صيانة القرآن من التحريف

الشيخ محمّد هادي معرفة

صيانة القرآن من التحريف

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


المحقق: مؤسسة التمهيد
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-90596-0-0
الصفحات: ٢٧٢

أثبتناه في تلك المواضع لذهب عنها تلك الروعة الراهنة ، في حين عدم الحاجة إلى ذكر الاسم ، وإنّما هو بيان شأن النزول لا غير.

قالوا ـ في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) (١) ـ : إنّ اسم عليّ اسقط من قوله «انزل إليك في عليّ». (٢)

وسنأتي على مزاعم من هذا القبيل في فصل قادم.

وأسخف مزعومة زعمها هؤلاء هي سقط أكثر من ثلث القرآن ـ أي ما يزيد على ألفي آية ـ من خلال آية واحدة. هي آية القسط في اليتامى ، (٣) زعموا عدم تناسبها مع ذيلها في جواز نكاح النساء مثنى وثلاث ورباع ، فهناك زعموا سقطا كثيرا فيما بين الجملتين! (٤) هكذا ـ وبهذه العقلية الهزيلة ـ حاولوا توجيه نظم الآية الموجود!

وخلاصة القول : إنّ زعم التحريف سواء بالزيادة أو النقص أم بالتبديل يتنافى وموضع القرآن البلاغي المعجز تنافيا بيّنا.

٤ ـ آية الحفظ

قال تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ). (٥) هذه الآية الكريمة ضمنت بقاء القرآن وسلامته عن تطرّق الحدثان عبر الأجيال.

وهو ضمان إلهي لا يختلف ولا يتخلّف وعدا صادقا (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ). (٦) وهذا هو مقتضى قاعدة اللطف : «يجب على الله تعالى ـ وفق حكمته في التكليف ـ فعل ما يوجب تقريب العباد إلى الطاعة وبعدهم عن المعصية». ولا شكّ أنّ القرآن هو عماد الإسلام وسنده الباقي مع بقاء الإسلام ، وهو خاتمة الأديان السماوية الباقية مع الخلود. الأمر الذي يستدعي بقاء أساسه ودعامته قويمة مستحكمة لا تتزعزع ولا تنثلم مع

__________________

(١) ـ المائدة ٥ : ٦٧.

(٢) ـ منبع الحياة ، ص ٦٨.

(٣) ـ النساء ٤ : ٣.

(٤) ـ منبع الحياة ، ص ٦٨.

(٥) ـ الحجر ١٥ : ٩.

(٦) ـ الرعد ١٣ : ٣١.

٤١

عواصف أحداث الزمان. وأجدر به أن لا يقع عرضة لتلاعب أهل البدع والأهواء ، شأن كلّ سند وثيق يبقى ، ليكون حجّة ثابتة مع مرّ الأجيال.

وهذا الضمان الإلهي هو أحد جوانب إعجاز هذا الكتاب ، حيث بقاؤه سليما على أيدي الناس وبين أظهرهم ، وليس في السماء في البيت المعمور في حقائب مخبوءة وراء الستور. ليس هذا إعجازا إنّما الإعجاز هو حفظه وحراسته في معرض عام وعلى ملأ الأشهاد.

فمن سفه القول ما عساه يقول أهل التحريف : «إنّه تعالى يحفظ القرآن في الموضع الذي أنزله فيه ، كما كان محفوظا في المحلّ الأعلى قبل نزوله. والقرآن إنّما نزل به جبرئيل على قلب سيّد المرسلين ليكون من المنذرين ، فمحلّه الذي أنزله تعالى فيه ووعد حفظه ، هو قلبه الشريف ، لا الصحف والدفاتر ولا غير صدره صلى‌الله‌عليه‌وآله من الضمائر ...». (١)

هذا وقد ذكر أهل التفسير ـ بشأن نزول الآية ـ : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّما كان يخشى تلاعب أهل الأهواء بالقرآن من بعده ، كما فعلوا بكتب الأنبياء السالفين. فنزلت الآية تطمئنّه على حفظه وحراسته عن تناوش الأعداء خلودا مع الأبد (٢) وقرينة السياق أيضا شاهدة على هذا المعنى.

والخلاصة : إنّ هذه الآية ضمان للرسول وعهد من الله على أن يبقى هذا القرآن سليما ومحفوظا عن تناوش الأيدي ، سلامة دائمة وبقاء مع بقاء الإسلام.

مضافا إلى أنّ حكمة التكليف تقضي أيضا بهذا البقاء والسلامة الأبدية.

ونظير هذه الطمأنة كثير في آيات اخرى (منها) قوله تعالى : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ. إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ). (٣)

كان صلى‌الله‌عليه‌وآله يخشى ممانعة أهل الكفر ومداخلتهم في الأمر ، فيحولوا دون تأثير دعوته

__________________

(١) ـ راجع : فصل الخطاب للشيخ النوري ، ص ٣٦٠.

(٢) ـ وقد أشار إليه المحدّث النوري في فصل الخطاب ، ص ٣٦١.

(٣) ـ الحجر ١٥ : ٩٤ و ٩٥.

٤٢

المباركة ، فنزلت تأمينا على بثّ الدعوة وانتشارها رغم انوف المناوئين. ولم يكن صلى‌الله‌عليه‌وآله يخاف على نفسه ، إنّما على دعوته إلى الإسلام من مناوشة جنود إبليس.

(ومنها) قوله : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ). (١)

لم يكن صلى‌الله‌عليه‌وآله يخشى على نفسه الكريمة ، إنّما على تأثير بلاغه ، فربّما كان الإبلاغ بالوصاية وتعيين ابن عمّه علي عليه‌السلام خليفة وأميرا للمؤمنين من بعده ربّما أثار ضغائن القوم فينقلبوا على أعقابهم مرتدّين ، فيهدر كلّ ما عمله لبناء الإسلام لحدّ ذاك.

ومن ثمّ جاءت الآية تؤمّنه على كبت ذوي الأحقاد دون أن يستطيعوا من مقابلته بشيء. فالمراد : عصمة دينه وشريعته من الزعزعة والزوال.

(ومنها) قوله : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ). (٢)

لم يكن الأنبياء صلوات الله عليهم يتمنّون سوى ثبات شرايعهم وسيطرتها على الآفاق ودوام حكومتها عبر التاريخ. ولكن أنّى ودسائس أبالسة الجنّ والإنس من الّذين يسعون في آياته معاجزين ، لكن الحقّ ـ دائما ـ يعلو ولا يعلى عليه : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ). (٣)

فينسخ الله ـ بلطفه الخفيّ ـ ما يلقي جنود إبليس ، ثمّ يحكم مباني شريعته ، والله عليم حكيم.

وهذا تأمين عام ، لثبات الدين ودوام تأثير شرايع الله في الأرض.

(ومنها) قوله : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ. فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ). (٤)

__________________

(١) ـ المائدة ٥ : ٦٧.

(٢) ـ الحج ٢٢ : ٥٢.

(٣) ـ الأنبياء ٢١ : ١٨.

(٤) ـ القيامة ٧٥ : ١٦ ـ ١٩.

٤٣

كان صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا نزل عليه القرآن عجّل بقراءته حرصا منه على ضبطه وحفظه دون أن ينساه أو يضيع. وذلك كان قبل أن ينتهي الوحي ببقية الآية أو السورة التي كانت تنزل تباعا. فنهي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن هذا الإسراع وضمن له الحفظ والبيان (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى. إِلَّا ما شاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى). (١)

* * *

نقل الفرّاء عن بعضهم احتمال عود الضمير في قوله تعالى (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) إلى محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله عودا إلى معلوم بالحال. فيكون المعنى : وإنّا لمحمّد لحافظون نظير قوله تعالى : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ).

كما يحتمل عوده إلى القرآن ، لأنّه الذكر المذكور قبله. والمعنى : وإنّا للقرآن لحافظون أي راعون. (٢)

وقد أخذ المخالف من هذا الاحتمال والترديد ذريعة لنقض الاستدلال بالآية على صيانة القرآن من التغيير والتبديل. (٣)

لكن احتمال عود الضمير إلى محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله احتمال غريب لا مبرّر له بعد صلاحية اللفظ لتعيين مرجع الضمير. والفرّاء إنّما نقله نقلا ، ولم يعتمده ولا وجّهه بتوجيه. وآية العصمة لا صلة لها بآية الحفظ ، فضلا عمّا ذكرنا من رجوعها أيضا إلى عصمة الشريعة وليس المقصود نفسه الكريمة بالذات.

نعم احتمل المخالف أن يكون المراد من الذكر هو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كما في قوله تعالى : (قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً. رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ). (٤) وإطلاق الذكر على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لكونه مذكّرا!

__________________

(١) ـ الأعلى ٨٧ : ٦ و ٧.

(٢) ـ وهذا لفظه في كتابه «معاني القرآن» ، ج ٢ ، ص ٨٥ : «يقال إنّ الهاء التي في «له» يراد بها القرآن. حافظون أي راعون. ويقال إنّ الهاء لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وإنّا لمحمّد لحافظون». هذا كلامه على إجماله نقلناه هنا مع شيء من التوضيح.

(٣) ـ فصل الخطاب ، ص ٣٦٠.

(٤) ـ الطلاق ٦٥ : ١٠ و ١١.

٤٤

غير أنّ المفسّرين ذكروا في توجيه هذه الآية أنّه من تقدير المحذوف ، أي وأرسلنا رسولا ... إذ لو كان الرسول بيانا للذكر لما تناسب مع التعبير بالإنزال.

هذا فضلا عن أنّ آية الحفظ مسبوقة بقوله تعالى : (وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ). (١) وهي تصلح قرينة على تعيين مراده تعالى من الذكر في آية الحفظ بعدها ، ولا دليل على إرادة خلاف هذا الظاهر. (٢)

* * *

هنا شبهة لا بدّ من إيعازة إلى دفعها :

قال الإمام الرازي : احتجّ القاضي بآية الحفظ على فساد من يزعم أنّ القرآن قد دخله التغيير ، لأنّه لو كان الأمر كذلك لما بقي القرآن محفوظا ...

قال : وهذا الاستدلال ضعيف لأنّه يجري مجرى إثبات الشيء بنفسه ، فالذين يقولون بأنّ القرآن قد دخله التغيير لعلّهم يقولون إنّ هذه الآية من جملة الزوائد التي الحقت بالقرآن ... (٣)

قال سيّدنا الاستاذ قدس‌سره : وحاصل الشبهة أنّ مدّعي التحريف يدّعي وجود التحريف في نفس هذه الآية ، لأنّها بعض القرآن ، فلا يكون الاستدلال بها بالذات صحيحا ، فإنّه من الدور الباطل ...

ثمّ أجاب قدس‌سره بما حاصله : إنّ هذه الشبهة إنّما ترد على من لم يعرف للعترة الطاهرة مقام ولايتهم الكبرى وأنّهم عدل القرآن وقرناؤه ، كما ورد في حديث الثقلين ... إذ أنّهم عليهم‌السلام تمسّكوا بهذا الموجود من القرآن وقرّروا أصحابهم في التمسّك به والاستناد إليه ، الأمر الذي يكشف عن حجّيته بالذات ووجوب التمسّك به بلا ريب ... (٤)

قلت : وجه الكلام ـ في الاستدلال بهذه الآية ـ إلى اولئك الفئات الشاذّة المنتمية إلى

__________________

(١) ـ الحجر ١٥ : ٦.

(٢) ـ راجع : البيان في تفسير القرآن لسيدّنا الاستاد طاب ثراه ، ص ٢٢٦.

(٣) ـ التفسير الكبير ، ج ١٩ ، ص ١٦١.

(٤) ـ البيان في تفسير القرآن ، ص ٢٢٨.

٤٥

الإسلام ، ممّن يرى القرآن كتابه السماوي الخالد ، الذي نزل دستورا للشريعة ومعجزة باقية دليلا على صحّة النبوّة.

وهم : الحشوية سلفا وخلفا من العامّة ، والأخباريّة المتأخّرة من الخاصّة. وهؤلاء إنّما وضعوا اليد على مواضع التحريف ـ فيما زعموا ـ كآية الرجم وآية الرضعات وآية لا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب ، فيما روته الحشوية. وآية الذرّ «ألست بربّكم ومحمّد نبيّكم وعليّ إمامكم ...». فيما زعمه الجزائري وأذنابه.

أمّا الآيات المثبّتة في المصحف الشريف ، على ما تعارف عليه المسلمون عبر القرون ، فهم معترفون بصحّتها وحيا سماويا ، ليس فيها زيادة أو تبديل في نصّها الراهن.

وعليه : فلا يضرّ مذهبهم في التحريف ، إمكان الاستدلال بالموجود من الآيات الكريمة. ومن ثمّ لم نرهم في ردّ الاستدلال بالآية ونحوها عرضوا مسألة احتمال التحريف ، وإنّما تشبّثوا بتأويلات بعيدة غير ذلك. وما ذاك إلّا لأجل إذعانهم بسلامة النصّ الموجود.

إذن فلا موضع لهذه الشبهة التي لم تعرض من قبل الخصم فضلا عن غيره. وإنّما هي شبهة أثارتها ذهنيّة إمام المتشكّكين من غير أساس.

٥ ـ نفي الباطل عنه

قال تعالى : (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ. لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ). (١)

هذه الآية أصرح دلالة من الآية الاولى ، فقد وعد تعالى صيانته من الضياع وسلامته من حوادث الأزمان ، مصونا محفوظا يشقّ طريقه إلى الأمام بسلام.

قوله (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) ، الباطل : الفاسد الضائع. أي لا

__________________

(١) ـ فصّلت ٤١ : ٤١ و ٤٢.

٤٦

يعرضه فساد أو نقض لا في حاضره ولا في مستقبل الأيّام. وذلك لأنّه تنزيل من لدن حكيم عليم ، وأنّ حكمته تعالى لتبعث على ضمان حفظه وحراسته مع أبديّة الإسلام. «حميد» : من كان محمودا على فعاله ، فلا يخلف الميعاد.

ويسبق هذه الآية قوله تعالى : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ). (١) قرينة على أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كانت تتضوّر نفسه الكريمة تلهّفا على إمكان إبطال شريعته على يد أهل الفساد ، إمّا في حياته أو بعد وفاته (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً) ، (٢) وفي هذه الآية أيضا تلميح إلى بقاء هذا الدين وضمان سلامته عن كيد الأعداء.

وقد اعترف الخصم بأنّ مطلق التغيير في القرآن يعدّ باطلا وتنافيا مع ظاهر الآية الكريمة. سوى أنّ المقصود غير هذا المعنى! قال : لأنّ المقصود هو البطلان الحاصل من تناقض أحكامه وتكاذب أخباره. (٣)

قلت : لعلّه لم يتنبّه لموضع قوله تعالى : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ ...). والباطل الذي يمكن إتيانه للكتاب هو تناول يد المحرّفين (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ). (٤)

أمّا التناقض والتكاذب في أحكامه وإخباراته فهو من الباطل المنبعث من الداخل ، وقد نفاه تعالى أيضا بقوله : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً). (٥)

ومن ثمّ أطبق المفسّرون على أنّ آية نفي الباطل هي من أصرح الآيات دلالة على نفي احتمال التحريف من الكتاب ، فلا تناله يد مغيّر أبدا.

٦ ـ العرض على كتاب الله

وأيضا من الدلائل على ردّ شبهة التحريف هي مسألة عرض الأحاديث على كتاب

__________________

(١) ـ فصّلت ٤١ : ٣٦.

(٢) ـ آل عمران ٣ : ١٤٤.

(٣) ـ فصل الخطاب ، ص ٣٦١.

(٤) ـ الحجر ١٥ : ٩١.

(٥) ـ النساء ٤ : ٨٢.

٤٧

الله ، فما وافق فهو صادق ، وما خالف فهو كاذب. قال الصادق عليه‌السلام : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ على كلّ حقّ حقيقة وعلى كلّ صواب نورا ، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه». (١)

الأمر الذي يتنافى تماما مع احتمال التحريف في كتاب الله ، وذلك من جهتين : الجهة الاولى : أنّ المعروض عليه يجب أن يكون مقطوعا به ، لأنّه المقياس الفارق بين الحقّ والباطل ولا موضع للشكّ في نفس المقياس.

إذن فلو عرضت روايات التحريف على نفس ما قيل بسقوطه لتكون موافقة له ، فهذا عرض على المقياس المشكوك فيه ، وهو دور باطل ، وإن عرضت على غيره فهي تخالفه ، حيث قوله تعالى : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ). وقوله : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ).

الجهة الثانية : أنّ العرض لا بدّ أن يكون على هذا الموجود المتواتر لدى عامّة المسلمين لما ذكرناه ـ في الجهة الاولى ـ من أنّ المقياس لا بدّ أن يكون متواترا مقطوعا به. وروايات التحريف إذا عرضت على هذا الموجود بأيدينا كانت مخالفة له ، لأنّها تنفي سلامة هذا الموجود وتدلّ على أنّه ليس ذلك الكتاب النازل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهذا تكذيب صريح للكتاب ومخالفة عارمة مع القرآن.

هكذا استدلّ المحقّق الثاني قاضي القضاة نور الدين علي بن عبد العالي الكركي (ت ٩٤٠) في رسالة وضعها للردّ على احتمال النقيصة في القرآن. قال فيها : الحديث إذا جاء على خلاف الدليل القاطع من الكتاب والسنّة المتواترة والإجماع ولم يمكن تأويله وجب طرحه. قال : وعلى هذه الضابطة إجماع علمائنا.

ثمّ قال : ولا يجوز أن يكون المراد بالكتاب المعروض عليه ، غير هذا المتواتر الذي بأيدينا وأيدي الناس ، وإلّا لزم التكليف بما لا يطاق. فقد ثبت وجوب عرض الأخبار على

__________________

(١) ـ الكافي ، ج ١ ، ص ٦٩ ، باب الأخذ بالسنّة وشواهد الكتاب.

٤٨

هذا الكتاب. وأخبار النقيصة إذا عرضت عليه كانت مخالفة له ، لدلالتها على أنّه ليس هو ، وأيّ تكذيب يكون أشدّ من هذا؟! (١)

ومثله السيد محمد مهدي الطباطبائي بحر العلوم (ت ١١٥٥) في كتابه «فوائد الاصول» قال ـ بشأن حجّية الكتاب ـ : قد أطبق جماهير العلماء منذ عهد الرسالة إلى يومنا هذا على الرجوع إلى الكتاب العزيز والتمسّك بمحكم آياته في الاصول والفروع ، بل أوجبوا عرض الأحاديث عليه ـ كما ورد في متواتر النصوص ـ «إنّ لكلّ حقّ حقيقة وعلى كلّ صواب نورا ، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فذروه» ...

قال : والمعتبر في الحجّية ما تواتر أصلا وقراءة. ولا عبرة بالشواذّ ، وليست كأخبار الآحاد ، لخروجها عن كونها قرآنا ، لأنّ من شرطه التواتر ، بخلاف الخبر ... (٢)

لكن زعم المحدّث النوري أن لا منافاة بين أخبار العرض ووقوع التحريف في القرآن! قال : لأنّ الأمر بالعرض على كتاب الله صدر من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حال حياته. أمّا وقوع السقط والتبديل فإنّما حصل بعد وفاته.

قال : إنّ ما ورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله في ذلك لا ينافي ما ورد في التغيير بعده.

وقال أيضا : إنّ ما جاء من ذلك عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فهو أقلّ قليل ، ولا منافاة بينه وبين ورود التحريف عليه بعده ، وعدم التمكّن من امتثال أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله. (٣)

وهذا كلام غريب ، إذ أحاديث العرض لا يختصّ صدورها عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بل نطق بها ـ دستورا عامّا ـ الأئمّة المعصومون بعده أيضا.

ثمّ إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّما قال ذلك خشية وفور الكذّابة بعده ، فبيّن للامّة على طول الدهر معيارا يقيسون عليه السليم من السقيم من أحاديثه المنسوبة إليه ، وليس علاجا مؤقّتا خاصّا بحال حياته صلوات الله عليه.

__________________

(١) ـ بنقل السيد شارح الوافية. انظر : البرهان للبروجردي ، ص ١١٦ ـ ١١٧.

(٢) ـ بنقل البروجردي في البرهان ، ص ١١٩ ـ ١٢٠.

(٣) ـ فصل الخطاب ، ص ٣٦٢ و ٣٦٣.

٤٩

٧ ـ نصوص أهل البيت عليهم‌السلام

لدينا وفرة من أحاديث مأثورة عن أهل البيت عليهم‌السلام تنصّ على صيانة القرآن من التحريف ، إمّا تصريحا أو تلويحا ، وأنّه مصون عن التغيير نصّا ، لم ينله مسّ سوء أصلا. وإن نالته الأيدي الأثيمة تأويلا وتفسيرا بغير حقّ.

وإليك منها :

١ ـ جاء في رسالة الإمام أبي جعفر الباقر عليه‌السلام إلى سعد الخير : «وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرّفوا حدوده ...». (١)

وهذا تصريح بأنّ الكتاب العزيز لم ينله تحريف في نصّه «أقاموا حروفه» وإن كانوا قد غيّروا من أحكامه «حرّفوا حدوده».

والمراد من «تحريف الحدود» هو تضييعها ، كما ورد في الحديث : «ورجل قرأ القرآن فحفظ حروفه وضيّع حدوده ...». (٢)

وعليه فالمراد من إقامة الحروف هو حفظها عن التغيير والتبديل ، كما في هذا الحديث أيضا.

٢ ـ صحّ عن أبي بصير قال : سألت الإمام الصادق عليه‌السلام عن قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ...). (٣) وما يقوله الناس : ما له لم يسمّ عليّا وأهل بيته؟

قال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نزلت عليه الصلاة ولم يسمّ الله لهم ثلاثا ولا أربعا ، حتّى كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هو الذي فسّر ذلك لهم ... (٤)

فقد قرّر عليه‌السلام أنّه لم يأت ذكرهم في الكتاب نصّا ، وإن كانوا مقصودين بالذات من عمومات واردة في القرآن كثيرا. ففي القرآن كثير من الآيات تهدف التنويه بشأن الأئمّة من أهل البيت عليهم‌السلام ، والقرائن الحافّة شاهدة بذلك ، وقد نبّه عليه الرسول في كثير من

__________________

(١) ـ رواها ثقة الإسلام الكليني بإسناد صحيح في الكافي ، ج ٨ ، ص ٥٣ ، رقم ١٦.

(٢) ـ الكافي ، ج ٢ ، ص ٦٢٧ ، رقم ١.

(٣) ـ النساء ٤ : ٥٩.

(٤) ـ الكافي ، ج ١ ، ص ٢٨٦.

٥٠

المواقف ، أوّلها حديث يوم الإنذار وانتهت بحديث الغدير. والآيات في جميع هذه الموارد عدد كبير ، جمع أكثرها الحاكم الحسكاني في «شواهد التنزيل».

٣ ـ أحاديث الفساطيط ، تضرب بظهر الكوفة عند ما يظهر الحجّة المنتظر ، يعلّمون الناس القرآن ، يخالف القرآن الحاضر في تأليفه ، لا في شيء آخر.

فقد روى الشيخ المفيد ـ برواية جابر ـ عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال : «إذا قام قائم آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ضرب فساطيط لمن يعلّم الناس القرآن ، على ما أنزل الله ـ جلّ جلاله ـ فأصعب ما يكون على من حفظه اليوم ، لأنّه يخالف فيه التأليف». (١)

وبمعناه روايات اخر. (٢)

وقد ذكرنا في وصف مصحف علي عليه‌السلام أنّه كان على أتمّ تأليف وفق ما أنزل الله ، الأوّل فالأوّل ، لم يشذّ عنه شيء من ذلك. وقد ورثه الأئمّة يدا بيد حتّى يظهره الله على يد وليّه صاحب الأمر ، عجّل الله تعالى فرجه الشّريف. (٣)

فقد علّل عليه‌السلام صعوبة حفظه ذلك اليوم ، بأنّه يخالف التأليف (الترتيب) المعهود ، فلو كانت هناك مخالفة اخرى لبيّنها أيضا ، الأمر الذي يدلّ على أنّه لا مخالفة في ما سوى التأليف إطلاقا.

٤ ـ وروى ابن فضيل عن الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام في قوله تعالى : (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ). (٤)

قال عليه‌السلام يريدون ليطفئوا ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام بأفواههم! قلت : والله متمّ نوره؟ قال : متمّ الإمامة ، لقوله عزوجل : (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا). (٥) والنور هو الإمام!

قلت : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ

__________________

(١) ـ الإرشاد ، ص ٣٨٦ ؛ والبحار ، ج ٥٢ ، ص ٣٣٩ ، رقم ٨٥.

(٢) ـ بحار الأنوار ، ج ٥٢ ، ص ٣٦٤ ، رقم ١٣٩ ، ١٤٠ و ١٤١.

(٣) ـ الكافي ، ج ٢ ، ص ٦٣٣ ، رقم ٢٣ ، والروايات بهذا المعنى كثيرة.

(٤) ـ الصفّ ٦١ : ٨.

(٥) ـ التغابن ٦٤ : ٨.

٥١

الْمُشْرِكُونَ). (١)

قال عليه‌السلام : ليظهره على جميع الأديان عند قيام القائم عجّل الله فرجه لقوله عزوجل : والله متمّ نوره ولو كره الكافرون ، بولاية علي عليه‌السلام!

قلت : هذا تنزيل؟ قال : نعم ، أمّا هذا الحرف فتنزيل ، وأمّا غيره فتأويل. (٢)

فقد فسّر الإمام عليه‌السلام نور الله في الأرض بالولاية التي هي امتداد لولاية الله في الأرض. واستشهد بالآية من سورة التغابن. فإنّ في اتّباع الشريعة النازلة من عند الله دخولا في ولاية الله الممتدّة في ولاية الأئمّة المعصومين خلفاء الرسول صلوات الله عليه وعليهم حبل ممدود من السماء إلى الأرض.

فاستغرب الراوي هذا التفسير العجيب للآية ، ممّا لم يسمعه ولم يتحدّث به أحد. فقال : هل هذا هو شأن نزول الآية؟ وبهذا المعنى نزلت الآية؟ فأجابه الإمام : نعم ... هذا هو تفسيرها الصحيح ، وأمّا سائر التفاسير فهي تأويلات لا مستند لها.

والشاهد : أنّه رفض أن يكون ما بيّنه جزء من الآية ـ كما حسبه أهل القول بالتحريف ـ (٣) وإنّما هو تفسير من النمط الأرقى الذي لا يعلمه سوى الراسخين في العلم من آل بيت الرسول صلوات الله عليهم ، وأمّا غيره فتخرّص وتأويل من غير دليل.

٥ ـ وفي ذيل الحديث : قلت : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً) ، (٤) قال : بولاية علي عليه‌السلام تنزيلا. قلت : هذا تنزيل؟ قال : نعم ، ذا تأويل ... (٥)

وهذا صريح في إرادة التفسير من التنزيل ، تفسيرا يشبه التأويل. ومن ثمّ فهذا الحديث كسابقه حاكم على كلّ مزعومات أهل القول بالتحريف.

ويوضّحه أيضا الحديث التالي :

__________________

(١) ـ الصفّ ٦١ : ٩.

(٢) ـ الكافي ، ج ١ ، ص ٤٣٢ ، رقم ٩١.

(٣) ـ راجع : فصل الخطاب ، ص ٣٣٤.

(٤) ـ الدهر ٧٦ : ٢٣.

(٥) ـ الكافي ، ج ١ ، ص ٤٣٥.

٥٢

٦ ـ روى عمّار الساباطي عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال :

قال تعالى بشأن علي عليه‌السلام : (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ) أنّ محمّدا رسول الله (وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) أنّ محمّدا رسول الله ... ويزعمون أنّه ساحر كذّاب (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ). (١)

ثمّ قال عليه‌السلام : هذا تأويله يا عمّار. (٢)

وهذا الحديث قد أوضح من تلك الزيادات التي كانت قد تذكر خلال قراءات الأئمّة عليهم‌السلام إنّما هي زيادات تفسيرية لغرض تأويل الآية إلى أوجه دلالتها ، وليس كما زعمه أهل التحريف!

٧ ـ وزاد الصدوق روايات دلّت ـ دلالة التزامية ـ على كمال سور القرآن من غير نقص فيها ، وكذا على كمال القرآن من غير نقص فيه.

منها : ما دلّ على ثواب قراءة كلّ سورة والنهي عن القران بين السورتين ، وثواب ختم القرآن ، والنهي عن ختم القرآن بأقلّ من ثلاثة أيّام.

فلو كان في السور نقص لما أمكن قراءتها ، أو القران بين السورتين ، إذ على ذلك الفرض كان المقروء بعض السورة ، وكان القران بين أبعاض السورتين. والثواب على ختم القرآن دليل على إمكان ختمه أي تلاوة آياته وسوره أجمع ، وهكذا ... (٣)

وهذه الروايات على كثرتها لو أضفناها إلى ما سبق من روايات العرض وما تقدّم من نصوص مأثورة بشأن الكتاب العزيز ، فضلا عن الأحاديث الآمرة بالرجوع إلى القرآن والأخذ بما فيه. فإنّ ذلك قد ينوف على آلاف من الأحاديث المعتبرة الواردة بشأن صيانة القرآن من التحريف ، ولله الحمد على هذا التوفيق.

__________________

(١) ـ الزمر ٣٩ : ٩.

(٢) ـ الكافي ، ج ٨ ، ص ٢٠٤ ـ ٢٠٥ ، رقم ٢٤٦.

(٣) ـ راجع : كتاب الاعتقادات للصدوق ، باب ٣٣ ، ص ٨٤ ـ ٨٥ ، المطبوع ضمن مصنفات الشيخ المفيد في المجلّد الخامس.

٥٣
٥٤

الفصل الثالث

تصريحات

أعلام الطائفة

وإليك الآن تصريحات من ألمع وجوه الطائفة ، ممّن دارت عليهم رحى الاعتبار ، وكانوا قدوة التحقيق واسوة النقد والاختيار ، فكانت أقوالهم بالذات حجّة وآراؤهم بالخصوص سند القبول. وقد أجمعوا بلا استثناء على رفض احتمال التحريف في كتاب الله المجيد ، حتّى جعله مثل الصدوق ـ وهو المضطلع بآثار المعصومين عليهم‌السلام ـ من اصول معتقدات الشيعة الإمامية. (١) وصرّح المولى أبو القاسم الجيلاني (ت ١٢٣١) صاحب قوانين الاصول بأنّ جمهور المجتهدين على عدم التحريف. (٢) وهكذا الإمام كاشف الغطاء (ت ١٣٧٣) قال : عليه إجماع الشيعة الإماميّة. (٣)

إذن فلا عبرة بما لهجت به فئة شاذة من القول بالتحريف قولا بلا علم ودعوى بلا برهان ، ولا يؤخذ من سفاسفهم حجّة على المذهب الحنيف.

قال الشهيد السعيد السيد نور الله التستري (ت ١٠١٩) (٤) : ما نسب إلى الشيعة الإمامية

__________________

(١) ـ سيأتي نقل كلامه.

(٢) ـ البرهان للبروجردي ، ص ١١٢.

(٣) ـ أصل الشيعة واصولها ، ص ١٣٣.

(٤) ـ وقد اعترف السيد الجزائري بإمامته وتبحّره في العلوم والمعارف الإسلامية. الروضات ، ج ٦ ، ص ١٧. ومع ذلك نراه قد خالفه وترأس الفئة الشاذّة (الشرذمة من الامة) القائلة بالتحريف ، كما يأتي.

٥٥

من القول بالتحريف ليس ممّا قاله جمهور الإماميّة ، وإنّما قاله شرذمة قليلة لا اعتداد بهم في جماعة الشيعة. (١)

ولأعلام التحقيق من أهل السنّة أيضا شهادات ضافية بهذا الشأن ، ونزاهة موقف علماء الإمامية عن القول بالتحريف ، نعرضها في ختام هذا العقد.

وبعد ، فإليكم نماذج من تصريحات أعلامنا تكشف من رأي الطائفة وعن عقيدتها بشأن القرآن :

١ ـ شيخ المحدّثين ، أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين الصدوق (ت ٣٨١).

قال ـ في رسالته التي وضعها لبيان معتقدات الشيعة الإمامية حسب ما وصل إليه من النظر والتمحيص ـ : اعتقادنا أنّ القرآن الذي أنزله الله تعالى على نبيّه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله هو ما بين الدفّتين. وهو ما في أيدي الناس ليس بأكثر من ذلك. وعدد سوره على المعروف (١١٤) سورة. وعندنا تعدّ «والضحى» و«ألم نشرح» سورة واحد ، وكذا «لإيلاف» و«ألم تر كيف».

قال : ومن نسب إلينا أنّا نقول إنّه أكثر من ذلك فهو كاذب. (٢)

٢ ـ عميد الطائفة ، محمد بن محمد بن النعمان المفيد (ت ٤١٣).

قال ـ في كتابه الفذّ «أوائل المقالات» الذي وضعه لبيان اصول المسائل الإسلامية فيما تفترق فيه الشيعة الإمامية عن غيرهم من أهل العدل ـ : وقد قال جماعة من أهل الإمامة : إنّه لم ينقص من كلمة ولا من آية ولا من سورة. ولكن حذف ما كان مثبتا في مصحف أمير المؤمنين عليه‌السلام من تأويله وتفسير معانيه على حقيقة تنزيله ، وذلك كان ثابتا

__________________

(١) ـ آلاء الرحمان ، ج ١ ، ص ٢٥ ـ ٢٦ ، عن كتابه «مصائب النواصب» ، وراجع الفصول المهمّة للسيد شرف الدين ، ص ١٦٥ ، نقلا عن الشيخ رحمة الله الدهلوي في كتابه إظهار الحق ، ج ٢ ، ص ٢٠٨ ـ ٢٠٩.

(٢) ـ كتاب «اعتقادات الإمامية» المطبوع مع شرح الباب الحادي عشر ، ص ٩٣ ـ ٩٤ ، وسنبحث عن حديث السبعة عشر ألف ، وأنّه من خطأ النسخة ، والصحيح ما أثبته الوافي ، ج ٢ ، ص ٢٧٤ وهو سبعة آلاف آية ، عددا تقريبيّا يتوافق مع الواقع نوعا ما.

٥٦

منزلا وإن لم يكن من جملة كلام الله تعالى الذي هو القرآن المعجز. وقد يسمّى تأويل القرآن قرآنا ...

قال : وعندي أنّ هذا القول أشبه (أي أقرب في النظر) من مقال من ادّعى نقصان كلم من نفس القرآن على الحقيقة دون التأويل ، وإليه أميل.

قال : وأمّا الزيادة فيه فمقطوع على فسادها ، إن اريد بالزيادة زيادة سورة على حدّ يلتبس على الفصحاء ، فإنّه متناف مع تحدّي القرآن بذلك.

وإن اريد زيادة كلمة أو كلمتين أو حرف أو حرفين. ولست أقطع على كون ذلك ، بل أميل إلى عدمه وسلامة القرآن عنه. قال : ومعي بذلك حديث عن الصادق جعفر بن محمد عليه‌السلام. (١)

وقال في أجوبة المسائل السروية : فإن قال قائل : كيف يصحّ القول بأنّ الذي بين الدفّتين هو كلام الله تعالى على الحقيقة من غير زيادة ولا نقصان وأنتم تروون عن الأئمّة عليهم‌السلام أنّهم قرأوا : «كنتم خير أئمّة اخرجت للناس» ، «وكذلك جعلناكم أئمة وسطا» وقرأوا : «يسألونك الأنفال». وهذا بخلاف ما في المصحف الذي في أيدي الناس؟

قيل له : قد مضى الجواب عن هذا ، وهو : أنّ الأخبار التي جاءت بذلك أخبار آحاد لا يقطع على الله تعالى بصحّتها ، فلذلك وقفنا فيها ولم نعدل عمّا في المصحف الظاهر ، على ما أمرنا به حسب ما بيّناه. مع أنّه لا ينكر أن تأتي القراءة على وجهين منزلين أحدهما ما تضمّنه المصحف ، والثاني ما جاء به الخبر ، كما يعترف به مخالفونا من نزول القرآن على وجوه شتّى. (٢)

٣ ـ الشريف المرتضى ، علي بن الحسين علم الهدى (ت ٤٣٦).

قال ـ في رسالته الجوابية الاولى عن المسائل الطرابلسيات ـ : إنّ العلم بصحّة نقل

__________________

(١) ـ أوائل المقالات ، ص ٥٥ ـ ٥٦.

(٢) ـ الرسالة مطبوعة ضمن رسائل نشرتها مكتبة المفيد بقم. راجع : ص ٢٢٦ ؛ والبحار ، ج ٨٩ ، ص ٧٥.

٥٧

القرآن كالعلم بالبلدان والحوادث الكبار والوقائع العظام والكتب المشهورة وأشعار العرب المسطورة. فإنّ العناية اشتدّت والدواعي توفّرت على نقله وحراسته ، وبلغت إلى حدّ لم يبلغه فيما ذكرناه ، لأنّ القرآن معجزة النبوّة ومأخذ العلوم الشرعيّة والأحكام الدينيّة. وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية ، حتّى عرفوا كلّ شيء اختلف فيه من إعرابه وقراءته وحروفه وآياته ، فكيف يجوز أن يكون مغيّرا ومنقوصا ، مع العناية الصادقة والضبط الشديد!

وقال أيضا : إنّ العلم بتفصيل القرآن وأبعاضه في صحّة نقله كالعلم بجملته ، وجرى ذلك مجرى ما علم ضرورة من الكتب المصنّفة ، ككتاب سيبويه والمزني. فإنّ أهل العناية بهذا الشأن يعلمون من تفصيلهما ما يعلمونه من جملتهما ، حتّى لو أنّ مدخلا أدخل في كتاب سيبويه بابا في النحو ليس من الكتاب لعرف وميّز وعلم أنّه ملحق وليس من أصل الكتاب. وكذلك القول في كتاب المزني. ومعلوم أنّ العناية بنقل القرآن وضبطه أصدق من العناية بضبط كتاب سيبويه ودواوين الشعراء.

وذكر أخيرا : أنّ من خالف في ذلك من الإمامية والحشوية لا يعتدّ بخلافهم ، فإنّ الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم من أصحاب الحديث نقلوا أخبارا ضعيفة ظنّوا صحّتها ، لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحّته. (١)

٤ ـ شيخ الطائفة ، أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسي (ت ٤٦٠) يقول ـ في مقدّمة تفسيره الأثري الخالد «التبيان» ـ : وأمّا الكلام في زيادته ونقصانه فممّا لا يليق بهذا الكتاب المقصود منه العلم بمعاني القرآن ، لأنّ الزيادة منه مجمع على بطلانها والنقصان منه ، فالظاهر أيضا من مذهب المسلمين خلافه ، وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا.

وهو الذي نصره المرتضى ، وهو الظاهر في الروايات. غير أنّه رويت روايات كثيرة

__________________

(١) ـ مجمع البيان ، ج ١ ، ص ١٥ ضمن الفنّ الخامس. وراجع : الذخيرة في علم الكلام للشريف المرتضى ، ص ٣٦١ ـ ٣٦٤ ، تحقيق السيد أحمد الحسيني.

٥٨

من جهة الخاصّة والعامّة بنقصان كثير من آي القرآن ونقل شيء منه من موضع إلى موضع. طريقها الآحاد التي لا توجب علما ولا عملا ، والأولى الإعراض عنها ، وترك التشاغل بها ، لأنّه يمكن تأويلها. (١)

٥ ـ وهكذا قال أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي (ت ٥٤٨) ـ في مقدّمة التفسير ـ قال : والكلام في زيادة القرآن ونقصانه ، ممّا لا يليق بالتفسير. أمّا الزيادة فيه فمجمع على بطلانه وأمّا النقصان منه فقد روى جماعة من أصحابنا وقوم من حشوية العامة أنّ في القرآن تغييرا ونقصانا. والصحيح من مذهب أصحابنا خلافه ، وهو الذي نصره المرتضى واستوفى الكلام فيه غاية الاستيفاء. (٢)

٦ ـ جمال الدين ، أبو منصور الحسن بن يوسف ابن المطهّر العلّامة الحلّي (ت ٧٢٦) في أجوبة المسائل المهناوية ، عند ما سأله السيد المهنا : ما يقول سيدنا في الكتاب العزيز هل يصحّ عند أصحابنا أنّه نقص منه شيء أو زيد فيه أو غيّر ترتيبه أم لم يصحّ عندهم شيء من ذلك؟ أفدنا أفادك الله من فضله وعاملك بما هو من أهله.

قال العلّامة في الجواب : الحقّ أنّه لا تبديل ولا تأخير ولا تقديم فيه ، وأنّه لم يزد ولم ينقص ، ونعوذ بالله تعالى من أن يعتقد مثل ذلك وأمثال ذلك ، فإنّه يوجب التطرّق إلى معجزة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله المنقولة بالتواتر. (٣)

وقد تقدّم كلامه في مسألة التواتر دليلا على دحض شبهة التحريف عن كتابه «نهاية الوصول».

٧ ـ وهكذا المولى المحقّق الأردبيلي (ت ٩٩٣) تقدّم قوله بوجوب العلم بما يقرأ قرآنا أنّه قرآن. فينبغي تحصيله من التواتر الموجب للعلم ، وعدم جواز الاكتفاء بالسماع حتّى من عدل واحد ... وإذ ثبت تواتره فهو مأمون من الاختلال ... مع أنّه مضبوط في

__________________

(١) ـ التبيان ، ج ١ ، ص ٣. وسيبدو لك وجه التأويل في الصحيح منها.

(٢) ـ مجمع البيان ، ج ١ ، ص ١٥ ، الفن الخامس.

(٣) ـ المسألة ١٣ ، ص ١٢١ ، والرسالة طبعت بقم ، سنة ١٤٠١ ه‍.

٥٩

الكتب ، حتّى أنّه معدود حرفا حرفا وحركة حركة ، وكذا الكتابة وغيرها ، ممّا يفيد الظنّ الغالب ، بل العلم بعدم الزيادة على ذلك والنقص. (١)

٨ ـ شيخ الفقهاء ، الشيخ جعفر الكبير كاشف الغطاء (ت ١٢٢٨).

قال ـ في كتاب القرآن من موسوعته الفقهية القيّمة «كشف الغطاء» ـ : لا زيادة فيه من سورة ولا آية من بسملة وغيرها لا كلمة ولا حرف. وجميع ما بين الدفّتين ممّا يتلى كلام الله تعالى ، بالضرورة من المذهب بل الدين وإجماع المسلمين وأخبار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة الطاهرين عليهم‌السلام وإن خالف بعض من لا يعتدّ به ...

قال : وكذا لا ريب في أنّه محفوظ من النقصان بحفظ الملك الديّان كما دلّ عليه صريح القرآن وإجماع العلماء في جميع الأزمان ، ولا عبرة بالنادر ، وما ورد من أخبار النقيصة تمنع البديهية من العمل بظاهرها ، ولا سيّما ما فيه من نقص ثلث القرآن أو كثير منه ، فإنّه لو كان ذلك لتواتر نقله لتوفّر الدواعي عليه ، ولاتّخذه غير أهل الإسلام من أعظم المطاعن على الإسلام وأهله. ثمّ كيف يكون ذلك وكانوا شديدي المحافظة على ضبط آياته وحروفه. وخصوصا ما ورد أنّه صرّح فيه بأسماء كثير من المنافقين في بعض السور ومنهم فلان وفلان ، وكيف يمكن ذلك وكان من حكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الستر على المنافقين ومعاملتهم بمعاملة أهل الدين ...

قال : فلا بدّ من تأويلها بأحد وجوه : إمّا النقص في أصله قبل النزول ، بمعنى أنّه كان مقدّرا ولم ينزل. أو انزل إلى السماء ولم ينزل على النبي. أو النقص في المعاني. أو أنّ الناقص كان من الحديث القدسي لا الوحي القرآني.

قال : والذي أختاره أنّ ما قيل بنقصه كان محفوظا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم ينطق به ، ومن ثمّ أودعه أوصيائه ولم يعلن به. وأمّا الذي نزل إعجازا وأعلن به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وخطب به أو خاطب به وشاع عنه واشتهر بين المسلمين فلم يتغيّر ولم يتبدّل منذ عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فإلى

__________________

(١) ـ مجمع الفائدة ، ج ٢ ، ص ٢١٨.

٦٠