أبي بكر.

٥ ـ تمّ جمعه وتوحيده على عهد عثمان.

٦ ـ ما ورد بشأن الجمع الأوّل والثاني يفيد القطع بأنّهم إنّما جمعوا ما كمل في حياته صلى‌الله‌عليه‌وآله من آيات وسور. جمعوها بين الدفّتين من غير أن يمسّوها بيد في المتن زيادة أو نقصانا ، وهو الباقي إلى اليوم بسلام.

٧ ـ تزييف مسألة الإنساء التي تذرّع بها بعض الاصوليين من العامّة لتوجيه ما ورد من ضياع بعض الآي بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وبذلك يتمّ ما ذكره قدس‌سره بهذا الشأن. (١)

٢١ ـ وقال سيدنا الاستاذ الإمام الخميني قدس‌سره : (٢)

__________________

(١) ـ الميزان ، ج ١٢ ، ص ١٠٦ ـ ١٣٧.

(٢) ـ ارتحل رحمه‌الله إلى الملأ الأعلى قبل تقديم المقال إلى الطبع ، عن عمر قارب التسعين (١٣٢٠ ـ ١٤٠٩ ه‍ ق) في ـ

٦٩

«إنّ الواقف على عناية المسلمين بجمع الكتاب وحفظه وضبطه ، قراءة وكتابة ، يقف على بطلان تلك المزعومة. وما ورد فيه من أخبار ـ حسبما تمسّكوا ـ إمّا ضعيف لا يصلح للاستدلال به ، أو مجعول تلوح عليه أمارات الجعل ، أو غريب يقضي بالعجب. أمّا الصحيح منها فيرمي إلى مسألة التأويل والتفسير ، وأنّ التحريف إنّما حصل في ذلك لا في لفظه وعباراته.

وتفصيل ذلك يحتاج إلى تأليف كتاب حافل ببيان تاريخ القرآن والمراحل التي قضاها طيلة قرون. ويتلخّص في أنّ الكتاب العزيز هو عين ما بين الدفّتين ، لا زيادة فيه ولا نقصان. وأنّ الاختلاف في القراءات أمر حادث ، ناش عن اختلاف في الاجتهادات ، من غير أن يمسّ جانب الوحي الذي نزل به الروح الأمين على قلب سيّد المرسلين ... (١)

وذكر لي العلّامة السبحاني أنّ سيّدنا الاستاذ كان يذكر ذلك في مجلس الدرس بكلّ حماسة وشدّة ، وكان شديد التغيّر على تلك الفئة الشاذّة من الأخباريين في نسبتهم التحريف إلى كتاب الله العزيز الحميد.

وله قدس‌سره مقال آخر أوسع وأشدّ لحنا بصدد نفي مزعومة التحريف ، قاله بشأن إثبات حجّية ظواهر الكتاب ، ردّا على مقالة من زعم عدم الظهور ، مستدلّا بوقوع التحريف في نصّ الكتاب العزيز ، الموجب لعروض الإجمال فيه بذلك حسب زعمه. قال : وهذا ممنوع بحسب الصغرى والكبرى. أمّا الاولى ، فلمنع وقوع التحريف فيه جدّا ، كما هو مذهب المحقّقين من علماء الإسلام والمعتبرين من الفريقين. وإن شئت شطرا من الكلام في هذا المقام فارجع إلى مقدّمة تفسير «آلاء الرحمان» للعلّامة البلاغي قدس‌سره.

وأزيدك توضيحا : أنّه لو كان الأمر كما توهّم صاحب «فصل الخطاب» الذي كان كتبه لا يفيد علما ولا عملا ، وإنّما هي إيراد روايات أعرض عنها الأصحاب ، وتنزّه عنها اولوا

__________________

ـ «١٤ / ٣ / ١٣٦٨ ه‍ ش» وخلّفت رحلته قدس‌سره أسا في القلوب وحزّا في الصدور ... فرحمه‌الله من إمام قائد لا زالت معالم قيادته الحكيمة واضحة الدلائل للملأ الإسلامي عبر القرون.

(١) ـ تهذيب الاصول ، تقريرا بقلم العلّامة سبحاني ، ج ٢ ، ص ١٦٥.

٧٠

الألباب من قدماء أصحابنا كالمحمّدين الثلاثة المتقدّمين رحمهم‌الله. هذا حال كتب رواياته غالبا كالمستدرك ، ولا تسأل عن سائر كتبه المشحونة بالقصص والحكايات الغريبة التي غالبها بالهزل أشبه منه بالجدّ. وهو رحمه‌الله شخص صالح متتبّع ، إلّا أنّ اشتياقه لجمع الضعاف والغرائب والعجائب وما لا يقبلها العقل السليم والرأي المستقيم ، أكثر من الكلام النافع. والعجب من معاصريه من أهل اليقظة ، كيف ذهلوا وغفلوا ، حتّى وقع ما وقع ، ممّا بكت عليه السماوات ، وكادت تتدكدك على الأرض!

وبالجملة : ففساد هذا القول الفظيع والرأي الشنيع أوضح من أن يخفى على ذي مسكة ، إلّا أنّ هذا الفساد قد شاع على رغم علماء الإسلام وحفّاظ شريعة سيّد الأنام!! (١)

٢٢ ـ وختاما ، فإنّ لسيّدنا الاستاذ الخوئي رحمه‌الله بحثا تفصيليا مستوف بإثبات صيانة القرآن من احتمال كلّ زيادة أو نقصان. وكان ما كتبناه بهذا الصدد اقتفاء لأثره واقتداء لمنهجه في هذا السبيل ، ومن ثمّ فقد أخذنا عنوان البحث من بيانه ، لا زالت كرائم أفكاره الرشيدة فائضة بالخير والبركات. (٢)

* * *

وبعد فتلك كانت الأهمّ من كلمات أصحابنا الإمامية ، وفيه من نظرات أعلام علمائنا الكبار ممّن تشرّفت المعاهد العلمية بفيض وجودهم ، وملأ الآفاق صيت فضلهم ونبوغهم في الأدب والكمال فكانوا قدوة للامّة واسوة في الخافقين ، ومثلا في العلوم والمعارف الإسلامية على توالي الدهور وعبر العصور. ومن ثمّ اقتصرنا عليهم ولم نستقص الجميع ، إذ فيهم الكفاية وآراؤهم هي الحجّة الماثلة فيها آراء الامّة على الإطلاق.

نعم هؤلاء هم الذين يمثّلون الامّة وتتجلّى في نظراتهم طريقة المذهب الحقّ ، لا اولئك الشرذمة القليلة الذين لفظتهم الامّة سحالة منبوذة لا شخصيّة لهم ولا حجّية في

__________________

(١) ـ راجع : أنوار الهداية في التعليقة على الكفاية ، بقلمه الشريف ، ج ١ ، ص ٢٤٣ ـ ٢٤٧.

(٢) ـ راجع : البيان في تفسير القرآن ، ص ٢١٥ ـ ٢٥٤.

٧١

أقوالهم المنكوسة.

لكنّ الذين في قلوبهم زيغ إنّما يتّبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة ، سعيا وراء الفساد في الأرض ، لا وفّقهم الله.

٧٢

الفصل الرابع

شهادات ضافية

بنزاهة موقف أعلام الإماميّة

عن القول بالتحريف

هناك شهادات من أعلام التحقيق من أهل السنّة بشأن نزاهة مواقف علماء الشيعة الإمامية تجاه مسألة التحريف. ومن درس بحوث أعلام الطائفة في مختلف شؤون الدين ، ولا سيّما فيما يمسّ جوانب كتاب الله العزيز الحميد ، يجد نظرتهم المشرّفة بشأن هذا الكتاب ، كما يجدهم أحرص الناس على حفظه وحراسته والدفاع عن قدسيته طول عهد الإسلام. فأجدر بهم أن يتبرّأوا من سخف القول بالتحريف ، الذي هو مسّ بكرامة القرآن وحطّ من شأن أقدس شيء في حياة الامّة ، وعلى رأسها علماء الطائفة ، الذين هم رهن إرشادات الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام.

وإليك نماذج من تلكم الشهادات الضافية :

هذا أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري (رأس الأشاعرة) تراه يجعل من أبناء الشيعة (وقد سمّاهم الروافض) فريقين :

فريق هم أصحاب الظواهر ، ممّن لا عمق لهم في تفكير ولا باع لهم في مجالات

٧٣

البحوث النظرية (١) يزعمون أنّ القرآن قد نقص منه ، استنادا إلى لفيف روايات يروونها بهذا الشأن ، ممّا لا قيمة لها عند المحقّقين ، وإنّما أخذها هؤلاء على علّاتها ، نظير إخوانهم الحشوية من أبناء السنّة.

غير أنّهم ينكرون أشدّ الإنكار وجود زيادة في النصّ الموجود ، وأنّ ذلك غير جائز بضرورة الشرع ، كما لا تبديل في شيء منه ولا تغيير عمّا كان عليه. سوى أنّه ذهب منه ـ في زعمهم ـ شيء كثير (٢) قالوا : والإمام القائم يحيط به علما.

وأمّا الفريق الثاني ـ وهم المحقّقون من أهل النظر والاستنباط ـ ممّن بنوا اسس الشريعة على قواعد العقل والحكمة الرشيدة ، وأشادوا من مباني العدل ، وقالوا بضرورة تحكيم الإمامة بعد انقضاء عهد النبوّة. هؤلاء يرفضون احتمال كلّ تغيير أو تبديل ، لا بنقص ولا بزيادة ولا بتحوير ، رفضا باتا ، وأنّ القرآن باق كما هو ، على ما أنزله الله على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يغيّر ولم يبدّل ولا زال عمّا كان عليه.

قال الأشعري : واختلفت الروافض في القرآن ، هل زيد فيه أو نقص منه؟ وهم فرقتان ، فالفرقة الاولى منهم يزعمون أنّ القرآن قد نقص منه. وأمّا الزيادة فذلك غير جائز أن يكون قد كان ، وكذلك لا يجوز أن يكون قد غيّر منه شيء عمّا كان عليه ، فأمّا ذهاب كثير منه فقد ذهب كثير منه ، والإمام يحيط علما به.

__________________

(١) ـ هم فئة متشعّبة عن جماعة محدّثي الشيعة في عصر متأخّر ، وسمّوا أنفسهم بالأخبارية ، وسمّهم بذلك علمهم الشاخص الجزائري في رسالته «منبع الحياة» (ص ، ٣١ ، ط بغداد). ومن أبرز سماتهم التزمّت والقشريّة ، وحشد الحقائب بالنقول والحكايات حشدا بلا هوادة ، على غرار إخوانهم الحشويّة النوابت من الحنابلة ، على حدّ تعبير القاضي عبد الجبار في شرحه للاصول الخمسة ، ص ٥٢٧.

(٢) ـ أوّل من زعم أنّ القرآن قد ذهب منه شيء كثير هو عبد الله بن عمر ، كان يقول : لا يقولنّ أحدكم قد أخذت القرآن كلّه ، ما يدريه ما كلّه؟ قد ذهب منه قرآن كثير. الإتقان ، ج ٣ ، ص ٧٢.

ولعلّ هذا كان مغبّة ما قرع سمعه من قولة والده : قد ذهب من القرآن أكثر من ثلثيه. الإتقان ، ج ١ ، ص ١٩٨. أو ما ذكره ابن شهاب : قد ذهب قرآن كثير بذهاب حملته يوم اليمامة. منتخب كنز العمال بهامش المسند ، ج ٢ ، ص ٥٠.

والظاهر أنّ كلّ ذلك مكذوب عليهم كما كذب على الشيعة الأبرياء.

٧٤

والفرقة الثانية منهم وهم القائلون بالاعتزال (لقولهم بأصل العدل) والإمامة (١) يزعمون أنّ القرآن ما نقص منه ولا زيد فيه ، وأنّه على ما أنزله الله تعالى على نبيّه عليه الصلاة والسلام ، لم يغيّر ولم يبدّل ، ولا زال عمّا كان عليه. (٢)

هذا كلام أكبر زعيم من زعماء الفكر الإسلامي في مطلع القرن الرابع الهجري (ت ٣٣٠) يشهد بوضوح أنّ الأعلام المحقّقين من علماء الشيعة الإمامية يرفضون القول بالتحريف في جميع أشكاله ، فمن ذا يا ترى يمكنه نسبة هذا القول إليهم إلّا أن يكون تائها في ضلال؟!

* * *

وللسيّد شرف الدين العاملي بحث لطيف في سلامة القرآن من احتمال التحريف ، يعاتب فيه اولئك الذين تسرّعوا في قذف التهم الشعواء إلى امّة أبرياء ، وأخيرا يقول :

والباحثون من أهل السنّة يعلمون أنّ شأن القرآن العزيز عند الإمامية ليس إلّا ما ذكرناه ، والمنصفون منهم يصرّحون بذلك : قال الإمام الهمام الباحث المتتبّع رحمة الله الهندي في كتابه النفيس «إظهار الحقّ» ما هذا لفظه :

القرآن المجيد عند جمهور علماء الشيعة الإمامية الاثني عشرية محفوظ عن التغيير والتبديل. ومن قال منهم بوقوع النقصان فيه (أي الفئة الأخبارية) فقوله مردود غير مقبول عندهم.

ثمّ يستشهد الإمام الهندي بكلمات أعلام الطائفة أمثال : الصدوق والشريف المرتضى والطبرسي والحرّ العاملي وغيرهم من مشاهير.

ويعقّبها بقوله : فظهر أنّ المذهب المحقّق عند علماء الفرقة الإمامية الاثني عشرية أنّ القرآن الذي أنزله الله على نبيّه هو ما بين الدفّتين ، وهو ما في أيدي الناس ، ليس بأكثر من

__________________

(١) ـ القول بالإمامة إشارة إلى الطائفة الإمامية الذين هم أضخم طوائف الشيعة (القائلون بإمامة الأئمّة الاثني عشر) والثلّة النافعة الباقية الماكثة في الأرض ، وهم أعضاد الامة وأشهاد الملّة ، وبهم دارت رحى التحقيق والتدقيق في مجالات العلوم والمعارف الإسلامية ، وكذا في استنباط مباني الشريعة المقدّسة ، ولا تزال أبواب الاجتهاد مفتوحة لديهم بمصراعين.

(٢) ـ مقالات الإسلاميين ، ج ١ ، ص ١١٩ ـ ١٢٠.

٧٥

ذلك. وأنّه كان مجموعا مؤلّفا في عهده صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وحفظه ونقله الوف من الصحابة. ويظهر القرآن ويشهر بهذا الترتيب عند ظهور الإمام الثاني عشر عجلّ الله تعالى فرجه.

قال : والشرذمة القليلة التي قالت بوقوع التغيير فقولهم مردود عندهم ولا اعتداد بهم فيما بينهم.

قال : وبعض الأخبار الضعيفة التي رويت في مذهبهم لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحّته.

قال : وهو حقّ ، لأنّ خبر الواحد لا يقتضي علما فيجب ردّه إذا خالف الأدلّة القاطعة ، على ما صرّح به ابن المطهّر الحلّي (العلّامة) في مبادئ الوصول إلى علم الاصول ... (١)

قال : وفي تفسير «الصراط المستقيم» الذي هو تفسير معتبر عند علماء الشيعة ، في تفسير قوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (٢) أي لحافظون له من التحريف والتبديل والزيادة والنقصان. (٣)

* * *

ومن الأساتذة المعاصرين الدكتور محمد عبد الله درّاز أيضا يشهد بنزاهة ساحة الشيعة الإمامية عن القول بالتحريف ، يقول : ومهما يكن من أمر فإنّ هذا المصحف هو الوحيد المتداول في العالم الإسلامي ـ بما فيه فرق الشيعة ـ منذ ثلاثة عشر قرنا من الزمان. ونذكر هنا رأي الشيعة الإمامية (أهمّ فرق الشيعة) ، كما ورد بكتاب أبي جعفر (الصدوق) : «إنّ اعتقادنا في جملة القرآن الذي أوحى به الله تعالى إلى نبيّه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله هو كلّ ما تحتويه دفّتا المصحف المتداول بين الناس لا أكثر ... أمّا من ينسب إلينا الاعتقاد في أنّ القرآن أكثر من هذا فهو كاذب».

قال الاستاذ : وبناء على ذلك أكّد «لوبلو» أنّ القرآن هو اليوم الكتاب الرّباني الذي ليس فيه أيّ تغيير يذكر ... وكان «وموير» قد أعلن ذلك قبله ... فلم يوجد إلّا قرآن واحد

__________________

(١) ـ الفصول المهمّة ، ص ١٦٤ ـ ١٦٦.

(٢) ـ الحجر ١٥ : ٩.

(٣) ـ إظهار الحقّ (تحقيق الدسوقي) ، ج ٢ ، ص ٢٠٦ ـ ٢٠٩.

٧٦

لجميع الفرق الإسلامية المتنازعة. (١)

ونقل عن مقال لميرزا إسكندر كاظم : إنّ سورة النورين (٢) موضوعة بلا شكّ ، وأنّ هذا العالم الجليل قد أثبت أنّ هذه السورة المزعومة لا يوجد لها أثر في مصحف الشيعة ، فضلا عن أنّه لم يرد ذكرها في مؤلّفاتهم الخاصّة بمجادلاتهم التقليديّة ... وتكفي قراءة هذه المقطوعة التي لا تعدو أن تكون تراكما ركيكا من العبارات والكلمات المسروقة من القرآن ، لنتبيّن التعارض الشديد بينها وبين أناقة الاسلوب القرآني وتناسقه. (٣)

* * *

وهكذا فضيلة الاستاذ الشيخ محمد محمد المدني عميد كلّية الشريعة بالجامعة الأزهرية يقول : وأمّا أنّ الإمامية يعتقدون نقص القرآن فمعاذ الله! وإنّما هي روايات رويت في كتبهم ، كما روي مثلها في كتبنا ، وأهل التحقيق من الفريقين قد زيّفوها وبيّنوا بطلانها ، وليس في الشيعة الإمامية أو الزيدية من يعتقد ذلك ، كما أنّه ليس في السنّة من يعتقده.

ويستطيع من شاء أن يرجع إلى مثل كتاب «الإتقان» للسيوطي ليرى فيه أمثال هذه الروايات التي نضرب عنها صفحا.

قال : وقد ألّف أحد المصريين (٤) في سنة ١٩٤٨ م كتابا اسمه «الفرقان» حشّاه بكثير من أمثال هذه الروايات السقيمة المدخولة المرفوضة ، ناقلا لها عن الكتب والمصادر عند أهل السنّة. وقد طلب الأزهر من الحكومة مصادرة هذا الكتاب بعد أن بيّن بالدليل والبحث العلمي أوجه البطلان والفساد فيه ، فاستجابت الحكومة لهذا الطلب وصادرت الكتاب ، فرفع صاحبه دعوى يطلب فيها تعويضا ، فحكم القضاء الإداري في مجلس الدولة برفضها.

أفيقال : إنّ أهل السنّة ينكرون قداسة القرآن؟ أو يعتقدون نقص القرآن لرواية رواها

__________________

(١) ـ مدخل إلى القرآن الكريم ، ص ٣٩ ـ ٤٠.

(٢) ـ التي نشرها «جارسين دى تاسى».

(٣) ـ بهامش المدخل ، ص ٤٠.

(٤) ـ هو ابن الخطيب محمد محمد عبد اللّطيف الآتي ذكره.

٧٧

فلان؟ أو لكتاب ألّفه فلان؟

فكذلك الشيعة الإمامية ، إنّما هي روايات في بعض كتبهم كالروايات التي في بعض كتبنا. وفي ذلك يقول الإمام العلّامة السعيد أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي ـ من كبار علماء الإمامية في القرن السادس الهجري في كتابه «مجمع البيان لعلوم القرآن» ، وهو بصدد الكلام عن الروايات الضعيفة التي تزعم أنّ نقصا مّا دخل القرآن ـ يقول هذا الإمام ما نصّه : روى جماعة من أصحابنا وقوم من حشويّة العامّة أنّ في القرآن تغييرا ونقصانا ، والصحيح من مذهب أصحابنا خلافه ، وهو الذي نصره المرتضى قدس‌سره ، واستوفى الكلام فيه غاية الاستيفاء ...

وينقل كلام العلّامة الطبرسي بتمامه ، حسبما نقلناه آنفا ، ثمّ يعقّبه بقوله : فهذا كلام صريح واضح الدلالة على أنّ الإمامية كغيرهم في اعتقاد أنّ القرآن لم يضع منه حرف واحد ، وإنّ من قال بذلك فإنّما يستند إلى روايات ظنّها صحيحة وهي باطلة.

قال : وقد كتب فضيلة الاستاذ الشيخ محمّد جواد مغنية ـ وهو من كبار علماء الشيعة الإمامية بلبنان ، وقد ولّي مناصب القضاء حتّى وصل إلى رئاسة المحكمة الشرعية العليا ـ كتب فضيلته يقول :

«الفت نظر من يحتجّ على الشيعة ببعض الأحاديث الموجودة في كتب بعض علمائهم. الفت نظره إلى أنّ الشيعة تعتقد أنّ كتب الحديث الموجودة في مكاتباتهم ـ ومنها الكافي ، والاستبصار ، والتهذيب ، ومن لا يحضره الفقيه ـ فيها الصحيح والضعيف ، وأنّ كتب الفقه التي ألّفها علماؤهم فيها الخطأ والصواب ، فليس عند الشيعة كتاب يؤمنون بأنّ كلّ ما فيه حقّ وصواب ـ من أوّله إلى آخره ـ غير القرآن الكريم ، فالأحاديث الموجودة في كتب الشيعة لا تكون حجّة على مذهبهم ، ولا على أيّ شيعيّ بصفته المذهبية الشيعية ، وإنّما يكون الحديث حجّة على الشيعي الذي ثبت عنده الحديث بصفته الشخصية ، وهذه نتيجة طبيعية لفتح باب الاجتهاد لكلّ من له الأهلية ، فإنّ الاجتهاد يكون في صحّة السند وضعفه ، كما يكون في استخراج الحكم من آية أو رواية. ولا اغالي

٧٨

إذا قلت : إنّ الاعتقاد بوجود الكذب والدسّ بين الأحاديث ضرورة من ضرورات دين الإسلام ، من غير فرق بين مذهب ومذهب ، حيث اتّفقت على ذلك كلمة جميع المذاهب الإسلامية». (١)

* * *

ويقول الدكتور محمد التيجاني السماوي :

«ولو جبنا بلاد المسلمين شرقا وغربا شمالا وجنوبا وفي كلّ بقاع الدنيا فسوف نجد نفس القرآن بدون زيادة ولا نقصان ، وإن اختلف المسلمون إلى مذاهب وفرق وملل ونحل ، فالقرآن هو الحافز الوحيد الذي يجمعهم ولا يختلف فيه من الامّة اثنان ... وما ينسب إلى الشيعة من القول بالتحريف هو مجرّد تشنيع وتهويل ، وليس له في معتقدات الشيعة وجود.

وإذا ما قرأنا عقيدة الشيعة في القرآن الكريم فسوف نجد إجماعهم على تنزيه كتاب الله من كلّ تحريف.

وبعد هذا ، فكلّ بلاد الشيعة معروفة وأحكامهم في الفقه معلومة لدى الجميع ، فلو كان عندهم قرآن غير الذي عندنا لعلمه الناس. وأتذكّر أنّي عند ما زرت بلاد الشيعة للمرّة الاولى كان في ذهني بعض هذه الإشاعات ، فكنت كلّما رأيت مجلّدا ضخما تناولته علّني أعثر على هذا القرآن المزعوم ، ولكن سرعان ما تبخّر هذا الوهم وعرفت فيما بعد أنّها إحدى التشنيعات المكذوبة لينفّروا الناس من الشيعة.

ولكن يبقى هناك دائما من يشنّع ويحتجّ على الشيعة بكتاب اسمه «فصل الخطاب في تحريف الكتاب» ومؤلّفه محمد تقي النوري الطبرسي المتوفّى سنة ١٣٢٠ هجرية وهو شيعي ، ويريد هؤلاء المتحاملون أن يحمّلوا الشيعة مسؤولية هذا الكتاب! وهذا غير إنصاف! فكم من كتب كتبت وهي لا تعبّر في الحقيقة إلّا عن رأي كاتبها ومؤلّفها ، ويكون

__________________

(١) ـ مجلة رسالة الإسلام ، الصادرة عن دار التقريب بين المذاهب الإسلامية ـ القاهرة ـ السنة ١١ ، العدد ٤٤ ، ص ٣٨٢ ـ ٣٨٥.

٧٩

فيها الغثّ والسمين ، وفيها الحقّ والباطل ، وتحمل في طيّها الخطأ والصواب ، ونجد ذلك عند كلّ الفرق الإسلامية ولا يختصّ بالشيعة دون سواها ، وهو في الواقع ألصق وأقرب بأهل السنّة والجماعة منه إلى الشيعة! (١) أفيجوز لنا أن نحمّل أهل السنّة والجماعة مسؤولية ما كتبه وزير الثقافة المصري وعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين بخصوص القرآن والشعر الجاهلي؟! أو ما رواه البخاري وهو صحيح عندهم ، من نقص في القرآن وزيادة؟ وكذلك صحيح مسلم وغيره؟

ثمّ نقل مقال الاستاذ محمد المدني ، وأخيرا قال : وحتّى يتبيّن لك أيّها القارئ أنّ هذه التهمة (تهمة القول بالتحريف) هي أقرب لأهل السنّة منها إلى الشيعة ، وحتّى تعرف بأنّ أهل السنّة يرمون غيرهم بما هو فيهم ... وتعرف الدليل من كتب أهل السنّة ما يقنعك بأنّهم هم القائلون بتحريف القرآن ، وأنّه نقص منه وزيد فيه ... اقدّم لك ما يلي.

فجعل يذكر روايات التحريف التي رواها أهل الحشو من أهل السنّة وأثبتها كتب الصحاح المعروفة ، حسبما نذكر شطرا منها في فصل قادم إن شاء الله.

ثمّ قال : فإذا كانت كتب أهل السنّة والجماعة ومسانيدهم وصحاحهم مشحونة بمثل هذه الروايات ـ التي تدّعي بأنّ القرآن ناقص مرّة وزائد اخرى ـ فلماذا هذا التشنيع على الشيعة الذين أجمعوا على بطلان هذا الادّعاء؟!

والمهمّ في كلّ هذا أنّ علماء السنّة وعلماء الشيعة من المحقّقين قد أبطلوا مثل هذه الروايات واعتبروها شاذّة ، وأثبتوا بالأدلّة المقنعة بأنّ القرآن الذي بأيدينا هو نفس القرآن الذي انزل على نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وليس فيه زيادة ولا نقصان ولا تبديل ولا تغيير ، فكيف يشنّع أهل السنّة والجماعة على الشيعة من أجل روايات ساقطة عندهم ، ويبرّئون أنفسهم ، بينما صحاحهم تثبت صحّة تلك الروايات؟!». (٢)

__________________

(١) ـ قال التيجاني في الهامش : لأنّ كتاب «فصل الخطاب» لا يعدّ شيئا عند الشيعة ، بينما روايات نقص القرآن والزيادة فيه أخرجها صحاح أهل السنّة والجماعة أمثال البخاري ومسلم ومسند الإمام أحمد.

(٢) ـ التيجاني في كتابه «لأكون مع الصادقين» ، ص ٢٥٩ ـ ٢٧١.

٨٠