صيانة القرآن من التحريف

الشيخ محمّد هادي معرفة

صيانة القرآن من التحريف

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


المحقق: مؤسسة التمهيد
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-90596-0-0
الصفحات: ٢٧٢

وقال المرتضى علم الهدى بشأن نصب «والصابرين» : وجه النصب أنّه على المدح ، لأنّ مذهبهم في الصفات والنعوت إذا طالت أن يعترضوا بينها بالمدح أو الذمّ ليميزوا الممدوح أو المذموم ويفردوه. فيكون غير متبع لأوّل الكلام. من ذلك قول الخرنق بنت بدر بن هفّان :

لا يبعدن قومي ... (إلى آخر البيتين ، لكن بنصب النازلين والطيّبين). قال : فنصبت «النازلين والطيّبين» على المدح. وربّما رفعوهما جميعا على أن يتبع آخر الكلام أوّله. ومنهم من ينصب «النازلين» ويرفع «الطيبين». وآخرون يرفعون «النازلين» وينصبون «الطيبين». والوجه في النصب والرفع ما ذكرناه.

قال : ومن ذلك قول الشاعر ـ أنشده الفرّاء ـ :

إلى الملك القرم وابن الهمام

وليث الكتيبة في المزدحم

وذا الرأي حين تغمّ الامور

بذات الصليل وذات اللجم

فنصب «ليث الكتيبة» و«ذا الرأي» على المدح.

قال : وممّا نصب على الذمّ قول عروة بن الورد :

سقوني الخمر ثمّ تكنّفوني

عداة الله من كذب وزور (١)

(٤ ـ في سورة المنافقين : ١٠)

قوله تعالى : (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ).

قرأ السبعة غير أبي عمرو بجزم «أكن» عطفا على موضع الفاء ، لأنّ موضعها جزم على جواب التمنّي. لأنّ المعنى : إن أخّرتني أصّدّق وأكن.

قرأ أبو عمرو بالنصب عطفا على لفظ «فأصّدّق» المنصوب بإضمار أن.

هكذا قال مكّي بن أبي طالب والزمخشري وغيرهما من أعلام الأدب والتفسير.

__________________

(١) ـ انظر : الأمالي للمرتضى ، ج ١ ، ص ٢٠٥ ـ ٢٠٦.

١٦١

وتلك كتب النحو تشهد بصحّة الجزم والنصب في المعطوف على جواب التمنّي إذا دخله الفاء.

وعليه فلا وقع لما ذكره بعض البعداء ، ناسبين له إلى كبار الامّة الأبرياء ، من وجود اللحن في الآية وما شاكلها من آيات ، هي جارية على أساليب الأدب الرفيع. غير أنّ الأعشى إنّما يبصر بليل!

٢٦ ـ سورة الولاية المفتعلة

ومن المختلقات العامّية المرتذلة ما نسبه صاحب «دبستان المذاهب» إلى فئة غير معروفة من الشيعة ، زعم أنّها تقول بالتحريف. قال : وبعضهم يقول : إنّ عثمان أحرق المصاحف وأسقط سورا كانت نازلة في فضل أهل البيت ، منها هذه السورة :

بعد البسملة «يا أيّها الّذين آمنوا آمنوا بالنورين. أنزلناهما يتلوان عليكم آياتي ويحذّرانكم عذاب يوم عظيم. نوران بعضهما من بعض وأنا السميع العليم. إنّ الّذين يوفون بعهد الله ورسوله في آيات لهم جنّات نعيم ... واصطفى من الملائكة والرسل وجعل من المؤمنين اولئك في خلقه يفعل الله ما يشاء ... قد خسر الّذين كانوا عن آياتي وحكمي معرضون ... وأنّ عليا من المتّقين. وإنّا لنوفّيه حقّه يوم الدين. ما نحن عن ظلمه بغافلين. يا أيّها الرّسول قد أنزلنا إليك آيات بيّنات فيها من يتوفّاه مؤمنا ومن يتولّيه من بعدك يظهرون ... ولقد أرسلنا موسى وهارون بما استخلف فبغوا هارون. فصبر جميل ... ولقد آتيناك بك الحكم كالذين من قبلك من المرسلين. وجعلنا لك منهم وصيّا لعلّهم يرجعون ... إنّ عليّا قانتا بالليل ساجدا يحذر الآخرة ويرجو ثواب ربّه. قل هل يستوي الذين ظلموا وهم بعذابي يعلمون». (١)

قال المحدّث النوري : لم أجد أثرا لها في كتب الشيعة سوى ما يحكى عن كتاب «المثالب» المنسوب إلى ابن شهر آشوب : أنّهم أسقطوا تمام سورة الولاية. فلعلّها هذه

__________________

(١) ـ دبستان المذاهب ، تحقيق الاستاذ رحيم رضازاده ملك ، ج ١ ، ص ٢٤٦ ـ ٢٤٧.

١٦٢

السورة! (١)

وهكذا المحقّق الآشتياني صاحب الحاشية (٢) (ت ١٣١٩) نقل السورة المزعومة ، وعقّبها بقوله : ولم أقف عليها في غير هذا الكتاب ، سوى ما يقال عن كتاب «المثالب» لابن شهر آشوب. وأضاف : ولكنّك خبير بأنّها ليست تضاهي شيئا من القرآن الحكيم ، المنزل إعجازا على قلب سيّد المرسلين. إذ من المقطوع به أنّ كلّ أحد يمكنه تلفيق هكذا ألفاظ وكلمات لا رابط بينها ولا انسجام فضلا عن المعنى الصحيح. وقد قال تعالى بشأن القرآن العزيز : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً). (٣)

دسيسة لئيمة!

هنا لا بدّ من وقفة قصيرة حول قضية انتساب سورة «الولاية» المفتعلة إلى مثل العلّامة الشهير ابن شهر آشوب (علم من أعلام الشيعة البارزين) في كتابه «المثالب» الذي جمع فيه مثالب أهل الخلاف من أصحاب البدع والاعتساف.

وأوّل من وجدناه نسب هذه السورة إلى هذا الكتاب ، هو السيّد محمود الآلوسي علّامة بغداد (ت ١٢٧٠) في تفسيره «روح المعاني» (ج ١ ، ص ٢٣). قال : «وذكر ابن شهر آشوب في كتاب «المثالب» : أنّ سورة الولاية اسقطت بتمامها ...».

وقد عثر على هذا الكتاب أخيرا ، وشاهدت منه نسختين مصوّرتين بالفتوغرافيّة ، (٤)

__________________

(١) ـ فصل الخطاب ، ص ١٧٩ ـ ١٨٠ ، برقم (سح ٦٨) من الدليل الثامن.

(٢) ـ بحر الفوائد في شرح الفرائد ، ج ١ ، ص ١٠١ وقد تمّ تأليفه بطهران سنة (١٣٠٧) وطبعه سنة (١٣١٤) المتأخّر عن تأليف فصل الخطاب سنة (١٢٩٢) وعن طبعه بطهران سنة (١٢٩٨).

(٣) ـ الإسراء ١٧ : ٨٨.

(٤) ـ والكتاب اليوم على يد التحقيق في مصيره إلى الطباعة والنشر ، بحوله تعالى. والنسختان ، محفوظتان برقم الفيلم ٦٨ ، بتاريخ خامس ذيحجّة ١٤١٦ في مركز إحياء التراث الإسلامي ـ قم.

وإحدى النسختين التي يرجع تاريخ كتابتها إلى سنة ٨٤٥ أوضح من الاخرى.

١٦٣

ولا حظتهما بدقّة وفحص كامل ولم أجد لهذه السورة المزيّفة أثرا ولا خبرا فيهما ، بل العكس وجدت صاحب الكتاب (العلّامة ابن شهر آشوب) ينكر على القائلين بالتحريف ولو بشطر كلمة ، فضلا عن سورة كاملة ويرفض احتماله رفضا باتّا.

وهكذا نجد المؤلّف (ابن شهر آشوب) في كتابه الآخر «متشابهات القرآن» أيضا يؤكّد على رفض احتمال التحريف ويستدلّ على نفي التحريف بآية الجمع (١) وآية الحفظ (٢) ويرى أنّ القرآن كان مجموعا على عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كما هو الآن من غير تغيير ولا تحريف ، ويحمل الروايات بشأن بعض الزيادات ، على إرادة الزيادات التفسيريّة ، لا الزيادة في النصّ. وليس في كلامه ولا إشارة إلى مثل هذه السورة المفتعلة. (٣)

فيا ترى كيف وجّهوا إليه هذه التهمة المفضوحة؟!

وأظنّهم وجدوا من فقدان هذا الكتاب في مكتبات الحوزات العلميّة في العراق وإيران ـ ولا سيّما في عهد الآلوسي لم يكن لهذا الكتاب عين ولا أثر ، لا في بغداد فحسب بل وفي سائر البلاد القريبة منها ـ فأخذوا من هذا المجال فرصة إيجاد تلك الشبهة الفاضحة.

وكان شيخنا النوري (ت ١٣٢٠) الذي كان تائها في غياهب خياله ، قد ركض وراء متاهات أمثال الآلوسي ، وزعم من دسائسهم حقائق ، وأصبح من المغترّين. نعوذ بالله من غفلات النفوس.

وهكذا العلّامة الآشتياني (ت ١٣١٩) قد أخذه من أفواه علماء بغداد ممّن تربّوا على يد علّامتها الآلوسي صاحب التفسير!

إذن لا مستند لهذه السورة المزعومة في كتب الشيعة بتاتا ، ولا نعرف من أين أخذها صاحب الدبستان داعية المذهب الكيواني الصوفيّ الزرادشتي العتيد ، حسبما يأتي.

* * *

__________________

(١) ـ القيامة ٧٥ : ١٧.

(٢) ـ الحجر ١٥ : ٩.

(٣) ـ راجع : متشابهات القرآن لابن شهر آشوب ، ج ٢ ، ص ٧٧.

١٦٤

أمّا السورة المزعومة ذاتها ، فهي تنادي بأنّها حديث مفترى ، لا تعدو سوى تلفيقات ركيكة وتعبيرات هجينة لا تمتّ إلى أب صالح ولا امّ صالحة. إنّها خالفت قواعد الإعراب فضلا عن الأدب الرفيع. الأمر الذي يؤكّد غرابة نسبتها إلى أيّ فئة من فئات الشيعة ، وهم على مختلف طبقاتهم كانوا ولا يزالون أئمّة النقد والتمحيص ، وأساتذة الأدب والبيان ، والمضطلعين بالعلوم العربية على طول التاريخ.

ولا ريب أنّها سفاسف سخيفة حاكتها عقول غير ناضجة ، يتحاشاها ذوو الأحلام الراجحة. نعم سوى أحقاد جاهلية تبعث على هذا الافتراء الكاذب. قال تعالى : (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ). (١) إنّه سفه وحمق إلى جنب خبث السريرة ، الأمر الذي يشكّل طابع أمثال صاحب الدبستان الصعلوك المسكين.

وبعد ، فما هو معنى «النورين النازلين من السماء يتلوان الآيات ويحذّران العذاب»؟!

وما معنى «الذين يوفون بعهد الله ورسوله في آيات»!

وما معنى «واصطفى من الملائكة وجعل من المؤمنين اولئك في خلقه»!

وكيف لم ينتصب خبر «كانوا معرضون»!

وما معنى «ما نحن عن ظلمه بغافلين»!

وكيف يكون في الآيات البيّنات من يتوفّى مؤمنا؟!

وما معنى «فبغوا هارون»؟! فصبر جميل ـ على هذه الترّهات ـ!

وما معنى «ولقد آتينا بك الحكم كالذين من قبلك»؟!

وما معنى «جعلنا لك منهم وصيّا»؟!

ولماذا انتصب خبر «إنّ» إنّ عليّا قانتا ساجدا؟!

وبماذا يستوي الذين ظلموا؟!

قال العلّامة البلاغي : ولعلّ المعنى في بطن الشاعر!!

قال : هذا بعض الكلام في هذه المهزلة ، وأنّ صاحب فصل الخطاب من المحدّثين

__________________

(١) ـ النحل ١٦ : ١٠٥.

١٦٥

المكثرين المجدّين في التتبّع للشواذ ، وأنّه ليعدّ أمثال هذا المنقول في «دبستان المذاهب» ضالّته المنشودة ، ومع ذلك قال : إنّه لم يجد لهذا المنقول أثرا في كتب الشيعة. فيا للعجب من صاحب الدبستان من أين جاء بنسبة هذه الدعوى إلى الشيعة ، وفي أيّ كتاب لهم وجدها؟ أفهكذا يكون النقل في الكتب؟!

قال : ولكن لا عجب ، شنشنة أعرفها من أخزم!! فكم نقلوا عن الشيعة مثل هذا النقل الكاذب!! (١)

قال الاستاذ رحيم (محقّق الكتاب) : ما أثبته المؤلّف في كتابه عن الأديان والمذاهب أكثرها جوانب عامّية مأخوذة من أفواه اناس أو شاهدها في تصرّفات بعض المعتنقين لتلك الأديان في الأسواق والمقاهي والأندية العامّة ، وربّما على حواشي الطرق والأسفار ، فكان يجتمع مع اولئك العاميين ويتناقل معهم الحديث ، ثمّ يسجّلها قيد كتابه الذي تمّ تأليفه بهذا النمط خلال عشرين عاما أو أكثر ما بين سنة ١٠٤٠ ـ ١٠٦٥. ومن ثمّ كان لفيف من المشعوذين من أهل الاستهواء ، حيث أحسّوا منه الرغبة الملحّة في جمع الغرائب والعجائب ، جعلوا يتزلّفون إليه ، رغبة في أكلة دسمة أو منحة أو صلة ، فيحيكون له أكاذيب وأقاصيص مجعولة ، وكان من سذاجته يسجّلها في كتابه ، وأحيانا عن لسانهم مشفوعة بعناوين وألقاب فخيمة ترفيعا من شأنها حسب زعمه. الأمر الذي نشاهده في كتابه كثيرا من قضايا ومسائل منسوبة إلى مذاهب وأديان لا أساس لها ذاتا ، وما هي إلّا مغبّة أنّ الرجل كان قد جعل نفسه موضع مهزلة المشعوذين ممّن يروقهم الاستحواذ على سذّج العقول أمثال هذا المؤلّف المسكين. (٢)

أمّا من هو المؤلّف؟ فزعمه السيرجون ملكم في كتابه «تاريخ أدبيات إيران» (٣) أنّه محسن الكشميري المتخلّص بالفاني. وفي «إيضاح المكنون في الذيل على كشف

__________________

(١) ـ مقدّمة آلاء الرحمان ، ج ١ ، ص ٢٤ ـ ٢٥ (الأمر الخامس).

(٢) ـ دبستان المذاهب ، ج ٢ ، ص ١٢٦ و ١٢٩ قسم التعليقات.

(٣) ـ ج ١ ، ص ٥٩.

١٦٦

الظنون» (١) أنّه الموبد (٢) شاه الهندي. وحسبه الملّا فيروز في هامش كتاب «الدساتير» (٣) أنّه المير ذو الفقار علي.

وآخر نظرية وصل إليها المحقّقون أنّه الموبد كيخسرو اسفنديار من ولد آذركيوان (مؤسّس الفرقة الكيوانية) على عهد «أكبر شاه التيموري ٩٦٣ ـ ١٠١٤» في الهند. ولد المؤلّف في بلدة «پتنه» من أعمال الهند في أواسط العقد الثالث من القرن الحادي عشر للهجرة ، وكان عائشا حتّى ما بعد العقد السابع ، حسبما يبدو من التواريخ المسجّلة قيد كتابه.

وكان المؤلّف داعية للمذهب الكيواني القائل بوحدة الوجود ، ورفض المذاهب ، والاجتماع على كتاب «الدساتير» الذي زعمه امّ الكتب ومجتمع الشرايع كلّها ، نسبه إلى نبيّ يقال عنه أنّه «ساسان». ومن ثمّ فإنّ المؤلّف في كتابه «الدبستان» يحاول تضعيف عقائد أصحاب الملل ، والترويج ـ في خفاء والتواء ـ من مذهب أبيه آذركيوان الجديد التأسيس.

وأوّل من أشاد بشأن الكتاب هو «فرنسيس غلادوين» ترجمه إلى الإنجليزية عام ١٧٨٩ م. وفي عام ١٨٠٩ م (ذو القعدة ١٢٢٤ ه‍ ق) طبع الكتاب لأوّل مرّة في «كلكتا» بأمر من مندوب الإنجليز «ويليام بيلى». وهكذا استمرّت طباعته على يد عملاء الاستعمار في الهند وإيران وكذا تراجمه في سائر البلاد ... لماذا؟ لأمر مّا جدع قصير أنفه!

٢٧ ـ مأساة كتاب «الفرقان»!

هذا الكتاب (٤) أثار في وقته ضجّة عارمة في القطر المصري وقام الأزهر في وجهه

__________________

(١) ـ ج ٣ ، ص ٤٤٢.

(٢) ـ الموبد : عنوان يطلق على الزعماء الدينيين في مصطلح المجوس.

(٣) ـ ص ٢٢١.

(٤) ـ تأليف ابن الخطيب محمد محمد عبد اللطيف من علماء مصر المعروفين. طبع كتابه هذا في مطبعة دار الكتب المصرية ـ

١٦٧

موبّخا ومؤنّبا وأبان أوجه البطلان والفساد فيه ، ومن ثمّ طلب من الحكومة مصادرته ، فاستجابت الحكومة لهذا الطلب وصادرته. (١) لكن بقيت منه نسخ كثيرة منتشرة في أرجاء العالم الإسلامي وغيره.

وممّا جاء في هذا الكتاب من المأساة ثبت ما دبّجه أهل الحشو في دفاترهم ، واعتبارها أحاديث مسندة ، بحجّة درجها في الصحاح المعروفة ، حتى ولو مسّت بكرامة القرآن المجيد! فقد أعاد إلى الحياة ما جنته يد سلفة القديم ، وكان قد عفا عليه الزمان منذ زمن سحيق.

ومن ذلك أنّه جاء بأقاصيص منسوبة إلى العهد الأوّل ، كحديث عائشة عن اللحن الوارد في القرآن في أربعة مواضع منه ـ على ما مرّ تزييفه ـ وكذلك أحاديث معزوّة إلى ابن عباس وسعيد والضحّاك وأمثالهم في نسبة اللحن إلى كتبة النصّ الأوّل للمصحف الشريف. فجاء بذلك دليلا قاطعا على «لحن الكتّاب في المصحف» على ما عنون به المقال (٢) فزعمها أحاديث صحيحة الإسناد واعتمدها ، ذهولا عن استدعاء ذلك تحريفا في نصّ الوحي عمّا أنزله الله بأن تكون قد صنعته يد الأوائل ، إمّا عمدا أو عن جهل بمواضع كلامه تعالى ، ممّا لا تتحمّله العقول الصافية العارفة بنزاهة السلف عن إمكان إسناد مثل هذا التماحل اليهم ، وهم أولى بحراسة هذا الكتاب العزيز الحميد.

والشيء الأغرب أنّه زعم أنّ الطاغية الحجّاج بن يوسف الثقفي قد غيّر من المصحف الشريف في اثني عشر موضعا ، غيّرها على غير كتبتها الاولى ، والتي كانت دارجة قبل ذلك ومعروفة بين المسلمين ، فغيّرها إلى ما هو عليه اليوم من القراءة الحاضرة. مثلا يقول :

__________________

ـ سنة ١٣٦٧ ه‍ ـ ١٩٤٨ م. وثارت حوله ضجّة ممّا دعا بالأزهر أن يطلب من الحكومة مصادرته ، فصادرته الحكومة مصادرة شكلية بقيت منه نسخ كثيرة منتشرة في أقطار البلاد. وفي مكتباتنا اليوم من هذا الكتاب عدد وفير ، وطبعت عدّة طبعات.

(١) ـ راجع مقال الاستاذ محمد محمد مدني في «رسالة الإسلام» الصادرة من دار التقريب ـ القاهرة ـ عدد ٤٤ ، سنة ١١ ، ص ٣٨٢ ، والاستاذ التيجاني في كتابه «لأكون مع الصادقين» ، ص ٢٦٢.

(٢) ـ الفرقان ، ص ٤١ ـ ٤٦ ؛ وراجع ص ٩٠ ـ ٩١.

١٦٨

كانت في سورة الشعراء (١) ـ في قصّة نوح ـ «من المخرجين» وفي قصّة لوط (٢) «من المرجومين». فغيّر التي في قصّة نوح وجعلها «من المرجومين» وجعل التي في قصّة لوط «من المخرجين»! (٣) وأمثال ذلك من مزاعم تافهة يرفضها كلّ ذي لبّ سليم ، إذ ما شأن الحجّاج الملتهي بسياسته الغاشمة والتدخّل في شؤون الدين والقرآن العظيم!! إنّها سفاسف لاكتها ألسن بذيّة من ذوي الأحلام الفارغة لا تشعر ماذا تقول ولا تحمل مسؤولية أمانة الكلام.

وقد أخذ ابن الخطيب هذه القصّة الخيالية من مصاحف السجستاني برواية عبّاد بن صهيب عن عوف. (٤) غير أنّ عبّاد هذا متروك الحديث لدى أئمة الفنّ مغموز فيه بالكذب والاختلاق. نعم سوى أبي داود كان يأخذ بحديثه. (٥) قال الإمام الحافظ محمد بن حبان : كان قدريا داعيا إلى القدر ، ومع ذلك يروي المناكير عن المشاهير التي إذا سمعها المبتدئ في هذه الصناعة شهد لها بالوضع. (٦) ومنها هذه الحكاية المضحكة! وقد اعتمدها ابن الخطيب وعرضها كأصل مسلّم به مع الأسف!

وأخيرا أتى بقراءات معزوّة إلى الصحابة على خلاف قراءة المشهور المتداولة بين المسلمين منذ الصدر الأوّل حتّى اليوم ، في حين أنّها رويت بأخبار آحاد لا حجّية فيها ولا تصلح سندا لاعتبار ، والنصّ القرآني هو الثابت بالتواتر القاطع بإجماع المسلمين ، إذن فكيف يصحّ إسناد ما يخالف التواتر إلى الصحابة الأوّلين ، وهم أعرف بالنصّ الأصل الذي أخذوه من فم النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونحن نربأ بأمثالهم أن يخالفوا النصّ المتواتر عن النبي الكريم. إن هذا إلّا نسبة مكذوبة يتحاشاها مقامهم الرفيع ، ولا سيّما المنسوب إلى مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام (٧) وقراءتنا الحاضرة هي قراءته عليه‌السلام برواية حفص عن عاصم عن

__________________

(١) ـ الآية رقم ١١٦.

(٢) ـ الآية رقم ١٦٧.

(٣) ـ الفرقان ، ص ٥٠ ـ ٥٢.

(٤) ـ المصاحف لأبي داود السجستاني ، ص ٤٩ ـ ٥٠.

(٥) ـ راجع : المغني للذهبي ، ج ١ ، ص ٣٢٦ ، برقم ٣٠٣٧.

(٦) ـ كتاب المجروحين من المحدّثين والضعفاء والمتروكين ، ج ٢ ، ص ١٦٤.

(٧) ـ الفرقان ، ص ١٠٦.

١٦٩

شيخه أبي عبد الرحمان السلمي عن علي بن أبي طالب عليه‌السلام حسبما فصّلناه في بحث القراءات.

وشيء أعجب أنّه نسب إلى ابن الخطاب أنّه كان يجيز تبديل النصّ القرآني وقراءة القرآن بالمعنى ، لمن لا يحسن القراءة. فذكر أنّه كان يلقّن أعرابيّا قوله تعالى : (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ* طَعامُ الْأَثِيمِ) (١) فكان الأعرابي يقول : «طعام اليتيم». فلمّا رأى عمر منه عدم استطاعة النطق بلفظ «الأثيم» ، قال له : «طعام الفاجر» ، فقرأ الأعرابي : (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ) الفاجر» ...! (٢)

اللهمّ إن هذا إلّا اختلاق ، بيّن الكذب بلا شكّ ولا ريب.

__________________

(١) ـ الدخان ٤٤ : ٤٣ و ٤٤.

(٢) ـ الفرقان ، ص ١١٥.

١٧٠

الفصل الثامن

التحريف عند متطرّفة الأخباريّة

تلك كانت مهزلة القول بالتحريف عند حشويّة العامّة ، والآن فاستمع إلى مهزلة اخرى أثارها فئة متطرّفة تزعم انتماءها إلى الشيعة الإماميّة (١) إلّا أنّهم واكبوا إخوانهم الحشويّة في المسّ بكرامة القرآن من غير ما مبالاة!

وقد عرفت آنفا أنّ المحقّقين من علمائنا الذين هم أهل النظر والاجتهاد قد أجمعوا على رفض احتمال التحريف في كتاب الله ، استنادا إلى دليل العقل وتواتر النقل ، ولا يزالون على ثبات العقيدة الاولى التي نصّ عليها القرآن الكريم.

وكذلك جلّ أهل الحديث من عظماء الطائفة وافقوا أهل التحقيق في إنكار التحريف ، منذ عهد رئيس المحدّثين أبي جعفر الصدوق (٣٨١) حتى عصر العلمين : الفيض الكاشاني (١٠٩٠) والحرّ العاملي (١١٠٤) وقفوا جميعا وقفة حازم ، جنبا إلى جنب المجتهدين.

نعم ، حدثت فكرة وقوع التحريف من قبل فئة هم شرذمة قليلة من هذه الامّة ممّن لا

__________________

(١) ـ وقد عبّر عنهم المولى التستري ـ في كتابه مصائب النواصب ـ بالشرذمة القليلة من هذه الامة ممّن لا اعتداد بهم في جماعة الشيعة الإمامية. آلاء الرحمان ، ج ١ ، ص ٢٥ ـ ٢٦.

١٧١

اعتداد بهم في جماعة الشيعة ، وذلك في عهد متأخّر ، منذ أن نبغ نابغتهم الجزائري (١٠٥٠ ـ ١١١٢) في حاشية الخليج.

فأشاد من هذه الفكرة وأسّس بنيانها على قواعد الاسترسال والانطلاق مع شوارد الأخبار وغرائب الآثار.

وانطلقت وراءه زرافات من أهل الخبط والتخليط ، وأخيرا رائدهم النوري (١٢٥٤ ـ ١٣٢٠) في فصل الخطاب ، الذي حاول فيه نقض دلائل الكتاب ، ونفي حجّيته القاطعة ، الثابتة عند أهل الصواب.

وإليك من دلائل الجزائري في كتابه «منبع الحياة!» :

قال : إنّ الأخبار المستفيضة بل المتواترة قد دلّت على وقوع الزيادة والنقصان والتحريف في القرآن. منها ما روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام لمّا سئل عن التناسب بين الجملتين في قوله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) (١) فقال : لقد سقط أكثر من ثلث القرآن.

ومنها : ما روي عن الصادق عليه‌السلام في قوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ ..). (٢) قال : كيف يكون هذه الامّة وقد قتلوا ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ليس هكذا نزلت وإنّما نزولها «كنتم خير أئمّة» يعني الأئمّة من أهل البيت عليهم‌السلام.

ومنها : ما روي في الأخبار المستفيضة في أنّ آية الغدير هكذا نزلت : «يا أيّها الرّسول بلّغ ما انزل إليك ـ في عليّ ـ فإن لم تفعل فما بلّغت رسالاته»!!

إلى غير ذلك ممّا لو جمع لصار كتابا كبير الحجم!

قال : وأمّا الأزمان التي ورد على القرآن فيها التحريف والزيادة والنقصان ، فهما عصران : العصر الأوّل عصره صلى‌الله‌عليه‌وآله وأعصار الصحابة. وذلك من وجوه :

أحدها : أنّ القرآن كان ينزل منجّما على حسب المصالح والوقائع ، وكتّاب الوحي كانوا ما يقرب من أربعة عشر رجلا من الصحابة ، وكان رئيسهم أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وقد

__________________

(١) ـ النساء ٤ : ٣.

(٢) ـ آل عمران ٣ : ١١٠.

١٧٢

كانوا في الأغلب ما يكتبون إلّا ما يتعلّق بالأحكام وإلّا ما يوحى إليه في المحافل والمجامع. وأمّا الذي كان يكتب ما ينزل في خلواته ومنازله فليس هو إلّا أمير المؤمنين عليه‌السلام لأنّه كان يدور معه كيفما دار ، فكان مصحفه أجمع من غيره من المصاحف.

قال : ولمّا مضى صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى لقاء حبيبه وتفرّقت الأهواء بعده جمع أمير المؤمنين عليه‌السلام القرآن كما انزل ، وشدّه بردائه وأتى به إلى المسجد وفيه الأعرابيان وأعيان الصحابة ، فقال لهم : هذا كتاب ربّكم كما انزل. فقال له الأعرابي الجلف : ليس لنا فيه حاجة ، هذا عندنا مصحف عثمان! فقال عليه‌السلام : لن تروه ولن يراه أحد حتى يظهر ولدي صاحب الزمان فيحمل الناس على تلاوته والعمل بأحكامه. ويرفع الله سبحانه هذا المصحف إلى السماء.

ولمّا تخلّف ذلك الأعرابي احتال في استخراج ذلك المصحف ليحرقه كما أحرق مصحف ابن مسعود ، فطلبه من أمير المؤمنين عليه‌السلام فأبى.

قال : وهذا القرآن عند الأئمة عليهم‌السلام يتلونه في خلواتهم. وربّما أطلعوا عليه بعض خواصّهم ، كما رواه ثقة الإسلام الكليني ـ عطّر الله مرقده ـ بإسناده عن سالم بن سلمة قال : قرأ رجل على أبي عبد الله عليه‌السلام وأنا أستمع حروفا من القرآن ليس على ما يقرأها الناس ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : مه كفّ عن هذه القراءة واقرأ كما يقرأ الناس ، حتى يقوم القائم ، فإذا قام قرأ كتاب الله على حدّه وأخرج المصحف الذي كتبه علي عليه‌السلام.

قال : وهذا الحديث وما بمعناه قد أظهر العذر في تلاوتنا هذا المصحف والعمل بأحكامه.

وثانيها : أنّ المصاحف لمّا كانت متعدّدة لتعدّد كتّاب الوحي عمد الأعرابيان إلى انتخاب ما كتبه عثمان وجملة ما كتبه غيره ، وجمعوا الباقي في قدر فيه ماء حار فطبخوه.

قال : ولو كانت تلك المصاحف كلّها على نمط واحد لما صنعوا هذا الشنيع الذي صار عليها من أعظم المطاعن.

وثالثها : أنّ المصاحف كانت مشتملة على مدائح أهل البيت عليهم‌السلام صريحا ، ولعن المنافقين وبني اميّة ، نصّا وتلويحا. فعمدوا أيضا إلى هذا ورفعوه من المصاحف حذرا من

١٧٣

الفضائح وحسدا لعترته صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ورابعها : ما ذكره الثقة الجليل علي بن طاووس رحمه‌الله في كتاب سعد السعود عن محمد بن بحر الرهني ـ من أعاظم علماء العامّة ـ في بيان التفاوت في المصاحف التي بعث بها عثمان إلى أهل الأمصار. وعدد ما وقع فيها من الاختلاف بالكلمات والحروف ، مع أنّها كلّها بخطّ عثمان!

قال : فإذا كان هذا حال اختلاف مصاحفه التي هي بخطّه فكيف حال غيرها من مصاحف كتّاب الوحي والتابعين!؟

وأمّا العصر الثاني فهو زمن القرّاء ، وذلك أنّ المصحف الذي وقع إليهم خال من الإعراب والنقط كما هو الآن موجود في المصاحف التي هي بخطّ مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام وأولاده المعصومين عليهم‌السلام. وقد شاهدت عدّة منها في خزانة الرضا عليه‌السلام.

قال : وبالجملة لمّا وقعت إليهم المصاحف على ذلك الحال تصرّفوا في إعرابها ونقطها وإدغامها وإمالتها ونحو ذلك من القوانين المختلفة بينهم على ما يوافق مذاهبهم في اللغة والعربيّة ... (١)

قلت : ولعلّ مواضع الخلط في كلامه هذا واضحة ، تغنينا عن تكلّف الردّ عليه.

انظر إلى مبلغ علم الرجل بتاريخ جمع القرآن ، يقول : إنّ عليا عليه‌السلام لمّا جاء بمصحفه إلى القوم ، قام الثاني وقال : يكفينا مصحف عثمان؟! ، أين كان موضع عثمان يومذاك من جمع القرآن؟!

ويقول : كانت المصاحف المرسلة إلى الآفاق كلّها بخطّ يد عثمان؟! وهل كان عثمان يكتب المصاحف بخطّ يده؟!

وتارة يقول : إنّ عمر أحرق مصحف ابن مسعود وأراد إحراق مصحف عليّ أيضا ، واحتال في ذلك فلم يقدر.

واخرى يقول : إنّ أبا بكر وعمر هما اللذان أحرقا المصاحف وانتخبا ما جمعه عثمان

__________________

(١) ـ منبع الحياة ، ص ٦٨ ـ ٧٠ ، ط بغداد. والمطبوعة ببيروت مع رسالة «الشهاب الثاقب» للفيض الكاشاني ، ص ٦٦ ـ ٦٩.

١٧٤

في مصحفه ، فجعلوها في قدر وطبخوها!!

والأغرب أنّه يقول : إنّ هناك مصاحف كثيرة منتشرة كلّها بخطّ الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام!! كأنّ الإمام كان متفرّغا لكتابة المصاحف تلكم التي جمعها غيره!!

وأخيرا فإنّه يجعل من اختلاف القراءات دليلا على تحريف القرآن؟!

وقد أسبقنا ـ في بحث القراءات ـ أنّ القرآن شيء والقراءات شيء آخر.

والعمدة استناده إلى لفيف من روايات زعمها متواترة ووافية بإثبات المطلوب ، وذكر منها نماذج حسبها من أجلى الدلائل النقليّة لإثبات المقصود.

ونحن إذ نأتي على روايات الباب جملة وإفرادا في مجاله المناسب الآتي ، نحاول نقد هذه النماذج عاجلا ليتبيّن وهن مستمسك القوم فيما عرضوه من روايات. إذ ما دلّ منها على التحريف لا أسناد له صالحا للاعتبار ، وما صحّ سنده لا مساس له بمسألة التحريف. وعليه فقس ما سواه.

* * *

أمّا حديث إسقاط ثلث القرآن من آية النساء : ٣ ، فهذا ممّا تفرّد بنقله صاحب الاحتجاج (١) نقلا مرسلا على عادته في إيراد المراسيل ونقل المجاهيل ، ومن ثمّ فإنّ كتابه غير صالح للاعتماد ولم يعتمده الأصحاب ، حتى أنّ السيد هاشم البحراني (ت ١١٠٧) لم يعتبره ولم يورد الحديث في تفسيره «البرهان» الذي وضعه على أساس جمع الأحاديث الواردة بشأن الآيات.

وهكذا لم يذكره العياشي (ت ٣٢٠) ولا القمي (ت ٣٢٩) ولا غيرهما من أصحاب التفسير بالمأثور!

هذا فضلا عن جهالة مؤلّف الكتاب ، سوى أنّه طبرسي ، وقد ذكر السيد بحر العلوم ستة من المعاريف ممّن يحتمل انتساب الكتاب إليه (٢) ولعلّه طبرسي آخر من أهل طبرستان أو

__________________

(١) ـ راجع : ج ١ ، ص ٣٧٧. وهو منسوب إلى أبي منصور أحمد بن علي الطبرسي (ت ٦٢٠).

(٢) ـ مقدّمة كتاب الاحتجاج ، ص ه.

١٧٥

تفرش المعرّب إلى طبرس ، كما ذكره أهل التحقيق. (١)

ثمّ إنّ الحديث مستنكر لا يستسيغه العقل ولا الشرع الحنيف. جاء فيه : «وبين القسط في اليتامى وبين نكاح النساء ، من الخطاب والقصص أكثر من ثلث القرآن» يعني أنّ تلك الكمّية العظيمة (ما ينوف على ألفي آية) من الخطابات والقصص كانت ضمن آية واحدة هي الآية الثالثة من سورة النساء ، فأسقطها المنافقون! ولماذا؟!

ويقول : وهذا وما أشبهه ممّا ظهرت حوادث المنافقين فيه لأهل النظر والتأمّل ، ووجد المعطّلون وأهل الملل المخالفة مساغا إلى القدح في القرآن. ولو شرحت لك كلّ ما اسقط وحرّف وبدّل ممّا يجري هذا المجرى لطال ، وظهر ما تحظر التقيّة إظهاره! (٢)

ويقول ـ قبل ذلك ـ : وليس يسوغ مع عموم التقيّة التصريح بأسماء المبدّلين ولا الزيادة في آياته على ما أثبتوه من تلقائهم في الكتاب ، لما في ذلك من تقوية حجج أهل التعطيل والكفر والملل المنحرفة وإبطال هذا العلم الظاهر ـ إلى أن يقول ـ : فحسبك من الجواب في هذا الموضع ما سمعت فإنّ شريعة التقيّة تحظر التصريح بأكثر منه! (٣)

إن هذا إلّا تناقض صريح ، كيف تمنعه التقيّة عن الإفشاء ، وقد أكثر من الإفشاء بشأن الكتاب تجاه زنادقة كانوا من خارجي الملّة ومن أهل الطعن في الدين!

هذا فضلا عن نبوء اسلوب هذا الحديث عن أساليب كلام الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام البليغ البديع الذي هو تلو كلامه تعالى المعجز الوجيز.

والأرجح في النظر أنّ هذا الحديث ـ على طوله وتفنّنه ـ من وضع بعض أهل الجدل في الكلام ، ناقش فيه ما ذكره أهل الزندقة عيبا على اسلوب القرآن ، فأجاب ، وفق معلوم ذهنه وعلى مستوى ذهنيّته الخاصّة ، ناسبا له إلى الإمام تعبيرا على العوامّ!

وأمّا حديث كنتم خير أئمّة! (سورة آل عمران : ١١٠) فقد رواه القمي مسندا ، وجاء في تفسير العياشي مرسلا عن الصادق عليه‌السلام قال : هكذا نزلت! وهذا يحتمل أمرين ، الأوّل :

__________________

(١) ـ هامش تصحيح الاعتقاد ، ص ١٢٦.

(٢) ـ الاحتجاج ، ج ١ ، ص ٢٧٨ ـ ٣٧٧.

(٣) ـ المصدر ، ص ٣٧١.

١٧٦

أنّها القراءة الصحيحة ، ففي مرسلة العياشي : أنّها في قراءة علي عليه‌السلام كذا (١) ولا يخفى أنّ مسألة اختلاف القراءة لا تمسّ مسألة التحريف ، على ما أسلفنا في بحث القراءات.

هذا مضافا إلى أنّ القرآن لا يمكن إثباته ـ في شيء من آياته وسوره ـ بخبر الواحد ، حتى ولو كان صحيح الإسناد!

الثاني : أنّ مخاطبة الامّة في هذه الآية يراد بها الخطاب مع أئمّتها ، بدليل أنّهم المسؤولون عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مسؤولية بالذات. وهكذا جاء الاستدلال في حديث القمي. (٢)

وعليه فالمقصود من النزول بيان مورد النزول وشأنه ، وهو عبارة اخرى عن تفسير الآية بذلك. فإنّ التنزيل قد يقابل مع التأويل ، ويكون المراد منه هو التفسير ، وسيجيء مزيد تحقيق عن ذلك.

والأرجح هو الاحتمال الأخير ، نظرا لروايات اخرى فسّرت الآية بذلك.

قال الصادق عليه‌السلام : يعني الامّة التي وجبت لها دعوة إبراهيم. فهم الامّة التي بعث الله فيها ومنها وإليها. وهم الامّة الوسطى وهم خير امّة اخرجت للناس. رواها العياشي في تفسيره.

ونحن إذا قارنّا هذه الآية مع الآية السابقة عليها : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (٣) ـ حيث المراد من الامّة فيها هم بعض الامّة ، بدليل «منكم» ـ كان المقصود من الامّة الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر ، في كلتا الآيتين هم الأئمّة الذين يشكّلون زعامة الامّة ويتحمّلون مسؤولية قيادتها.

وقد روى الكليني بإسناده عن الصادق عليه‌السلام وقد سئل عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أواجب هو على الامّة جميعا؟ قال : لا ، قيل : ولم؟ قال : إنّما هو على القويّ المطاع ، العالم بالمعروف والمنكر ، لا على الضعيف الذي لا يهتدي سبيلا إلى أيّ من أيّ يقول من

__________________

(١) ـ تفسير العياشي ، ج ١ ، ص ١٩٥.

(٢) ـ تفسير القمي ، ج ١ ، ص ١١٠.

(٣) ـ آل عمران ٣ : ١٠٤.

١٧٧

الحقّ إلى الباطل.

قال عليه‌السلام : والدليل على ذلك كتاب الله عزوجل قوله : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ). قال : فهذا خاصّ غير عام. كما قال الله عزوجل : (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) (١) ولم يقل : على امّة موسى ولا على كلّ قومه ، وهم يومئذ امم مختلفة ، والامّة واحد فصاعدا ، كما قال الله عزوجل : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً) (٢) يقول : مطيعا لله عزوجل. وليس على من يعلم في هذه الهدنة من حرج ، إذا كان لا قوّة له ولا عدد ولا طاعة. (٣)

انظر إلى هذا التعبير الرقيق ، كيف يجعل مسؤولية الامّة على عاتق الأئمّة ، استخراجا من الآيات الكريمة في استدلال لطيف.

وعليه فالحديث ـ على كلا الوجهين ـ لا مساس له بمسألة التحريف!

* * *

وأمّا سقط اسم علي عليه‌السلام في آية البلاغ والكمال (المائدة : ٣ و ٦٧) فقد روى العياشي في تفسيره عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : نزل جبرئيل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعرفات يوم الجمعة ، فقال له : يا محمّد! إنّ الله يقرؤك السلام ويقول لك : قل لامّتك : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) ـ بولاية علي بن أبي طالب ـ (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً). (٤)

فهذا تفسير للكمال والتمام ، لا جزء من الآية كما زعم.

فقد روى الكليني بإسناده المتّصل عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال في حديث الفرائض : ثمّ نزلت الولاية ، وإنّما أتاه ذلك في يوم الجمعة بعرفة أنزل الله تعالى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي). قال : وكان كمال الدين بولاية علي بن أبي طالب عليه‌السلام. (٥)

فقد صرّح الإمام عليه‌السلام بأنّ الكمال في الآية إنّما حصل بإبلاغ ولاية الأمر لأمير

__________________

(١) ـ الأعراف ٧ : ١٥٩.

(٢) ـ النحل ١٦ : ١٢٠.

(٣) ـ تفسير البرهان ، ج ١ ، ص ٣٠٧ ـ ٣٠٨.

(٤) ـ تفسير العياشي ، ج ١ ، ص ٢٩٣ ، رقم ٢١.

(٥) ـ تفسير البرهان ، ج ١ ، ص ٤٨٨ ، رقم ١.

١٧٨

المؤمنين عليه‌السلام فهو تفسير للآية بحصول الموجب.

وروى الحاكم الحسكاني بإسناده المتّصل عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليه‌السلام في حديث الفرائض ، قال : ثمّ هبط جبرئيل فقال : إنّ الله يأمرك أن تدلّ امّتك على وليّهم على مثل ما دللتهم عليه من صلاتهم وزكاتهم وصيامهم وحجّهم ، ليلزمهم الحجّة من جميع ذلك. فقال رسول الله : إنّ قومي قريبو عهد بالجاهلية وفيهم تنافس وفخر ، وما منهم رجل إلّا وقد وتره وليّهم وإنّي أخاف. فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) ـ يريد : فما بلّغتها تامّة ـ (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ). (١)

انظر كيف تكلّم الإمام خلال الآية وفسّرها في الأثناء. غير أنّ المستمع ينبغي أن يكون عاقلا!

* * *

وأمّا ما زعمه السيّد الجزائري من استفاضة الأخبار بأنّ آية التبليغ نزلت هكذا : «يا أيّها الرّسول بلّغ ما انزل إليك ـ في عليّ ـ فإن لم تفعل فما بلّغت رسالاته» (٢) بزيادة «في علي» وبإسقاط «من ربّك» ، وبتبديل الواو فاء في «فإن» ، وبصيغة الجمع في «رسالاته» هكذا!! فلم نجده في مصنّفات أصحابنا ، لا التفاسير ولا كتب المناقب ولا جوامع الحديث.

ففي تفسير القمي : قوله (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) قال : نزلت هذه الآية في علي (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ ...). (٣)

وفي تفسير الفيض : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) يعني في عليّ صلوات الله عليه. فعنهم عليهم‌السلام : كذا نزلت. (٤) أي بشأن ولاية علي وإمرته عليه‌السلام.

وهكذا سائر التفاسير المتقيّدة بالتفسير وفق المأثور.

وأيضا روى ابن شهر آشوب عن تفسير الثعلبي : قال جعفر بن محمد عليه‌السلام : معنى قوله

__________________

(١) ـ شواهد التنزيل ، ج ١ ، ص ١٩١.

(٢) ـ رسالة منبع الحياة للجزائري ، ص ٦٨.

(٣) ـ تفسير القمي ، ج ١ ، ص ١٧١.

(٤) ـ الصافي في تفسير القرآن ، ج ١ ، ص ٤٥٦.

١٧٩

تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) في فضل علي عليه‌السلام. وعن ابن عباس : نزلت الآية في علي عليه‌السلام.

وأيضا روى الثعلبي عن أبي جعفر محمد بن علي عليه‌السلام قال : معنى الآية ، بلّغ ما انزل إليك من ربّك في علي عليه‌السلام. (١)

وعليه فالروايات بشأن آية التبليغ متظافرة بأنّها نزلت فيه عليه‌السلام. وليس في شيء منها أنّ «في علي» كان جزء من الآية في نصّ الوحي.

نعم جاءت في قراءة ابن مسعود : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) ـ أنّ عليا مولى المؤمنين ـ (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ).

قال ابن مسعود : هكذا كنّا نقرأ الآية على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. أخرجه السيوطي في التفسير (٢) وأخرجه علي بن عيسى الأربلي (٦٩٣) في باب ما نزل فيه عليه‌السلام من القرآن ، عن زرّ بن حبيش عن ابن مسعود. (٣)

وقد أسلفنا فيما سبق أنّ الظاهر أنّه أراد تفسير الآية بذلك ، وأنّه كانت الآية تفسّر على عهده صلى‌الله‌عليه‌وآله كذلك. (٤)

* * *

وبعد ، فهذه من أبرز محاولات القوم بشأن إثبات التحريف ، وقد عرض الجزائري أهمّ نماذجها في دعوى الاستفاضة والتواتر. لكنّا لم نجد منه سوى تهريج عارم لا تحتوي على شيء. (كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً). (٥)

نعم ، كلّ ما يملك القوم إنّما هو حديث «سقوط الثلث» المشتمل على جلّ ما زعموه دليلا على التحريف ، وقد تفرّد بنقله صاحب الاحتجاج من غير إسناد ، مع جهالة صاحب الكتاب.

__________________

(١) ـ راجع : تفسير البرهان للبحراني ، ج ١ ، ص ٤٩٠.

(٢) ـ الدرّ المنثور ، ج ٢ ، ص ٢٩٨.

(٣) ـ كشف الغمّة ، ج ١ ، ص ٣١٩.

(٤) ـ التمهيد ، ج ١ ، «وصف مصحف ابن مسعود» ، الجهة السادسة.

(٥) ـ النور ٢٤ : ٣٩.

١٨٠