صيانة القرآن من التحريف

الشيخ محمّد هادي معرفة

صيانة القرآن من التحريف

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


المحقق: مؤسسة التمهيد
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-90596-0-0
الصفحات: ٢٧٢

تكلّمنا عن ذلك في الجزء الثاني من التمهيد بتفصيل.

وهكذا إذا كان التحريف اللهجي مغيّرا لمعنى الكلمة ، فإنّه لا يجوز ، ولا سيّما إذا كان عن عمد ولغرض خبيث ، كما كانت تفعله اليهود عند اللهج بلفظة «راعنا» فكانت تميل بحركة العين إلى فوق ، لتصبح معنى الكلمة «شرّيرنا» حسبما ذكره الحسين بن علي المغربي (١) وذكره القرآن في سورة البقرة (آية : ١٠٢) وكذا في سورة النساء : قال تعالى : (مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ). (٢) قال البلاغي : بنحو من لحن التحريف ومناحي الألغاز واللهجة.

ه ـ تحريف بتبديل الكلم : بأن تتبدّل الكلمة إلى غيرها مرادفة لها أو غير مرادفة. الأمر الذي كان يجوّزه ابن مسعود في المترادفات ، نظرا منه إلى حفظ المعنى المراد ، ولا بأس باختلاف اللفظ. كان يقول : ليس من الخطأ أن يقرأ مكان «العليم» «الحكيم» بل أن يضع آية الرحمة مكان آية العذاب. قال : لقد سمعت القرّاء ووجدت أنّهم متقاربون فاقرأوا كما علمتم ، فهو كقولكم هلمّ وتعال.

وقد أسبقنا عدم جواز ذلك في نصّ الوحي ، حيث الإعجاز قائم بلفظه كما هو قائم بمعناه. (٣)

وـ التحريف بزيادة : وقد نسب إلى ابن مسعود وغيره من السلف كانوا يزيدون في نصّ الوحي لغرض الإيضاح ورفع الإبهام من لفظ الآية. لا عقيدة بأنّها من النصّ القرآني. الأمر الذي لا بأس به مع التزام الشرط وعدم الالتباس.

وهكذا نجد زيادات تفسيرية في المأثور عن الأئمّة الصادقين عليهم‌السلام. وسيأتي بعض الكلام عن ذلك.

__________________

(١) ـ راجع : تفسير البلاغي (آلاء الرحمن) ، ج ١ ، ص ١١٣ ـ ١١٤.

(٢) ـ النساء ٤ : ٤٦.

(٣) ـ راجع : التمهيد ، ج ١ ، «وصف مصحف ابن مسعود ، الجهة الخامسة».

٢١

ولم نجد من زعم زيادة في النصّ الموجود سوى ما يحكى عن العجاردة (أصحاب عبد الكريم بن عجرد من زعماء الخوارج) أنّهم أنكروا أن تكون سورة يوسف من القرآن ، وكانوا يرون أنّها قصة عشق لا يجوز أن تكون من الوحي (١) ولهم مقالات فاسدة غير ذلك. (٢)

نعم كان ممّا اشتبه على ابن مسعود زعمه من المعوذّتين أنّهما تعويذان وليستا من سور القرآن ، وكان يقول : لا تخلطوا بالقرآن ما ليس منه ، وكان يحكّهما من المصحف. (٣)

ز ـ التحريف بالنقص : إمّا بقراءة النقص ، كما أثر عن ابن مسعود أنّه كان يقرأ : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى) و... (الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) بإسقاط «ما خلق». (٤) وعن الأعمش أنّه كان يقرأ : «حم سق» بإسقاط «ع» قيل : وهكذا قرأ ابن عباس. (٥)

أو بزعم أنّ في النصّ الحاضر سقطا ، كان من القرآن فاسقط إمّا عن عمد أو عن نسيان. وهذا إمّا في حرف واحد أو كلمة أو جملة كاملة أو آية أو سورة كما زعم.

وكلّ ذلك ورد مأثورا في امّهات الكتب الحديثيّة كالصحاح الستّ وغيرها حسبما أسلفنا إجماليا (٦) وسنعرضها بتفصيل.

الأمر الذي ننكره أشدّ الإنكار ، وهو الذي وقع الكلام حوله في مسألة تحريف الكتاب ، ولا مجال لتغيير العبارة والقول بأنّه من منسوخ التلاوة أو منسيّها ـ كما التزم به بعض أئمّة أهل السنّة ـ فإنّه من الالتواء في التعبير ، وتغيير العنوان لا يغيّر من الواقع المعنون وهو موضع بحثنا في هذا الحقل.

ومجمل القول في ذلك : أنّ ما ورد بهذا الشأن من الروايات العاميّة الأسناد ، لا تعدو كونها من اصطناع أهل الزندقة ومن صنع الوضّاعين المعروفين بالكذب والاختلاق. أو أنّ لها تأويلا صحيحا لا يمسّ جانب تحريف الكتاب. وإلّا فهي أوهام وخرافات سلفية لا

__________________

(١) ـ الملل والنحل للشهرستاني ، ج ١ ، ص ١٢٨. لكن أبا الحسن الأشعري لم يتحقّق عنده صحّة هذه النسبة ، قال : «وحكي لنا عنهم ما لم نتحقّقه : أنّهم يزعمون أنّ سورة يوسف ليست من القرآن». راجع : مقالات الإسلاميين ، ج ١ ، ص ١٧٨.

(٢) ـ المصدر.

(٣) ـ فتح الباري بشرح البخاري ، ج ٨ ، ص ٥٧١.

(٤) ـ الليل ٩٢ : ١ ـ ٣. راجع : صحيح البخاري ، ج ٦ ، ص ٢١١ ، وج ٥ ، ص ٣٥.

(٥) ـ مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢١.

(٦) ـ في الجزء الأوّل من التمهيد.

٢٢

اعتبار بشأنها أصلا ، والأكثر إنّما هو من هذا القبيل ، كما سنوضّح إن شاء الله.

القرآن ولغة التحريف

لم يستعمل القرآن لفظ التحريف في سوى معناه اللغوي ، أي التصرّف في معنى الكلمة وتفسيرها على غير وجهها المعبّر عنه بسوء التأويل أو التفسير بالرأي. وهو تحريف معنوي ليس سواه.

وقد أسبقنا الكلام عن قوله تعالى : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) (١) قوله : (عَنْ مَواضِعِهِ) أي بعد أن كان الكلام مستعملا في معناه الحقيقي الظاهر فيه بنفسه أو المستعمل فيه بدلالة القرائن المعهودة ، فجاء التحريف بعد ذلك خيانة في أمانة الأداء والبلاغ. وفي قوله تعالى (مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) (٢) تصريح بهذا المعنى ، حيث التحريف إزاحة للّفظ عن موضعه الذي هو معناه.

وفي سورة البقرة : (وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ) (٣) أي جاء تحريف المعنى إلى ما أرادوه بعد علمهم بالمعنى الحقيقي المراد الذي كان على خلاف مصالحهم فيما زعموا.

ومن ثمّ فهو من سوء التأويل كما عبّر عنه الطبرسي ومن قبله الشيخ في التبيان. قال : فالتحريف يكون بأمرين : بسوء التأويل وبالتغيير والتبديل. (٤) أي بتغيير لهجة الكلام بحيث يتغيّر المعنى بذلك ، كما جاء في سورة آل عمران ٣ : ٧٨.

وقال الشيخ محمد عبده : من التحريف تأويل القول بحمله على غير معناه الذي وضع له ، وهو المتبادر ، لأنّه هو الذي حملهم على مجاحدة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وإنكار نبوّته. ولا يزالون يؤوّلون البشارات إلى اليوم. (٥) أي المتبادر من لفظ التحريف في هذه الآيات هو

__________________

(١) ـ النساء ٤ : ٤٦ ؛ المائدة ٥ : ١٣.

(٢) ـ المائدة ٥ : ٤١.

(٣) ـ البقرة ٢ : ٧٥.

(٤) ـ التبيان ، ج ٣ ، ص ٤٧٠.

(٥) ـ المنار ، ج ٥ ، ص ١٤٠.

٢٣

التحريف بالمعنى ، وكانت جرأتهم على هذا التصرّف في تفسير البشارات هي التي مكّنتهم من مقابلة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالإنكار والجحود.

وقال الزمخشري : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) (١) أي يميلونه عنها (٢) واللفظ إذا لم يفسّر وفق ظاهره أو بحسب القرائن فقد اميل عن موضعه.

والخلاصة : كان تحريف العهدين الذي أشار إليه القرآن إمّا بسوء التأويل ـ أي التصرّف في تفسيرهما بغير الحقّ ، من غير أن يمسّوا يدا إلى لفظ الكتاب ـ أو مع تغيير في لهجة التعبير عند النطق بالكتاب ، كما قال تعالى : (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ). (٣)

لأنّ اللفظ إذا لهج به على غير لهجته الاولى لم يكن نفسه وإنّما هو غيره ، وإنّما كانوا يعمدون إلى ذلك ذريعة لكتمان الحقيقة وإخفاء البشائر بمقدم نبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله.

أمّا التحريف بمعنى الزيادة أو النقصان أو تبديل الكلم إلى كلمات غيرها ـ الذي هو معنى اصطلاحي ـ فلم يعهد استعماله في القرآن ، حسبما عرفت.

مزعومة نسخ التلاوة

هناك مزعومة لهج بها كثير من أصحاب الحديث وجماعة من اصوليّ العامّة ، حاولوا معالجة ما صحّ لديهم من روايات تنمّ عن ضياع كثير من آي القرآن ، فحاولوا توجيهها باسلوب مختلق ، قالوا : إنّها من منسوخ التلاوة ، ولو فرض الحكم باقيا مع الأبد. كما في آية «الرضعات العشر» وآية «رجم الشيخ والشيخة» وآية «لا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب» وغيرهنّ كثير ، حسبوها آيات قرآنية ، كانت تتلى على عهده صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لكنّها رفعت فيما بعد ونسيت عن الصدور ، وإن بقي حكمها واجب العمل أبدا. وبهذا الاسلوب الغريب

__________________

(١) ـ النساء ٤ : ٤٦ والمائدة ٥ : ١٣.

(٢) ـ الكشّاف ، ج ١ ، ص ٦٣٣.

(٣) ـ آل عمران ٣ : ٧٨.

٢٤

حاولوا توجيه ما عساه كان ثابتا لديهم من صحاح الأحاديث. (١) وأمّا علماؤنا المحقّقون فقد شطبوا على هكذا روايات تخالف صريح القرآن ، ولم يصحّ لديهم شيء من أسانيدها بتاتا ، ولأنّ كتاب الله العزيز الحميد أعزّ شأنا وأعظم جانبا من أن يحتمل التحريف.

هذا مضافا إلى أنّ توجيه الغلط غلط آخر بل أفحش ، الأمر الذي ارتكبه القوم مع الأسف.

هذا الإمام المحقّق الاصولي محمد بن أحمد السرخسي ، بينما ينكر أشدّ الإنكار مسألة وقوع النسخ بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله تراه يعترف بمسألة نسخ التلاوة دون الحكم ، ويؤوّلها إلى إمكان سبق النسخ على الوفاة مع خفائه على الصحابة الأوّلين!

قال : وأمّا نسخ التلاوة مع بقاء الحكم فبيانه ـ فيما قال علماؤنا ـ : إنّ صوم كفّارة اليمين ثلاثة أيّام متتابعة ، بقراءة ابن مسعود : «فصيام ثلاثة أيّام متتابعات». وقد كانت هذه قراءة مشهورة إلى زمن أبي حنيفة. ولكن لم يوجد فيه النقل المتواتر الذي يثبت بمثله القرآن. وابن مسعود لا يشكّ في عدالته وإتقانه. فلا وجه لذلك إلّا أن نقول : كان ذلك ممّا يتلى في القرآن كما حفظه ابن مسعود ، ثمّ انتسخت تلاوته في حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بصرف الله القلوب عن حفظها إلّا قلب ابن مسعود ليكون الحكم باقيا بنقله ، فإنّ خبر الواحد موجب للعمل به ، وقراءته لا تكون دون روايته ، فكان بقاء هذا الحكم بعد نسخ التلاوة بهذا الطريق. (٢)

انظر إلى هذا التمحّل الباهت والتأويل الغريب :

أوّلا : كلّ ما ذكره بهذا الصدد لا يعدو تخرّصا بالغيب من دون استناد إلى شاهد أو دليل قاطع ، ومن ثمّ فهي محاولة عمياء تجاه أمر واقع ـ فيما زعموا صحّته ـ الأمر الذي يشبه علاج القضية بعد وقوعها علاجا من غير جدوى.

__________________

(١) ـ وللقاضي أبي بكر الباقلاني (ت ٤٠٣) محاولة عريضة هنا بصدد الدفاع عن مواضع بعض السلف حيث نسب إليهم من القول بنقص الكتاب عمّا كان عليه في حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله من قبيل آية الرجم وغيرها. فحاول إثبات أنّها من منسوخ التلاوة إن صحّت النسبة ، وإلّا فهو محال باطل ... راجع «نكت الانتصار» له ، ص ٩٥ ـ ١٠٨.

(٢) ـ الاصول للسرخسي ، ج ٢ ، ص ٨٠.

٢٥

ثانيا : إذا كانت القراءة مشهورة إلى عهد متأخّر فهي كسائر القراءات المشهورة عن أصحابها تصبح حجّة ـ في مصطلحهم ـ ولا يجب ثبوتها بالتواتر عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كما أسلفنا أنّ القراءات المعروفة ليست متواترة لا عن عهد الرسالة ولا عن أربابها أيضا. هذا مع كون القرآن بذاته متواترا وفق قراءة المشهور.

ومن ثمّ فكلام الإمام السرخسي بهذا الصدد يبدو متناقضا.

ثالثا : أسلفنا أنّ الزيادات في كلام السلف ولا سيّما مثل ابن مسعود ، إنّما كانت زيادات تفسيرية لا عن قصد أنّها من نصّ الوحي ، وربّما اعتمدها بعض الفقهاء اعتبارا بفهم صحابي كبير ، لا بنقله كما وهمه هذا الإمام.

رابعا : يقول تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) (١) ولا نسخ فيما لا يكون هناك ناسخ. وهكذا لا نسخ في غير الأحكام حسبما مرّت عليك من شرائط النسخ. (٢) إذن فلنتساءل : ماذا يكون الناسخ هنا؟ وكيف ينسخ لفظ الآية ويبقى حكمها مع الأبد؟ وأيّ فائدة في نسخ اللفظ حينذاك وهو سند الحكم الذي يجب بقاؤه ما دام الحكم باقيا؟ وهذا عمدة الإشكال على هذه المزعومة وسيأتي مزيد توضيح لهذا الاعتراض.

وقال ابن حزم الأندلسي ـ بعد تسلّمه صحّة ما زعمه آية الرجم وأنّها سقطت فيما سقطت من سورة الأحزاب التي كانت تعدل سورة البقرة أو أطول منها ـ : ولكنّها نسخ لفظها وبقي حكمها. قال : وقد توهّم قوم أنّ سقوط آية الرجم إنّما كان لغير هذا ، وظنّوا أنّها تلفت بغير نسخ. لما روي عن عائشة ، قالت : لقد نزلت آية الرجم والرضاعة فكانتا في صحيفة تحت سريري ، فلمّا مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تشاغلنا بموته فدخل داجن فأكلها.

قال : وهذا حديث صحيح وليس على ما ظنّوا ، لأنّ آية الرجم إذ نزلت حفظت وعرفت وعمل بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إلّا أنّه لم يكتبها نسّاخ القرآن في المصاحف ولا أثبتوا لفظها في القرآن ، وقد سأله عمر بن الخطاب ذلك فلم يجبه. فصحّ نسخ لفظها وبقيت الصحيفة التي كتبت فيها كما قالت عائشة فأكلها الداجن ولا حاجة بأحد إليها.

__________________

(١) ـ البقرة ٢ : ١٠٦.

(٢) ـ في الجزء الثاني من التمهيد ، «شروط النسخ» فما بعد.

٢٦

قال : فصحّ أنّ الآيات التي ذهبت ، لو امر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بتبليغها لبلّغها ، ولو بلّغها لحفظت وما ضرّها موته ، كما لم يضرّ موته كلّ ما بلّغ من القرآن. وإن كان لم يبلّغ أو بلّغه فانسيه هو والناس أو لم ينسوه لكن لم يأمر عليه‌السلام أن يكتب في القرآن ، فهو منسوخ بيقين ، من عند الله تعالى ، لا يحلّ أن يضاف إلى القرآن. (١)

هذه جلّ محاولات القوم في توجيه منسوخ التلاوة دون الحكم.

غير أنّ أثر الوهن باد عليها بوضوح :

أوّلا : لا شكّ أنّ رجم المحصن حكم ثابت في الشريعة وأمر به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يزل عليه إجماع الفقهاء في القديم والحديث.

أمّا أنّ شريعة الرجم نزلت آية من القرآن ، فهذا وهم وهمه ابن الخطاب ، ولم يوافقه على هذا الرأي أحد من الصحابة رغم إصراره عليه ، وسيأتي شرحه.

يحدّثنا زيد بن ثابت ، يقول : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتة». والمراد من الشيخ والشيخة هما الثيّب والثيّبة ، كناية عن المتزوّج والمتزوّجة أي المحصن. فهذا حديث سمعه زيد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يقل أنّه قرآن.

لكن ابن الخطاب زعمه وحيا قرآنيا ، يقول : لمّا نزلت أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقلت : اكتبنيها. فلم يجبه رسول الله. قال راوي الحديث : كأنّه كره ذلك. (٢)

قلت : لعلّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله استغرب اقتراح عمر آنذاك الناشىء عن عدم تدبّره اللائق بشأن الكتاب ، أو عدم إلمامه بمواضع الكتاب من السنّة ، ومن ثمّ سكت تأنيبا له.

وأسوء منه ما فهمه ابن حزم من هذا الحادث ، فحمل كراهته صلى‌الله‌عليه‌وآله على عدم رغبته في الثبت في المصحف. وإذا كان حكما قرآنيا ثابتا في الشريعة فلما ذا لا يثبت سنده في الكتاب؟ الأمر الذي تغافله ابن حزم ، وحبّ الشيء يعمي ويصمّ!

ثانيا : لا نسخ في غير الأحكام ـ كما سلف ـ فضلا عن عدم فائدة متوخّاة من وراء هذا النسخ غير المعقول ، إذ ما هي الحكمة في نسخ آية فيبقى حكمها ثابتا بلا مستند مع

__________________

(١) ـ المحلّى ، ج ١١ ، ص ٢٣٥ ـ ٢٣٦.

(٢) ـ المصدر ، ص ٢٣٥.

٢٧

الأبد! لو لا أنّه اختلاق ألجأهم إليه ضيق الخناق.

لأنّ أصحاب تلك المزعومة استدلّوا لإمكان المسألة بجانب الوقوع (١) زاعمين صحّة تلكم الروايات ومن ثمّ حاولوا علاجها بهذا الاسلوب الغريب. وقد كانت قواعد الفن تقضي برفض أمثال تلكم الروايات التي تمسّ كرامة القرآن أوّلا ، وتنافي جانب ضرورة ثبوت القرآن في جميع آية بالتواتر دون أخبار الآحاد ثانيا ، وقد قيل في المثل : ثبّت العرش ثمّ انقش.

وقد تنبّه لضحالة هذه المزعومة الغريبة بعض كتّاب العصر ، هو الاستاذ العريض ، ناقما وناقدا لها نقدا حكيما. قال : وذهبت طائفة من العلماء إلى إنكار هذا النوع من النسخ وعدم وقوعه في كتاب الله عزوجل ، لأنّه عيب لا يليق بالشارع الحكيم ، لأنّه من التصرّفات التي لا تعقل لها فائدة ، ولا حاجة إليها ، وتنافي حكمة الحكيم.

قال : والحقّ يقال إنّ هذا النوع من النسخ وإن كان جائزا عقلا ولكنّه لم يقع في كتاب الله عزوجل ، لأنّ هذه الروايات روايات آحاد ، والقرآن الكريم لا يثبت بروايات الآحاد مهما كانت مكانة قائلها ، ولا بدّ فيه من التواتر ، كما أجمع عليه العلماء قديما وحديثا. ولو أنّه صحّ ما قالوه لاشتهر بين الصحابة جميعا ، ولحفظه كثير منهم أو كتبوه في مصاحفهم. ولكن لم يرد شيء عن غير هؤلاء الرواة. فلا يمكن القطع بأنّ هذه الآيات التي ذكروها كانت مسطورة في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وفي صحف كتّاب الوحي ثمّ نسخت بعد ذلك ورفعت من المصحف ـ كما رواه بعض الصحابة ـ وبقي حكمها للعمل به. وأيضا فإنّ الحكم لا يثبت إلّا من طريق النصّ ، فزوال النصّ مقتض لزوال الحكم ، ولم يظهر لزوال النصّ وحده حكمة من عمل الحكيم لأنّ الحكم ما زال قائما لم ينسخ فأيّ فائدة في نسخ تلاوته؟

قال : ولعلّ ما قاله سيّدنا عمر بن الخطاب : «إنّا كنّا نقرأ في كتاب الله ...» الكتب التي كان يحفظها هو وغيره ، من باب المبالغة في تشبيه الأحكام التي قالها الرسول بالآيات

__________________

(١) ـ راجع : مناهل العرفان للزرقاني ، ج ٢ ، ص ٢١٥ ـ ٢١٦.

٢٨

القرآنية ، لأنّ كلّا من السنّة الصحيحة والقرآن الكريم واجب الطاعة. وقد كان من الصحابة من يكتب الحديث ليحفظه حتّى نهى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله عن كتابة ما ليس بقرآن ، إلّا ما كان في صحيفة علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه ، وهنا نستطيع أن نقول : بأنّ هذه الآية التي قالها عمر كانت أحكاما حفظها عن الرسول بألفاظ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والتعبير بأنّها آية من كتاب الله مجاز ، ولو كان ما قاله سيّدنا عمر من باب الحقيقة لا المجاز ... (١)

وعبارته الأخيرة لا تخلو من طرافة بل وظرافة في التعبير أيضا ، لأنّه إيحاء إلى التباس التبس على عمر في هذا الحادث الجلل ، حيث اشتبه عليه طلاوة كلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بحلاوة كلامه تعالى فظنّ من أحدهما الآخر ، فبدلا من أن يشبّه كلامه صلى‌الله‌عليه‌وآله بكلام الله تعالى ويأخذه مجازا على سبيل الاستعارة ، أبدى اشتباهه في الأمر وظنّه حقيقة ، وهو وهم فاحش لا سيّما وإصراره عليه حتى آخر أيّام حياته.

وأخيرا فقد تنبّه ابن حزم أيضا لخطئه في الدفاع الآنف ، فحاول تلبيس الأمر بشكل آخر ، قال : ولعلّ المراد بكلمة «آية» في قول سيّدنا عمر ، هو الحكم الشرعي ، باعتبار أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله (ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (٢) وليس مراده آية من نصّ الوحي القرآني. قال في كتابه «الأحكام» ما نصّه : قد قال قوم في آية الرجم : إنّها لم تكن قرآنا ، وفي آية الرضعات كذلك ، ونحن لا نأبى هذا ، ولا نقطع أنّها كانت قرآنا متلوّا في الصلوات. ولكنّا نقول : إنّها كانت وحيا أوحاه الله إلى نبيّه كما أوحى إليه من قرآن ، فقرىء المتلو مكتوبا في المصاحف والصلوات ، وقرىء سائر الوحي منقولا محفوظا معمولا به كسائر كلامه الذي هو وحي فقط. (٣)

وقال في باب الرضاع من المحلّى : قالوا : قال الراوي : فمات عليه الصلاة والسلام وهنّ ممّا يقرأ من القرآن ، قول منكر وجرم في القرآن ، ولا يحلّ أن يجوّز أحد سقوط شيء من القرآن بعد موت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. فقلنا : ليس كما ظننتم ، إنّما معنى ذلك : أنّه ممّا يقرأ مع

__________________

(١) ـ فتح المنان في نسخ القرآن للشيخ علي حسن العريض مفتّش الوعظ بالأزهر ، ص ٢٢٤ ـ ٢٢٦.

(٢) ـ النجم ٥٣ : ٣ ـ ٤.

(٣) ـ بنقل الاستاذ العريض في فتح المنان ، ص ٢٢٦ ـ ٢٢٧.

٢٩

القرآن وممّا يقرأ من القرآن الذي بطل أن يكتب في المصاحف. (١) أي كان وحيا نظير القرآن غير أنّه لم يكن ممّا يكتب في المصحف.

إذن فقد رجع عن مسألة جواز نسخ التلاوة دون الحكم في القرآن ، ولا بدّ من الرجوع.

وإليك تصريحات أهل التحقيق من العلماء في إنكار هذا النوع من النسخ :

قال ابن الخطيب : ومن أعجب العجاب ادّعاؤهم أنّ بعض الآيات قد نسخت تلاوتها وبقي حكمها ، وهو قول لا يقول به عاقل إطلاقا! وذلك لأنّ نسخ أحكام بعض الآيات ـ مع بقاء تلاوتها ـ أمر معقول مقبول ، حيث إنّ بعض الأحكام لم ينزل دفعة واحدة ، بل نزل تدريجيّا ...

أمّا ما يدّعونه من نسخ تلاوة بعض الآيات ـ مع بقاء حكمها ـ فأمر لا يقبله إنسان يحترم نفسه ، ويقدّر ما وهبه الله تعالى من نعمة العقل ، إذ ما هي الحكمة في نسخ تلاوة آية مع بقاء حكمها؟! ما الحكمة في صدور قانون واجب التنفيذ ، ورفع ألفاظ هذا القانون مع بقاء العمل بأحكامه؟! (٢)

وقال صدر الشريعة في كتابه «التوضيح» : منع بعض العلماء وجود المنسوخ تلاوة ، لأنّ النسخ حكم والحكم بالنصّ ، فلا انفكاك بينهما.

وفي كتاب «اللمع» في اصول الفقه لأبي إسحاق الشيرازي : وقالت طائفة : لا يجوز نسخ التلاوة مع بقاء الحكم ، لأنّ الحكم تابع للتلاوة ، فلا يجوز أن يرفع الأصل ويبقى التابع.

وقال الشيخ محمد الخضري في كتابه «تاريخ التشريع الإسلامي» : لا يجوز أن يرد النسخ على التلاوة دون الحكم. وقد منعه بعض المعتزلة وأجازه الجمهور محتجّين بأخبار آحاد لا يمكن أن تقوم برهانا على حصوله. وأنا لا أفهم معنى لآية أنزلها الله تعالى لتفيد

__________________

(١) ـ المحلّى ، ج ١٠ ، ص ١٦ نقلا بالمعنى.

(٢) ـ الفرقان لمحمد محمد عبد اللطيف المعروف بابن الخطيب ، ص ١٥٦ ـ ١٥٧.

٣٠

حكما ثمّ يرفعها مع بقاء حكمها. لأنّ القرآن يقصد منه إفادة الحكم والإعجاز بنظمه معا. فما هي المصلحة في رفع آية منه مع بقاء حكمها. إنّ ذلك غير مفهوم ، وقد أرى أنّه ليس هناك ما يدعو إلى القول به.

وقال الدكتور مصطفى زيد في كتابه «النسخ في القرآن الكريم» : ومن ثمّ يبقى «منسوخ التلاوة باقي الحكم» مجرّد فرض لم يتحقّق في واقعة واحدة ، ولهذا نرفضه ونرى أنّه غير معقول ولا مقبول.

وقال الدكتور محمد سعاد : لا نستطيع الاقتناع بصحّة وجود المنسوخ تلاوة الثابت حكما لأنّ صفة القرآنية لا تثبت لنصّ إلّا بدليل قطعي ، والنسخ الوارد على القطعي لا بدّ أن يكون قطعيا. فلا بدّ لإثبات كون النصوص المذكورة قرآنا منسوخا ، من دليلين قطعيين ، أحدهما : دالّ على ثبوت القرآنية للنصّ ، وثانيهما : دالّ على زوال هذه الصفة. وواحد من الدليلين لم يقم لواحد من تلك النصوص ، فلا يتمّ كونه قرآنا منسوخا. فلا يصحّ عندنا في موضع الخلاف إلّا القول بثبوت النسخ في الحكم دون التلاوة.

وفي تفسير الآلوسي : والقول بأنّ ما ذكر إنّما يلزم منه نسخ التلاوة ، فيجوز أن تكون التلاوة منسوخة مع بقاء الحكم ـ كآية الشيخ والشيخة ـ ليس بشيء لأنّ بقاء الحكم بعد نسخ لفظه يحتاج إلى دليل ، وإلّا فالأفضل أنّ نسخ الدالّ يرفع حكمه.

ونقل العريض عن بعضهم : إنّ الحقّ أنّ هذا النوع من النسخ غير جائز ، لأنّ الآثار التي اعتمدوا عليها لا تنهض دليلا لهم ، والآيتان (الرجم والرضاع) لا تسمحان بوجوده إلّا على تكلّف ، ولأنّه يخالف المعقول والمنطق ، ولأنّ مدلول النسخ وشروطه التي اشترطها العلماء فيه لا تتوفّر ، ولأنّه يفتح ثغرة للطاعنين في كتاب الله تعالى من أعداء الإسلام الّذين يتربّصون به الدوائر وينتهزون الفرصة لهدمه وتشكيك الناس فيه. والعجيب أنّه قد وردت رواية عن عمر : ولو لا أن يقال زاد عمر في المصحف لكتبتها. فهذا الكلام يدلّ على أنّ لفظها موجود لم ينسخ ، فكيف يقال إنّها ممّا نسخ لفظه وبقي حكمه! وهي موجودة ومسطّرة ومحفوظة على قولهم. ولو كانت آية من القرآن وتحقّق منها عمر لأثبتها من غير تردّد ولا وجل.

٣١

وبعد أن نقل الاستاذ العريض هذه الكلمات قال أخيرا : وأميل إلى هذا الرأي لأنّ الصواب في جانبه. فالمنسوخ تلاوة الثابت حكما غير موجود في كتاب الله تعالى. فالحقّ عدم جوازه. (١)

قلت : (الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ) (٢) و (سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا). (٣) والحمد لله ربّ العالمين.

مسألة الإنساء

ومزعومة اخرى تشابه اختها في التعسّف والاختلاق ، قالوا : من الآيات ما نسيت من القلوب ولم يعد لها ذكر في الصدور والأذهان.

وهذا نظير مسألة نسخ التلاوة التي مرّت آنفا ، حاولوا بذلك علاج ما رويت لديهم من أحاديث ـ زعموها صحاح الأسناد ـ تنمّ عن ضياع كثير من آيات القرآن بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فقد أخرج جلال الدين السيوطي بإسناده إلى عمر بن الخطاب ، قال لعبد الرحمان بن عوف : ألم تجد فيما أنزل علينا «أن جاهدوا كما جاهدتم أوّل مرّة» فإنّا لا نجدها؟ قال ابن عوف : أسقطت فيما اسقط من القرآن.

وقال لابيّ بن كعب : أو ليس كنّا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله «إنّ انتفاءكم من آبائكم كفر بكم»؟ فقال : بلى. ثمّ قال : أو ليس كنّا نقرأ «الولد للفراش وللعاهر الحجر» فيما فقدنا من كتاب الله؟ فقال ابيّ : بلى.

ومن ثمّ كان عبد الله بن عمر يقول : لا يقولنّ أحدكم قد أخذت القرآن كلّه ، ما يدريه ما كلّه ، قد ذهب منه قرآن كثير ... (٤)

وقالت عائشة : كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مائتي آية فلمّا كتب

__________________

(١) ـ فتح المنان ، ص ٢٢٣ ـ ٢٣٠.

(٢) ـ يوسف ١٢ : ٥١.

(٣) ـ الأعراف ٧ : ١٤٩.

(٤) ـ الدرّ المنثور ، ج ١ ، ص ١٠٦.

٣٢

عثمان المصاحف لم نقدر منها إلّا ما هو الآن. (١)

وقالت ـ فيما زعمته قرآنا بشأن الرضعات ـ : فتوفّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهنّ ممّا يقرأ من القرآن (٢) وأمثال ذلك كثير.

فقد حاول القوم توجيه ذلك كلّه بأنّها ممّا نسيت وذهب حفظها عن الصدور. ذكر ذلك جلال الدين السيوطي في ذيل قوله تعالى : (أَوْ نُنْسِها) عطفا على قوله : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ ...). (٣)

* * *

والنسخ والإنساء تعبيران عن معنى واحد ، غير أنّ الأوّل يعني رفع الشيء بعد ثبوته في الأعيان ، والثاني ذهابه من الأذهان.

والآية الكريمة تعريض بأهل الكتاب ، كانوا قد حاولوا التشكيك في معتقدات المسلمين : إنّ دين الله لا يتبدّل ولا يختلف فلا موضع لدين جديد.

فجاءت الآية ردّا لهذه الشبهة : إنّ المصالح تختلف ما دامت حياة الإنسان في تطوّر مستمرّ ، فالشريعة القديمة إذا نسخت بشريعة جديدة ، فإنّما هي لمصالح مقتضية ، والكلّ حسب الشرائط الراهنة علاج نافع أو أتمّ.

وقوله : «أو ننسها ...» أي ذهبت معالمها عن صفحة الأذهان ، بما تقادم عهدها وتمادّت مدّتها ، ولم يعد لها ذكر في عالم الوجود.

والنسخ والإنساء ظاهرتان دينيّتان ، تخصّان عهد الوحي الممكن تبديل المنسوخ أو المنسي بمثله أو بأتمّ ، أمّا وبعد انقطاع الوحي بوفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فلا نسخ ولا إنساء البتة ، صرّح بذلك عامّة أهل الاصول.

الأمر الذي يجعل من القول بضياع شيء من القرآن أو إسقاطه بعد انقضاء عهد الرسالة قولا بالتحريف الباطل لا محالة ، ومن ثمّ نتحاشاه قطعيّا بلا ترديد.

__________________

(١) ـ الإتقان للسيوطي ، ج ٣ ، ص ٧٢.

(٢) ـ المحلّى ، ج ١٠ ، ص ١٤ ـ ١٦.

(٣) ـ البقرة ٢ : ١٠٦.

٣٣
٣٤

الفصل الثاني

ملخّص دلائلنا

على دحض شبهة التحريف

ما نعرضه من مباحث في فصول قادمة هي الأهمّ من دلائلنا على إبطال مزعومة التحريف ، فكان يجب أن نقدّم خلاصة من تلك الأبحاث ليكون القارئ على بصيرة من الأمر ، ويعرف مدى صلة هذه المسائل مع مسألة التحريف حسب تسلسلها الفنّي ، بلوغا إلى النتيجة المتوخّاة في نهاية المطاف. وقد لخّصناها في بنود :

١ ـ ضرورة التاريخ

إذ من بديهة العقل أنّ مثل القرآن الكريم يجب أن يسلم عن احتمال أيّ تغيير أو تبديل فيه ، حيث إنّه كان الكتاب الذي وقع ـ من أوّل يومه ـ موضع عناية امّة كبيرة واعية ، كانت تقدّسه وتعظّمه في إجلال وإكبار وحفاوة حاشدة. ولا عجب فإنّه المرجع الأوّل لجميع شؤونهم في الحياة الدينية والسياسية والاجتماعية. فكان أساس الدين ومبنى الشريعة وركن الإسلام. وهو المنبع الأصيل لامّهات مسائل فروع الدين واصوله. ومن ثمّ كان الجميع في حراسته والمواظبة على سلامته وبقائه مع الخلود. فيا ترى كيف يمكن

٣٥

لأهل الزيغ والباطل التناوش من هذا الكتاب العزيز الحميد؟!

هكذا استدلّ الشريف المرتضى علم الهدى ، والشيخ الكبير كاشف الغطاء.

قال السيد ـ فيما يأتي من كلامه ـ : (١) «إنّ العلم بصحّة نقل القرآن كالعلم بالبلدان والحوادث الكبار ، والوقائع العظام ، والكتب المشهورة ، وأشعار العرب المسطورة. فإنّ العناية اشتدّت والدواعي توفّرت على نقله وحراسته ، وبلغت (أي صحّة نقل القرآن) إلى حدّ لم يبلغه (غيره) فيما ذكرناه ، لأنّ القرآن معجزة النبوّة ومأخذ العلوم الشرعية والأحكام الدينية ، وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية ، حتّى عرفوا كلّ شيء اختلف فيه من إعرابه وقراءته وحروفه وآياته ، فكيف يجوز أن يكون مغيّرا ومنقوصا ، مع العناية الصادقة والضبط الشديد ...

قال : والعلم بتفصيل القرآن وأبعاضه في صحّة نقله كالعلم بجملته ، وجرى ذلك مجرى ما علم ضرورة من الكتب المصنّفة ، ككتاب سيبويه والمزني ، فإنّ أهل العناية بهذا الشأن يعلمون من تفصيلهما ما يعلمونه من جملتهما ، حتّى لو أنّ مدخلا أدخل في كتاب سيبويه بابا في النحو ليس من الكتاب لعرف وميّز ، وعلم أنّه ملحق وليس من أصل الكتاب. وكذلك القول في كتاب المزني ...

قال : ومعلوم أنّ العناية بنقل القرآن وضبطه أصدق من العناية بضبط كتاب سيبويه ودواوين الشعراء ...

وقال شيخ الفقهاء كاشف الغطاء : (٢) وما ورد من أخبار النقيصة تمنع البديهة من العمل بظاهرها ، ولا سيّما ما فيه من نقص ثلث القرآن أو كثير منه. فإنّه لو كان ذلك لتواتر نقله ، لتوفّر الدواعي عليه ، ولاتّخذه غير أهل الإسلام من أعظم المطاعن على الإسلام وأهله ...

ثمّ قال : كيف يكون ذلك وكانوا شديدي المحافظة على ضبط آياته وحروفه ، وخصوصا ما ورد أنّه صرّح فيه بأسماء كثير من المنافقين؟! وكيف يمكن ذلك وكان من

__________________

(١) ـ يأتي برقم ٣ من «تصريحات أعلام الطائفة».

(٢) ـ يأتي تفصيل كلامه برقم ٨ من «تصريحات أعلام الطائفة».

٣٦

حكمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الستر عليهم ومعاملتهم معاملة أهل الدين ...؟!

وأخيرا قال : يا للعجب من قوم يزعمون سلامة الأحاديث وبقائها محفوظة ، وهي دائرة على الألسن ومنقولة في الكتب ، في مدّة ألف ومائتي سنة ، وأنّها لو حدث فيها نقص لظهر واستبان وشاع ، لكنّهم يحكمون بنقص القرآن ، وخفي ذلك في جميع الأزمان.

٢ ـ جانب تواتر القرآن

من الدلائل ذوات الشأن الداحضة لشبهة التحريف هي مسألة «ضرورة كون القرآن متواترا» في مجموعه وفي أبعاضه ، في سوره وآياته ، حتى في جمله التركيبية وفي كلماته وحروفه ، بل وحتّى في قراءته وهجائه ، على ما أسلفنا في بحث القراءات. وقلنا : إنّ الصحيح من القراءات هي القراءة المشهورة التي عليها جمهور المسلمين ، وقد انطبقت على قراءة عاصم برواية حفص.

وإذا كان من الضروري لثبوت قرآنية كلّ حرف وكلمة ولفظ أن يثبت تواتره منذ عهد الرسالة فإلى مطاوي القرون وفي جميع الطبقات ، فإنّ هذا ممّا يرفض احتمال التحريف نهائيا ، لأنّ ما قيل بسقوطه وأنّه كان قرآنا يتلى إنّما نقل إلينا بخبر الواحد ، وهو غير حجّة في هذا الباب ، حتّى ولو فرض صحّة إسناده.

إذن فكلّ ما ورد بهذا الشأن ـ بما أنّه خبر واحد ـ مرفوض ومردود على قائله.

وهكذا استدلّ آية الله جمال الدين أبو منصور الحسن بن يوسف ابن المطهّر العلّامة الحلّي (ت ٧٢٦) في كتابه «نهاية الوصول إلى علم الاصول».

قال رحمه‌الله : اتّفقوا على أنّ ما نقل إلينا متواترا من القرآن فهو حجّة ـ واستدلّ بأنّه سند النبوّة ومعجزتها الخالدة فما لم يبلغ حدّ التواتر لم يمكن حصول القطع بالنبوّة ـ قال : وحينئذ لا يمكن التوافق على نقل ما سمعوه منه ـ على فرض الصحّة ـ بغير تواتر ، والراوي الواحد إن ذكره على أنّه قرآن فهو خطأ ، وإن لم يذكره على أنّه قرآن كان متردّدا

٣٧

بين أن يكون خبرا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو مذهبا له (أي للراوي) ، فلا يكون حجّة. وقد قام إجماعنا على وجوب إلقائه صلى‌الله‌عليه‌وآله على عدد التواتر ، فإنّه المعجزة الدالّة على صدقه ، فلو لم يبلغه إلى حدّ التواتر انقطعت معجزته فلا يبقى هناك حجّة على نبوّته ... (١)

وعلى غراره سائر المحقّقين من علماء الاصول ، كالسيّد المجاهد ، محمد بن علي الطباطبائي يقول في كتابه «وسائل الاصول» : لا خلاف أنّ كلّما هو من القرآن يجب أن يكون متواترا في أصله وأجزائه ، لأنّ العادة تقضي بالتواتر في تفاصيل أمثاله. والقرآن هو المعجز العظيم الذي هو أصل الدين القويم ، فالدواعي متوفّرة على نقل جمله وتفاصيله. فما نقل آحادا ولم يتواتر يقطع بأنّه ليس من القرآن حتميّا ... (٢)

والفقيه المحقّق المولى أحمد الأردبيلي (ت ٩٩٣) في شرح الإرشاد قال : بل يفهم من بعض كتب الاصول أنّ تجويز قراءة ما ليس بمعلوم كونه قرآنا فسق ، بل كفر. فكلّ ما ليس بمعلوم أنّه يقينا قرآن منفيّ كونه قرآنا يقينا .. فقال بوجوب العلم بما يقرأ قرآنا أنّه قرآن. فينبغي لمن يجزم أنّه يقرأ قرآنا تحصيله من التواتر ، فلا بدّ من العلم ...

ثمّ قال : ولمّا ثبت تواتره فهو مأمون من الاختلال ، مع أنّه مضبوط في الكتب ، حتّى أنّه معدود حرفا حرفا وحركة حركة ، وكذا طريق الكتابة وغيرها ، ممّا يفيد الظنّ الغالب بل العلم بعدم الزيادة على ذلك والنقص ... (٣)

والمحقّق المتتبّع السيد محمد الجواد العاملي ـ بعد نقله كلمات الأعلام بهذا الشأن ـ قال : والعادة تقضي بالتواتر في تفاصيل القرآن من أجزائه وألفاظه وحركاته وسكناته ووضعه في محلّه ، لتوفّر الدواعي على نقله ، لكونه أصلا لجميع الأحكام ولكونه معجزا. فلا يعبأ بخلاف من خالف أو شكّ في المقام. (٤)

وكلمات الأعلام هنا كثيرة نقتصر على هذا المقدار خوف الإطالة.

__________________

(١) ـ البرهان للبروجردي ، ص ١١١.

(٢) ـ بنقل صاحب الكشف (البرهان ، ص ١٢٠ ـ ١٢١).

(٣) ـ مجمع الفائدة ، ج ٢ ، ص ٢١٨.

(٤) ـ مفتاح الكرامة ، ج ٢ ، ص ٣٩٠.

٣٨

٣ ـ مسألة الإعجاز

ممّا يتنافى واحتمال التحريف في كتاب الله هي مسألة الإعجاز المتحدّى به. وقد اعتبره العلماء من أكبر الدلائل على نفي التحريف :

أمّا احتمال الزيادة ، كما احتمله أصحاب ابن عجرد من الخوارج ، قالوا بزيادة سورة يوسف في القرآن ، لأنّها قصّة عشق ولا يجوز أن تكون وحيا. (١) وكما زعمه ابن مسعود بشأن سورتي المعوذّتين ، كان يحكّهما من المصحف ويقول : إنّهما عوذتان وليستا من القرآن. (٢)

فهذا كلّه احتمال باطل ، إذ يستدعي ذلك أن يكون باستطاعة البشرية أن تقوم بإنشاء سورة كاملة تمائل سور القرآن تماما. وقد قال تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً). (٣)

وقال : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ). (٤)

وقال : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ). (٥)

وقال : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ). (٦)

فهذا التحدّي الصارخ يبطل دعوى كلّ زيادة في سور القرآن وآياته الكريمة.

وكذا احتمال التبديل ، فإنّ المتبدّل لا يكون من كلامه تعالى وإنّما هو من كلام مبدّله ، والكلام إنّما يسند إلى قائله إذا كانت مجموع الكلمات مستندة إليه لا البعض دون البعض.

إذن فاحتمال التبديل ولو في بعض كلمات القرآن يبطل إسناد مجموع الكتاب إليه سبحانه وتعالى.

ومن ذلك تعلم فساد ما زعمه الشيخ النوري ومن قبله السيد الجزائري ، ومن لفّ لفّهما بشأن كثير من كلمات قرآنية ، أنّها متبدّلات عمّا جاء في كلامه تعالى. زعموا من

__________________

(١) ـ الملل والنحل للشهرستاني ، ج ١ ، ص ١٢٨.

(٢) ـ فتح الباري لابن حجر ، ج ٨ ، ص ٥٧١.

(٣) ـ الإسراء ١٧ : ٨٨.

(٤) ـ هود ١١ : ١٣.

(٥) ـ يونس ١٠ : ٣٨.

(٦) ـ البقرة ٢ : ٢٣.

٣٩

قوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (١) أنّها متبدّلة من «كنتم خير أئمّة ...». (٢)

وزعموا من قوله : (فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ) (٣) أنّها متبدّلة من «فلمّا خرّ تبيّنت الإنس أن لو كانت الجنّ يعلمون الغيب».

ومن قوله : (وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ..). (٤) بفتح ياء المضارعة ـ أنّها متبدّلة من «يعصرون ...» بضمّ الياء بمعنى الإمطار.

وقوله : (أُمَّةً وَسَطاً ..). (٥) أنّها كانت «أئمّة وسطا ...».

وقوله : (يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) (٦) أنّها كانت «كنت ترابيا».

قالوا : ومثل هذا كثير. (٧)

كلّ ذلك باطل ، لأنّه ورد بخبر واحد ، وهو غير حجّة في باب القطعيات.

وهكذا التبديل الموضعي يخلّ بنظم الكلام المبتنى عليه الإعجاز نظما واسلوبا.

قالوا ـ في قوله تعالى : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً) (٨) أنّها متغيّرة من «ويتلوه شاهد منه إماما ورحمة ومن قبله كتاب موسى» قالوا : تقدّم حرف على حرف فذهب معنى الآية (٩) حسب زعمهم.

ومثله النقص بإسقاط كلمة أو كلمات ضمن جملة واحدة ، أنّها إذا كانت منتظمة في اسلوب بلاغي بديع ، فإنّ حذف كلمات منها سوف يؤدّي إلى إخلال في نظمها ويذهب بروعتها الاولى ولا يدع مجالا للتحدّي بها.

الأمر الذي غفل عنه زاعموا التحريف فجنوا جنايتهم بشأن قداسة القرآن الكريم :

زعموا إسقاط اسم الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام من مواضع من القرآن ، ذهولا عن أنّه لو

__________________

(١) ـ آل عمران ٣ : ١١٠.

(٢) ـ منبع الحياة للجزائري ، ص ٦٨.

(٣) ـ سبأ ٣٤ : ١٤.

(٤) ـ يوسف ١٢ : ٤٩.

(٥) ـ البقرة ٢ : ١٤٣.

(٦) ـ النبأ ٧٨ : ٤٠.

(٧) ـ راجع فيما نسبوه إلى النعماني. البحار ، ج ٩٠ ، ص ٢٦ ـ ٢٧.

(٨) ـ هود ١١ : ١٧.

(٩) ـ البحار ، ج ٩٠ ، ص ٢٦ ـ ٢٧.

٤٠