صيانة القرآن من التحريف

الشيخ محمّد هادي معرفة

صيانة القرآن من التحريف

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي معرفة


المحقق: مؤسسة التمهيد
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة التمهيد ـ قم
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-90596-0-0
الصفحات: ٢٧٢

وإعرابا. (١)

كما ويعتقد أنّ القرآن كان مشتملا على مدائح آل الرسول والأئمّة الطاهرين ، وفضائح المنافقين وبيان مساوئهم ، بالتصريح ، وقد اسقطت منه بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله. (٢)

وبهذه المناسبة يقول : وفي بعض الأخبار أنّ هذه الآية (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) (٣) كانت هكذا : «ألست بربّكم ومحمّد نبيّكم وعلي إمامكم قالوا بلى» فحذفوا تمام الآية ، كما تصرّفوا في غيرها من الآيات. (٤)

قلت : لم أجد ـ رغم تتبّعي المستوعب ـ أثرا لهذا الخبر المزعوم. ولعلّه من أوهامه الخاصّة ، أو رواها عن طريق معمّر أبي الدنيا كما زعم المسكين!

والغريب أنّه ينكر على أصحابنا الإمامية في ترجيحهم دليل العقل على النقل في اصول الاعتقادات ، مثل إنكارهم حديث سهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لمخالفته لدليل العقل فى عدم جواز سهوه إطلاقا ، يقول : كيف ينكرون ذلك ويرجّحون دليل العقل على النقل ، مع أنّه ورد الحديث بذلك فيجب قبوله ورفض دليل العقل (٥) ثمّ يقيس مسألة التحريف ويقول : إنّه وردت الأخبار بذلك فيجب قبوله وإن كان مخالفا للعقل الرشيد!

وهكذا تجده مصرّا على القول بالتحريف في جميع تآليفه ، كما بسط الكلام حوله في كلّ من شروحه على الاستبصار والتهذيب وتوحيد الصدوق. (٦)

وقد عرفت أنّه أوّل من طرح مسألة التحريف على منصّة البحث والاستدلال عليه على أساس شوارد الأخبار وغرائب الآثار.

__________________

(١) ـ راجع : الأنوار النعمانية ، ج ٢ ، ص ٣٥٧ ؛ وللسيد الطباطبائي ـ في الهامش ـ ردّ جميل على هذا الاستنتاج الغريب المخالف لرأي الطائفة على الإطلاق.

(٢) ـ المصدر ، ج ١ ، ص ٩٧ ـ ٩٨. وستأتي الإجابة على ذلك بتصريح الإمام الصادق عليه‌السلام أنّ القرآن لم يكن مشتملا على مدح آل البيت صريحا. راجع : الكافي ، ج ١ ، ص ٢٨٦.

(٣) ـ الأعراف ٧ : ١٧٢.

(٤) ـ الأنوار النعمانية ، ج ١ ، ص ٢٧٧. وقد أحسن الردّ عليه الطباطبائي في الهامش.

(٥) ـ المصدر ، ج ٣ ، ص ١٣١.

(٦) ـ صرّح بذلك في رسالته «منبع الحياة» ، ص ٦٨.

١٠١

وتجد دلائله على ذلك ملخّصة في رسالته «منبع الحياة». وقد قام المحدّث الخبير والناقد البصير المرتضى الفيض الكاشاني في وقته بالردّ على دلائله ، في كتابه القيّم «علم اليقين» ، (١) وكذا في سائر كتبه كالصافي والوافي وغيرهما ، وكذا غيره من سائر الأعلام.

ضجّة صاخبة أثارها فصل الخطاب!

قد أسلفنا تواجد الشيخ النوري نفسه في وحشة العزلة منذ أن سلك هذا الطريق الشائك ، إذ وجد من أقطاب الطائفة متّفقة على خلاف رأيه. وكم حاول العثور على رفقة من مشاهير العلماء ولكن من غير جدوى ، وقد أحسّ الرجل من أوّل يومه بشنعات ومسبّات سوف تنهال عليه من كلّ صوب ومكان ، وبالفعل قد حصل ووقع في الورطة التي كان يخافها.

يحدّثنا السيّد هبة الدين الشهرستاني ـ وهو شابّ من طلبة الحوزة العلميّة بسامراء على عهد الإمام الشيرازي الكبير ـ عن ضجّة ونعرات ثارت حول الكتاب ومؤلّفه وناشره يومذاك ، يقول في رسالة بعثها تقريظا على رسالة البرهان التي كتبها الميرزا مهدي البروجردي بقم المقدّسة ١٣٧٣ ه‍.

يقول فيها : كم أنت شاكر مولاك إذ أولاك بنعمة هذا التأليف المنيف ، لعصمة المصحف الشريف عن وصمة التحريف. تلك العقيدة الصحيحة التي آنست بها منذ الصغر أيّام مكوثي في سامراء ، مسقط رأسي ، حيث تمركز العلم والدين تحت لواء الإمام الشيرازي الكبير ، فكنت أراها تموج ثائرة على نزيلها المحدّث النورى ، بشأن تأليفه كتاب «فصل الخطاب» فلا ندخل مجلسا في الحوزة العلمية إلّا ونسمع الضجّة والعجّة ضدّ الكتاب ومؤلّفه وناشره يسلقونه بألسنة حداد ... (٢)

وهكذا هبّ أرباب القلم يسارعون في الردّ عليه ونقض كتابه بأقسى كلمات وأعنف تعابير لاذعة ، لم يدعوا لبثّ آرائه ونشر عقائده مجالا ولا قيد شعرة.

__________________

(١) ـ راجع : علم اليقين ، ج ١ ، ص ٥٦٥.

(٢) ـ البرهان للبروجردي ، ص ١٤٣ ـ ١٤٤.

١٠٢

وممّن كتب في الردّ عليه من معاصريه ، الفقيه المحقّق الشيخ محمود بن أبي القاسم الشهير بالمعرّب الطهراني (ت ١٣١٣) في رسالة قيّمة أسماها «كشف الارتياب في عدم تحريف الكتاب» فرغ منها في (١٧ / ج ٢ / ١٣٠٢) تقرب من أربعة آلاف بيت في ٣٠٠ صفحة. وفيها من الاستدلالات المتينة والبراهين القاطعة ، ما ألجأ الشيخ النوري إلى التراجع عن رأيه بعض الشيء ، وتأثّر كثيرا بهذا الكتاب ، فقام بتأليف رسالة اخرى فارسية (١) بصدد الإجابة وتوجيه ما قصده من التحريف ، بأنّه ما أراد من الكتاب المحرّف هذا القرآن الموجود بين الدفّتين ، فإنّه باق على حالته الاولى منذ أن توحّدت المصاحف على عهد عثمان ، لم يتغيّر ولم يلحقه زيادة ولا نقصان منذ ذلك الزمان فإلى الآن. بل المراد الكتاب الإلهي المنزل ، فقد سقط منه عند الجمع الأوّل ما ذهب ببعضه ، وذلك في غير الأحكام. وأمّا الزيادة فالإجماع قائم من جميع فرق المسلمين كافّة على أنّه لم يزد في القرآن ولو بمقدار أقصر من آية. ولا كلمة واحدة في جميع القرآن.

فكان يقول ـ دفاعا عن نفسه ، بعد أن وصلته رسالة الردّ ـ : لا أرضى عن الذي يطالع فصل الخطاب أن يترك النظر في الرسالة الجوابية على كشف الارتياب. وكان يوصي كلّ من كانت عنده نسخة من فصل الخطاب أن يضمّ إليه تلك الرسالة ، فإنّها بمنزلة المتمّم لذلك الكتاب والكاشف عن مقصود مؤلّفه.

يقول صاحب الذريعة : سمعت شيخي النوري يقول : إنّي حاولت في هذا الكتاب إثبات أنّ هذا الموجود بين الدفّتين كذلك باق على ما كان عليه في أوّل جمعه كذلك في عصر عثمان ، ولم يطرأ عليه تغيير وتبديل كما وقع في سائر الكتب. فكان حريّا بأن يسمّى «فصل الخطاب في عدم تحريف الكتاب»! فتسميته بهذا الاسم الذى يحمله الناس على خلاف مرادي ، خطأ في التسمية ، لكنّي لم أرد ما يحملونه عليه. بل مرادي إسقاط بعض الوحي المنزل الإلهي ، وإن شئت فسمّه «القول الفاصل في إسقاط بعض

__________________

(١) ـ فرغ منها في محرّم سنة ١٣٠٣ أي بعد نشر الردّ بسنة.

١٠٣

الوحي النازل». (١)

وقد فرغ من تأليف فصل الخطاب في ٢٨ / ج ٢ / ١٢٩٢. وطبعت في ١٢ / شوّال / ١٢٩٨.

وأيضا كتب في الردّ عليه معاصره العلّامة السيد محمد حسين الشهرستاني (ت ١٣١٥) في رسالة أسماها «حفظ الكتاب الشريف عن شبهة القول بالتحريف». وقد أحسن الكلام في الدلالة على صيانة القرآن عن التحريف وردّ شبهات المخالف ببيان واف شاف. والرسالة في واقعها ردّ على فصل الخطاب ، ولكن في اسلوب ظريف بعيد عن التعسّف والتحمّس المقيت. (٢)

وهكذا كتب في الردّ عليه كلّ من كتب في شؤون القرآن أو في التفسير ، كالحجّة البلاغي (ت ١٣٥٢) في مقدّمة تفسيره (آلاء الرحمن) قال تشنيعا عليه : وإنّ صاحب فصل الخطاب من المحدّثين المكثرين المجدّين في التتبّع للشواذّ وإنّه ليعدّ هذا المنقول من «دبستان المذاهب» ضالّته المنشودة ، مع اعترافه بأنّه لم يجد لهذا المنقول أثرا في كتب الشيعة. (٣)

ثمّ يذكر طرفا من روايات تذرّع بها أهل القول بالتحريف ، ويحكم عليها بالضعف والشذوذ ، وأنّ لها محامل غير ظاهرها المريب ـ كالرواية عن الكافي ـ في قوله تعالى : (هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) ، (٤) قال عليه‌السلام : يعني أمير المؤمنين عليه‌السلام. قال الراوي : تنزيل؟ قال : نعم. (٥)

__________________

(١) ـ الذريعة ، ج ١٠ ، ص ٢٢٠ ـ ٢٢١ : وج ١٦ ، ص ٢٣١ ـ ٢٣٢ ؛ وج ١٨ ، ص ٩. ولصاحب الذريعة رسالة حاول فيها الدفاع عن شيخه النوري أسماها «النقد اللطيف في نفي التحريف عن القرآن الشريف» حاول فيها تأويل ما عرف عن شيخه من القول بتحريف الكتاب. وقدّمه للشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء يطلب رأيه في الكتاب. فقرظه الشيخ ورجّح فيه عدم نشره. ومن ثمّ لم يطبعها امتثالا لأمره. الذريعة ، ج ٢٤ ، ص ٢٧٨. وراجع أيضا كتاب يوم الأربعين للقاضي ، ص ١٥.

(٢) ـ راجع : البرهان للبروجردي ، ص ١٣٨ ـ ١٤٢.

(٣) ـ آلاء الرحمان ، ج ١ ، ص ٢٥. وسنذكر المنقول من كتاب دبستان المذاهب في «التحريف عند حشوية العامة» ، رقم ٢٥ : سورة الولاية المفتعلة.

(٤) ـ المطفّفين ٨٣ : ١٧.

(٥) ـ الكافي ، ج ١ ، ص ٤٣٥ ، رقم ٩١.

١٠٤

فقوله : «يعني» يدلّ على أنّه تفسير. إذ معنى التنزيل هنا هو شأن النزول. فزعمه أهل القول بالتحريف أنّه كان قرآنا فاسقط.

وأخيرا يقول : هذه الرواية وأمثالها قاطعة لتشبّثات فصل الخطاب بما حشّده من الروايات التي عرفت حالها إجمالا وإلى ما ذكرنا وغيره يشير ما نقلناه من كلمات العلماء الأعلام قدّست أسرارهم. (١)

تراجع أم التواء في التعبير؟!

قد سمعت الشيخ النوري تراجعه عن رأيه في التحريف ، زاعما أنّه حاول في كتابه «فصل الخطاب» إثبات عدم تحريف الكتاب المودع بأيدي المسلمين منذ الجمع الأوّل فإلى الآن ، وإن كان هناك تغيير ففي الكتاب النازل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ضاع منه ما غفل عنه الجامعون.

هذا كلامه في «الرسالة الجوابية» التي كتبها ردّا على كتاب «كشف الارتياب» الذي نقض شبهات «فصل الخطاب». ومن ثمّ جعل الرسالة متمّمة للفصل ولم يرض فصلها عنه! وبهذا الاسلوب الملتوي حاول التمويه على اولئك المعترضين الذين قاموا ضدّه وأثاروا العجاج على إقدامه ذلك الجريء! وأظنّه قد فشل في هذه المحاولة ، إذ يقول : إنّي حاولت في هذا الكتاب إثبات عدم تحريف القرآن ، فبالحري أن يسمّى «فصل الخطاب في عدم تحريف الكتاب» العزيز الحميد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

يا لله والتساهل بشأن الكتاب العزيز ، وليته اعترف بخطئه صريحا واستغفر ربّه وأناب ، وترك هذا الالتواء المفضوح!

إنّه حشّد كتابه بأباطيل القول بالتحريف وقاس القرآن بالعهدين (٢) فى التلاعب به ـ

__________________

(١) ـ آلاء الرحمان ، ج ١ ، ص ٢٩.

(٢) ـ راجع الدليل الأوّل من أدلّته الاثنتي عشرة على التحريف ، قال : اليهود والنصارى حرّفوا كتبهم بعد نبيّهم ، فهذه الامّة أيضا لا بدّ أنّ تحرّف القرآن بعد نبيّنا ... فصل الخطاب ، ص ٣٥.

١٠٥

والعياذ بالله ـ ثمّ يقول : إنّي أردت في هذا الكتاب إثبات عدم تحريف القرآن ، وأنّه لم يطرأ عليه تغيير وتبديل كما وقع في كتب العهدين! (١) إن هذا إلّا تناقض صريح ، والتواء في التعبير ، وخداع مكشوف.

ثمّ إنّه في دليله السابع يقول : إنّ ابن عفّان لمّا جمع القرآن ثانيا أسقط بعض الكلمات والآيات من القرآن. وما فعل ذلك إلّا ليمحو ما يخاف منه على سلطانه ، وقد غفل الشيخان عن إسقاطه ، فقام هو بهذا الأمر. (٢)

لكنّه في الرسالة الجوابية يقول : ليس مرادي من الكتاب الذي حصل فيه النقص هذا القرآن الموجود بين الدفّتين ، فإنّه باق على الحال الذي وضع بين الدفّتين في عصر عثمان ، لم يلحقه زيادة ولا نقصان ، بل المراد الكتاب الإلهي المنزل. (٣)

ويقول أيضا : المراد من التحريف الواقع في الكتاب غير التحريف الواقع في كتب العهدين ، فإنّه في القرآن بالتنقيص فقط في غير آيات الأحكام. (٤)

ما أحسن قولهم : توجيه الغلط غلط آخر. يريد أن يرمّم خطأه بارتكاب خطايا أغلظ!

ما هو المفهوم المحصّل من كلامه في الرسالة الجوابية؟!

إنّ محور البحث في مسألة التحريف هي الفترة بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى عام توحيد المصاحف على عهد عثمان. وأمّا بعد عهد عثمان فلم يقل أحد بحصول تغيير في المصحف الشريف فيما سوى التنقيط والتشكيل والترقيم وما شاكل ممّا لا يمسّ جانب أصل النصّ.

فإن حاول إثبات التحريف في هذه الفترة القصيرة فهو من أصحاب القول بالتحريف ، وقد وضع كتابه «فصل الخطاب» لهذه الغاية ، فما وجه الاعتذار ، والتعسّف باد على محيّاه؟!

__________________

(١) ـ في حديثه مع تلميذة الطهراني. الذريعة ، ج ١٦ ، ص ٢٣٢.

(٢) ـ فصل الخطاب ، ص ١٤٩.

(٣) ـ الذريعة ، ج ١٦ ، ص ٢٣١.

(٤) ـ المصدر ، ج ١٠ ، ص ٢٢١.

١٠٦

الفصل السادس

التحريف في كتب العهدين

ماذا يعني التحريف في كتب العهدين؟

قد يزعم بعض أصحاب التزمّت القشريين لزوم التمائل بين أحداث الغابر والحاضر تماما ، حتّى أنّهم لو دخلوا في جحر ضبّ لدخلته هذه الامّة المرحومة ، حذو النعل بالنعل. ومنه مسألة تحريف كتب السالفين ، فيجب أن يقع التحريف في كتاب المسلمين أيضا ، تحقيقا لضرورة التشابه بين الامم!

هذا القياس بهذا الشكل يتركّب من مقدّمتين ، إحداهما صغرى حملية لا بدّ من العلم بتحقّقها أوّلا. والاخرى كبرى شرطيّة يجب ثبوت التلازم الكلّي فيها بين المقدّم والتالي. حسب المقرّر في علم الميزان (المنطق).

وسوف نتكلّم ـ في فصل قادم ـ عن مدى كلّية الشرطيّة التي هي كبرى القياس ، وأن لا ضرورة تدعو إلى لزوم التشابه التام في جميع مناحي حياة السلف والخلف.

أمّا الصغرى فهو موضع دراستنا في هذا الفصل.

قال النوري : التغيير والتحريف في كتب العهدين ممّا لا شكّ فيه ، بعد ملاحظة الآيات الكثيرة ، ومتواتر الأخبار ، وإجماع المسلمين. بل ملاحظة نفس كتب العهدين تكفي

١٠٧

شاهدا لإثبات التحريف ... (١)

قلت : ليس في القرآن ما يدلّ على وقوع التحريف في التوراة والإنجيل ، تحريفا بهذا المعنى المصطلح (تبديل النصّ أو الزيادة فيه أو النقص). وإنّما هو تحريف معنوي : تفسير الكلام على غير وجهه.

ولم يأت في شيء من الأخبار ولا في كلمات علماء الإسلام ما يشيء بوقوع تغيير أو تبديل في لفظ النصّ وتحريفه بالذات ، كما لا شاهد عليه البتة!

وإليك تفصيل هذا الجانب :

قد أسبقنا أنّ التحريف الذي استعمله القرآن بشأن كتب العهدين يراد به التفسير على غير وجهه وهو تحريف معنوي لا غير.

وقال الإمام محمد بن علي الباقر عليه‌السلام : وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرّفوا حدوده ، فهم يروونه ولا يرعونه. (٢)

وقال الشيخ الطوسي ـ في تفسير قوله تعالى : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) ـ : يعني يغيّرونها عن تأويلها. (٣)

وقال الشيخ محمد عبده : من التحريف تأويل القول بحمله على غير معناه ، وهو المتبادر (أي من تعبير القرآن) لأنّه هو الذي حمل اليهود والنصارى على مجاحدة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وإنكار نبوّته ، ولا يزالون يأوّلون البشارات إلى اليوم. (٤)

وقد قال تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ). (٥) وقال : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ). (٦)

وقد صرّح القرآن بأنّ التوراة والإنجيل وسائر الكتب النازلة كانت محفوظة لديهم ، لو أقاموها وعملوا بها لابتهجت بهم الحياة العليا السعيدة : (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ

__________________

(١) ـ فصل الخطاب ، ص ٣٥.

(٢) ـ الكافي ، ج ٨ ، ص ٥٣ ، رقم ١٦.

(٣) ـ التبيان ، ج ٣ ، ص ٤٧٠.

(٤) ـ تفسير المنار ، ج ٥ ، ص ١٤٠.

(٥) ـ آل عمران ٣ : ٧١.

(٦) ـ البقرة ٢ : ١٤٠.

١٠٨

ساءَ ما يَعْمَلُونَ). (١)

وقال بشأن التوراة : (الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً). (٢)

كان أهل الكتاب يجعلون من كتبهم أجزاء مجزّأة ، يبدون للنّاس منها ما ينفع مقاصدهم ، أمّا ما يضرّ منافعهم فإنّهم كانوا يخفونها. كما كانوا يأوّلون البشارات ويفسّرونها على غير مجراها في البشائر بظهور نبيّ الإسلام.

ومن ثمّ فقد مدح اولئك الّذين أخذوا بالكتاب وعملوا بما فيه من غير تحوير أو تأويل : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ). (٣)

وإليك نماذج من تحريفات في تراجم العهدين لا في لفظهما :

تحريف في البشائر

١ ـ جاء في سفر التثينة (أصحاح ١٨ ، عدد ١٥) : «يقيم لك الربّ إلهك نبيّا من (وسطك) من إخوتك مثلي له تسمعون ـ إلى قوله : ـ اقيم لهم نبيّا من وسط إخوتهم مثلك ، وأجعل كلامي في فمه ، فيكلّمهم بكلّ ما اوصيه به». (٤)

هذه ترجمة قام بها المسيحيون تفاديا في الانطباق على المسيح عيسى بن مريم عليه‌السلام حيث انتسابه إلى بني إسرائيل من جهة امّه. فكان نبيّا مختارا من وسط بني إسرائيل.

لكنّها ترجمة محرّفة ، والصحيح : «من مقربك» ترجمة مطابقة للأصل ، أي من قرابتك ليصحّ كونه من إخوة بني إسرائيل لا من أنفسهم ، فكان منطبقا على نبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كان من ولد إسماعيل أخي إسحاق الذي كان أبا لبني إسرائيل.

قال الحجّة البلاغي : والمترجمون إنّما ترجموه بذلك تمويها على العامّة. قال :

__________________

(١) ـ المائدة ٥ : ٦٦.

(٢) ـ الأنعام ٦ : ٩١.

(٣) ـ الأعراف ٧ : ١٥٧.

(٤) ـ الكتاب المقدّس (العهد القديم) ، ص ٣٠٨ ـ ٣٠٩.

١٠٩

ويكفينا صراحة التوراة المتكرّرة بكون ذلك النبي من إخوة بني إسرائيل لا منهم. (١)

٢ ـ وفي سفر اشعياء (أصحاح ٢١ ، ع ٧) : «فرأى ركّابا أزواج فرسان ، ركاب حمير وركاب جمال ...» ، (٢) كانت بشائر بأفراج تأتي على يد «راكبي حمار» كناية عن ظهور المسيح عليه‌السلام. و«راكبي جمال» كناية عن ظهور نبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله.

والترجمة هكذا جاءت بصيغة الجمع ، أمّا الأصل فكان بصيغة الإفراد.

قال الحجّة البلاغي : لأنّ الأصل العبري هكذا : «ورآه ركب صمد ركب حمور وركب جمل» وهو لفظ مفرد ، أمّا الجمع في العبرية فيأتي بلفظ «ركبيم ، جمليم ، حموريم».

قال : وهذه الترجمة المحرّفة (بصيغة الجمع) موجودة في كافّة التراجم المطبوعة ، سوى النسخة المطبوعة في لندن سنة (١٨٥٦ م) والمطبوعة في ادن برغ سنة (١٨٤٥ م). فإنّهما بالإفراد طبقا للأصل.

قال : وهذا التحريف يهدف إلى تمويه الأمر على العوام لئلّا تنصرف أذهانهم إلى خصوص شخص النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لو كان بصيغة الإفراد. (٣)

٣ ـ وهكذا اختلف المترجمون في تفسير كلمة «فارقليطا» معرّب «پيركلوطوس» اليونانية. (والأصل المحفوظ من إنجيل يوحنا هي النسخة اليونانية المترجمة عن الأصل العبري).

جاء في إنجيل يوحنا (أص ١٥ ، ع ٢٦ وأص ١٦ ، ع ٧) تبشير المسيح عليه‌السلام بنبيّ يأتي من بعده ، فيذكره بصفات وسمات ، منها تلك اللفظة ، وقد ترجمت إلى «المبشّر» أو «المسلّي». (٤)

قال فخر الإسلام : كلمة «پارقليطا» سريانية ، مأخوذة عن أصل يوناني هي «پرى قلى طوس» بمعنى «كثير المحمدة» وينطبق تماما على اسم «محمّد وأحمد». لكن القوم زعموها مأخوذة من لفظ «پاراقلى طوس» التي هي بمعنى «صاحب التسلية» ومن ثمّ

__________________

(١) ـ الرحلة المدرسية ، ج ١ ، ص ٧٤.

(٢) ـ العهد القديم ، ص ١٠١٥.

(٣) ـ الرحلة المدرسية ، ج ١ ، ص ٧٥.

(٤) ـ العهد الجديد ، ص ١٧٧ و ١٧٨.

١١٠

ترجموها إلى «المبشّر» أو «المسلّي». (١)

وقال الحجّة البلاغي : الكلمة في الأصل اليوناني «پيركلوطوس» الذي تعريبه «فيرقلوط» بمعنى «كثير المحمدة» الموافق لاسم «أحمد» و«محمّد» ، لكنّهم صحّحوه حسب زعمهم إلى «پيراكلى طوس» ويعبّرون عنه ب «فارقليط» كما عن التراجم المطبوعة بلندن سنة (١٨٢١ و ١٨٣١ و ١٨٤١ م) ومطبوعة وليم بلندن (١٨٥٧ م) على النسخة الروميّة المطبوعة سنة (١٦٦٤ م) والترجمة العبريّة المطبوعة سنة (١٩٠١ م). لكن أبدله بعض المترجمين إلى لفظة «المعزّي والمسلّي» وشاع ذلك. (٢)

شهادة الاسقف الأعظم

يقول القسيس المستبصر فخر الإسلام : كنت عند الاسقف الأعظم أتتلمذ لديه ـ وكان يحبّني ويقرّبني إليه ـ فسألته عن تفسير كلمة «فارقليطا» في السريانية ، و«پيركلوطوس» في اليونانيّة ما هو المراد الحقيقي؟

وكان قد جرى بيني وبين سائر التلامذة حديث ومشاجرة في تفسيرها ومن ثمّ حاولت فهم معناها الصحيح من الأب الأعظم.

فأشفق عليّ الاسقف ولا طفني وأخذته العبرة فقال : يا بنيّ ، يصعب عليّ مخادعتك ، ولكن لو بحت بسرّي هلكت! فحلفت له الأيمان المغلّظة ، أن لا أبوح بسرّه حيّا وميّتا كما أخذ عليّ العهد.

فأعطاني مفتاح غرفة كان قد خصّصها لنفسه ، وكنت قد ظننت أنّ بها أمواله ونقوده التي تعلّق بها ، وأذن لي في فتح صندوق فيه كتب عتيقة ، منها نسختان من الكتاب المقدّس على ورق الجلد ، إحداهما سريانية والاخرى يونانية. وكان تاريخ كتابتهما يعود إلى ما قبل الإسلام.

وكانت ترجمة اللفظة فيهما : «أحمد» و«محمّد» صريحا. (٣)

__________________

(١) ـ بهامش أنيس الأعلام ، ج ١ ، ص ١٣.

(٢) ـ الرحلة المدرسية ، ج ٢ ، ص ٣٣.

(٣) ـ راجع تفصيل القضية في أنيس الأعلام ، ج ١ ، ص ٨ ـ ٢٠.

١١١

شهادة المستشرق (كارلونلينو)

يقول الاستاذ عبد الوهاب النجّار : كنت في سنة ١٨٩٣ ـ ١٨٩٤ م طالبا بدار العلوم. وكان يجلس بجانبي ـ في درس اللغة العربيّة ـ العلّامة الكبير الدكتور «كارلونلينو» المستشرق التلياني. وكان يحضر درس اللغة العربية بتوصية من الحكومة الإيطالية ، فانعقدت أواصر الصحبة المتينة بيني وبينه. فاتّفق ليلة السابع والعشرين من شهر رجب سنة (١٣١١ ه‍) ـ وهي ليلة المعراج ، والشوارع والدرابين مزيّنة والناس في سرور عيد ـ أن خرجنا في درب الجماميز ، وجرى الحديث بيننا بالمناسبة. وقلت له في أثناء الكلام ـ وأنا أعلم أنّه يحمل شهادة الدكتوراه في آداب اليهود اليونانية القديمة ـ : ما معنى «بيريكلتوس»؟ فأجابني : إنّ القسس يقولون : إنّ هذه الكلمة معناها «المعزّى». فقلت له : إنّي أسأل الدكتور «كارلونلينو» الدكتوراه في اللغة اليونانية القديمة ، ولست أسأل قسّيسا! فقال : إنّ معناها «الذي له حمد كثير». فقلت له : هل ذلك يوافق أفعل التفضيل من «حمد»؟ فقال : نعم. فقلت : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من أسمائه «أحمد». فقال : يا أخي أنت تحفظ كثيرا. ثمّ افترقنا ، وقد ازددت بذلك تثبّتا في معنى قوله تعالى حكاية عن المسيح : «ومبشّرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد». (١)

تحريف بلهجة التعبير

هناك نوع آخر من التحريف كان تحريفا بلهجة التعبير ، كانوا يعبّرون بالكلمة تعبيرا محرّفا فيختلف معناها عمّا لو كانت تؤدّى بلهجتها الاولى.

كانت اليهود تلوي ألسنتها عند النطق ببعض الكلمات فتنقلب فحشا ومسبّة. كما قال تعالى عنهم : (مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ). (٢)

__________________

(١) ـ بهامش قصص الأنبياء ، ص ٣٩٧ ـ ٣٩٨ ، برقم ٢ ، والآية ٦ من سورة الصفّ.

(٢) ـ النساء ٤ : ٤٦.

١١٢

قال الإمام الباقر عليه‌السلام : «هذه الكلمة سبّ بالعبرانية ، إليه كانوا يذهبون».

قال الحسين بن علي المغربي : (١) فبحثت عن ذلك فوجدتهم يقولون : راع على وزن قال ـ فعلا ماضيا ـ بمعنى الشرّ والفساد.

قال الحجّة البلاغي : وقد تتبّعت العهد القديم العبراني (وكان رحمه‌الله يعرف العبرية) فوجدت أنّ كلمة «راع» ـ بفتحة مشالة إلى الألف (راعا) تقريبا ـ وتسمّى عندهم قامص ، تكون بمعنى الشرّ أو القبيح (٢) وبمعنى الشرّير واحد الأشرار (٣) وكما في ترجمة الأناجيل بالعبرانية.

و«نا» ضمير المتكلّم ، وفي العبرانية تبدّل ألفها واوا أو تمال إلى الواو ، فتكون «راعنا» ـ ممالة إلى الواو ـ بمعنى شرّيرنا ونحو ذلك. (٤)

وقال الاستاذ عبده : ومن تحريف اللسان وليّه في خطابهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قولهم في التحية «السام عليكم» ـ وهو بمعنى الموت ـ يوهمون بذلك أي بفتل اللسان وجمجمته أنّهم يقولون : «السلام عليكم». وقد ثبت ذلك في الصحيح. وأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد علمه بذلك كان يجيبهم بقوله «وعليكم» أي كلّ أحد يموت. (٥)

تحريف في عقيدة التثليث

جاء في رسالة يوحنّا الاولى (أصحاح ٥ ، عدد ٦ ـ ١٠) : «هذا هو الذي أتى بماء ودم ، يسوع المسيح. لا بالماء فقط بل بالماء والدم. والروح هو الذي يشهد ، لأنّ الروح هو

__________________

(١) ـ هو الوزير الموفّق أبو القاسم المغربي من شيوخ النجاشي. كان أديبا شاعرا فاضلا مترسّلا كثير الفنون ، حافظا وكبيرا من العلماء ، عالما بالحساب والجبر والهندسة. قال ابن أبي الحديد : وكان غاليا في تعصّبه لقحطان مع تشيّعه!

توفّي في النصف من رمضان سنة ٤١٨ ه‍ ب «ميافارقين» ، وكان أوصى بدفن جثمانه في جوار الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام فانتقل إليه. كما أوصى أن يكتب على قبره هذان البيتان :

كنت في سوء الغواية والجهل

مقيما فحان منّي قدوم

تبت من كلّ مأثم فعسى

يمحى بهذا الحديث ذاك القديم

(٢) ـ كما جاء في الفصل الثاني والثالث من السفر الأوّل من العهد القديم.

(٣) ـ كما جاء في الفصل الأوّل من السفر الخامس. وفي ٦٤ و ٧٨ من المزامير.

(٤) ـ آلاء الرحمان ، ج ١ ، ص ١١٣ ـ ١١٤.

(٥) ـ تفسير المنار ، ج ٥ ، ص ١٤٢.

١١٣

الحقّ. فإنّ الذين يشهدون في السماء هم ثلاثة : الأب والكلمة وروح القدس ، وهؤلاء الثلاثة هم واحد. والذين يشهدون في الأرض هم ثلاثة : الروح والماء والدم ، والثلاثة هم في الواحد». (١)

وأكثر المحققين من علماء المسيحية على أنّ العبارة التالية زائدة زيادة تحريفية وهي : «فإنّ الذين يشهدون في السماء هم ثلاثة : الأب والكلمة وروح القدس». زادته الفرقة الكاثوليكية القائلة بالتثليث ، وهم أكثرية الفرق المسيحيّة.

ومن ثمّ فإنّ رئيس الفرقة البروتستانتية والزعيم المصلح للعقائد المسيحيّة عند ما ترجم العهد الجديد إلى لغة أتباعه (الجرمنية) لم يأت بهذه العبارة في ترجمته ، وهكذا طبعت الترجمة الجرمنية عدّة طبعات في حياته من غير هذه الزيادة. كما أوصى بأن لا تمسّ ترجمته يد التحريف ، وجاءت الوصية في مقدّمة الطبعة سنة ١٥٤٦ م. لو لا أنّهم خالفوا وصيّته فأثبتوا الزيادة في الطبعة سنة ١٥٧٤ م. ثمّ حذفوها. وأثبتوها عدّة مرات.

ولدينا ترجمة فارسية خالية عن هذه الزيادة ، هكذا :

«همين است او كه به آب وخون آمد ، يعنى عيسى مسيح. نه به آب فقط ، بلكه به آب وخون. وروح است آنكه شهادت مى دهد ، زيرا كه روح حقّ است. زيرا سه هستند كه شهادت مى دهند ، يعنى روح وآب وخون ، واين سه يك هستند». (٢)

وقد صرّح العلّامتان : كريسباخ وشولز بأنّ العبارة المذكورة إلحاقية. وكذا الاستاذ هورن ، مع تعصّبه الشديد أيضا يقول : إنّها زيادة في النصّ يجب تركها. إلى غيرهم من شرّاح العهد الجديد ، كلّهم اتّفقوا على زيادتها. ولعلّها كانت من شروح وتعاليق على الكتاب ، فادخلت في النصّ ، كما صرّح به بعضهم. (٣)

هذا ، وقد عقد مجلس للمناظرة ـ في شهر رجب سنة ١٢٧٠ ه‍ ـ بين القسّيس «فندر» (٤) ـ أكبر مبشّري المسيحيين في بلدة «أكبرآباد» ـ وبين الشيخ رحمة الله الهندي

__________________

(١) ـ العهد الجديد ، ص ٣٩٠.

(٢) ـ عهد جديد ، ص ٣٩١.

(٣) ـ إظهار الحقّ ، ج ١ ، ص ٣٩٥ و ٤٦٥.

(٤) ـ هو صاحب كتاب ميزان الحق الذي كتبه ردّا على المسلمين.

١١٤

الدلهوي ، وكان ذلك على عهد سلطة الإنگليز الاستعمارية على شبه قارة الهند.

فدار بينهما الكلام حول هذه العبارة. فأوّل ما بادر إليه القسّيس هو الإنكار ، والاعتراف بزيادتها. قال : إنّها ممّا زادته يد التحريف ، ولها نظائر في سبعة أو ثمانية مواضع من العهدين. (١)

وهكذا كتب العلّامة «هورن» مقالا استوعب ١٢ صفحة حول هذه العبارة ، وذكر دلائل الطرفين ، من يقول بزيادتها ومن يقول بأصالتها. وأخيرا رجّح هو زيادتها على يد المحرّفين ، فحكم بوجوب إسقاطها.

وقد أتى العلّامة الدلهوي بخلاصة المقال في كتابه «إظهار الحقّ» (٢) فراجع.

كما كتب الفيلسوف الشهير «إسحاق نيوتن» رسالة أثبت فيها زيادة تلك العبارة. ونظيرها الآية رقم ١٦ (أصحاح ٣) من رسالة بولس الاولى إلى تيموثاؤس. قال : إنّها أيضا من زيادة أهل التجسيد والتثليث. والآية هي : «وبالإجماع عظيم هو سرّ التقوى. الله ظهر في الجسد ، تبرّز في الروح ، تراءى لملائكة ، كرز به بين الامم ، أومن به في العالم ، رفع في المجد». (٣)

لمحة خاطفة عن تاريخ العهدين

إنّ وقفة قصيرة عند تاريخ العهدين تجعل من موقف المحقّق متشكّكا في بقاء النصّ الأصل ، إنّما الباقي هي تراجم ناقصة أو شئت فقل : إنّها كتب مؤلّفة فيما بعد ، وفي ضمنها بعض تعاليم الأنبياء مودعة فيها بالمناسبة.

أمّا العهد القديم المشتمل على (٣٩) كتابا فطابعه طابع كتب التاريخ يسجّل فيها أحداث امّة بالذات. ففيها من تاريخ بني إسرائيل عبر حياتهم السياسية والاجتماعية والدينية.

__________________

(١) ـ راجع : إظهار الحقّ ، ج ١ ، ص ٣٩٦.

(٢) ـ المصدر.

(٣) ـ العهد الجديد ، ص ٣٤٠. وراجع : إظهار الحقّ ، ج ١ ، ص ٤٠٠ ـ ٤٠١.

١١٥

وكذا العهد الجديد المشتمل على (٢٧) كتابا ورسالة ، منها الأناجيل الأربعة المعروفة ، وهي جميعا قصّة حياة المسيح عليه‌السلام ، وفيها من تعاليمه الشيء الكثير حسب رواية مؤلّفيها.

وهذه الكتب قد فقدت نسخها الأصليّة ، وبقيت تراجمها بلغات غير لغتها الاولى. ومن ثمّ فالتحريف إنّما كان في هذه التراجم بالذات وليس في الأصل.

لعلّك تقول : فما تصريح القرآن بوجود التوراة عندهم وفيها حكم الله. (١) وكذا ترغيبهم في العمل بالكتابين وإقامة ما فيهما من تعاليم وأحكام. (٢) فلو لا وجودهما لحدّ ذلك الوقت ـ على الأقل ـ لما كان لذلك التصريح وهذا الترغيب وجه وجيه.

لكن يجب أن لا نتغافل مسألة المجاراة في التسمية. قوله تعالى : (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ). (٣) أي فأتوا بهذه التي تسمّونها التوراة ، فإنّ فيها التحريم والتحليل الذي كان لبني إسرائيل ، حسب زعمكم.

وقوله : (وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ) (٤) أي في هذا الموجود الحاضر أيضا قسط وافر من شريعة الله. لو عملتم بها لكان خيرا لكم. لكنّكم (تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً). (٥)

أمّا الآن فقد جاء الإسلام ليبدي ما كنتم تكتمون (قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ). (٦)

قال الحجّة البلاغي : بل سمّاه التوراة لأنّ اسم ذلك الكتاب (العهد القديم ولا سيّما الأسفار الخمسة) عند اليهود توراة ، فجاراهم في التسمية لكي يجادلهم بالتي هي أحسن. (٧)

قلت : ومن ثمّ عبّر عنهم في سورة آل عمران : ٢٣ وفي سورة النساء : ٤٤ و ٥١

__________________

(١) ـ الآية : ٤٣ من سورة المائدة.

(٢) ـ المائدة ٥ : ٦٦ و ٦٨. وآل عمران ٣ : ٩٣.

(٣) ـ آل عمران ٣ : ٩٣.

(٤) ـ المائدة ٥ : ٤٣.

(٥) ـ الأنعام ٦ : ٩١.

(٦) ـ المائدة ٥ : ١٥.

(٧) ـ الرحلة المدرسية ، ج ٢ ، ص ٣٣.

١١٦

بـ (الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) تعبيرا حقيقيا باعتبار أنّ ما عندهم هو قسط من التوراة والإنجيل فيما بأيديهم من الكتب الموروثة.

وإليك فهرسا موجزا عن العهدين وعن قصّة حياتهما.

العهد القديم

هو عبارة عن مجموعة كتب تبلغ تسعا وثلاثين كتابا ، يرجع تاريخ كتابتها إلى ما بين القرن العاشر ونهاية القرن الثاني قبل الميلاد. أي إلى ما بعد وفاة موسى عليه‌السلام (كانت وفاته سنة ١٤٥١ ق. م) بخمسة قرون تقريبا.

قال الدكتور المحقّق «بوكاي» : كتبت مجموعة العهد العتيق خلال تسعة قرون على أساس تدوين النقول الشائعة. وكان تدوين بنية الأسفار الخمسة المنسوبة إلى نبيّ الله موسى عليه‌السلام حوالي القرن العاشر قبل الميلاد. ثمّ زيدت عليه بعض الإلهيات وروايات الكهنة في عهد متأخّر. وهكذا استمرّ تدوين كتب اخرى طي القرون المتأخّرة. وفي عام (٥٣٨ ق. م) وبه ينتهي الأسر البابلي على يد كورش الكبير ، وبعده عاد كهنة بني إسرائيل إلى كتابة جملة من الكتب منها : كتاب حجى وزكريّا واشعياء الثالث ودانيال وغيرها. وفي القرن الثالث قبل الميلاد كتب كتابا التاريخ وكتاب عزرا ونحميا ـ وفي القرن الثاني كتب «اكله زياستيك». وكتاب أمثال سليمان وكتابا مكابيون ، قرنا قبل الميلاد.

ثمّ يقول : هكذا نجد العهد العتيق يتجلّى أثرا أدبيا لقومية اليهود ، يحتوي على تاريخ حياتهم منذ البدء فإلى عصر ظهور المسيح عليه‌السلام كتبت هذه المجموعة واكملت في الفترة ما بين التاريخين : القرن العاشر والقرن الأوّل قبل الميلاد.

قال : وليس هذا من نظرتي الخاصّة وإنّما هو مأخوذ من معلومات جاءت بها دائرة المعارف العامة من مقال «ژ. ب. ساندروز». (١)

وقال الاستاذ وجدي : يقول نقدة التاريخ : إنّ موسى عليه‌السلام ولد سنة (١٥٧١ ق. م) وتوفّي

__________________

(١) ـ انظر كتابه المترجم «العهدان والقرآن والعلم» ، ص ٢٥ ـ ٢٨ ، ترجمتها الفارسيّة بقلم الدكتور حسن حبيبي.

١١٧

على جبل ينبو في التيه سنة (١٤٥١) فيكون قد عمّر مائة وعشرين سنة. ثمّ ينقل عن دائرة معارف «لاروس» : أنّ قدماء المسيحيين وغيرهم يمجّدون مؤسّس الديانة الموسوية ، وأنّه قد أسّس مدنيّة ودينا. لكنّا لا نملك الكتاب الحقيقي لشريعته. ولقد نسبت إليه التوراة أو الأسفار الخمسة الاولى من الكتاب المقدّس ، ولكن هذه التوراة حاملة لآثار لا نزاع فيها من الحواشي والتنقيحات ومن دلائل اخرى تدلّ على أنّها ألّفت بعد وفاة موسى بعهد طويل. فقد ذكرت فيها أسماء مدن لم توجد إلّا بعد موسى. ويجد القارئ فيها أنّ موسى قد ذكر وفاة نفسه فيه! ويلاحظ تالي التوراة أنّ مؤلّفه الذي لم يذكر اسمه ينوّه عن موسى كما ينوّه عن رجل مات منذ قرون كثيرة. وزيادة على ما تقدّم فإنّ الأسفار الخمسة أسماؤها يونانية ، وتاريخها هو تاريخ الترجمة السبعينيّة. (١)

التوراة المنسوبة إلى موسى عليه‌السلام

وهي الخمسة الاوى من أسفار العهد العتيق (سفر التكوين. وسفر الخروج. وسفر اللاويين. وسفر العدد. وسفر التثنية) تشتمل على ذكر الخلقة وتاريخ حياة الإنسان ومبعث الأنبياء واحدا بعد واحد ، حتّى ينتهي إلى اضطهاد فرعون لشعب إسرائيل ، وقيام موسى بالأمر ، والخروج ببني إسرائيل ، والأحداث الكبرى التي مرّت بهم في التيه ، وموت موسى بها في النهاية (١٤٥١ ق. م).

وقد قلنا : إنّ هذه الأسفار لا تصلح أن تكون هي التوراة الأصلية التي نزلت على موسى عليه‌السلام في ألواح.

نعم ، تلك الألواح التي كان مكتوبا عليها شريعة موسى عليه‌السلام جعلت في صندوق ، وكانت مع بني إسرائيل يحفظها الكهنة يدا بيد.

لكنّها ـ حسب ما جاء في سفر الملوك الأوّل (أصحاح ٨ ، عدد ٩) ـ ضاعت على عهد سليمان عليه‌السلام (٩٧١ ـ ٩٣١ ق. م) عند ما أكمل بناء البيت وأراد نقل التابوت إلى محراب

__________________

(١) ـ دائرة معارف القرن العشرين لفريد وجدي ، ج ٩ ، ص ٥٥٣ ـ ٥٥٤.

١١٨

القدس عام (٩٦٠ ق. م) أي بعد موت موسى عليه‌السلام بأربعمائة وتسعين عاما. وذلك أنّ الكهنة ـ حينذاك ـ فتّشوا التابوت فلم يجدوا فيه سوى لوحين من ألواح الشريعة. (١) ولم يكن على اللوحين المذكورين سوى عشرة من أحكام الشريعة ، أمّا البقية فقد ضاعت إلى غير أثر. (٢)

وهل عثروا عليها بعد ذلك العهد؟

جاء في سفر الملوك الثاني (أصحاح ٢٢ ، عدد ٨) : أنّ «حلقيّا» الكاهن الأعظم عثر على سفر الشريعة أثناء محاسبته للنقود المتبرّعة في صندوق البيت. وذلك بعد أن مضى من ملك «يوشيّا» (٣) سبعة عشر عاما ، أي سنة (٦٢٢ ق. م) فسلّمه إلى كاتب الملك «شافان» الذي كان ناظرا في أمر العمّال الشاغلين لترميم ثلم البيت آنذاك. فجاء به شافان إلى الملك فاستبشر به وطار فرحا ، لما فيه من نعمة غير مترقّبة. فأعلن به الملك وقرأه على عامة بني إسرائيل في اجتماع عظيم.

وكان بنو إسرائيل قد انحرفوا قبل ذلك وأفسدوا واتّخذوا الأصنام ، فاهتمّ الملك بإعادة الشريعة وتطهير البيت من الأوثان ، وطرد السحرة والعرّافين وجميع الرجاسات من أرض يهوذا ومن كافّة أنحاء اورشليم. هكذا يصفه سفر الملوك الثاني : كان متّجها بكلّ قلبه إلى الله ، ساعيا في إحياء شريعته بكلّ قوّة. فلم يكن قبله ولا جاء بعده أحد مثله. (٤)

هذا ، ولكنّ الأمر مريب ، وهل كان «حلقيّا» صادقا في عثوره على سفر الشريعة بعد ضياعه ذلك الأمد البعيد؟ فقد طال دور الضياع أكثر من ثلاثة قرون (٣٣٨) من سنة (٢٦٠) إلى (٦٢٢) قبل الميلاد ، وكان الخطوب خلال هذه المدّة تترى على القدس ، فقد تعرّض البيت للنهب والغارة مرّات ، منها عام (٩٢٧ ق. م) حيث أغار «شيشاق» فرعون

__________________

(١) ـ الكتاب المقدّس (العهد القديم) ، ص ٥٤٥.

(٢) ـ أنيس الأعلام ، ج ٣ ، ص ١٧٠. وراجع : الجزء الثاني أيضا ، ص ٢٢ ـ ٢٣. وراجع سفر التثنية (إصحاح ٥ ، عدد ٢٢) ، الكتاب المقدّس (العهد القديم) ، ص ٢٨٨.

(٣) ـ ملك يوشيا إحدى وثلاثين سنة أي من عام (٦٣٩) إلى (٦٠٩) ق. م.

(٤) ـ العهد القديم ، ص ٦٢٧ ـ ٦٢٨ ، إصحاح ٢٣ ، ع ٢٤ ـ ٢٥ ، الملوك الثاني.

١١٩

مصر على صهيون وخرّب بلادهم وأباد آثارهم وسلب البيت ونهب ما فيه. ومنها ما تكرّر على عهد الملك الإسرائيلي المرتد «منسيّ» (٦٩٨ ـ ٦٤٢ ق. م) حيث دعا إلى عبادة الأوثان وأفسد الشريعة واستبدل من القدس الذي هو بيت عبادة معبدا للأصنام والأرجاس.

هذا ، ولم يكن البيت ـ أثناء تلك المدّة الطويلة ـ بمعزل عن الزوّار والنظّار ، والحرس والخدم يعملون في تنظيفه ومراقبته كلّ صباح ومساء ، فأين كان السفر المزعوم مختبئا عن الأنظار؟!

نعم ، هو أمر مدبّر ، قد دبّر بليل. ولعلّ الملك ـ وهو يحاول الإصلاح الديني ـ قد تواطأ مع الكاهن الأعظم في اختلاق هذا العثور. أو لعلّ الكاهن هو الذي دبّر الأمر بنفسه ـ حسب ما احتمله فخر الإسلام ـ (١) حيث رأى من الملك منذ بدايته نشاطا في ترويج الدين وإقامة الشعائر ، ففكّر في دعمه بجمع شتات أحكام الشريعة وتدوينها في سفر كما كانت من ذي قبل ، فجمعها خلال سبعة عشر عاما ، وعند ما أكملها قدّمها إلى الملك بتلك الحجّة المختلقة وبذلك الاسلوب المريب.

والمعروف من عادة كهنة صهيون جواز الكذب في صالح الدين. قالوا : ويجب ذلك إذا توقّف ترويج الشريعة على الكذب والتزوير. (٢)

وهكذا راجت الكذبة على لسان الأنبياء ـ حسبما زعموا ـ كما في أنبياء كذبوا على الملك «آحاب» لإغرائه. وكان ذلك بأمر من الربّ ، نفث روح الكذب في أنبيائه ليكذبوا ، وجعل الكذب على أفواههم. (٣)

قال ارميا ـ في رسالة أرسلها إلى سبي بابل ـ عن نبيّين كانا مع السبي : إنّهما قد كذبا على الله. وهما : آحاب بن قولايا وصدقيّا بن معسيّا. وسوف يبتليان بقتل ذريع بيد ملك

__________________

(١) ـ راجع : أنيس الأعلام ، ج ٢ ، ص ٢٧ ـ ٢٩ وج ٣ ، ص ١٧٥.

(٢) ـ كتبه عنهم المورّخ الشهير «موشيم» في كتابه «رجال القرن الثاني» ، ط ١٨٣٢ ، ص ٦٥ ، بنقل أنيس الأعلام ، ج ٣ ، ص ١١٣.

(٣) ـ انظر الإصحاح ٢٢ ع ، ١١ ـ ٢٤ ، الملوك الأول ، ص ٥٧٨.

١٢٠