صيانة القرآن من التحريف

الشيخ محمّد هادي معرفة

صيانة القرآن من التحريف

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


المحقق: مؤسسة التمهيد
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-90596-0-0
الصفحات: ٢٧٢

بابل. وجاء في الرسالة ـ مضافا إلى ذلك ـ : أنّهما كانا يخونان أصحابهما فيعملون القبيح فيهم ويزنيان بنسائهم. (١)

وكان الملك «صدقيّا» يتواطأ مع أنبياء كانوا لا يتورّعون الكذب ليقوموا بإغواء الأسباط ويفسدوهم. (٢)

نهاية أمر سفر الشريعة

كان حظّ سفر الشريعة الذي عثر عليه الكاهن «حلقيّا» أن لا يعيش سوى ثلاثة عشر عاما ، بقية ملك الملك «يوشيّا» الذي حكم البلاد إحدى وثلاثين سنة ، كان العثور على السفر في السنة السابعة عشرة من ملكه.

مات «يوشيّا» عام (٦٠٩ ق. م) فمات السفر بموته وضاعت الشريعة ثانيا مع الأبد ، حيث أخلافه عادوا إلى وثنية أسلافهم مع ضعف وانهيار ، ومن أجله هجر البيت وذهبت معالمه أدراج الرياح ولم يعد للشريعة وسفرها ذكر.

وانتهى الأمر أخيرا بإغارة «بخت نصّر» للبلاد ، مرتين : إحداهما عام (٥٩٧ ق. م) والثانية القاضية كانت عام (٥٨٨ ق. م) فكان فيها هلاك الحرث والنسل وإيادة معالم الحياة في ربوع صهيون.

وقد نهب في ذلك جميع ما في البيت ، وأحرق البناء والهيكل والمحراب وكلّ ما في البلاد من أماكن مقدّسة.

وبذلك انتهت حياة العهد القديم. وفي ضمنها التوراة مع الأبد.

كارثة بخت نصّر

حمل «بخت نصّر» ـ في مدّة ملكه (٤٤ سنة من ٦٠٥ إلى ٥٦١ ق. م) ـ على اورشليم أربع مرّات ، كانت الكارثة شديدة في ثنتين منها ، الثانية والرابعة ، ولا سيّما الأخيرة التي

__________________

(١) ـ انظر الإصحاح ٢٩ ، ع ٢١ ـ ٢٣ ارميا ، ص ١١٢٠.

(٢) ـ انظر قاموس الكتاب المقدّس (مادّة صدقيا) ، ص ٥٥٢ ـ ٥٥٣.

١٢١

أبادت كلّ شيء.

اولاها : على عهد «يهوياقيم» كان ملكا على بني إسرائيل وخاضعا لسلطان مصر وهو الفرعون «نكوه» حيث استولت جيوش بابل على مستعمرات مصر ومنها أرض اليهود ، دخلت تحت سلطة بابل ، كان ذلك عام (٦٠٢ ق. م).

ثانيتها : أيضا على عهد «يهوياقيم» حاول التمرّد عن حكم بابل ، والاتصال بفرعون مصر ثانيا. لكن جيوش «بخت نصّر» داهمته بكلّ قوّة وبأس ، فأخضع البلاد ودمّر وأسر ، ومن جملتهم الملك وحواشيه ، أسرهم ثمّ أطلقهم ليموتوا صغارا. كان ذلك عام (٥٩٨ ق. م).

ثالثتها : على عهد خلفه «يهوياكين» الملك الإسرائيلي الضعيف ، فقد فسد وأفسد البلاد ، ومن ثمّ لم يدم ملكه سوى بضعة أشهر ، حتّى جاءه الزحف البابلي ، فاخذ وحواشيه اسراء إلى سجون بابل لمدّة ٣٧ سنة ، وبعده اطلق فمات هناك.

ورابعتها ـ القاضية ـ : كانت على عهد «صدقيّا» عام (٥٨٨ ق. م) كان قد نصّبه «بخت نصّر» ملكا على اليهود ، وكان اسمه «متانيا» فغيّر «بخت نصّر» اسمه إلى «صدقيّا». لكنّه في السنة التاسعة من ملكه حاول العصيان والاستقلال بالملك ، على ضعفه وفساده وجهله البالغ. الأمر الذي جرّ الوبال على أرض يهوذا ، فحاصرهم جيش كلدان ونصبوا القذائف والمجانيق ، فأحرقوا ودمّروا وأهلكوا الحرث والنسل ، واستباحوا البلاد نهبا وقتلا وأسرا ، وهدموا هيكل سليمان وكلّ آثار بني إسرائيل أبادوها سحقا ومحقا.

وفي هذا الأثناء حاول «صدقيّا» وحواشيه الفرار من خلف المدينة ولكن من غير جدوى ، فقد اخذ واتي به إلى «بخت نصّر». فأوّل شيء فعله أن أمر بقتل ابنيه أمامه ، ثمّ قلع عينيه ، وأخيرا قيّده في سلسلة وأرسله إلى بابل مغلولا.

وقد عمّ الأسر جميع بني إسرائيل سوى المرضى والصعاليك الضعفاء ، فخلّف عليهم «بخت نصّر» رجلا ضعيفا اسمه «جدليا» وكان من الأسباط. وبعد مدّة ثارت جماعة من اليهود وعلى رأسهم رجل اسمه «إسماعيل» من أبناء الملوك ، فقتلوا الملك وهربوا إلى

١٢٢

فرعون مصر لاجئين إليه!

تلك كانت خاتمة أمر اليهود بفلسطين. أما التوراة وسائر كتب اليهود فضاعت جميعا على يد عساكر كلدان ولم يعد لها أثر بعد ذلك في الوجود. (١)

هل عادت التوراة إلى الوجود؟

شمل الأسر البابلي أكثر من سبعين ألفا من رجالات اليهود وكهنتهم وذراريهم. ودام الاعتقال أكثر من نصف قرن في اضطهاد وضغط شديد ، ضاعت خلاله كلّ نواميس الشريعة ، وفي ضمنها ضاع التابوت الذي فيه سفر الشريعة ضياعا بلا أثر. وكان الأمر على ذلك حتّى فتحت بابل على يد ملك فارس «كورش» الكبير (عام ٥٣٨ ق. م) فأوّل شيء صنعه أن أطلق سراح بني إسرائيل وأمدّهم وأفسح لهم المجال. وهو الذي أمر بإعادة بناء البيت وتجديد مقدّسات اليهود. وقد تمّ ذلك على يد حفيده «داريوش» : (٥٢١ ـ ٤٨٦ ق. م).

كانت أكثرية رجالات اليهود قد آثروا البقاء في حماية ملوك فارس ، وربّما كانوا يؤازرونهم في أمر الديوان بما اتوا من علم الكتاب.

وأخيرا وعلى عهد الملك «أردشير ـ دراز دست» عام (٤٥٧ ق. م) قام الكاهن العجوز «عزرا» على رأس جماعات كبيرة من أسرى اليهود ـ جاءت أساميهم في الإصحاح الثاني من كتاب عزرا ـ (٢) بالرحلة إلى القدس ، وقد أمدّهم الملك بالقوّة والمال الكافي. فجاء إلى اورشليم ليجدّد الشريعة ويصحّح عبادات ومراسيم عتيدة. ومن أجل ذلك أسّس كنائس كانت تتلى فيها دعوات ونسخ من كتابات قديمة.

الأمر الذي دعا بجماعة اليهود أن يلتمسوا منه تدوين الشريعة من جديد وكتابة العهد العتيق ، فعزم «عزرا» على إجابة ملتمسهم ، وكان ذلك بعد أن مضى من سقوط

__________________

(١) ـ سفر الملوك الثاني ، إصحاح ٢٤ ـ ٢٥ ؛ العهد القديم ، ص ٦٢٩ ـ ٦٣٢.

(٢) ـ الكتاب المقدس (العهد القديم) ، ص ٧٣٩.

١٢٣

اورشليم (١٣٠) عاما. ومن فتح بابل على يد «كورش» (٨٠) عاما. فقام بالأمر مستمدّا من متخلّفات ذاكرته أو بعض الأوراق الممزّقة من كتابات قديمة ، ومن معلومات متفرّقة على أفواه الرجال ، فكتب الموجود من العهد القديم.

قال «جيمس هاكس» : قام عزرا بالإصلاح الديني وتصحيح الشعائر الدارجة ، كما قام بتأسيس كنائس فقرأ فيها بعض الأدعية المأثورة والكتابات المقدّسة القديمة. والمعتقد : إنّه بعد هذه الوقائع قام بكتابة كتب التواريخ وكتاب عزرا وقسم من كتاب نحميا. وجميع كتب العهد العتيق ـ الذي هو قانوننا اليوم ـ إنّما هو من جمعه وتصحيحه وقد استمدّ في ذلك من «نحميا» بل ومن «ملاكى» أيضا. (١)

وقال «ترتولين» : المعروف أنّ كتب العهد القديم الموجودة قد كتبها «عزرا» عليه‌السلام بعد إغارة جيوش بابل لاورشليم. (٢)

من أين جاء «عزرا» بنقول التوراة؟

قالوا : إنّ روح القدس نفث في روعه! هكذا قال «كلى منس» : قد ضاعت الكتب السماوية ، فالهم «عزرا» ليعيد كتابتها من جديد. وقال «تهيو فلكت» : إنّ الكتب المقدّسة ضاعت جميعا ثمّ وجدت على يد «عزرا» بإلهام منه تعالى.

وقال «جان ملنر ـ كاتلك» : اتّفق أهل العلم على أنّ نسخ التوراة وكذا سائر كتب العهد العتيق قد ضاعت على أيدي عساكر «بخت نصّر». وإنّ نقولاتها الصحيحة التي ظهرت بواسطة «عزرا» قد ضاعت للمرّة الاخرى في حادث «انتيوكس». (٣)

قال القسّيس المستبصر «فخر الإسلام» : إنّ الفرق المسيحية تعتقد فيما كتبه «عزرا» بعد إحراق الكتب المقدّسة القديمة : أنّه كتبها وجمعها للمرّة الثانية ، بإعانة روح القدس. (٤)

لكن كيف يكتبها بمعونة روح القدس فتوجد فيها تلكم الأخطاء الكبرى

__________________

(١) ـ قاموس الكتاب المقدس (مادة عزر) ، ص ٦١٠.

(٢) ـ بنقل أنيس الأعلام ، ج ٣ ، ص ١٩.

(٣) ـ ذكره في تاريخه ، ص ١١٥.

(٤) ـ أنيس الأعلام ، ج ٣ ، ص ١٨ ـ ١٩.

١٢٤

والتناقضات الفاضحة فضلا عن منكرات غير معقولة!؟ مثلا جاء في سفر التكوين (إصحاح ٤٦ ، عدد ٢١) : أنّ أولاد «بنيامين» عشرة. (١) لكن في أخبار الأيّام الاول (إصحاح ٧ ، عدد ٦) : أنّ أولاده ثلاثة (٢) وفي (إصحاح ٨ ، عدد ١) : أنّهم خمسة ، (٣) هذا فضلا عن الاختلاف في الأسماء.

والاختلاف بين الكتب كثيرة للغاية فضلا عن الأخطاء والاشتباهات.

ذكرها بتفصيل العلّامة المتتبّع فخر الإسلام في موسوعته القيّمة «أنيس الأعلام» (٤) الأمر الذي احتار أهل الكتاب في حلّه أو توجيهه :

يقول «آدم كلارك» ـ مفسّر العهد القديم ـ : لعلّ «عزرا» اشتبه عليه الابن بابن الابن. وقال آخرون : لعلّه لم يدر من هو الابن ومن هو ابن الابن ، وأنّ الأسناد التي كانت موجودة لدى «عزرا» كانت ناقصة وممزّقة ، فحصل منها ذلك الاختلاف. (٥)

قلت : إن هذا إلّا تناقض صريح في شهادة أهل الكتاب بشأن ما كتبه «عزرا» من العهد القديم. هل كانت عن وحي أو إلهام ومعونة روح القدس؟ أم عن استناد إلى أوراق ممزّقة لا قيمة لها؟ فما توجيه هذا التناقض؟! نعم ، إن هو إلّا حدس وتخمين ورجم بالغيب. وما يعلم الغيب إلّا الله.

حادث الإمبراطور «انطوخيوس»

جاء في الفصل الأوّل من السفر الأوّل من كتابي المقابيين : (٦) إنّ الإمبراطور الرومي «انطوخيوس ـ انتيوكس» حمل على اروشليم عام (١٦١ ق. م) حملة نكراء ، فأحرق جميع نسخ الكتب المقدّسة التي حصلت له من أيّ مكان. وأمر مناديه أن ينادي : من

__________________

(١) ـ الكتاب المقدّس (العهد القديم) ، ص ٧٩.

(٢) ـ المصدر ، ص ٦٤٤.

(٣) ـ المصدر ، ص ٦٤٦.

(٤) ـ المجلّد الثالث ، مباحث التحريف في كتب العهدين.

(٥) ـ أنيس الأعلام ، ج ٣ ، ص ١٧ ـ ١٨.

(٦) ـ هذا الكتابان (الأوّل والثاني من المقابيين) يعتبران من الكتب المقدّسة القانونية عند الكاثوليك. وأمّا عند الپروتستنت وسائر الفرق المسيحية فتعتبران كتابي تاريخ. راجع : الرحلة المدرسية ، ج ١ ، ص ١١٨ ؛ وأنيس الأعلام ، ج ٣ ، ص ١٧٦.

١٢٥

توجد عنده نسخة من الكتب المقدّسة أو يقوم بمراسيم الشريعة فسوف يقتل. وأجرى التحقيق (التفتيش) كلّ شهر ، فكان يقتل من وجدت عنده نسخة من الكتاب أو يقوم بأداء مراسيم الشريعة. ودام ذلك ثلاث سنين وستة أشهر.

وقد ذكر تفصيل هذا الحادث المورّخ اليهودي «يوسيفوس» وتقدّم كلام «جان ملنركاتلك» : اتّفق أهل العلم على أنّ نسخ التوراة ونسخ العهد العتيق ضاعت على أيدي عساكر «بخت نصّر». ولمّا ظهرت نقولها الصحيحة بواسطة «عزرا» ضاعت تلك النقول أيضا في حادثة «انطوخيوس». (١)

وهكذا في عام (٣٧ بعد الميلاد) قام الإمبراطور الآخر «طيطوس» بهدم البيت المقدّس وإحراق ما وجد فيه من الكتب المقدّسة ، فقتل من اليهود ما ينوف على مليون نسمة في كلّ أرجاء البلاد ، قتلا بالسيف أو صلبا بالمشانق. وأسر الذراري ما يقرب من مائة ألف وباعهم في مختلف البلدان. أمّا البقية الباقية في أرض يهوذا فماتوا جوعا وخوفا من سلطان الروم. هكذا ذهبت بقية آثار القوم أدراج الرياح. (٢)

سلسلة أسناد التوراة مقطوعة

وبعد ، فإنّ الحوادث الجمّة التي مرّت على تاريخ العهد القديم ، فقد قضت على مزعومة : احتمال بقاء التوراة سليمة طول خمسة وثلاثين قرنا ، منذ عهد نبيّ الله موسى عليه‌السلام (١٥٠٠ ق. م) فإلى الآن وهي نهاية القرن العشرين للميلاد (١٩٨٨).

قال سيّدنا الطباطبائي رحمه‌الله : الحوادث التي مرّت على التوراة وكتب العهد القديم لم تدع مجالا للشكّ في كونها مقطوعة الأسناد. وإنّما ينتهي سندها إلى شخص واحد (عزرا) من غير أن يعرف مستنده في النقل أو منابع اطّلاعه في الجمع والتحقيق. فكان مغبّة هذا التوتّر الفاضح أن دعا بأهل التحقيق من علماء الغرب أن يرموا هذه الكتب بالضعف

__________________

(١) ـ أنيس الأعلام ، ج ٣ ، ص ١٧٦ وص ١٩ أيضا وج ٢ ، ص ٢٩ ـ ٣٠.

(٢) ـ ذكره «يوسيفوس» في تاريخ اليهود بتفصيل. بنقل أنيس الأعلام ، ج ٣ ، ص ١٧٧ وج ٢ ، ص ٣١.

١٢٦

التاريخي وأنّها مجموعة أساطير قومية دوّنها تاريخ إسرائيل. الأمر الذي أساء الظنّ في أساس النبوات التي جاءت فيها. (١)

قال «جان ملنر» : لا سبيل إلى تصديق هذه الكتب لو لا شهادة المسيح بصدقها. (٢) وقد أجاب فخر الإسلام عن مغالطة «جان ملنر» في كلام تحقيقي مسهب. (٣)

قلت : لو لا شهادة الإسلام وصريح القرآن بصدق تلك النبوات ، بمعزل عن إمكان صحّة تلك الكتب المجهولة الأسناد.

قصّة الأناجيل الأربعة!

تلك كانت قصّة التوراة والعهد القديم المزرية ، والتي انتهت إلى الشكّ في بقائها فضلا عن سلامتها عبر متقلّبات الأحوال.

أمّا قصّة الإنجيل أو الأناجيل الأربعة أو الخمسة أو أزيد ـ المنسوب كلّ واحد منها إلى وحي السماء ، مع كثرة ما بينها من اختلاف ومناقضات ـ فلم تكن بأفضل من قصّة العهد القديم.

يشتمل العهد الجديد على سبع وعشرين كتابا ورسالة ، منها : الأناجيل الأربعة المعروفة كتبها ـ على الترتيب ـ متّى ومرقس ولوقا ويوحنا ، في الفترة بعد رفع المسيح عليه‌السلام. وقد وقع كلام كثير حول شخصية هؤلاء المنسوب إليهم الأناجيل وفي تاريخ كتابتها واللغة التي كتبت بها.

والإنجيل تعريب «اونگليون» اليونانية ، لغة الأصل للأناجيل ، بمعنى «البشارة والتعليم». وهل كتبت ـ في أصلها ـ باليونانية؟ ولماذا؟ أم ترجمت إليها؟ فمن كان المترجم لها؟ ومتى كانت؟ ولأيّ غرض كانت؟ أسئلة لا جواب لها!

ويقرب أن تكون كتابة الإنجيل المنسوب إلى «متّى» عام (٣٨) من تاريخ الميلاد.

__________________

(١) ـ الميزان ، ج ٣ ، ص ٣٤٠.

(٢) ـ أنيس الأعلام ، ج ٣ ، ص ١٧٦.

(٣) ـ المصدر ، ص ١٤٢.

١٢٧

وقيل : ما بين (٥٠) فإلى (٦٠). و«متّى» المعروف كان من الحواريين.

وعلى الاحتمال الأوّل فيتأخّر تاريخ كتابته عن رفع المسيح عليه‌السلام بتسعة أعوام ، نظرا لأنّ المسيح قد صلب عام (٢٩) وكان عمره الشريف (٣٣) سنة. لأنّ مبدأ التاريخ الميلادي الدارج متأخّر عن ولادة المسيح بأربعة سنين ، لأنّ المسيح ولد عام (٧٤٩) من تاريخ تأسيس روما ، ويبدأ التاريخ الميلادي من سنة (٧٥٣). (١)

أمّا الإنجيل المنسوب إلى «مرقس» ـ تلميذ «بطرس» ومرافقه في رحلاته وأسفاره ـ فقيل إنّه كتبه عام (٦١) وقيل : أكثر ، في رومية متأثّرا بتعاليم استاذه. لكن تأخّر انتشاره إلى ما بعد وفاة بطرس وبولس حوالي سنة سبعين. (٢)

و«لوقا» الكاتب كان تلميذا لبولس ومن أصحابه الملازمين له. كتب رسالتين ، إحداهما : في حياة المسيح ، وهي المعروفة بإنجيل لوقا. والثانية : في أخبار الحواريين المعروفة بأعمال الرسل. ويرجّح أنّه كتبهما عام (٦٣) أو بعدها بفترة. (٣)

و«يوحنا» المنسوب إليه رابع الأناجيل يحتمل أنّه الحواري المعروف ، أو شخص آخر كان معروفا بيوحنا الشيخ. يرجع تاريخ كتابته إلى أواخر القرن الأوّل للميلاد.

قيل : إنّه كتبه بالتماس أساقفة آسيا الصغرى ، حيث لم يجدوا من تعاليم المسيح عليه‌السلام ما يسدّ مآربهم في الإرشاد الديني ، فكتبها عام (٩٦). حسب ما قاله «جرجس الفتوحي». (٤)

أين صار الإنجيل النازل على المسيح؟

تلك الأناجيل الأربعة المعروفة لا شكّ أنّها كتبت تأريخا عن حياة عيسى المسيح عليه‌السلام وعن سيرته حتى توفّاه الله ورفعه إليه. ولم يدّع أحد من مؤلّفي الأناجيل أنّ

__________________

(١) ـ راجع : الميزان ، ج ٣ ، ص ٣٤٢ و ٣٤٥ ؛ والقاموس ، ص ٧٨٢ و ٨٠٦ ؛ والرحلة المدرسية ، ج ١ ، ص ١٢٤ ؛ وأنيس الأعلام ، ج ٢ ، ص ٥ و ٦٧.

(٢) ـ قاموس الكتاب المقدس ، ص ٧٩٢.

(٣) ـ المصدر ، ص ٧٧٢.

(٤) ـ المصدر ، ص ٩٦٦. وراجع : قصص الأنبياء للنجّار ، ص ٤٠١.

١٢٨

إنجيله هو نفس النازل على المسيح عليه‌السلام ، فقد بدأ إنجيل «متّى» بقوله : «كتاب ميلاد يسوع المسيح». ويبدأ إنجيل «مرقس» بقطعة زعمها من إنجيل المسيح ، ثمّ يتبعها بذكر أحواله منذ قدومه من ناصرة الجليل. ويبدأ إنجيل «لوقا» بما هو صريح في أنّه كتاب سيرة ، يقول : إذ كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصّة في الامور المتيقّنة ... رأيت أنا أيضا ، إذ قد تتبّعت كلّ شيء من الأوّل بتدقيق أن أكتب على التوالي ... ثمّ يذكر قصّة المسيح. وإنجيل «يوحنّا» يبدأ بنفسه ثمّ يعرّج إلى ظهور المسيح والإيمان به.

كلّ ذلك لدليل على أنّها كتبت خصيصا في بيان شخصية المسيح الرسالية. وفيها بعض الاختلاف أو الاختلاق الناشىء عن اشتباه الكاتب أو اختلاف الرواة. (١) إذن فأين صار الإنجيل النازل على المسيح عليه‌السلام؟

والظاهر أنّ النازل على عيسى المسيح كانت هي التعاليم والبشارات التي قام بها أثناء رسالته إلى الملأ ، فحفظ منها الحواريون ما حفظوا ونقلوها إلى من بعدهم ، وهكذا دواليك ، حتى سجّلت ضمن الأناجيل المعروفة.

قال الاستاذ النجّار : والقدر الذي وصل إلى العالم من تلك الأناجيل من الجمل والأمثال والنصائح ـ المقتطفة ممّا نطق به المسيح من العظات والحكم ـ يتضمّن حثّ الناس على توحيد الله تعالى واختصاصه بالعبادة والإخلاص في طاعته والعمل بأوامره واجتناب نواهيه وحسن المعاملة بين الإنسان وأخيه ، وهكذا من الأخلاق الفاضلة والسجايا الكريمة. ولم يكتب شيء من هذه الأناجيل في زمانه ولكن بعد انتهاء أمر المسيح قام بعض التلاميذ وتلاميذهم وتلاميذ تلاميذهم وكتبوا قصصا كثيرة. وكلّ واحد يسمّي ما كتبه «إنجيلا». حتّى لقد قيل : إنّ الأناجيل بلغت نيفا ومائة إنجيل. ثمّ اختارت الكنيسة من بينها القصص التي لا تتعارض مع نزعتها ، ولم تكترث لما بين مضامينها من التخالف والتناقض ، مادام ذلك لا يخالف المنزع العام الذي قصدته الكنيسة.

والأناجيل جميعها منقطعة السند ، ولا توجد نسخة إنجيل بخطّ تلميذ من تلاميذ

__________________

(١) ـ راجع ما حقّقه العلّامة فخر الإسلام في موسوعته أنيس الأعلام ، ج ٢ ، ص ١٢٥.

١٢٩

المؤلّف ، ولا ما يضمن شبهة صحّتها ، وحتّى لقد شكّ المحقّقون في إمكان نسبة الأناجيل إلى مؤلّفيها المعروفين ، ولعلّه من تشابه الاسم. (١)

وقد أورد المحقّق العلّامة «فخر الإسلام» تشكيكات فنّيّة وتاريخية في صحّة أسناد الأناجيل ، نقلها عن كافّة قدماء المسيحية في عدد غير محصور ، وتكلّم في واحد واحد من أسناد الأناجيل الأربعة بتفصيل وتحقيق. (٢)

يقول «پاستيس» : هذا العهد الجديد ليس من تصنيف المسيح ولا من تصنيف حوارييه ، بل هو من عمل إنسان مجهول الهويّة ، صنّفها ونسبها إلى حواريي عيسى عليه‌السلام وأصحابهم.

ويعقّبه «فخر الإسلام» : إن هذا إلّا كلام حقّ وصدق ، وقد أصاب الحقيقة ، فنعم ما قال ـ وهو من محقّقي فرقة «مانيكيز» من علماء القرن الرابع ـ إذ لعلّ ذلك الإنسان المجهول كان من أعداء المسيح وامّه الصدّيقة ، حيث فيه من المخازي ما أخزاه الله وأبعده. (٣)

تلك كانت قصّة حياة العهدين طول التاريخ. فكان من المسلّم عدم وجود الأصل ، وإنّما الباقي هو الفرع (التراجم وبعض المتقطّعات من تعاليم دينية سجّلت خلال سرد أحداث التاريخ) فلم يعد موضوع للتحريف الذي لهج به أصحاب القياس في لزوم تشابه أحداث الزمن!

مسألة تشابه الأحداث في الغابر والحاضر

وأمّا مسألة تشابه ما بين حوادث الماضي والحاضر ، فهي تعني تشابها في اصول الحياة العامّة ، لا في أساليبها المتخذة ، المختلفة حسب اختلاف الجوامع البشرية في طول الزمان وعرضه ، إنّها رهن شرائط وظروف تتفاوت حسب تفاوت الأوضاع والأحوال في

__________________

(١) ـ راجع : قصص الأنبياء ، ص ٣٩٩.

(٢) ـ راجع : أنيس الأعلام ، ج ٢ ، ص ٦١ ـ ٦٧.

(٣) ـ المصدر ، ص ٧٢.

١٣٠

كلّ دور وفي كلّ عصر.

أمّا اصول الحياة ومتطلّباتها فإنّها لا تختلف ، ما دامت تقتضيها طبيعة الإنسان الذاتية الاجتماعية وفق فطرته الاولى التي لا تختلف على مرّ الدهور ولا تتفاوت.

الإنسان ـ بوجوده الفطري ـ يملك ذاتيات هي حليفته مذ نشأ في عالم الوجود ، وتستمرّ معه ما دامت مسيرته تشقّ عباب الحياة على وجه الأرض. إنّها صفات وغرائز نابعة من ذاته وناشئة من فطرته ، وستدوم معه ما دامت الذات والفطرة ترافقانه في ركب الحياة.

الإنسان يملك غريزة «حبّ الذات» وهي تدعوه دوما إلى استجلاب ما ينفع ذاته ويلائم فطرته ، وإلى رفض كلّ ما يضرّه ويتنافر مع طبعه. وهذا ما يقال : الإنسان مجبول على جلب المنفعة ودفع المضرّة ، ومنشأه حبّ الذات. فهو مندفع بذاته نحو مشتهيات نفسه ، هارب عن منافياتها.

لكن بما أنّه اجتماعي الحياة ، فإنّ هذا الاندفاع الذاتي في كلّ إنسان سوف يؤدّي إلى تجاذب وتمانع ، وأخيرا تصادم وتنازع ، عند ما تصطدم المنافع وتتشابك المصالح فردية واجتماعية ، الأمر الذي عبّر عنه أصحاب الفلسفة بمسألة «التنازع في البقاء» كلّ يجرّ النار إلى قرصه.

هذا ، وقد بعث الله الأنبياء عليهم‌السلام وأنزل الشرائع ليجعل لتصرّفات الإنسان حدودها المعقولة ويرشده إلى معالم الحياة السعيدة ، كلّ يتمتّع بما يبتغيه ، على شريطة أن لا يحول دون تمتع الآخرين (إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ). (١)

(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ). (٢)

ولكن (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) (٣) لأنّه إذا تعدّى أحد فلا يتوقّع أن لا يتعدّى غيره عليه ، فتنقلب الحياة سعيرا متوهّجة ، وتسودها همجية من ورائها فوضى

__________________

(١) ـ الحجر ١٥ : ٤٧.

(٢) ـ الأعراف ٧ : ٣٢.

(٣) ـ الطلاق ٦٥ : ١.

١٣١

عارمة. (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ). (١)

قال الصادق عليه‌السلام : «إنّ الله جعل لكلّ شيء حدّا ولمن جاوز الحدّ حدّا». (٢)

نعم ، خلق الإنسان ليعيش حرا ، ولكن الحرّيّة لا تعني الانطلاق من القيود ، وإنّما هو إمكان التمتّع بالحقوق ، تلك الحقوق التي يحدّدها قانون الشرع الحكيم ، فكان الاستمتاع بلذائذ الحياة في إطار القانون منحة يرادفها منعة ، وليس تسريحا في مرعى الحياة.

وقد كان الجدل عنيفا بين جموح الإنسان وحدود القانون ، منذ بداية الوجود ، كان رجال إصلاحيون يكافحون أنانية الإنسان في جدال مستمرّ ، ولا يزال الجدال مستمرّا ما دامت غرائز الإنسان هي الحاكمة على وجوده ، والغرائز هي نفس الغرائز الاولى التي كانت عليها البشرية الاولى ، ومن ثمّ فالجدال نفس الجدال ، وإنسان اليوم هو إنسان الأمس ، وسيكون بنفسه إنسان الغد ، بلا فرق في ذاتياته المستدعية لعدم فرق في تصرّفاته في الحياة مع الأبد ، قال تعالى : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ). (٣)

وقال : تعالى ـ بشأن تشابه حياة الإنسان في تصرّفاته الجاهلة في الماضي والحاضر ـ : (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا). (٤)

وقال : (ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ). (٥)

وقال : (بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ). (٦)

وقال : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ). (٧)

__________________

(١) ـ الروم ٣٠ : ٤١.

(٢) ـ وسائل الشيعة ، ج ١٨ ، ص ٣١٠ ، رقم ٣.

(٣) ـ هود ١١ : ١١٨ ـ ١١٩.

(٤) ـ التوبة ٩ : ٦٩.

(٥) ـ فصّلت ٤١ : ٤٣.

(٦) ـ المؤمنون ٢٣ : ٨١.

(٧) ـ البقرة ٢ : ١١٨.

١٣٢

إلى آيات غيرهنّ صريحات في أنّ التاريخ يعيد نفسه ، وأنّ الامم متشابهة في خلقها سواء من غبر ومن حضر.

قال ابن عباس : ما أشبه الليلة بالبارحة. كالذين من قبلكم. هؤلاء بنو إسرائيل شبّهنا بهم ، لا أعلم أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : والذي نفسي بيده لتتبعنّهم حتّى لو دخل الرجل منهم جحر ضبّ لدخلتموه. (١)

وعن أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لتأخذنّ كما اخذت الامم من قبلكم. قيل : يا رسول الله ، كما صنعت فارس والروم وأهل الكتاب؟ قال : فهل الناس إلّا هم. (٢)

قال علي عليه‌السلام : وإنّما تسيرون في أثر بيّن ، وتتكلّمون برجع قول قد قاله الرجال من قبلكم. (٣)

وقال : الدهر يجري بالباقين كجريه بالماضين ـ وقال : ـ آخر فعاله كأوّله ، متشابهة اموره ، متظاهرة أعلامه. (٤)

تلك حقيقة واقعة لا محيص عنها ما دام الإنسان ذا طبيعة واحدة وصاحب نزعات وميول واتّجاهات متشابهة ، أوّله بآخره ، ولا يزال.

ولا يخفى أنّ ذلك لا يعني جبرا في مسيرة الحياة ، وإنّما هي حكاية عن استعدادات وقابليات يحملها طبيعة الإنسان حملا أوّليا ، صالحا للتربية الصحيحة والاهتداء نحو معالم الصلاح ، ولو لا ذلك لهدرت تعاليم الأنبياء ولغى تشريع الشرائع وتحكيم القوانين. فلا بدّ من اقتضاء في طبع الإنسان ومن ثمّ هذا العرض!

وإلى ذلك أشارت الآية (١١٩) من سورة هود : (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ!) هذا هو المقصود من تشابه ما بين الامم ، يعنى في اصول الأخلاق وفي قواعد الحياة الأوّلية ، الأمر الذي لا يعني خصوصيات المعايش. وفي أساليب الحياة المتناسبة مع

__________________

(١) ـ مجمع البيان ، ج ٥ ، ص ٤٩.

(٢) ـ المصدر.

(٣) ـ نهج البلاغة ، الخطبة رقم ١٨٣.

(٤) ـ المصدر ، الخطبة رقم ١٥٧.

١٣٣

شرائط خاصة بكلّ زمان ، ممّا لا يمكن تكرارها ما دامت العوامل الزمنية والمحلّية تختلف بالذات.

ومن ثمّ فمن السخف في الرأي أن يؤخذ من كلّية ذلك التشابه دليلا على وحدة وسائل المعيشة لدى جميع الامم الأوّلين والآخرين. لا ، ليس المراد التشابه في الأساليب والكيفيات ، وإنّما التشابه في الاصول والذاتيات.

مثلا : عاندت بنو إسرائيل تجاه أنبيائهم فابتلوا بالتيه في وادي سيناء ، ونزل عليهم المنّ والسلوى ... الخ.

ليس المراد : أنّ المسلمين أيضا يتيهون في نفس الوادي ويقتاتون نفس المأكل ... الخ.

بل المراد : إنّكم سوف تقاومون نصح أئمّتكم فتبتلون بالتيه في وادي الضلال ونقص من الأموال والأنفس وما شابه.

قال سيّدنا الاستاذ رحمه‌الله : الروايات المذكورة أخبار آحاد لا حجّية فيها. ودعوى تواترها جزاف ، إذ لم يأت شيء منها في الكتب الأربعة.

ولأنّ كثيرا من الوقائع السالفة لم تقع ولا يمكن وقوعها في هذه الامّة. ويكفي في صحّة التشابه ما وقع من هذه الامّة بتركهم حدود القرآن وإن أقاموا حروفه كما في الحديث : «وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرّفوا حدوده. فهم يروونه ولا يرعونه». فما يقع في هذه الامّة شبيها بما وقع في الامم السالفة إنّما هو من بعض الوجوه. (١)

قوله «من بعض الوجوه» أي في اصول الأمر وجذوره ، النابعة عن فطرة الإنسان في مجابهة المكاره وسعيا وراء لذائذه في الحياة.

__________________

(١) ـ البيان في تفسير القرآن ، ص ٢٤٠.

١٣٤

الفصل السابع

التحريف

عند حشويّة العامّة

أسلفنا أنّ شبهة التحريف جاءت من قبل روايات عامّية الإسناد ، شاذّة ، حاكتها عقول ضعيفة أو مدخولة ، اعتمدها أصحاب الظواهر من أهل الحديث (الحشوية) ممّن دأبوا على الإكثار من نقل الأحاديث وروايتها نقلا بلا هوادة ورواية بلا دراية ، حتّى ولو صادمت اصول الشريعة أو خالفت مباني الإسلام. ما دام الاهتمام متوجّها إلى جانب تضخّم الحجم مهما كان المحتوى. ومن ثمّ لم يأبهوا عمّن يأخذون وعلام يستندون ، فخلطوا الغثّ بالسمين وخبطوا الحابل بالنابل خبط عشواء!

قال ابن الجوزي : ولكن شره جمهور المحدّثين ، (١) فإنّ من عادتهم تنفيق حديثهم ولو بالبواطيل. وهذا قبيح منهم ، لأنّه قد صحّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : من حدّث عنّي حديثا يرى أنّه كذب فهو أحد الكذّابين. (٢)

وفي ذلك يقول الإمام الباقر عليه‌السلام : «والجهّال يعجبهم حفظهم للرواية ، والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية». (٣)

__________________

(١) ـ عدّهم القاضي عبد الجبّار ، النوابت من الحنابلة ، على ما أسلفنا. راجع : شرح الاصول الخمسة ، ص ٥٢٧.

(٢) ـ الموضوعات ، ج ١ ، ص ٢٤٠. وتنفيق البضاعة ترويجها.

(٣) ـ الكافي ، ج ٨ ، ص ٥٣ رسالة سعد الخير.

١٣٥

قال الشيخ أبو جعفر الطوسي في ذيل الآية (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها :) (١) فيه تنبيه على بطلان قول الجهّال من أصحاب الحديث : أنّه ينبغي أن يروى الحديث على ما جاء ، وإن كان مختلّا في المعنى. (٢)

نعم ، بهذا الاسلوب المبتذل قام أهل الحشو بشحن حقائبهم من شواذّ الأخبار وغرائب الآثار ، وبذلك مهّدوا السبل لرواج الإسرائيليات ونشر الأقاصيص الاسطورية ، وازدحمت من وفرتها كتب الحديث والتفسير ، وفي التاريخ المدوّن أيضا منها الشيء الكثير.

وهكذا نجد في بضائع أهل الحشو المزجاة حشدا من أخبار التحريف ، سجّلتها المجاميع الحديثية الكبرى ، أمثال الصحاح الست وغيرها من المدوّنات المعروفة عند أهل السنّة. وقد اغترّ بها جماعات ، كانوا حسبوا من تلك الروايات حقائق مرهونة ، فلا بدّ من تأويلها أو علاج آخر ، ممّا ابتدعه أهل الاصول باسم «نسخ التلاوة» ، فغيّروا من عنوان «التحريف» إلى عنوان آخر تمويها بواقع الأمر.

وقد بحثنا فيما سلف أنّ تغيير العبارة لا يحلّ مشكلة الواقع وإنّما يزيد في صلب الإشكال ، لا سيّما وبعض تلك الروايات تنصّ على أنّ الآية (المزعومة) كانت ممّا تتلى حتّى ما بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله. (٣)

نعم ، كانت المشكلة منحلّة عند أصحابنا الإماميين ، حيث رفضهم الباتّ لتلكم الأراجيف السخيفة ، فلا الأسانيد صحيحة ، ولا المتون متوافقة مع اصول المذهب : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ). (٤)

وإليك نماذج من أحاديث التحريف نقلتها أهل الحشو وسجّلتها أرباب كتب الحديث ، نذكرها تباعا ونعقّب كلّ واحد منها بما نراه من تعليق :

__________________

(١) ـ محمد ٤٧ : ٢٤.

(٢) ـ التبيان ، ج ٩ ، ص ٣٠١. وراجع وصفنا للحشوية في الجزء الثالث من التمهيد ، «الحشوية».

(٣) ـ راجع : المحلّى ، ج ١٠ ، ص ١٤ و ١٦.

(٤) ـ فصّلت ٤١ : ٤٢.

١٣٦

١ ـ آية الرجم!

كان عمر بن الخطاب يزعم من شريعة رجم المحصن آية قرآنية كانت تقرأ أيّام حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولكنّها نسيت فيما بعد لغير ما سبب معروف!

أخرج البخاري ومسلم بإسنادهما عن ابن عباس ، قال : خطب عمر خطبته بعد مرجعه من آخر حجّة حجّها ، قال فيها : إنّ الله بعث محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله بالحقّ ، وأنزل عليه الكتاب ، فكان ممّا أنزل الله آية الرجم ، فقرأناها وعقلناها ووعيناها ، فلذا رجم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ورجمنا بعده ، فأخشى إن طال بالناس الزمان أن يقول قائل : والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله ، فيضلّوا بترك فريضة أنزلها الله. والرجم في كتاب الله حقّ على من زنى ، إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البيّنة أو كان الحبل أو الاعتراف. (١)

وفي موطأ مالك : خطب عمر عند منصرفه من الحجّ وقال : إيّاكم أن تهلكوا عن آية الرجم ، يقول قائل : لا نجد حدّين في كتاب الله. فقد رجم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ورجمنا. والذي نفسي بيده ، لو لا أن يقول الناس : زاد عمر في كتاب الله تعالى لكتبتها : «الشيخ والشيخة ـ إذا زنيا ـ فارجموهما البتة» فإنّا قد قرأناها.

قال مالك : قال يحيى بن سعيد : قال سعيد بن المسيّب : فما انسلخ ذو الحجّة حتّى قتل عمر. قال يحيى : (٢) سمعت مالكا يقول : قوله : الشيخ والشيخة ، يعني الثيّب والثيّبة. (٣)

ومن الطريف أنّ عمر جاء بآية الرجم عند الجمع الأوّل على عهد أبي بكر ، فلم تقبل منه ، وطلب زيد بن ثابت منه شاهدين يشهدان بأنّها آية من كتاب الله ، فلم يستطع عمر من إقامتهما. (٤) ومع ذلك فقد بقيت ركيزة نفسه يبوح بها بين آونة واخرى ، حتّى أعلن بها

__________________

(١) ـ البخاري ، ج ٨ ، ص ٢٠٨ ـ ٢١١ ، باب رجم الحبلى ؛ ومسلم ، ج ٥ ، ص ١١٦ ؛ ومسند أحمد ، ج ١ ، ص ٢٣ وج ٥ ، ص ١٨٣ ؛ وأبو داود ، ج ٤ ، كتاب الحدود ، باب ٢٣ ، ص ١٤٥ ؛ والترمذي ، ج ٤ ، كتاب الحدود ، باب ٧ ، ص ٣٩ ؛ وابن ماجة ، كتاب الحدود ، ج ٢ ، ص ١١٥ ـ ١١٦ ؛ والدارمي ، ج ٢ ، كتاب الحدود ، باب ١٦ ، ص ١٧٩ ؛ والموطأ ، ج ٣ ، ص ٤٢.

(٢) ـ هو : يحيى بن يحيى الليثي راوي الموطّأ عن مالك ... (تنوير الحوالك ، ص ١٠ و ١١ و ١٣)

(٣) ـ تنوير الحوالك للسيوطي ، ج ٣ ، ص ٤٢ ـ ٤٣. وراجع : فتح الباري لابن حجر ، ج ١٢ ، ص ١٢٧.

(٤) ـ الإتقان ، ج ١ ، ص ١٦٨.

١٣٧

صريحا في مؤخّرة حياته.

لكن شريعة الرجم تخصّ المحصن والمحصنة ، سواء أكانا شيخين أم شابّين ، ومن ثمّ فسّرهما مالك بالثيّبين. ولعلّه اشتبه اللفظ على ابن الخطاب.

ومن المحتمل قويّا أنّه سمع شريعة الرجم من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فظنّها آية قرآنية ، وهذا نظير ما زعمه بشأن الحديث المأثور : «الولد للفراش وللعاهر الحجر» ظنّها ـ أيضا ـ آية قرآنية. قال ـ مخاطبا لابيّ بن كعب ـ : أو ليس كنّا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله «إنّ انتفاءكم من آبائكم كفر بكم»؟ فقال : بلى. ثمّ قال : أو ليس كنّا نقرأ «الولد للفراش وللعاهر الحجر» فيما فقدنا من كتاب الله؟ فقال ابيّ : بلى. (١)

ولعلّه كان يزعم من العبائر ذوات السجع النغمي أنّها آيات قرآنية. في حين أنّها من كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (أفصح من نطق بالضاد). وهذا الاشتباه منه ليس بغريب!

وقد سبقت رواية زيد بن ثابت ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتة (٢) فهي رواية وليست بآية.

أمّا تصديق ابيّ فلعلّه كان تصديقا بجانب كونه وحيا من الله لا قرآنا ، إذ ما ينطق عن الهوى إن هو إلّا وحي يوحى!

٢ ـ آية الرغبة!

وآية اخرى أيضا زعمها اسقطت فيما اسقط من القرآن. قال : إنّا كنّا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله : «إن لا ترغبوا عن آبائكم فإنّه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم. أو ان كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم». (٣)

ولعلّه حديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سمعه عمر فظنّه قرآنا. ولكن لماذا يتردّد في لفظ النص؟ والجميع غير منسجم وغير متناسب مع سائر كلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله! إذ ما معنى الكفر

__________________

(١) ـ الدرّ المنثور للسيوطي ، ج ١ ، ص ٢٥٨.

(٢) ـ المحلّى ، ج ١١ ، ص ٢٣٥.

(٣) ـ البخاري ، ج ٨ ، ص ٢٠٨ ـ ٢١١.

١٣٨

بالنفس؟ وفي لفظ آخر : «إنّ انتفاءكم من آبائكم كفر بكم». (١)

٣ ـ آية الجهاد!

وآية ثالثة زعمها محذوفة من القرآن ، هي آية الجهاد. قال لابن عوف : ألم تجد فيما انزل علينا «أن جاهدوا كما جاهدتم أوّل مرّة» فإنّا لا نجدها؟ قال : اسقطت فيما اسقط من القرآن. (٢)

٤ ـ آية الفراش!

وآية رابعة زعمها ساقطة ، هي قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الولد للفراش وللعاهر الحجر» (٣) على ما أسلفنا عند الكلام عن آية الرجم!

تلك آيات أربع زعمهنّ عمر محذوفات من القرآن ، ولم يتوافق مع زعمه أحد من الأصحاب ، لا زيد ولا ابيّ ولا غيرهما ، وإلّا لسجّلوها في مصاحفهم ، نعم سوى توافقهم على أنّها من الوحي الذي بلّغه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كسائر شرائع الإسلام.

وهذا الاتّفاق على رفض مزعومة ابن الخطاب جعله أيضا يشكّ من نفسه ، ومن ثمّ لم يجرأ على الأمر بثبتها في المصحف حتّى في أيّام سلطته على الحكم. أمّا الاعتذار بخشيته من الناس أن يقولوا : زاد عمر في كتاب الله ، فهو تعليل ظاهري ، لم يكن يمنعه شيء لو كان قاطعا بالأمر!

وعليه فلم يثبت كونهنّ من القرآن حتّى عند قائله الذي شكّ من نفسه.

قال ابن حجر : وقد أخرج الأئمّة هذا الحديث من رواية مالك ويونس ومعمّر وصالح بن كيسان وعقيل وغيرهم من الحفّاظ. وذكر الحديث برواية مالك على ما أسلفنا ، وأخيرا قال : ووقع في «الحلية» في ترجمة داود بن أبي هند عن سعيد بن المسيّب عن عمر :

__________________

(١) ـ الدرّ المنثور ، ج ١ ، ص ٢٥٨.

(٢) ـ المصدر.

(٣) ـ المصدر.

١٣٩

«لكتبتها في آخر القرآن» وفي رواية أبي معشر : «ولو لا أن يقولوا كتب عمر ما ليس في كتاب الله لكتبته» (١) وفي رواية الترمذي «لكتبت في ناحية من المصحف». (٢)

وللإمام بدر الدين الزركشي هنا كلام طويل في توجيه ما صدر عن ابن الخطاب بما لا يغني ولا يسمن من جوع (٣) ويعرّج إلى كلام ابن الجوزي في كتابه «فنون الأفنان في عجائب علوم القرآن» فراجع.

٥ ـ القران (١٠٢٧٠٠٠) حرفا؟!

كان عمر يزعم من عدد حروف القرآن أكثر من مليون حرف. فقد أخرج الطبراني بإسناده ـ عن طريق محمد بن عبيد بن آدم ـ عن ابن الخطاب ، أنّه قال : القرآن ألف ألف حرف وسبعة وعشرون ألف حرف. فمن قرأه صابرا محتسبا كان له بكلّ حرف زوجة من الحور العين. (٤)

لا ندري متى تعلّم الخليفة علم التعداد ، ومن الذي عدّد له حروف القرآن آنذاك ، في حين أنّ المأثور عن ابن عباس ـ المتوافق مع الواقع ـ أنّ حروف القرآن (٣٢٣٦٧١) ثلاثمائة ألف حرف وثلاثة وعشرون ألف حرف وستمائة وواحد وسبعون حرفا. (٥)

قال الذهبي : تفرّد محمد بن عبيد بهذا الخبر الباطل. (٦)

ولعلّ ابن عبيد أيضا لم يكن يعرف من علم الحساب شيئا! إذ لو كان الأمر كما زعم لكان قد ذهب من القرآن أكثر من ثلثيه! ١٠٢٧٠٠٠ ـ ٣٢٣٦٧١ ـ ٧٠٣٣٢٩.

٦ ـ قد ذهب منه قرآن كثير؟

ولعلّ من هكذا تلفيقات موضوعة عن لسان الخليفة نشأت مزعومة ابنه من ضياع قرآن كثير :

__________________

(١) ـ فتح الباري بشرح البخاري ، ج ١٢ ، ص ١٢٧.

(٢) ـ تفسير ابن كثير ، ج ٣ ، ص ٢٦١.

(٣) ـ البرهان في علوم القرآن ، ج ٢ ، ص ٣٥ ـ ٣٧.

(٤) ـ الإتقان ، ج ١ ، ص ١٩٨.

(٥) ـ المصدر.

(٦) ـ ميزان الاعتدال ، ج ٣ ، ص ٦٣٩.

١٤٠