صيانة القرآن من التحريف

الشيخ محمّد هادي معرفة

صيانة القرآن من التحريف

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


المحقق: مؤسسة التمهيد
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-90596-0-0
الصفحات: ٢٧٢

أخرج أبو عبيد عن عبد الله بن عمر ، قال : لا يقولنّ أحدكم : قد أخذت القرآن كلّه ، ما يدريه ما كلّه؟ قد ذهب منه قرآن كثير. ولكن ليقل : قد أخذت منه ما ظهر! (١)

لا ندري كيف ذهب؟! ومتى ذهب؟! ولم ذهب؟!

وقد قال تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ). (٢)

أو لعلّ ذهنية ابن عمر كانت متأثّرة بما اشتهر من ذهاب القرآن بذهاب أكثرية القرّاء يوم اليمامة ، على ما قيل.

٧ ـ ذهاب القرآن بذهاب حملته يوم اليمامة؟

روى ابن أبي داود عن ابن شهاب ، قال : بلغنا أنّه كان انزل قرآن كثير ، فقتل علماؤه يوم اليمامة ، الذين كانوا قد وعوه ، ولم يعلم بعدهم ولم يكتب ...! (٣)

لكن هل كان القرآن محصورا في صدور اولئك القرّاء دون غيرهم من كبار الأصحاب ولا سيّما القرّاء المعروفون منذ عهد النبوّة ولم يزالوا بعد على قيد الحياة؟!

٨ ـ زيادة كانت في مصحف عائشة وحفصة!

كانت عائشة قد عهدت إلى أبي يونس مولاها أن يكتب لها مصحفا ـ أي يستنسخ على أحد المصاحف المعروفة حينذاك ـ وقالت له : إذا بلغت الآية (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) (٤) فآذنّي. قال أبو يونس : فلمّا بلغتها آذنتها ، فأملت عليّ «حافظوا على الصّلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر». قالت : سمعتها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. (٥)

وهكذا أخرج مالك وأبو عبيد وعبد بن حميد وأبو يعلي وابن جرير وابن الأنباري في

__________________

(١) ـ الإتقان ، ج ٣ ، ص ٧٢. عن كتاب فضائل القرآن لأبي عبيد القاسم بن سلام ، ص ١٩٠.

(٢) ـ الحجر ١٥ : ٩.

(٣) ـ منتخب كنز العمال ، ج ٢ ، ص ٥٠.

(٤) ـ البقرة ٢ : ٢٣٨.

(٥) ـ الدرّ المنثور ، ج ١ ، ص ٣٠٢ وفي ط بيروت ، دار الفكر ، ص ٧٢٢. أخرجه مالك وأحمد وعبد بن حميد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن جرير وابن أبي داود وابن الأنباري في المصاحف والبيهقي في سننه عن أبي يونس.

١٤١

المصاحف والبيهقي في سننه عن عمرو بن نافع مولى عمر بن الخطاب ، قال : كنت أكتب مصحفا لحفصة زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالت : إذا بلغت هذه الآية «حافظوا ...» فآذنّي. فلمّا بلغتها آذنتها ، فأملت عليّ «حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر» قالت : أشهد أنّي سمعتها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. (١)

وإضافة على ذلك : زعموا أنّ زيادات كانت في مصحف عائشة فاسقطت يوم توحيد المصاحف على عهد عثمان.

أخرج أبو عبيد بإسناده إلى حميدة بنت أبي يونس ، قالت : قرأ عليّ أبي ـ وهو ابن ثمانين سنة ـ في مصحف عائشة : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً). وعلى الّذين يصلون الصفوف الأوّل». (٢) قالت حميدة : قبل أن يغيّر عثمان المصاحف. (٣) أي كانت هذه الزيادة موجودة إلى ذاك الحين.

والظاهر أنّها توضيحات أو بيان أظهر المصاديق ، سمعتها عائشة وكذا حفصة ـ على فرض صحّة الحديث ـ من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فظّنتها من نصّ الوحي القرآني. وإلّا فهذا الأخير خصوصا ممّا يمجّه الذوق ويمجّه اسلوب القرآن الزاهي!

٩ ـ إسقاط كلمة؟!

وهكذا حسبت عائشة أنّ لفظة «متتابعات» اسقطت من المصحف.

أخرج البيهقي في سننه بالإسناد إلى ابن شهاب عن عروة عن عائشة ، قالت : نزلت الآية (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) متتابعات» (٤) فسقطت «متتابعات»! (٥)

حمل ابن حزم والبيهقي قولها : «سقطت» على إرادة النسخ. أي أنّ وجوب التتابع

__________________

(١) ـ المصدر.

(٢) ـ الأحزاب ٣٣ : ٥٦.

(٣) ـ فضائل القرآن لأبي عبيد القاسم بن سلّام ، ص ١٩٣ ، رقم ١١ ـ ٥١ ؛ والإتقان ، ج ٣ ، ص ٧٣.

(٤) ـ البقرة ٢ : ١٨٤.

(٥) ـ أخرجه عبد الرزاق في المصنف ، ج ٤ ، ص ٢٤١ ـ ٢٤٢ ؛ ومن طريقه الدارقطني في السنن ، ج ٢ ، ص ١٩٢ وقال : هذا إسناد صحيح ؛ والبيهقي في السنن الكبرى ، ج ٤ ، ص ٢٥٨ ؛ والمحلّى لابن حزم ، ج ٦ ، ص ٢٦١ ، م ٧٦٨.

١٤٢

نسخ نسخا للتلاوة والحكم معا.

قلت : لا محمل لهذا الكلام ، بعد امتناع نسخ التلاوة على ما بيّنّاه في مسألة النسخ في القرآن وذكرنا أنّه من غير الممكن أساسا.

على أنّ ظاهر كلامها : أنّ لفظة «متتابعات» اسقطت فيما بعد فيما اسقط من المصحف على عهد الصحابة ولا سيّما على عهد عثمان ، فيما حسبوا ، وقد زيّفناه سلفا.

١٠ ـ آية الرضعات أكلها داجن البيت!

روى مالك ـ في الموطأ ـ بإسناده عن عمرة بنت عبد الرحمان عن عائشة ، قالت : كانت فيما انزل من القرآن «عشر رضعات معلومات يحرّمن» ثمّ نسخن ب «خمس معلومات» فتوفّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهنّ فيما يقرأ من القرآن. (١)

وهكذا روى مسلم في صحيحه عن طريق مالك وعن طريق يحيى بن سعيد. (٢)

ولكن مالكا قال ـ بعد نقل الحديث ـ : وليس على هذا العمل.

وقال الزيعلي ـ تعليقا على رواية مسلم ـ : لا حجّة في هذا الحديث ، لأنّ عائشة أحالتها على أنّه قرآن. وقالت : ولقد كان في صحيفة تحت سريري ، فلمّا مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وتشاغلنا بموته دخل داجن البيت فأكلها!

قال : وقد ثبت أنّه ليس من القرآن لعدم التواتر. ولا تحلّ القراءة به ولا إثباته في المصحف. ولأنّه لو كان قرآنا لكان متلوّا اليوم ، إذ لا نسخ بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله. (٣)

وقد ترك البخاري روايته ، وكذا أحمد في مسنده ، نظرا لغرابته الشائنة.

وللإمام ابن حزم الأندلسي هنا كلام غريب نقلناه آنفا. (٤)

__________________

(١) ـ تنوير الحوالك ، ج ٢ ، ص ١١٨ آخر كتاب الرضاع.

(٢) ـ صحيح مسلم ، ج ٤ ، ص ١٦٧ ؛ والدارمي ، ج ٢ ، ص ١٥٧ ؛ وأبو داود ، ج ٢ ، ص ٢٢٤.

(٣) ـ بهامش مسلم ، ج ٤ ، ص ١٦٧ ؛ والداجن : ما ألف البيت من شاة أو حمام أو دجاج.

(٤) ـ المحلّى ، ج ١١ ، ص ٢٣٤ ـ ٢٣٦. راجع : الجزء الثاني من التمهيد ، «نسخ التلاوة دون الحكم».

١٤٣

١١ ـ آيتان من سورة البيّنة!

نسب إلى ابيّ بن كعب أنّه كانت آيتان من سورة البيّنة فاسقطتا من المصحف ، فقد روى الإمام أحمد بإسناده المتّصل إلى زرّ بن حبيش عن ابيّ بن كعب ، أنّه قال :

قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الله تبارك وتعالى أمرني أن أقرأ عليك. فقرأ عليّ : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ. رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً. فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ. وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ). إنّ الدين عند الله الحنيفيّة غير المشركة ولا اليهوديّة ولا النصرانيّة. ومن يفعل خيرا فلن يكفره ...» (١) قال شعبة ـ راوي الحديث ـ ثمّ قرأ آيات بعدها. ثمّ قرأ : «لو أنّ لابن آدم واديين من مال لسأل واديا ثالثا. ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب». قال : ثمّ ختمها بما بقي منها. (٢)

وبإسناد آخر : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إنّ الله تبارك وتعالى أمرني أن أقرأ عليك القرآن. قال : فقرأ : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ). قال : فقرأ فيها : «ولو أنّ ابن آدم سأل واديا من مال فاعطيه لسأل ثانيا فاعطيه لسأل ثالثا. ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب. ويتوب الله على من تاب. وإنّ ذلك الدين القيّم عند الله الحنيفيّة غير المشركة ولا اليهودية ولا النصرانية. ومن يفعل خيرا فلن يكفره». (٣)

هذا ، والحديث مكذوب عليه قطعيّا ، إذ لو كان كما زعم لوجد في مصحفه ، وقد كان هو المملي للقرآن على عهد عثمان في لجنة توحيد المصاحف ـ على ما أسلفنا في الجزء الأوّل من التمهيد ـ وقد نسب ذلك بعدّة طرق إلى أبي موسى الأشعري حينما خرف في اخريات حياته القذرة ، وسنذكرها. ولعلّها نسبت إلى ابيّ أيضا تخفيفا لوطأة الاكذوبة الثقيلة!

__________________

(١) ـ البيّنة ٩٨ : ١ ـ ٤.

(٢) ـ مسند أحمد ، ج ٥ ، ص ١٣٢. ما بين القوسين هي الزيادة المزعومة.

(٣) ـ المصدر ، ص ١٣١ ـ ١٣٢.

١٤٤

والغريب أنّهم ذكروا حديث عدم ملاء جوف ابن آدم ، على أشكال وتعابير ونسبوه (تارة) إلى كلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كما في الرواية عن أنس. (١) وهكذا أخرجه أبو نعيم الإصبهاني من حديث ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس ، أنّه سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «لو أنّ لابن آدم واديين من ذهب لابتغى إليهما ثالثا ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب ، ويتوب الله على من تاب» ، قال : هذا حديث صحيح متّفق عليه. (٢)

(واخرى) إلى كونه من القرآن كما في الرواية عن أبي موسى وابن كعب. (وثالثة) إلى الحديث القدسي ـ ولعلّه الأصحّ ـ كما في الرواية عن أبي واقد الليثي :

روى أحمد بإسناده إلى عطاء بن يسار عن أبي واقد ، قال : كنّا نأتي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا انزل عليه ـ يعني الوحي سواء كان قرآنا أم غيره ـ فيحدّثنا. فقال لنا ذات يوم : «إنّ الله عزوجل قال : إنّا أنزلنا المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة. ولو كان لابن آدم واد لأحبّ أن يكون إليه ثان ، ولو كان له واديان لأحبّ أن يكون إليهما ثالث. ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب. ثمّ يتوب الله على من تاب». (٣)

١٢ ـ آيتان لم تكتبا في المصحف!

أخرج أبو عبيد بإسناده إلى أبي سفيان الكلاعي (مجهول) عن مسلمة بن مخلّد الأنصاري (كان لم يتجاوز العاشرة عند وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله) أنّه قال يوما : أخبروني بآيتين في القرآن لم يكتبا في المصحف (المصحف اصطلاح حادث أيّام الخلفاء) فلم يخبروه ، وعندهم أبو الكنّود سعد بن مالك! فقال مسلمة : «إنّ الّذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم. ألا أبشروا أنتم المفلحون. والّذين آووهم ونصروهم وجادلوا عنهم القوم الّذين غضب الله عليهم. اولئك لا تعلم نفس ما اخفي لهم من قرّة أعين جزاء بما كانوا يعلمون». (٤)

__________________

(١) ـ صحيح مسلم ، ج ٣ ، ص ٩٩ ـ ١٠٠.

(٢) ـ حلية الأولياء ، ج ٣ ، ص ٣١٦ في ترجمة عطاء برقم ٢٤٤.

(٣) ـ مسند الإمام أحمد ، ج ٥ ، ص ٢١٩.

(٤) ـ الإتقان ، ج ٣ ، ص ٧٤.

١٤٥

يا للمهزلة! تلفيق باهت وزيادة مفضوحة لا تتناسب واسلوب القرآن البديع! ولعلّ مسلمة (وقد تولّى مصر من قبل يزيد بن معاوية ومات بها سنة اثنتين وستين) كأخيه الأشعري ، قال ذلك في اخريات أيّام حياته عند ما خرف وسخف عقله!

١٣ ـ سورة كانت تعادل براءة واخرى تشبه المسبّحات!

كان أبو موسى الأشعري معروفا بالحمق والشذوذ العقلي ولا سيّما في اخريات حياته حيث زاد سخفا وخرفا ، فكانت له مواقف سفيهة وأحيانا مضادة مع مصالح الإسلام والمسلمين. كان يوم الجمل يثبّط الناس عن الخروج مع أمير المؤمنين عليه‌السلام.

وموقفه مع ابن العاص يوم التحكيم معروف. ومن ذلك أيضا نظرته السيّئة في كتاب المسلمين القرآن الكريم ، كان يرى تحريفا وسقطا كثيرا في كتاب الله العزيز الحميد.

فقد أخرج مسلم في صحيحه بإسناده عن أبي الأسود ، قال : بعث أبو موسى الأشعري إلى قرّاء أهل البصرة ، فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرأوا القرآن. فقال : أنتم خيار أهل البصرة وقرّاؤهم ، فاتلوه ولا يطولنّ عليكم الأمد فتقسو قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم.

قال : وإنّا كنّا نقرأ سورة كنّا نشبّهها في الطول والشدّة ببراءة فأنسيتها ، غير أنّي قد حفظت منها : «لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا. ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب».

وكنّا نقرأ سورة كنّا نشبّهها بإحدى المسبّحات فأنسيتها ، غير أنّي حفظت منها : «يا أيّها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون. فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة». (١)

هكذا كان يسيء الظنّ بالقرآن ، يا له من جزاف القول ، ولا مشابهة بين ما ذكره وبديع كلامه تعالى! فقد روى مسلم بعدّة أسانيد ، أنّه من حديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله. وهكذا في رواية

__________________

(١) ـ صحيح مسلم ، ج ٣ ، ص ١٠٠.

١٤٦

أبي نعيم الإصبهاني كما أسلفنا. (١) وفي رواية أحمد بإسناده عن أبي واقد الليثي : أنّه من الحديث القدسي (٢) ولعلّه لذلك اشتبه الأمر على الأشعري. وقد سبق ذلك عند الكلام عمّا نسب إلى أبيّ بن كعب برقم ١١.

١٤ ـ سورة الأحزاب كانت أطول من البقرة!

وأيضا نسب إلى أبيّ بن كعب ـ زورا ـ أنّه كان يعتقد من سورة الأحزاب أنّها كانت لتضاهي سورة البقرة أو أطول منها.

روى أحمد بن حنبل بإسناده عن زرّ بن حبيش عن أبيّ بن كعب ، قال : كم تقرأون (أو كأيّن تعدّون) سورة الأحزاب؟ قلت : ثلاثا وسبعين آية. قال : قط! لقد رأيتها وأنّها لتعادل سورة البقرة (أي ما يقرب من مائتين وثمانين آية ، أربعة أضعاف الموجود!) وفيها آية الرجم! قال زرّ : قلت وما آية الرجم؟ قال : «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم». (٣)

وفي منتخب كنز العمال : إنّها كانت لتضاهي سورة البقرة أو هي أطول منها. (٤)

وفي حديث عروة عن خالته عائشة ، قالت : كانت سورة الأحزاب تقرأ زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مائتي آية ، فلمّا كتب عثمان المصاحف ، لم نقدر منها إلّا على ما هو الآن. (٥) وكانت تزعم منها آية الرجم : «الشيخ والشيخة فارجموهما البتة بما قضيا من اللذّة». (٦)

قلت : الحديث موضوع عن لسان الصحابي الكبير ابيّ بن كعب ، إذ لم يعهد من مصحفه الاختلاف مع مصاحف الآخرين بذلك ولا احتماله أصلا. ولعلّهم وضعوا ذلك عن لسانه متأخّرا تأييدا لما كان يزعمه عمر بشأن آية الرجم ليخرج عن الانفراد. لا سيّما وأنّهم عمدوا إلى وضع إسناد يشكّله أقطاب الشيعة الأجلّاء ، كيزيد بن أبي زياد الهاشمي

__________________

(١) ـ المصدر ، ص ٩٩ ـ ١٠٠ ؛ وحلية الأولياء ، ج ٣ ، ص ٣١٦.

(٢) ـ مسند أحمد ، ج ٥ ، ص ٢١٩.

(٣) ـ المصدر ، ص ١٣٢ ؛ والإتقان ، ج ٣ ، ص ٧٢.

(٤) ـ منتخب كنز العمال ، ج ٢ ، ص ٤٣.

(٥) ـ الإتقان ، ج ٣ ، ص ٧٢.

(٦) ـ المصدر.

١٤٧

نقيب البصرة ، قال ابن حجر : كان من أئمّة الشيعة الكبار ، (١) عن زرّ بن حبيش الكوفي المخضرم من أصحاب علي عليه‌السلام ذا مكانة سامية يتقدّم الجميع كما قال عاصم (٢) عن ابيّ بن كعب الصحابي الجليل سيّد القرّاء ومن النفر الذين ثبتوا مع علي عليه‌السلام يوم السقيفة. (٣)

أمّا عائشة فكانت بينها وبين عثمان نفرة ، ولعلّها أرادت النكاية به ولكنّها في تعبير لم يحمد عقباه!

١٥ ـ دعاء القنوت

وممّا ألصقوه بهذا الصحابي الكبير زيادة سورتين في آخر مصحفه ، هما : سورتا الخلع والحفد. على ما سبق في الجزء الأوّل من كتابنا «التمهيد» ، في وصف مصحف أبيّ بن كعب.

والظاهر أنّهما دعاء ان كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد يقنت بهما في صلاته ـ إن صحّت الرواية ـ فأثبتهما ابيّ في آخر مصحفه ، كما هي العادة من ثبت بعض الدعوات في آخر المصاحف. أمّا كونه معتقدا أنّهما سورتان قرآنيتان فهو احتمال بعيد ، لا سيّما وعدم تناسب نظمهما مع نظم القرآن ، الأمر الذي لم يكن يخفى على مثل ابيّ.

أخرج أبو عبيد عن ابن سيرين ، قال : كتب ابيّ بن كعب في مصحفه فاتحة الكتاب والمعوّذتين واللهمّ إنّا نستعينك واللهمّ إيّاك نعبد ... وتركهنّ ابن مسعود ، وكتب عثمان منهنّ فاتحة الكتاب والمعوّذتين.

قال جلال الدين السيوطي : كتبهما (أي دعائي الخلع والحفد) في آخر مصحفه. (٤)

أمّا ترك ابن مسعود للجميع ، فلأنّه كان يرى من سورة الحمد عدلا للقرآن ، وليست

__________________

(١) ـ تهذيب التهذيب ، ج ١١ ، ص ٣٢٩ ، برقم ٦٣٠.

(٢) ـ المصدر ، ج ٣ ، ص ٣٢٢ ، برقم ٥٩٧.

(٣) ـ راجع : شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ، ج ٢ ، ص ٥١ ـ ٥٢ ؛ وخصال الصدوق ، ص ٤٦١ ، باب ١٢ ، رقم ٤ ؛ ومجالس المؤمنين للقاضي ، ج ١ ، ص ٢٣٢ ؛ وقاموس الرجال ، ج ١ ، ص ٢٣٦.

(٤) ـ الإتقان ، ج ١ ، ص ١٨٤.

١٤٨

منه! وأمّا المعوّذتان فكان يراهما دعائين كالحفد والخلع. (١)

وأمّا عثمان (أي اللجنة المسؤولة عن قبله) فقد أثبت ما كان قرآنا وترك غيره. الأمر الذي يدلّ على معروفية كونهما دعائين.

١٦ ـ سورة براءة ما بقي سوى ربعها!

زعم مالك بن أنس أنّ سورة براءة كانت تعدل سورة البقرة ، وقد اسقط من أوّلها ، فاسقطت البسملة فيما اسقط.

قال جلال الدين السيوطي : قال مالك : إنّ أوّلها لمّا سقط سقط معه البسملة ، فقد ثبت أنّها كانت تعدل البقرة لطولها. (٢)

وأخرج الحاكم بإسناد زعمه صحيحا عن حذيفة بن اليمان الصحابي الجليل ، أنّه قال : ما تقرأون ربعها ، يعني ربع براءة. وأنّكم تسمّونها سورة التوبة وهي سورة العذاب. (٣)

وفي رواية اخرى : التي تسمّون سورة التوبة هي سورة العذاب. والله ما تركت أحدا إلّا نالت منه. ولا تقرأون إلّا ربعها. (٤)

وقد قيل قديما : الكذوب تخونه ذاكرته. سورة براءة تشتمل على مائة وتسعة وعشرين آية نصف آي البقرة تقريبا المشتملة على مائتين وست وثمانين آية. فكيف يخفى ذلك على مثل حذيفة ، بل وعلى مثل مالك! هذا أوّلا.

وثانيا : ما هي الأسماء التي اسقطت ، هل هي أسماء المشركين؟ أم أسماء المنافقين؟ ومتى اسقطت؟ هل في حياة الرسول أم بعد وفاته؟ ومن الذي تجرّأ على إسقاطها أهم المشركون الذين بادوا أيادي سبأ؟! أم المنافقون الذين لم يزالوا في خوف الافتضاح؟!

وثالثا : لو كانت سورة براءة بهذا الطول على عهد حذيفة لكانت تعدّ من السور الطوال

__________________

(١) ـ راجع : التمهيد ، ج ١ ، «وصف مصحف ابن مسعود» ، الجهة الثانية والثالثة.

(٢) ـ الإتقان ، ج ١ ، ص ١٨٤.

(٣) ـ المستدرك على الصحيحين للحاكم ، ج ٢ ، ص ٣٣٠ ـ ٣٣١.

(٤) ـ الدرّ المنثور ، ج ٣ ، ص ٢٠٨.

١٤٩

ولم يحتجّ عثمان في ثبته لها تلو سورة الأنفال إلى الاعتذار بأنّها كانت من آخر القرآن نزولا وكانت قصّتها شبيهة بقصّتها فظننت أنّها منها ... (١)

ورابعا : كان حذيفة من أوّل الناس دعوة إلى توحيد المصاحف ، وكان هو المحرّض لعثمان يبعثه على القيام بأمر التوحيد ، وقد مرّ ذلك في الجزء الأوّل من التمهيد ، «نماذج من اختلاف العامّة». إذن فكيف يجاهر بما يبعث على الاختلاف والتنقيص بشأن المصاحف الموحّدة؟!

نعم ، إنّها من أكاذيب وضعوها على لسان أنصار أهل البيت (٢) إزراء بشأنهم ولو استلزم ذلك حطّا من كرامة القرآن!!

١٧ ـ تبديل كلمة!

أخرج الحاكم بإسناده عن عبد الله بن مسعود ، أنّه قرأ : «إنّي أنا الرزّاق ذو القوّة المتين». قال : أقرأني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك. (٣)

والآية (٥٨) من سورة الذاريات هي : (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ).

ولعلّ ابن مسعود اشتبهت عليه الآية ، أو بدّلها حسب زعمه من جواز التبديل بما لا يغيّر المعنى (٤) أمّا أنّه كان يرى تحريفا في النصّ المشهور فهو احتمال بعيد!

١٨ ـ زيادة كلمة!

وأخرج عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد ، قالت : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يقرأ : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) (٥) ولا

__________________

(١) ـ راجع : المستدرك على الصحيحين للحاكم ، ج ٢ ، ص ٣٣٠.

(٢) ـ كان حذيفة أوّل من قام لنصرة الحقّ دفاعا عن حقّ الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام يوم السقيفة في لمّة من الصحابة الأخيار. راجع : شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ، ج ٢ ، ص ٥١.

(٣) ـ المستدرك على الصحيحين ، ج ٢ ، ص ٢٣٤ و ٢٤٩.

(٤) ـ راجع : التمهيد ، ج ١ ، «وصف مصحف ابن مسعود» ، الجهة الخامسة.

(٥) ـ الزمر ٣٩ : ٥٣.

١٥٠

يبالي!».

ولعلّ الزيادة في ملحق الآية كانت من كلامه صلى‌الله‌عليه‌وآله توضيحا لموقفه تعالى تجاه عباده التائبين ، إنّه تعالى أرأف بعباده من أن يتحاشا أمرا أو يمنعه شيء.

ومع ذلك فإنّ سند الحديث غير نقي. قال الحاكم : هذا حديث غريب عال ولم أذكر في كتابي هذا عن شهر غير هذا الحديث الواحد قال : وكان الشيخان لا يحتجّان بحديثه. (١) قال ابن حجر : صدوق ولكنّه كثير الإرسال والأوهام. (٢)

١٩ ـ زيادة حرف!

وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس ، أنّه كان يقرأ : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ) (٣) وَضِياءً» بإسقاط الواو ، والقراءة المشهورة : «وضياء».

ونسب إليه أنّه كان يقول : انزعوا الواو من هنا وضعوها ها هنا : في مفتتح الآية رقم ١٧٣ من سورة آل عمران «والذين قال لهم الناس ...» والقراءة المشهورة بدون الواو. (٤)

فقد كان يزعم أنّ «ضياء» حال من المفعول به أي الفرقان. وأنّ الموصول في الآية الثانية عطف على الموصول في الآية قبلها.

قال ابن حجر : هذا إسناد جيّد. (٥)

لكن المقصود من إنزال الفرقان (أي التوراة على موسى وهارون عليهما‌السلام) أمران ، الأوّل : أن يكون فارقا بين الحقّ والباطل في الأحكام والتشريع. الثاني : أن يكون نورا ينير درب الحياة.

أمّا إذا أخذناه حالا فينحصر الغرض في ثاني الأمرين فحسب.

وأمّا الموصول في آية آل عمران فهو عطف بيان كالموصولات في الآيات قبلها ، كلّها بدون واو العطف.

__________________

(١) ـ المستدرك على الصحيحين ، ج ٢ ، ص ٢٤٩ ؛ وراجع : ص ٢٥٦.

(٢) ـ تقريب التهذيب ، ج ١ ، ص ٣٥٥ ، برقم ١١٢.

(٣) ـ الأنبياء ٢١ : ٤٨.

(٤) ـ الدرّ المنثور ، ج ٤ ، ص ٣٢٠.

(٥) ـ فتح الباري ، ج ٨ ، ص ٢٨٣.

١٥١

وإنّا لنربأ بمثل ابن عباس العالم الخبير أن يخفى عليه رعاية وحدة الاسلوب في الكلام البليغ ، بل وننكر أشدّ الإنكار أن يكون معتقدا وجود الخلل في نظم كلمات القرآن ، في القراءة المشهورة المتواترة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كي يحتاج إلى ترميم وإصلاح مثلا! الأمر الذي يتنافى وعقلية حبر الامّة الحكيمة.

٢٠ ـ تبديل حرف!

زعم عبد الله بن عمر أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قرأ : «فطلّقوهنّ من قبل عدّتهنّ» (١) وقراءة المشهور : (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) (٢) واللام هنا بمعنى التوطئة والتمهيد ، أي فليكن الطلاق في وقت يمكن لها الاعتداد منه. بأن يقع الطلاق في طهر غير مواقع ، فتنتهي عدّتها بحيضتين تراهما بعد الطلاق.

ولعلّ ما وقع في كلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله على فرض الصحّة كان تفسيرا للّام ، فزعمه ابن عمر قراءة!

٢١ ـ تبديل هجاء!

أخرج الإمام أحمد عن أبي خلف أنّ عبيد بن عمير سأل عائشة عن قراءة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لهذه الآية (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) (٣) هل قرأها ممدودة (يؤتون ما آتوا ـ مزيدا فيه من باب الإفعال) أم مقصورة (يأتون ما اتوا ـ مجرّدا ثلاثيا).

قالت : أيّتهما أحبّ إليك؟ قال : لإحداهما أحبّ إليّ من حمر النعم! قالت : أيّتهما؟ قال : يأتون ما اتو ـ مقصورا.

قالت : أشهد أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كذلك كان يقرأها ، وكذلك انزلت ، ولكن الهجاء حرف. (٤)

__________________

(١) ـ المستدرك على الصحيحين ، ج ٢ ، ص ٢٥٠.

(٢) ـ الطلاق ٦٥ : ١.

(٣) ـ المؤمنون ٢٣ : ٦٠.

(٤) ـ المسند ، ج ٦ ، ص ٩٥ ؛ والمستدرك على الصحيحين ، ج ٢ ، ص ٢٣٥ و ٢٤٦.

١٥٢

قلت : والقراءة المشهورة ممدودة ، والمعنى : يؤدّون ما أدّوا من أعمال البرّ وفعل الخيرات ، أمّا على قراءة القصر فالمعنى يعملون ما عملوا من خير أو شرّ ، والمعنى على ذلك لا يستقيم!! ومن ثمّ زعمت من الآية أنّها واردة بشأن مرتكبي الآثام ، فسألت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن ذلك وقالت : هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر ، وهو يخاف الله؟ فنهرها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن زعمها وقال : «لا يا عائشة ، ولكنّه الذي يصوم ويصلّي ويتصدّق ويخاف الله» أي غير معجب بنفسه. (١)

والمعتمد هي قراءة المدّ ، التي كان عليها جمهور المسلمين.

٢٢ ـ خطأ في الاجتهاد!

نسب إلى ابن عباس أنّه زعم في قوله تعالى : (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها :) (٢) إنّه من خطأ الكاتب. وإنّما هو «حتّى تستأذنوا وتسلّموا ...».

هكذا رواه الطبري في التفسير ، وصحّحه الحاكم على شرط الشيخين. (٣)

فقد زعم الزاعم أنّ شرط الدخول هو الاستيذان ، وأمّا الاستيناس فهو بعد الدخول!

لكن في التعبير بالاستيناس بدل الاستيذان نكتة دقيقة ، هي :

إنّ المستأذن إذا لم يواجه بالحفاوة والترحاب من أهل الدار فإنّه لم يصحّ له الدخول ، فلعلّه من المأخوذ بالحياء ، فإذا استأنس منهم الرضا وطيب النفس فعند ذلك يدخل بسلام.

الأمر الذي لم يكن يخفى على مثل ابن عباس الرجل الخبير بدقائق الكلام.

٢٣ ـ اجتهاد في مقابلة النصّ!

وهكذا زعم ـ فيما نسب إليه ـ في قوله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ

__________________

(١) ـ راجع : الإتقان ، ج ٤ ، ص ٢٣٨.

(٢) ـ النور ٢٤ : ٢٧.

(٣) ـ جامع البيان ، ج ١٨ ، ص ٨٧ ؛ والمستدرك على الصحيحين ، ج ٢ ، ص ٣٩٦.

١٥٣

وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) (١) إنّ الذي انزل على لسان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله «ووصّى ربّك ...» غير أنّ الكاتب استمدّ مدادا كثيرا فالتزقت الواو بالصاد. (٢) هذا مع العلم أنّ المصاحف يومذاك كانت خالية عن النقط والشكل.

قال : ولو نزلت على القضاء ما أشرك به أحد.

قيل : وسئل الضحّاك عن هذا الحرف ، قال : ليس كذلك نقرأها نحن ولا ابن عباس. إنّما هي : «ووصّى ربّك ...» وكذلك كانت تقرأ وتكتب ، فاستمدّ كاتبكم فاحتمل القلم مدادا كثيرا فالتزقت الواو بالصاد. ثمّ قرأ : (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ). (٣)

قال : ولو كانت قضى من الربّ لم يستطع أحد ردّ قضائه. ولكنّه وصية أوصى بها العباد! (٤)

لكنّها نظرة فاسدة تجاه إجماع الامّة ، ولعلّه من الاجتهاد في مقابلة النصّ!

إنّ القضاء من الله على نحوين : قضاء تكوين وقضاء تشريع ، فالذي لا يمكن ردّه هو القضاء في التكوين ، «لا رادّ لقضائه» : (وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ). (٥)

أمّا القضاء في التشريع فهو عبارة عن التكليف أمرا ونهيا ، بعثا وزجرا ، والعباد مختارون في الإطاعة والعصيان ، اختيارا لمصلحة الاختبار. إذ لا تكليف لو لا الاختيار. قال تعالى : (إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً) (٦) أي حكم حكما إلزاميا باتا. وهكذا معنى الآية : إنّه تعالى أمر أمرا باتا لا تعلّل في وجوب امتثاله!

٢٤ ـ زعم فاسد!

وأخرج الطبري في التفسير عن ابن عباس أنّه كان يقرأ : (أَفَلَمْ) (يتبيّن) (الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ

__________________

(١) ـ الإسراء ١٧ : ٢٣.

(٢) ـ الدرّ المنثور ، ج ٤ ، ص ١٧٠.

(٣) ـ النساء ٤ : ١٣١.

(٤) ـ الإتقان ، ج ٢ ، ص ٢٧٥ ـ ٢٧٦.

(٥) ـ البقرة ٢ : ١١٧.

(٦) ـ الأحزاب ٣٣ : ٣٦.

١٥٤

لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً). (١) قيل له : إنّه في المصحف (أَفَلَمْ يَيْأَسِ ..). قال : أظنّ الكاتب كتبها وهو ناعس!

وقال ابن جريج : زعم ابن كثير وغيره أنّها في القراءة الاولى «أفلم يتبيّن ...». (٢)

قال ابن حجر : هذا الحديث رواه الطبري بإسناد صحيح ، كلّهم من رجال البخاري. (٣)

هكذا نسبوا إلى حبر الامّة زعم الغفلة في كاتب المصحف الشريف!

وقد بالغ الزمخشري في الإنكار على صحّة هذا الأثر ، قال :

وقيل : إنّما كتبه الكاتب ، وهو ناعس ، مستوى السينات!

ولكن ، هذا ونحوه ممّا لا يصدّق بشأن كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه! وكيف يخفى مثل هذا حتّى يبقى ثابتا بين دفّتي الإمام ، وكان متقلّبا في أيدي اولئك الأعلام المحتاطين في دين الله ، المهيمنين عليه ، لا يغفلون عن جلائله ودقائقه ، خصوصا عن القانون الذي إليه المرجع والقاعدة التي عليها البناء ، وهذه والله فرية ما فيها مرية. (٤)

هذا كلام هذا المحقّق المتفرّد في الأدب والتفسير.

لكن مثل ابن حجر ـ مع كونه من أئمّة النقد والتمحيص ـ قد أعجبته صحّة السند حسب اصطلاح القوم ، فرجّح النقل على العقل الرشيد ، وأخذ بالمظنون وترك المقطوع به!

قال ـ ردّا على كلام الزمخشري ـ : هذا إنكار من لا علم له بالرجال ، وتكذيب المنقول بعد صحّته ليس من دأب أهل التحصيل ، فلينظر في تأويله بما يليق. (٥)

قلت : بماذا يؤوّل نسبة النعاس والغفلة إلى كاتب المصحف ، وكيف يحتمل أنّه أراد أن يكتب «يتبيّن» فكتب «ييأس» ذهولا؟!

ثمّ كيف يمكن تخطئة قراءة جمهور المسلمين التي ورثوها كابرا عن كابر عن النبي

__________________

(١) ـ الرعد ١٣ : ٣١.

(٢) ـ جامع البيان ، ج ١٣ ، ص ١٠٤.

(٣) ـ فتح الباري ، ج ٨ ، ص ٢٨٢.

(٤) ـ الكشاف ، ج ٢ ، ص ٥٣٠ ـ ٥٣١.

(٥) ـ فتح الباري ، ج ٨ ، ص ٢٨٢.

١٥٥

الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله!

إن هو إلّا زعم فاسد وفرية ما فيها مرية!

٢٥ ـ أربعة أحرف لحن!

زعم من لا اضطلاع له بالأدب أنّ في القرآن مواضع فيها لحن ، وأنّ الصواب غيره ، حسب معرفته الناقصة عن قواعد الكلام.

ومن ذلك ما زعمه عروة بن الزبير بشأن الآيات الثلاث التالية :

١ ـ في سورة طه : ٦٣ (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) برفع اسم إنّ!

٢ ـ في سورة المائدة : ٦٩ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ) برفع المعطوف على اسم إنّ!

٣ ـ في سورة النّساء : ١٦٢ (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) عطفا على (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ ...).

قال : سألت عائشة عن ذلك ، فقالت : يا ابن اختي ، هذا عمل الكتّاب أخطأوا في الكتابة!

قال جلال الدين السيوطي : إسناد صحيح على شرط الشيخين. (١)

٤ ـ وأسندوا إلى التابعي الكبير سعيد بن جبير أنّه قال : أربعة أحرف في القرآن لحن منها الموارد الثلاثة المذكورة ، والرابعة : في سورة المنافقين : ١٠ (فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) بجزم المضارع المعطوف على المنصوب بتقدير الناصب بعد فاء العطف. (٢)

وعن أبي خالد ، قال : قلت لأبان بن عثمان ـ الشخصيّة العلمية الكبيرة : ـ كيف صارت (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) وما بين يديها وما خلفها رفع؟

قال : من قبل الكاتب ، كتب ما قبلها ، ثمّ سأل المملي : ما أكتب؟ قال : اكتب المقيمين

__________________

(١) ـ الإتقان ، ج ٢ ، ص ٢٦٩.

(٢) ـ المصاحف للسجستاني ، ص ٣٣ ـ ٣٤.

١٥٦

الصلاة ، فكتب ما قيل له! (١)

وعن أبي عمرو : إنّي لأستحي أن أقرأ «إنّ هذا لساحران». (٢)

قلت : سنوافيك بالتخريج الصحيح لمواضع الآيات ، وفق اللغة الفصحى من غير ما ضعف. إلّا أنّ النسبة إلى مثل سعيد وأبان ـ وهما العلمان الكبيران ـ تبدو غريبة ، إذ كيف يخفى وجه الصواب على مثلهما ، حتّى يسندا الغلط إلى قراءة المشهور!؟

نعم ، يجوز ذلك من مثل عروة ، الجاهل بمواضع اللغة ودقائقها.

أمّا أبو عمرو بن العلاء ـ كان أعلم أهل زمانه بالقرآن والعربيّة وآدابها ـ (٣) فكان استحياؤه أن يقرأ بالألف ، على فرض تثقيل «إنّ» ولعلّ الحقّ معه على ذلك الفرض ، إذ لا وجه له صحيحا ، أمّا على قراءة التخفيف ، كما هي قراءة حفص وجمهور المسلمين ، فلا موضع للإشكال فيه ، على ما سننبّه.

وإليك الآن بعض التوجيه بشأن الآيات الأربع ، ذكره ألمع علماء الأدب والبيان :

(١ ـ في سورة طه : ٦٣)

قوله تعالى : (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ).

قرأ حفص بتخفيف «إن» المكسورة. وهي القراءة المشهورة التي عليها جمهور المسلمين ، وهي الصحيحة عندنا. فتكون «إن» مخفّفة عن الثقيلة وهي لا تعمل النصب.

ووجود اللام في الخبر دليل على أنّها المخفّفة. قال ابن هشام : وحيث وجدت «إن» مكسورة مخفّفة وبعدها اللام المفتوحة فأحكم عليها بأنّ أصلها التشديد. نحو قوله تعالى : (وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً). (٤) وقول الشاعر :

شلّت يمينك إن قتلت لمسلما

حلّت عليك عقوبة المتعمّد

وهكذا قال الزمخشري : هي المخفّفة التي تلزمها اللام الفارقة.

__________________

(١) ـ المصدر.

(٢) ـ تفسير الرازي ، ج ٢٢ ، ص ٧٤.

(٣) ـ راجع : تهذيب التهذيب ، ج ١٢ ، ص ١٧٨ ـ ١٨٠.

(٤) ـ البقرة ٢ : ١٤٣.

١٥٧

قال ابن هشام : هذه اللام عند سيبويه والأكثر هي لام الابتداء المزحلقة التي تفيد التوكيد ويلزم دخولها عند التخفيف بعد أن كانت جائزة عند التشديد.

وعليه فلا إشكال في الآية رأسا.

* * *

وأمّا قراءة التشديد مع الألف ، فهي قراءة بقية القرّاء سوى أبي عمرو ، فحجّتهم أنّها مكتوبة في الإمام هكذا بالألف فيجب متابعته. إنّما الإشكال في التشديد مع عدم النصب. فقالوا : إنّها لغة لبعض العرب وهم «بنو الحارث بن كعب ومن جاورهم». (١) والقرآن قد يتبع في استعماله لغات القبائل غير المعروفة.

ووجّهه النحويّون بوجوه ؛ منها : أنّ «إنّ» هنا بمعنى نعم. واشكل بدخول اللام في الخبر. واجيب بأنّها داخلة على جملة محذوفة المبتدأ. واعترض بعدم إمكان الجمع بين التوكيد والحذف.

لكنّه تكلّف بعيد. والمتّبع هي قراءة حفص التي عليها الجمهور.

وأمّا قراءة أبي عمرو بالياء فعلى وفق الأصل ، لكنّها قراءة شاذّة غير جائزة لدينا.

(٢ ـ في سورة المائدة : ٦٩)

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).

قرأ المشهور : «والصّابئون» بالرفع عطفا على محل اسم إنّ. قال الفرّاء : ويجوز ذلك إذا كان الاسم ممّا لم يتبيّن فيه الإعراب ، كالمضمر والموصول. كقول الضابئ بن الحارث البرجمي :

فمن يك أمسى بالمدينة رحله

فإنّي وقيار بها لغريب

وقال بشر بن حازم :

__________________

(١) ـ راجع : معانى القرآن للفرّاء ، ج ٢ ، ص ١٨٤ ؛ وسعد السعود لابن طاووس ، ص ٢٦٥.

١٥٨

وإلّا فاعلموا انّا وأنتم

بغاة ما بقينا في شقاق

ورجّح ذلك في الآية رعاية لمناسبة الواو في «هادوا» نظير العطف على التوهّم.

ونقل سيبويه عن العرب أنّهم يقولون : إنّهم أجمعون ذاهبون. وإنّك وزيد قائمان. وجعله كقول الشاعر :

بدا لي أنّي لست مدرك ما مضى

ولا سابق شيئا إذا كان جائيا

فخفض «سابق» عطفا على خبر «ليس» توهّما أنّه مجرور بالباء.

ولسائر النحاة توجيهات اخر. والمهمّ أنّ البصريين والكوفيين جميعا أجازوا الرفع هنا ، كلّ لسبب يراه.

والآية في سورة البقرة : ٦٢ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ ..). بالنصب على الأصل ، ورجّح لمناسبة الياء في «النصارى».

أمّا في سورة الحجّ : ١٧ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ ..). فجاءت على الأصل من غير رعاية مناسبة لفظية.

وهذا من فنون القرآن يأتي على أنواع من البيان الفصيح الدارج!

(٣ ـ في سورة النساء : ١٦٢)

قوله تعالى : (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً).

قال الزمخشري ـ بشأن نصب المقيمين ـ : نصب على المدح لبيان فضل الصلاة وهو باب واسع. ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحنا في خطّ المصحف. وربّما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب ولم يعرف مذاهب العرب وما لهم في النصب على الاختصاص من الافتنان. وغبي عليه أنّ السابقين الأوّلين كانوا أبعد همّة في الغيرة على الإسلام وذبّ المطاعن عنه من أن يتركوا في كتاب الله ثلمة ليسدّها من بعدهم ، وخرقا يرفوه من يلحق

١٥٩

بهم.

وقال سيبويه ـ في باب ما ينتصب في التعظيم والمدح ـ : وسمعنا بعض العرب يقول : الحمد لله ربّ العالمين ـ بنصب الربّ ـ فسألت عنها يونس فزعم أنّها عربيّة. (١) قال : ومثل ذلك قول الله عزوجل : (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ) ، فلو كان كلّه رفعا كان جيّدا ، فأمّا «المؤتون» فمحمول على الابتداء.

قال : ونظيره قوله تعالى : (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ ...). (٢) فقطع إلى النصب مدحا. قال : ولو رفع عطفا أو استينافا كان جيّدا.

وقالت الشاعرة ـ وهي الخرنق من بني قيس بن ثعلبة ـ :

لا يبعدن قومي الذين هم

سمّ العداة وآفة الجزر (٣)

النازلين بكلّ معترك

والطيّبون معاقد الازر (٤)

قال : وزعم يونس أنّ من العرب من يقول : النازلون ، والطيبين.

قال : وزعم الخليل أنّ نصب هذا على أنّك لم ترد أن تحدّث الناس ولا من تخاطب بأمر جهلوه ، ولكنّهم علموا من ذلك ما قد علمت ، فجعلته ثناء وتعظيما. ونصبه على الفعل ، كأنّه قال : اذكر أهل ذاك واذكر المقيمين. ولكنّه فعل لا يستعمل إظهاره. وهذا شبيه بقوله : إنّا بني فلان نفعل كذا ... على الاختصاص افتخارا وابتهاءا.

قال : ومن هذا الباب في النكرة قول اميّة بن أبي عائذ :

ويأوي إلى نسوة عطّل

وشعثا مراضيع مثل السعالي

قال الخليل : كأنّه قال : واذكرهنّ شعثا. غير أنّه على الذمّ. (٥)

__________________

(١) ـ كان سيبويه يحترم من آراء يونس. والزعم هنا بمعنى الرأي والنظر.

(٢) ـ البقرة ٢ : ١٧٧.

(٣) ـ المعنى : أنّهم بالنسبة إلى الأعداء سموم قتّالة ، وبالنسبة إلى الأضياف ناحرون الجزر جمع جزور.

(٤) ـ المعنى : أنّهم لا يمسّون الفاحشة ، وأنّهم عند معاقد الازر (جمع ازار) أطياب.

(٥) ـ راجع : كتاب سيبويه ، ج ١ ، ص ٢٨٨ ـ ٢٩١ ؛ والسعالي : جمع السعلاة انثى الغول.

١٦٠