أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٥

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٥

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: د. أحمد محمد المهدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب والوثائق القوميّة
المطبعة: مطبعة دار الكتب والوثائق القوميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 977-18-0328-x
الصفحات: ٣١٨

قلنا : لأنه كان مجتهدا وقد قال : هذا القتل جرى فى غير سلطانى ؛ فلا يلزمنى حكمه» (١) وذلك لأنه كان قتله قبل عقد الإمامة لعثمان [وهذا هو مذهب أبى حنيفة رحمه‌الله] (٢).

قولهم : إنه أراد أن لا يقيم الحد على الوليد بن عقبة بشرب الخمر ، لا نسلم ذلك ؛ بل لعله أخّر استيفاء الحد ؛ ليكون على ثقة من شربه الخمر ، ولهذا فإنه حدّه بعد ذلك (٣).

قولهم : إنّه كاتب ابن أبى السّرح سرّا بما يخالف كتابه له جهرا ، وأنه أمره بقتل محمد بن أبى بكر.

لا نسلم ذلك ؛ فإنه قد حلف أنه ما فعل شيئا من ذلك ، وما أمر بقتل محمد بن أبى بكر. ولا يخفى ما كان عليه من الديانة والأمانة ، فنسبة التزوير فى كتابه ، والكذب فى ذلك إلى غيره ممّن تمالأ على قتله ، من السفساف الأوباش أولى (٤).

قولهم : إنه حمى لنفسه حمى ، وأتم الصلاة فى السفر.

قلنا : أما الحمى فلم يختص هو به ، فإنه كان فى زمن الشيخين.

فلئن قالوا : إلا أنه زاد فى ذلك.

قلنا : لاحتمال زيادة المواشى ، والأمور المصلحية ممّا يختلف باختلاف الأوقات بالزيادة ، والنقصان (٥).

وأما إتمام الصلاة فى السفر ، فإنما كان ؛ لأن الإتمام هو الأصل ، وغايته أنه عدل عن الرخصة إلى العزيمة (٦).

__________________

(١) قارن هذا الرد بما ورد فى المغنى للقاضى عبد الجبار ٢٠ / ٥٦ من القسم الثانى وبرد الباقلانى فى التمهيد ص ٢٢٤.

(٢) ساقط من (أ).

(٣) قارن رد الآمدي بما ورد فى المغنى للقاضى عبد الجبار ٢٠ / ٤٧ من القسم الثانى.

(٤) قارن هذا الرد بما ورد فى المغنى للقاضى عبد الجبار ٢٠ / ٤٧ ، ٤٨ من القسم الثانى وبما ورد فى التمهيد للباقلانى ص ٢٢٥.

(٥) قارن هذا الرد بما ورد فى كتاب المغنى للقاضى عبد الجبار ٢٠ / ٥٢ من القسم الثانى وبما ورد فى التمهيد للقاضى الباقلانى ص ٢٢٢.

(٦) قارن رد الآمدي على الخصوم بما ورد فى التمهيد للباقلانى ص ٢٢٣ وما بعدها.

٢٨١

قولهم : إنه رقى فى المنبر إلى موضع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وخالف الشيخين.

قلنا : إن النزول عنه ليس من الواجبات ؛ بل غايته أن يكون من المندوبات ، ومن ترك مندوبا ، لا يعد مخطئا كما سبق تقريره (١).

__________________

(١) قارن رد الآمدي ، برد القاضى للباقلانى ص ٢٢٥ وما بعدها.

٢٨٢

الفصل السابع

فى إثبات إمامة على بن أبى طالب رضي الله عنه (١)

ولا يخفى أن عليا كان مستجمعا للخلال الشريفة ، والمناقب المنيفة التى ببعضها يستحق الإمامة ، وأنه اجتمع فيه من فضائل الصفات ، وأنواع الكمالات ما تفرّق فى غيره من الصحابة (٢) ، [حتى إذا قيل من أشجع الصحابة] (٣) ، وأعلمها وأعبدها ، وأزهدها ، وأفصحها ، وأسبقها إيمانا ، وأكثرها مجاهدة بين يدى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأقربها نسبا ، وصهارة منه ، كان عليا ـ عليه‌السلام ـ معدودا فى أول الجريدة ، وسابقا إلى كل فضيلة حميدة ، ولذلك قال فيه ربّانى هذه الأمة عبد الله بن عباس وقد سأله معاوية عنه فقال : «كان والله للقرآن تاليا ، وللشرّ قاليا ، وعن المين نائيا ، وعن المنكر ناهيا ، وعن الفحشاء ساهيا ، وبدينه عارفا ، ومن الله خائفا ، وعن الموبقات صادقا ، وبالليل قائما ، وبالنهار

__________________

(١) على بن أبى طالب بن عبد المطلب الهاشمى القرشى ، أبو الحسن أمير المؤمنين ، أول من أسلم من الصبيان ، وأحذ العشرة المبشرين بالجنة وابن عم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ، وصهره ، ورابع الخلفاء الراشدين أحد الشجعان الأبطال ومن أكابر الخطباء والعلماء. ولد بمكة المكرمة سنة ٢٣ قبل الهجرة ، وتربى فى بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يفارقه. نام فى فراش النبي ليلة الهجرة وبقى بعده بمكة ليرد الأمانات إلى أهلها. كان اللواء بيده فى أكثر المشاهد. ولم يتخلف عن مشهد منها سوى غزوة تبوك عن سعد بن أبى وقاص قال : خلف رسول الله ، على بن أبى طالب فى غزوة تبوك فقال : يا رسول الله تخلفنى فى النساء والصبيان؟ فقال : «أما ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى؟ غير أنه لا نبى بعدى» أخرجاه فى الصحيحين. تولى الخلافة بعد قتل عثمان رضي الله عنه سنة ٣٥ ه‍ وأراد بعض كبار الصحابة القبض على قتلة عثمان ، وقتلهم وكانوا فى شوكة ، وتوقى على رضي الله عنه الفتنة ؛ فتريث ؛ ولكن غضب بعض الصحابة وخرجوا عليه وحدثت الفتنة الكبرى التى فرقت المسلمين ، وأثرت فى الدولة الإسلامية ؛ وركب الموجبة الطلقاء وأصحاب الأغراض الدنيئة وجيشوا الجيوش ورفعوا قميص عثمان ؛ وهم الذين تخلوا عنه وأساءوا إليه أبلغ الإساءة ، وكانوا السبب فيما حدث له. وكان على رضي الله عنه وأبناؤه من بعده من ضحايا هذه الفتنة ، فاستشهد رضى الله عنه حيث قتله عبد الرحمن بن ملجم المرادى غيلة فى السابع عشر من رمضان سنة ٤٠ ه‍ روى رضي الله عنه (٥٨٦) حديثا) ، رحمه‌الله ورضى عنه.

[ابن الأثير حوادث سنة ٤٠ ه‍ ، وصفة الصفوة ١ / ١١٦ ـ ١٢٦ ترجمة رقم (٥) ، والإصابة الترجمة رقم ٥٦٩٠ والأعلام ٤ / ٢٩٥ ، ٢٩٦].

(٢) لمزيد من البحث والدراسة بالإضافة لما ورد هاهنا : انظر : التمهيد للباقلانى ص ٢٢٧ وما بعدها ، وأصول الدين للبغدادى ص ٢٨١ وما بعدها ونهاية الأقدام ص ٤٨٠ وما بعدها ، والفصل فى الملل والأهواء والنحل لابن حزم ٤ / ١٤٩ وما بعدها والمعتمد فى أصول الدين ص ٢٣١ ، والإرشاد للجوينى ٢٤١ وما بعدها. والمحصل للرازى ص ٥٧٣ وما بعدها ، والمغنى ٢٠ / ١ ، ٢ فى مواضع عدة. شرح الأصول الخمسة ص ٧٤٩ وما بعدها ، غاية المرام ص ٣٦٣ وما بعدها. والمواقف للآيجى ص ٣٩٥ ـ ٤١٤ وشرح المواقف ـ الموقف السادس ص ٢٧٦ ـ ٣٣٧.

وشرح المقاصد للتفتازانى ٢ / ١٩٩ وما بعدها.

(٣) ساقط من (أ).

٢٨٣

صائما ، ومن دنياه سالما ، وعلى العدل فى البرية عازما ، وبالمعروف آمرا ، وعن / المهلكات زاجرا وبنور الله ناظرا ، ولشهوته قاهرا ، فاق المسلمين ورعا ، وكفافا ، وقناعة ، وعفافا ، وسادهم زهدا ، وأمانة ، وبرا ، وحياطة ، كان والله حليف الإسلام ، ومأوى الأيتام ، ومحل الإيمان ، ومنتهى الإحسان ، وملاذ الضعفاء ، ومعقل الحنفاء ، وكان للحق حصنا منيعا ، وللناس عونا متينا ، وللدين نورا ، وللنعم / / شكورا ، وفى البلاء صبورا.

كان والله هجادا بالأسحار ، كثير الدموع عند ذكر النار ، دائم الفكر فى الليل والنهار ، نهاضا إلى كل مكرمة ، سعاء إلى كل منجية ، فرارا من كل موبقة ، كان والله علم الهدى ، وكهف التقى ، ومحل الحجى ، وبحر الندى ، وطود النّهى ، وكنف العلم للورى ، ونور السفر فى ظلام الدّجى ، كان داعيا إلى المحجة العظمى ، ومستمسكا بالعروة الوثقى ، عالما بما فى الصحف الأولى ، وعاملا بطاعة الملك الأعلى ، عارفا بالتأويل ، والذكرى ، متعلقا بأسباب الهدى ، حائزا عن طرقات الردى ، ساميا إلى المجد ، والعلى ، وقائما بالدين ، والتقوى ، وتاركا للجور والعدوى ، وخير من آمن ، واتقى ، وسيد من تقمص ، وارتدى ، وأبر من انتقل وسعى ، وأصدق من تسربل ، واكتسى ، وأكرم من تنفس ، وقرا ، وأفضل من صام وصلّى ، وأفخر من ضحك ، وبكى ، وأخطب من مشى على الثرى ، وأفصح من نطق فى الورى ، بعد النبي المصطفى ، فهل يساويه أحد؟ وهو زوج خير النسوان فهل يساويه بعل؟ وأبو السبطين فهل يدانيه خلق؟ وكان والله للأشداء قتالا ، وللحرب شعالا ، وفى الهزاهز ختّالا» هذا مع ما ورد فيه من الأخبار الصحيحة الدالة على فضيلته ، والآثار المثبتة على علو شأنه ، ورتبته كما قررناه وأوردناه فيما تقدم.

هذا فيما يتعلق بالصفات الموجبة لاستحقاق الإمامة.

وأما الوجه الثانى : فى إثبات إمامته ، فإجماع الأمة عليه بعد مقتل عثمان واتفاقهم على استخلافه [وإمامته ، واتباعهم له فى حلّه ، وإبرامه ، ودخولهم تحت قضاياه ، وأحكامه من غير منازع ، ولا مدافع. وذلك دليل على إثبات إمامته] (١) لما سبق فى إثبات إمامة أبى بكر رضي الله عنه.

__________________

/ / أول ١٨٠ / أ.

(١) ساقط من (أ).

٢٨٤

فإن قيل : سلمنا دلالة ما ذكرتموه على كونه أهلا للإمامة ؛ لكنه معارض بما يدل على عدمها ، وبيانه من وجهين : ـ

الأول : أنه مالأ على قتل عثمان ، مع اتفاق الأمة على تحريم قتله ، ويدل عليه قول عليّ وقد سئل : هل قتلت عثمان؟ قال : «الله قتله ، وأنا معه» (١). وروى أنه قال :

«دم عثمان فى جمجمتى هذه (٢).

والّذي يؤكد ذلك أن قتلة عثمان كانوا فى عسكره وكان قادرا عليهم ولم يقتلهم ؛ بل كانوا عضّاده ، وأنصاره وبطانته ، ولذلك كتب إليه معاوية كتابا ومن جملته : «إنك رضيت بقتل عثمان لأنك قبّحت ذكره ، وألّبت عليه الناس حتى جاءوا من هنا ، ومن هاهنا ، ولو أنك قمت على بابه مقام صدق ، ونهنهت عنه بكلمة رجعوا.

والدليل عليه أن قتلته أعضادك ، وأنصارك ، وبطانتك ، فإن قتلتهم عنه أجبناك ، وأطعناك ، وإن لم ، فو الله الّذي لا إله إلا هو لنطلبنّ قتلة عثمان فى البرّ ، والبحر» (٣).

الثانى : أن الخوارج كفّرته ؛ حيث أنه حكّم الرجال ، ولم يحكم بكتاب الله وسنة رسوله (٤) ، وقد قال تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) (٥).

[وإن] (٦) سلمنا أنه كان أهلا للإمامة ؛ لكن لا نسلم إجماع الأمة على / عقد الإمامة [له] (٧) ، ويدل عليه أمران : ـ

الأول : أنه روى أن طلحة ، والزبير ، وهما من أجلاء الصحابة ، ومن جملة العشرة المقطوع لهم بالجنة ، تخلفا عن بيعته (٨) ، وأنهما أخرجا من منزليهما مكرهين ، وقد أحاط بطلحة أهل البصرة ، وبالزبير أهل الكوفة ، وجىء بهما إلى عليّ فبايعاه مع الكراهة (٩). ولذلك نقل عن طلحة بعد ذلك أنه قال : «بايعته أيدينا ، ولم تبايعه قلوبنا» ، ولهذا فإنهما خرجا عليه ، وقاتلاه بالبصرة ؛ فقتلا.

__________________

(١) راجع هذا القول فى وقعة صفين ص ٦٣ ، والتمهيد للباقلانى ص ٢٣٥ ـ ٢٣٦.

(٢) راجع التمهيد للباقلانى ص ٢٣٦.

(٣) ورد بألفاظ قريبة فى : وقعة صفين ص ٨٧ ، والعقد الفريد ٥ / ٩١ ـ ٩٢.

(٤) راجع فى هذه المسألة (تكفير الخوارج للإمام على ـ كرم الله وجهه ورضى عنه).

مقالات الإسلاميين للأشعرى ص ٦ ، ص ٤٥٢ ، والمغنى ٢٠ / ٢ / ٩٥ ـ ١١١.

(٥) سورة المائدة ٥ / ٤٤.

(٦) ساقط من (أ).

(٧) ساقط من (أ).

(٨) راجع ما ورد فى التمهيد للباقلانى ص ٢٣٠ وما ورد فى المغنى ٢٠ / ٢ / ٦١.

(٩) راجع ما ورد فى تاريخ الطبرى ٥ / ٤٣٤ ، ٤٣٥.

٢٨٥

الثانى : أن جماعة من سادات الصحابة ، وأجلائهم : كعبد الله بن عمر ، وسعد ، ومحمد بن مسلمة الأنصارى ؛ لم يعاضدوه على أعدائه ، ولم يوافقوه فيما عرض له من مهامه (١).

ولو كان ممن انعقدت إمامته ؛ لما تخلفوا عن نصرته ، ولما تأخروا عن معاضدته ، كما كان حالهم بالنسبة إلى من تقدم من الخلفاء الراشدين ؛ لعلمهم أنّ ذلك من الواجبات ، وأن التّخلف عنه من المحرّمات.

والجواب : قولهم : إنه مالأ على قتل عثمان. لا نسلم ، وذلك فإنه قد / / روى عنه ـ عليه‌السلام ـ أنه قال : «والله ما قتلته ، ولا مالأت على قتله» (٢) ، وأنه أنفذ إليه الحسن ، والحسين يستأذنه فى نصرته ، فقال عثمان : «لا حاجة لى فى ذلك» ، وقوله : «والله قتله وأنا معه» ، لم يرد به أنه أعان على قتله بوجه من الوجوه ؛ بل معناه : والله يقتلنى معه ، وإنما ذكر مثل هذا اللفظ الموجه إرضاء للفريقين ومداراة للحزبين ، حتى لا يختل عليه الأمر ، ويتشوش الحال.

وقوله : «دم عثمان فى جمجمتى» أمكن أن يكون على طريق الاستفهام ومعناه : أتظنون أن دمه فى جمجمتى ، وأمكن أن يكون معلقا بشرط فى نفسه وتقديره : إن لم أستوفه مع القدرة عليه ، ويجب الحمل على ذلك جمعا بينه وبين إنكاره ، والحلف عليه (٣).

قولهم : إنه كان قادرا على قتل من قتل عثمان ، ولم يقتلهم به.

قلنا : إنما لم يقتلهم ؛ لأنه قد روى أنه كان يقول : «ليقم قتلة عثمان ، فيقوم أكثر عسكره» ، فرأى المصلحة فى تأخير ذلك إلى وقت الإمكان ، وأنه لو أقدم على ذلك لتشوش عليه الحال ، واضطرب الأمر ، وآل الحال فى حقه ، إلى ما آل إليه حال عثمان. وأمكن أن يقال : إن قتلة عثمان كانوا جماعة ، ولم يكن ممّن يرى قتل الجماعة بالواحد ، فإن ذلك من المسائل الاجتهادية ، وهو فقد كان من أهل الاجتهاد (٤).

__________________

(١) قارن هذا الطعن بما ورد فى التمهيد للباقلانى ص ٢٣٣ ولمعرفة من تخلف عن نصرته.

انظر تاريخ الطبرى ٤ / ٤٣١ ، ومروج الذهب ٥ / ٩٧.

/ / أول ل ١٨٠ / ب.

(٢) راجع طبقات ابن سعد ٣ / ١٩ ، وشرح النهج ١ / ١٥٨ ، والنهاية فى غريب الحديث ٤ / ٣٥٣.

(٣) قارن بما ورد فى التمهيد للباقلانى ص ٢٣٦.

(٤) ارجع إلى ما ورد فى الفصل ٤ / ١٥٥ ـ ١٥٩ وما ورد فى المغنى ٢٠ / ٢ / ٩٥ ـ ١١١.

٢٨٦

قولهم : إن الخوارج كفّرته بتحكيمه للرجال.

قلنا : لا نسلم أن ذلك موجب للتكفير ، وقوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) (١) لا نسلم العموم فى صيغة من وما ، على ما عرف من أصلنا.

سلمنا العموم فيها ، ولكن غاية الآية الدلالة على تكفير من لم يحكم بما أنزل الله ، ولم يثبت أن عليا ، لم يحكم بما أنزل الله ؛ بل غايته أنه حكّم ، ولا يلزم من التحكيم الحكم ، ولا عدم الحكم بما لم ينزل الله ؛ ليكون كافرا.

قولهم : لا نسلم إجماع الأمة على إمامته.

قلنا : دليله ما سبق.

قولهم : إن طلحة ، والزبير تخلفا عن بيعته ، وأنهما لم يبايعاه إلا كرها ، ليس كذلك ؛ بل إنما بايعاه طوعا ، وما ذكروه فى الدلالة على الكراهية ، فمن أكاذيب كتب السير ، والتواريخ / التى لا ثبت لها عند المحققين (٢).

قولهم : إنهما قاتلاه ، وخرجا عليه.

قلنا : أمكن أن يكون ذلك لا لبطلان إمامته ؛ بل لظنهما أنه كان متمكنا من قتل قتلة عثمان ، ولم يقتلهم ، وظنّا باجتهادهما أن ذلك ممّا يسوغ قتاله ، والخروج عليه ، وهما مخطئان فيه ، ولهذا نقل عنهما ، أنهما تابا عن ذلك قبل قتلهما.

قولهم : إن جماعة من سادات الصحابة لم يعاضدوه ، ولم ينصروه كعبد الله بن عمر ، وسعد ، وغيرهما.

قلنا : لم يتركوا ذلك ، لاعتقادهم أنه ليس بإمام ؛ بل لأنهم استعفوه من الخروج معه ، لضعف كان بهم ، وعلم عليّ ـ عليه‌السلام ـ ضعفهم عن ذلك ، فأعفاهم منه. وأيضا : فإنهم كانوا مجتهدين ، وقد غلب على ظنونهم جواز التخلف عنه ، خوف الوقوع فى الفتنة ؛ لما روى سعد عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال : «ستكون فتنة القاعد فيها ، خير من

__________________

(١) سورة المائدة ٥ / ٤٤.

(٢) قارن ما ورد هاهنا بما ورد فى التمهيد للباقلانى ص ٢٣١ وما بعدها. والفصل ٤ / ١٥٧ وما بعدها.

٢٨٧

القائم ، والقائم فيها خير من الماشى ، والماشى خير من الساعى» (١) ، فأطاعوه فى الإمامة ، وخالفوه فى جواز التخلف عنه ؛ لكونه من المسائل الاجتهادية.

وعلى ما ذكرناه من عقد الإمامة بالإجماع ، على نصب الإمام عند كونه مستجمعا لشرائط الإمامة ، جرت العادة واطردت السنة فى إقامة كل إمام فى عصره ، وهلم جرا إلى عصرنا هذا.

وقوله ـ عليه‌السلام ـ : «الخلافة بعدى ثلاثون سنة ، ثم تصير ملكا عضوضا» (٢) ، ليس فيه ما يدل على أن الخلافة منحصرة فى الخلفاء الراشدين ، وهم أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعليّ ـ رضى الله عنهم حيث أن مدة خلافتهم وقعت ثلاثون سنة على وفق ما نطق به النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنه لا خلافة بعد الخلفاء الراشدين ؛ بل المراد به : أن الخلافة بعدى على ما يجب من القيام بوظائف الإمامة ، وإتباع سنتى من غير زيادة ، ولا نقصان ثلاثون سنة ، بخلاف ما بعدها ، فإن أكثر أحكامها ، أحكام الملوك ، ويدل على بقاء الخلافة مع ذلك أمران : ـ

الأول : إجماع الأمة فى كل عصر على وجوب إتباع إمام ذلك العصر ، وعلى كونه إماما ، وخليفة متبعا.

الثانى : أنه قال : «ثم تصير ملكا» والضمير فى قوله : تصير ملكا ، إنما هو عائد إلى الخلافة ؛ إذ لا مذكور يمكن / / عود الضمير إليه غير الخلافة ، وتقدير الكلام ، ثم تصير الخلافة ملكا ، حكم عليها بأنها تصير ملكا ، والحكم على الشيء ، يستدعى وجود ذلك الشيء.

__________________

(١) الحديث متفق على صحته رواه البخارى ومسلم. صحيح البخارى ٤ / ٢٤١ وصحيح مسلم ٨ / ١٦٨.

(٢) ورد هذا الحديث مع تغير فى الألفاظ فى مسند الإمام أحمد ٥ / ٢٢٠ وما بعدها ، وسنن أبى داود ٢ / ٢٦٤.

/ / أول ١٨١ / أمن النسخة ب.

٢٨٨

الفصل الثامن

فى التفضيل

أما الصحابة فقد اختلف فيهم ، فذهب أهل السنة ، وأصحاب الحديث : إلى أن أبا بكر ، أفضل من عمر ، وعمر أفضل من عثمان ، وعثمان أفضل من على وعلى أفضل من باقى العشرة ، والعشرة أفضل من باقى الصحابة ، والصحابة أفضل من التابعين ، والتابعين أفضل ممن بعدهم لقوله ـ عليه‌السلام ـ : «خير القرون القرن الّذي أنا فيه ، ثم الّذي يليه ، ثم الّذي يليه» (١).

وقال الروافض : عليّ ـ عليه‌السلام ـ أفضل الصحابة (٢) ، وزادوا على ذلك وقالوا : إنه أفضل من النبيين بعد رسول الله (٣).

ومن أصحابنا من قال :

إن قلنا إنه تصح إمامة المفضول مع وجود الفاضل ؛ فلا سبيل إلى القطع بتفضيل البعض على البعض (٤).

وإن قلنا : إنه لا تصح / إمامة المفضول مع وجود الفاضل ؛ فأبو بكر أفضل من باقى الصحابة لانعقاد الإجماع على صحة إمامته ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم عليّ عليهم‌السلام.

والّذي عليه اعتماد الأفاضل من أصحابنا : أنه لا طريق إلى التفضيل بمسلك قطعى ، وأما المسالك الظنية فمتعارضة ، وقد يظهر بعضها فى نظر [بعض] (٥) المجتهدين ، وقد لا يظهر ، وقبل الخوض فى تحقيق الحق ، وإبطال الباطل ، لا بدّ من تحقيق معنى الأفضلية ؛ ليكون التوارد بالنفى ، والإثبات على محز واحد.

__________________

(١) ورد فى صحيح البخارى ٤ / ٣٢ بلفظ مقارب «خير أمتى قرنى ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم». وقارن به صحيح مسلم ٧ / ١٨٤ ، ١٨٥ وسنن أبى داود ٢ / ٢٦٥.

(٢) انظر رأى الشيعة فى المغنى ٢٠ / ٢ / ١٢٢ ، ١٢٣.

(٣) القائلون بتفضيل الإمام على ـ كرم الله وجهه ـ على النبيين بعد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ هم الإسماعيلية.

(٤) خصص صاحب المواقف المقصد السادس لهذا الرأى فقال : المقصد السادس : فى إمامة المفضول مع وجود

الفاضل. وتحدث عن الآراء فيها بالتفصيل (شرح المواقف ـ الموقف السادس ص ٣٣١) وانظر هذا الرأى فى الإرشاد للإمام الجوينى ص ٢٤٢ والاقتصاد فى الاعتقاد للإمام الغزالى ص ٢١٩.

(٥) ساقط من ب.

٢٨٩

فنقول : اعلم أن التفضيل بين الأشخاص. قد يطلق ويراد به اختصاص أحد الشخصين عن الآخر : إمّا بأصل فضيلة لا وجود لها فى الآخر ؛ لكونه عالما ، والآخر ليس بعالم ، أو بزيادة فيها ، كونه أعلم (١).

وقد يطلق ويراد به اختصاص أحد الشخصين بأنه أكثر ثوابا عند الله تعالى من الآخر.

وعلى هذا ، فإن أريد بالتفضيل الاعتبار الأول ؛ فلا يخفى أن دليل ذلك غير مقطوع به ؛ لتعارض أدلته ، وذلك أنه ما من فضيلة تبين اختصاص بعض الصحابة بها ، إلّا وقد يمكن بيان مشاركة الآخر له فيها ، وبتقدير أن لا يشاركه فيها ؛ فقد يمكن بيان اختصاصه بفضيلة أخرى ، معارضة لفضيلته ، ولا سبيل إلى الترجيح بكثرة الفضائل ؛ لاحتمال أن تكون الفضيلة الواحدة أرجح من فضائل. وذلك إما لزيادة شرفها فى نفسها ، أو لزيادة كميتها ، وبالجملة فما يقال فى ذلك ؛ فالظنون فيه متعارضة.

وإن أريد بالتفضيل الاعتبار الثانى : فلا يخفى أن معرفة ذلك ممّا لا يستقل به العقل ، وإنما مستنده الأخبار الواردة من الله ـ تعالى ـ فى ذلك على لسان رسوله ، والأخبار الواردة فى ذلك كلها أخبار آحاد لا تفيد غير الظن ، ومع ذلك فهى متعارضة كما سبق. وليس الاختصاص بكثرة أسباب الثواب ، موجبا لزيادة الثواب قطعا ؛ إذ الثواب بفضل من الله على ما سبق فى التعديل والتجوير (٢) ، وقد يثيب غير المطيع ، ولا يثيب المطيع ؛ بل إن كان ولا بدّ فليس إلّا بطريق الظن ، وعلى هذا. وإن قلنا بأن إمامة المفضول ، لا تصح مع وجود الفاضل ، فليس ذلك ممّ ينتهض الحكم فيه إلى القطع ؛ بل غايته الظن ، فإجماع الأمة على إمامة أحد ، وإن كان قاطعا فى صحة إمامته ؛ فلا يكون قاطعا فى لزوم تفضيله (٣).

ولا خلاف بين أهل الحق أن الأنبياء ، أفضل من الأئمة ، وسائر الأمم. وما ذهب إليه [غلاة] (٤) الروافض من تفضيل عليّ ، على غير محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من الأنبياء ، فظاهر

__________________

(١) راجع المغنى ٢٠ / ٢ / ١١٥ وما بعدها.

(٢) راجع ما سبق فى الجزء الأول ـ القاعدة الرابعة ـ النوع السادس الأصل الأول : فى التعديل والتجوير ل ١٨٦ / ب وما بعدها.

(٣) قارن بما ورد فى الإرشاد للجوينى ص ١٤٢ ، والاقتصاد فى الاعتقاد للإمام الغزالى ص ٢١٩.

(٤) ساقط من «أ».

٢٩٠

البطلان ؛ لإجماع سلف الأمة على أن الأنبياء ، أفضل من غيرهم ، ولأن الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ هم المبلغون عن الله ـ تعالى ـ والداعون إليه ، والقائمون بشرائعه ، والمخاطبون من الله ـ تعالى ـ شفاها ، أو بالوحى ، أكثر نفعا للخلق من غيرهم ، وغيرهم فغايته أن يكون تابعا لسنتهم ، وسالكا لطريقتهم ؛ فلا يكون غير الأنبياء أفضل منهم ، ومع ذلك فمحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أفضل النبيين ، والمرسلين ، وسيد الأولين ، والآخرين ؛ لانعقاد الإجماع من الأمة على ذلك. ولقوله ـ عليه‌السلام ـ لعائشة / / «أنا سيّد العالمين» (١) ولما ورد فيه من الآثار ، والأخبار التى مجموعها ينزل منزلة التواتر ، وإن كانت آحادها آحادا.

وأما زوجات / النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقد ذهب أهل السنة ، وأصحاب الحديث إلى أن عائشة أفضل نساء العالمين لقوله ـ عليه‌السلام ـ : «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على غيره من الطعام» (٢) ، ولما روى عنه ـ عليه‌السلام ـ أنه قال : «كل مع صاحبه فى الدرجة». ولا يخفى أن درجة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أعلى من درجات كل الخلق من الرجال ، فنسبة درجة عائشة إلى درجات غيرها من النساء كنسبة درجة النبي ، إلى درجات غيره ، ولأنها كانت مختصة بخدمته ، وتحمل أثقاله وكلفته إلى حالة مماته ؛ فكانت أفضل (٣).

وقال الشيعة : أفضل زوجات النبي ـ عليه‌السلام ـ خديجة (٤) ، وأفضل نساء العالمين فاطمة ، ومريم ابنة عمران ، وآسية امرأة فرعون.

__________________

/ / أول ل ١٨١ / ب.

(١) راجع ما سبق فى هامش ل ٢٧٠ / أ.

(٢) رواه البخارى ٥ / ٣٦ ، ٧ / ٩٧ عن أبى موسى الأشعرى رضي الله عنه.

(٣) انظر الفصل فى الملل والنحل ٤ / ١٢٢ ، ١٢٣.

(٤) خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى ، من قريش : زوجة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأولى ولم يتزوج غيرها فى حياتها. ولدت بمكة المكرمة سنة ٦٨ قبل الهجرة ، ونشأت فى بيت شرف ويسار ، وكانت ذات مال كثير وتجارة تستأجر الرجال ، وتدفع المال مضاربة.

وخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى تجارة لها ؛ فرأت عند قدومه غمامة تظلله ؛ فتزوجته ولما بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ كانت أول امرأة آمنت به ، وجميع أولاده منها سوى إبراهيم قال عنها رسول الله (خير نسائها خديجة) وعن أبى هريرة قال : أتى جبريل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يا رسول الله هذه خديجة قد أتتك بإناء فيه إدام أو طعام أو شراب ؛ فإذا هى أتتك فاقرأ عليها‌السلام من ربها ومنى ، وبشرها ببيت فى الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب (أخرجاه فى الصحيحين). وكانت وفاتها بمكة قبل الهجرة ، ودفنت بالحجون رحمها الله ورضى عنها.

[الإصابة ، قسم النساء ، الترجمة رقم (٣٣٣) ، وصفة الصفوة ١ / ٢٩٧ ، والأعلام ٢ / ٣٠٢].

٢٩١

أما فاطمة : فلقوله عليه‌السلام : «فاطمة سيدة نساء العالمين» (١) وقوله : «فاطمة بضعة منى» (٢) ونسبة بعض النبي ، إلى بعض غيره ، كنسبة النبي ، إلى غيره ، والنبي أفضل من غيره ؛ فبعضه أفضل من بعض غيره.

وأما مريم ابنة عمران : فلقوله : تعالى : (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) (٣).

وأما آسية امرأة فرعون : فلقوله تعالى : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ) (٤) ، ولسعيها فى تخليص موسى ـ عليه‌السلام ـ من عدو الله ـ تعالى ـ فرعون ، على ما قال ـ تعالى ـ حكاية عنها : (وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ) (٥). الآية.

والحق أن كل هذه الأدلة ظنية ، ومع كونها ظنية ؛ فمتعارضة ، ولا سبيل إلى القطع بشيء منها ، وإن غلب على ظن بعض المجتهدين منها شيء ؛ فلا حرج.

وأما تفضيل الأنبياء على الملائكة ؛ فقد سبق ما فيه (٦).

__________________

(١) ورد فى مجمع الزوائد ٩ / ٢٠١ «سيدة نساء أمتى».

(٢) فى صحيح البخارى ٥ / ٢٦ «فاطمة بضعة منى ، فمن أغضبها أغضبنى».

(٣) سورة التحريم ٦٦ / ١٢.

(٤) سورة التحريم ٦٦ / ١١.

(٥) سورة القصص ٢٨ / ٩.

(٦) راجع ما سبق فى القاعدة الخامسة ـ الأصل السادس ل ١٨٧ / أوما بعدها.

٢٩٢

الفصل التاسع

فيما جرى بين الصحابة من الفتن ، والحروب

وقد اختلف أهل الإسلام فيما شجر بين الصحابة من الفتن.

فمنهم من أنكر وقوعها أصلا : وقال : إن عثمان لم يحاصر ، ولم يقتل غيلة ، وأن وقعة الجمل ، وصفّين لم توجد : كالهشاميّة من المعتزلة (١).

ومنهم من اعترف بوجودها :

ثم اختلف هؤلاء : فمنهم من سكت عن الكلام فيها ، ولم يقل فيها بتخطئة ولا تصويب ، وهم طائفة من أهل السنة (٢).

ومنهم من تكلّم فيها : ثم اختلف هؤلاء : فمنهم من خطأ الفريقين ، وفسقهما معا : كالعمرويّة أصحاب عمرو بن عبيد من المعتزلة (٣).

ومنهم من قضى بتخطئة أحد الفريقين. ثم اختلف هؤلاء.

فمنهم من قال بتخطئة أحد الفريقين ، وتفسيقه لا بعينه من عثمان ، وقاتليه ، وعلى ومقاتليه. وحكموا بأن كل واحد من الفريقين لو شهد على باقة بقل ؛ لم تقبل

__________________

(١) عن هذه الفرقة انظر ما سبق فى القاعدة السابعة ـ الفصل الرابع :

ل ٢٤٥ / أفقد تحدث الآمدي عن هذه الفرقة وعن آرائها بالتفصيل.

ولمزيد من البحث والدراسة انظر : الملل والنحل للشهرستانى ١ / ٧٣ وما بعدها

والفرق بين الفرق للبغدادى ص ١٥٩ وما بعدها ، والتبصير فى الدين ص ٤٦ ، ٤٧ واعتقادات فرق المسلمين والمشركين للرازى ص ٤٣ ، وشرح المواقف للجرجانى (التذييل ص ١٣).

(٢) قارن بما ورد هنا : شرح المواقف ٦ / ٣٣٣.

ولمزيد من البحث والدراسة : انظر مقالات الإسلاميين للإمام الأشعرى ص ٤٥٣ وما بعدها.

والاقتصاد فى الاعتقاد للإمام الغزالى ص ٢١٨ وما بعدها.

(٣) عن هذه الفرقة وآرائها انظر ما سبق فى القاعدة السابعة ـ الفصل الرابع الفرقة الثانية ل ٢٤٤ / ب.

ولمزيد من البحث والدراسة : يرجع إلى المصادر التالية :

الفرق بين الفرق للبغدادى ص ١٢٠ وما بعدها ، والتبصير فى الدين ص ٤٢.

اعتقادات فرق المسلمين والمشركين للرازى ص ٤٠ ، وشرح المواقف (تذييل ص ٧).

٢٩٣

شهادته ؛ لأنّ الفاسق منهما واحد لا بعينه ، واحتمل أن يكون من شهد هو الفاسق ، وهؤلاء هم الواصليّة أصحاب واصل بن عطاء من المعتزلة (١).

ومنهم من قال بتخطئة أحد الفريقين بعينة : ثمّ القائلون بهذا المذهب لا تعرف خلافا [فيما] (٢) بينهم فى تعيين التخطئة فى قتلة عثمان ، ومقاتلى عليّ عليه‌السلام ، وكذلك كل من خرج على كل من اتفق على إمامته ؛ لكن اختلفوا :

فمنهم من قال بأن التخطئة لا تبلغ إلى حد التفسيق : كالقاضى أبى بكر (٣).

ومنهم من قال بالتفسيق : كالشيعة ، وكثير من أصحابنا (٤).

وإذ قد أتينا على شرح المذاهب بالتفصيل ، فاعلم أن من أنكر وقوع ما جرى من الحروب وشجر من الفتن ؛ فقد أنكر ما تواترت به الأخبار ، وعلم ضرورة ، وكان كمن أنكر وجود مكة ، وبغداد.

وأما السكوت عن الكلام / فى التخطئة ، والتصويب : فإما أن يكون ذلك لعدم ظهور دليل التخطئة ، والتصويب ، أو لقصد كف اللسان عن ذكر مساوئ المخطئ منهما ، مع عدم إيجابه.

__________________

(١) وقد تحدث الآمدي عن هذه الفرقة وذكر آراءها بالتفصيل فيما سبق فى الفصل الرابع من القاعدة السابعة ل ٢٤٤ / ب من هذا الكتاب.

ولمزيد من البحث والدراسة ارجع إلى :

الملل والنحل ١ / ٤٦ وما بعدها ، والفرق بين الفرق ص ١١٧ وما بعدها.

والتبصير فى الدين للأسفرايينى ص ٤٠ ، واعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص ٤٠ وشرح المواقف للجرجانى ص ٦ وما بعدها من التذييل.

(٢) ساقط من أ.

(٣) انظر التمهيد فى الرد على الملحدة المعطلة والرافضة والخوارج والمعتزلة للقاضى الباقلانى ص ٢٣١ وما بعدها.

فقد تحدث عن ندم وتوبة السيدة عائشة رضى الله عنها ، كما تحدث عن طلحة والزبير رضى الله عنهما ـ وتوبتهما قبل قتلهما.

(٤) وقد تحدث الإمام البغدادى عن ذلك بالتفصيل فى كتابه أصول الدين ص ٢٨٩ وما بعدها. فقال : «أجمع أصحابنا على أن عليا ـ رضي الله عنه ـ كان مصيبا فى قتال أصحاب الجمل ، وفى قتال أصحاب معاوية بصفين». ثم ذكر السيدة عائشة وطلحة والزبير وقال : «فهؤلاء الثلاثة بريئون من الفسق ، والباقون من أتباعهم الذين قاتلوا عليا فسقه» ثم قال : «وأما أصحاب معاوية فإنهم بغوا وسماهم النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بغاة فى قوله لعمار : «تقتلك الفئة الباغية».

٢٩٤

فإن كان الأول : فهو ممتنع ؛ لأنّ الإجماع إذا انعقد على إمامة شخص ، ولم يظهر منه ما يوجد حلّ قتاله ، وقتله ؛ فالخارج عليه يكون مخطئا خطا ظاهرا ، وعثمان ، وعليّ ـ رضى الله عنهما ـ بهذه المثابة ؛ فكان الخارج عليهما مخطئا (١).

وإن كان الثانى : فهو حق ، ولا بأس به ؛ بل وهو الأولى ، فإن السكوت عمّا لا يلزم الكلام فيه ، أولى من الخوض فيه ، وأبعد عن الزلل ، وبهذا قال بعض المعتبرين من الأوائل (٢) «تلك دماء / / طهّر الله سيوفنا منها ، أفلا نطهّر ألسنتنا».

وأما تخطئة الفريقين ؛ فممتنع ؛ لما حققناه من انعقاد الإجماع على صحة إمامة الإمام ، مع عدم ظهور ما يقتضي تخطئته ، وبه يظهر فساد قول من قال بتخطئة أحد الفريقين لا بعينه ، فلم يبق إلا تخطئة أحدهما بعينه ؛ وهو الخارج على الإمام.

ثم لا يخلو إما أن يكون الخارج على الإمام مجتهدا متأولا ، [أولا] (٣).

فإن كان الأول : فالظاهر أن خطأه لا ينتهى إلى التفسيق ؛ لأنه مجتهد ، والمخطئ فى المجتهدات ظاهرا ؛ لا يكون فاسقا.

وإن كان الثانى : فلا خلاف فى فسقه ، والله أعلم.

__________________

(١) قارن به أصول الدين للبغدادى ص ٢٨٩ ، والإرشاد للجوينى ص ٢٤٢ ، وشرح المواقف ـ الموقف السادس ص ٣٣٤.

(٢) نسب صاحب شرح المواقف الشريف الجرجانى هذا القول للإمام الشافعى رحمه‌الله ـ فقال : «قال الشافعى وغيره من السلف (تلك دماء طهّر الله عنها أيدينا ، فلنطهر عنها ألسنتنا». (شرح المواقف ٦ / ٣٣٣).

/ / أول ل ١٨٢ / أ.

(٣) ساقط من أ.

٢٩٥
٢٩٦

الأصل الثانى

فى الأمر بالمعروف ، والنهى عن المنكر (١)

ويشتمل على فصلين :

الفصل الأول : فى وجوب الأمر بالمعروف ، والنهى عن المنكر.

الفصل الثانى : فيمن يجب عليه الأمر بالمعروف ، والنهى عن المنكر ، ومن لا يجب عليه.

__________________

(١) لتوضيح هذا الأصل بالإضافة لما ورد هاهنا : انظر شرح الأصول الخمسة للقاضى عبد الجبار ص ٧٤١ ـ ٧٤٩.

والفصل لابن حزم ٥ / ١٩ وما بعدها ، وأصول الدين للبغدادى ٢١٥ ، ٢١٦. وإحياء علوم الدين للغزالى ٢ / ٣٠٦ ـ ٣١٢. ومن المتأخرين المتأثرين بالآمدي : شرح المواقف ـ الموقف السادس ص ٣٣٥ وما بعدها. وشرح المقاصد للتفتازانى وكتاب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لابن تيمية.

٢٩٧
٢٩٨

الفصل الأول

فى وجوب الأمر بالمعروف ، والنهى عن المنكر

وقد اختلف أهل الإسلام فى ذلك.

فذهب (١) بعض الروافض : إلى أن ذلك لا يجب ، ولا يجوز إلا بأمر الإمام العدل واستنابته كما فى إقامة الحدود.

وذهب من عداهم : إلى وجوبه سواء أمر به الإمام ، أم لم يأمر ثم اختلف هؤلاء.

فذهبت الأشاعرة ، وأهل السنة : إلى وجوبه شرعا (٢) ، لا عقلا.

وذهب الجبّائى وابنه : إلى وجوبه عقلا (٣) ؛ لكن اختلفا.

فقال الجبّائى : بوجوبه مطلقا فيما يدرك حسنه ، وقبحه عقلا.

وقال أبو هاشم : إن تضمّن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر دفع ضرر عن الآمر ، والنّاهى وكان بحيث لا يندفع عنه إلا بذلك ؛ فهو واجب وإلا فلا.

وأما أنه لا يتوقف على استنابة الإمام : فقد احتج عليه أهل الحق بالإجماع من الصحابة.

ودليله : أنّا نعلم علما ضروريا بنقل التواتر أنّ الصحابة ـ رضى الله عنهم ـ بعد موت النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لم يزل أفرادهم ، وآحادهم يستقل بالأمر بالمعروف ، والنهى عن المنكر من غير توقف على إذن الإمام ، وأمره فى ذلك.

وكان ذلك شائعا ذائعا فيما بينهم ، ولم يوجد له نكير ؛ فكان ذلك إجماعا منهم على جوازه.

فإنه لو لم يكن جائزا ؛ لكان فعله منكرا.

__________________

(١) نقل شارح المواقف عن الآمدي من أول قوله : ذهب بعض الروافض واعتمد عليه انظر شرح المواقف ـ الموقف السادس ص ٣٣٥ وما بعدها.

(٢) الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر عند الأشاعرة من الفروع أما المعتزلة فيعتبرونه من الأصول ؛ فهو الأصل الخامس عندهم (انظر شرح الأصول الخمسة ص ٧٣٩ وما بعدها).

(٣) انظر شرح الأصول الخمسة ص ٧٤٢.

٢٩٩

ومع شيوعه فالعادة تحيل من الأمة تواطئهم على عدم إنكاره ولو وقع الإنكار لاستحال فى العادة أن لا ينقل مع توفّر الدواعى على نقله وحيث لم ينقل دل على أنه لم يقع وقد استقصينا تقرير ذلك ودفع كل ما يرد عليه من الإشكالات فى كتاب شرح الجدل (١) وغيره من كتبنا.

وعلى هذا لم يزل الناس فى كل عصر وزمان إلى وقتنا هذا.

وأما أنه واجب : فدليله الإجماع ، والنصوص.

أما الإجماع : فهو أن القائل قائلان :

قائل يقول : بالوجوب مطلقا من غير / توقف على استنابة الإمام. وقائل يقول بالوجوب متوقفا على استنابة الإمام.

فقد وقع الإجماع على وجوب الأمر بالمعروف ، والنهى عن المنكر فى الجملة. وإذا بطل بالدّليل توقف الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر على استنابة الإمام بقى الإجماع على الوجوب بحاله.

وأما النصوص : فمن جهة الكتاب والسنة.

أما الكتاب : فقوله ـ تعالى ـ : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) (٢).

أمرنا بالإصلاح وبإزالة [المنكر] (٣) وهو البغى ، والأمر ظاهر فى الوجوب.

أما أنه أمر فلأنه أتى بصيغة أفعل وهى إذا تجردت عن القرائن كانت بإطلاقها أمرا.

ولهذا فإنه إذا قال : السيد لعبده افعل كذا فإنه بتقدير تجرّد هذه الصيغة عن القرائن يعدها أهل العرف أمرا.

__________________

(١) كتاب شرح الجدل : عبارة عن شرح لكتاب الجدل للشريف المراغى. وهو أحد الكتب التى اهتم بها الآمدي فى مبدأ حياته الدراسية ببغداد ؛ حيث تتفق معظم المراجع على حفظه له ؛ لأنه كان من أهم المؤلفات فى هذا الفن. والآمدي يعتز بهذا الشرح ؛ لأنه كما يظهر لى يمثل المحاولة الأولى له فى عالم التأليف ؛ فكثيرا ما يذكره فى الأبكار محيلا عليه كما حدث فى هذه الإحالة.

[انظر رسالتى للدكتوراه عن الآمدي ص ٨٩ بكلية أصول الدين بالقاهرة].

(٢) سورة الحجرات ٤٩ / ٩.

(٣) ساقط من أ.

٣٠٠