أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٥

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٥

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: د. أحمد محمد المهدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب والوثائق القوميّة
المطبعة: مطبعة دار الكتب والوثائق القوميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 977-18-0328-x
الصفحات: ٣١٨

الثالث : أنه همّ برجم مجنونة ، فقال له عليّ : القلم مرفوع عن المجنون ؛ فأمسك. وقال : «لو لا عليّ ، لهلك عمر» (١).

الرابع : أنه كان ينهى عن المغالاة / فى مهور النساء ، حتى قامت إليه امرأة وقالت : قال ـ تعالى ـ : (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً) (٢) ، فقال : «كل الناس أفقه من عمر ، حتى النساء (٣).

الخامس : أنه لم يكن على ثبت ممّا يقوله ، ويحكم به من الأحكام الشرعية ، ولذلك روى عنه أنّه قضى فى الجد بتسعين قضية (٤)

السادس : أنه لمّا شهد على المغيرة بن شعبة ، ثلاثة (٥) من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالزنا وتقدم الرابع (٦) ؛ ليشهد ، فنظر فى وجهه وقال : يا سلح القرد ما تقول أنت؟ ثم قال : إنى لأرى وجه رجل ما كان الله ليفضح بشهادته رجلا من أصحاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم جهم ، ثم لعنه ، فخلط فى الشهادة وقال : رأيت منظرا قبيحا ، وسمعت نفسا عاليا ، ولم أر الّذي منه ما فيه ، فقال عمر : الله أكبر ، ما كان للشّيطان أن يشمت ، برجل من أصحاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ثم جلد الشهود الثلاث ، وهم من أصحاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأشمت بهم الشيطان ، وعطّل حدا ، ولقن الشاهد ، المداهنة فى شهادته ، ولما كرّر واحد من الشهود ، الشهادة بعد أن جلده ، أراد عمر أن يكرر الجلد عليه ، فقال له عليّ ـ عليه‌السلام ـ : «إن جلدته ، رجمت صاحبك» (٧) ؛ فرجع عنه. وكل ذلك يدل على الجهل بأحكام الشرع ، والمداهنة فى دين الله.

__________________

(١) ورد هذا القول : فى المستدرك ٢ / ٥٩ ، وفى سنن أبى داود ٢ / ٢٢٧.

(٢) سورة النساء ٤ / ٢٠.

(٣) ورد فى معظم المصادر بلفظ «أصابت امرأة وأخطأ رجل» راجع عن هذا القول : سنن الدارمى ٢ / ١٤١ ، وسنن أبى داود ١ / ٣٢٨ وتفسير ابن كثير ١ / ٤٦٧.

(٤) ورد فى السنن الكبرى للبيهقى ٦ / ٢٤٥ عن محمد بن عبيد «إنى لأحفظ عن عمر فى الجد مائة قضية كلها ينقض بعضها بعضا».

(٥) هم أبى بكرة بن مسروح ، ونافع بن كلدة ، وشبل بن معبد البجلي ، انظر عنهم : تاريخ الطبرى ٤ / ٧١ والإصابة ٣ / ٤٣٢.

(٦) هو زياد بن أبيه. (انظر تاريخ الطبرى ٤ / ٧٢ ، والكامل فى التاريخ ٢ / ٥٤٠).

(٧) انظر هذا القول فى شرح النهج ١٢ / ٢٣٧.

٢٦١

السابع : أنه أخبر بقوم يشربون الخمر ؛ فتسوّر عليهم ؛ فقالوا له : إنك أخطأت من ثلاثة أوجه : ـ

الأول : أن الله ـ تعالى ـ نهى عن التجسّس ؛ وقد تجسّست.

الثانى : أنك دخلت بغير إذن.

الثالث : أنك لم تسلّم (١).

وذلك كله جهل بأحكام الشرع.

وأما أنه كان شاكا ، فى دين الإسلام : فيدل عليه ما روى أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لما وادع يوم الحديبية قريشا ، وكتب بينهم وبينه كتابا ، على أن من خرج من قبله إليهم لم يردوه ، ومن خرج من أهل مكة إلى النبي عليه‌السلام رده إليهم ؛ فغضب عمر ، وقال لصاحبه : يزعم أنّه نبيّ ، وهو يردّ الناس ، إلى المشركين ، ثم إنه أتى النبىّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجلس بين يديه ، وقال له : ألست رسول الله حقا قال بلى ، قال : ونحن المسلمون حقا ، قال : بلى قال : فعلام نعطى الدنية فى ديننا؟ فقال له النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنما أعمل ما يأمرنى به ربى ؛ فقال عمر يومئذ : والله ما شككت فى دين الإسلام إلا حين سمعت رسول الله يقول ذلك (٢) ، ثم إنّه قام من عند رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ متسخطا لأمر الله وأمر رسوله غير راض بذلك.

ثم إنه أقبل يمشى فى الناس ويؤلب على رسول الله ، ويعرّض به ، ويقول وعدنا برؤياه التى يزعم أنه رآها ، أنّه يدخل مكة ، وقد صددنا عنها ، ومنعنا منها ، ثم نحن الآن ننصرف ، وقد أعطينا الدنية فى ديننا ، والله لو أن معى أعوانا ما أعطيت الدّنيّة أبدا.

هذا وقد كان / أعطى الأعوان يوم أحد ، وقيل له : قاتل ؛ ففر بأعوانه ؛ فبلغ ذلك النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال له : إنه قد بلغنى قولك ، فأين كنتم يوم أحد ، وأنتم تصعدون ، ولا تلوون على أحد ، وأنا أدعوكم فى أخراكم (٣) ؛ وذلك كله يدل على الشك فى دين الإسلام.

وأمّا أنه كان شاكا فى إسلام / / نفسه : فيدل عليه ، ما روى عنه : «أنه سأل حذيفة بن اليمان ، وقد كان عرّفه رسول الله المنافقين ، وقال له : هل أنا من المنافقين (٤) ؛ وذلك منه شك فى إسلامه».

__________________

(١) راجع تاريخ الطبرى ٤ / ٢٠٥ ، وسنن البيهقى ٨ / ٣٣٣ ، ٣٣٤.

(٢) قارن بما ورد فى المصنف ٥ / ٣٣٩ ، ٣٤٠ ، وانظر سيرة ابن هشام ٤ / ٢٠٣ وصحيح البخارى ٣ / ٢٥٦ ، وسيرة عمر ٣٧.

(٣) راجع المغازى للواقدى ٢ / ٦٠٩.

/ / أول ل ١٧٦ / ب من النسخة ب.

(٤) انظر تاريخ الإسلام للذهبى ٢ / ١٥٣.

٢٦٢

وأما أنّ النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مات غير راض عنه : فيدل عليه ما روى عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه يوم ثقل قال «ائتونى بصحيفة ودواة أكتب لكم كتابا لا تختلفوا بعده ، وأغمى عليه ، فقال عمر : إنه ليهجر ، حسبنا كتاب الله ، وسنة رسوله ، فلما أفاق قالوا : يا رسول الله ، ألا نأتيك بالصحيفة ، والدّواة التى طلبت ؛ لتكتب لنا ما لا نختلف بعده.

فقال : الآن بعد ما قلتم يهجر» (١) ولم يفعل ؛ وذلك يدل دلالة قاطعة ، على عدم رضاه عنه.

والجواب قولهم : إنّ طلحة خالف ، لا نسلم أن طلحة كان منكرا لصحة العهد ، وصحة إمامة عمر ؛ بل غايته أنه نقم ما كان يتوهمه من فظاظته ، وغلطته لا غير ، ولهذا فإنه لم يزل متبعا له ، مقتديا به ، آخذا لعطائه ، وداخلا فى رأيه ، معينا له فى قضاياه ، وذلك كله مع إنكار صحة إمامته بعيد (٢).

وأما دعوى مخالفة عليّ ، وشيعته فى ذلك : فجوابه بما سبق فى إمامة أبى بكر رضي الله عنه.

قولهم : إنه لم يكن أهلا للإمامة ؛ لا نسلم ذلك ، ودليله الإجمال والتفصيل. كما سبق فى حق أبى بكر.

وأما ما ذكروه فى الدلالة على إبطال أهليته ؛ فباطل من جهة الإجمال ؛ والتفصيل.

أما الإجمال : فهو أنه قد ورد فى حقه من النصوص ، والأخبار ما يدرأ عنه ما قيل عنه من الترهات ، وهى وإن كانت أخبارها آحادا ، غير أن مجموعها ينزل منزلة التواتر ، فمن ذلك قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «إن من أمتى لمحدثين وإن عمر منهم» (٣) ، وقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «اقتدوا باللّذين من بعدى أبى بكر ، وعمر» (٤).

__________________

(١) ورد بألفاظ مختلفة فى البخارى ١ / ٣٩ ، ٥ / ١١ ، ١٢ ، وفى المصنف ٥ / ٤٣٨ ، ٤٣٩.

(٢) قارن هذا الرد بما ورد فى التمهيد للباقلانى ص ١٩٧ ، ١٩٨ ، والمغنى للقاضى عبد الحبار ٢٠ / ٢ / ٨.

(٣) قارن بما ورد فى صحيح البخارى ٥ / ٢١٥ «لقد كان فيما قبلكم من الأمم محدثون فإن يك فى أمتى أحد فإنه عمر» وقارن به مسند أحمد ٦ / ٥ ، وصحيح مسلم ٧ / ١١٥ ، وسيرة عمر ص ١٨.

(٤) راجع ما مر هامش ل ٢٦٨ / ب.

٢٦٣

وقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ فى حق أبى بكر ، وعمر ـ رضى الله عنهما ـ : «هما سيدا كهول أهل الجنة» (١) ، وقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «لو لم أبعث ، لبعثت يا عمر» (٢).

فإن قيل : فى متن هذا الحديث ما يدل على ضعفه ؛ لأنه لو صحّ ؛ لكانت بعثة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ نقمة فى حق عمر لا نعمة ، حيث أن ببعثته امتنع عليه الوصول إلى أعلى الرتب ، وهى رتبة النبوة ، وهو على خلاف قوله ـ تعالى ـ : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) (٣).

قلنا : أما أولا ، فلا نسلم صيغة العموم فى العالمين ، كما عرف من أصلنا وإن سلمنا صيغة العموم ، غير أنها مخصوصة بالكفار ، فإنهم من العالمين ولم تكن / رسالته رحمة لهم ؛ بل زيادة فى النقمة عليهم ، حيث كفروا به ، والعام بعد التخصيص ، لا يبقى حجة ؛ لما تقدم تقريره.

وإن سلمنا أنه يبقى حجة ؛ فلا نسلم أن رسالته ، ليست رحمة لعمر.

قولهم : لأنه فات عليه بسبب ذلك أعلى المراتب.

قلنا : وفوات أعلى المراتب عليه لا ينافى وجود أصل الرحمة بإرسال النبىّ فى حقه.

وأيضا ما روى «أن جبريل نزل على محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وقال له : يا محمد ، ربك يقرئك السلام ويقول لك : أقرئ عمر السلام وقل له : أهو راض عنى ، كرضائى عنه» (٤) ، وهذا وإن كانت صورته صورة الاستفهام غير أن معناه للتقرير ؛ فلا يكون ممتنعا فى حق الله ـ تعالى ـ كما فى قوله ـ تعالى : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى) (٥).

__________________

(١) راجع ما سبق هامش ل ٢٧٩ / ب.

(٢) ورد بلفظ مقارب فى مسند الإمام أحمد ٤ / ١٥٤ ، وأسد الغابة ٣ / ٦٥٨ وسيرة عمر ص ٢٤ ، كما ورد فى الموضوعات لابن الجوزى ١ / ٣٢٠ وقد خرجه من طريقين وقال : «هذان حديثان لا يصحان عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أما الأول ـ يقصد المتهمين فيه ـ يحيى كان من الكذابين الكبار قال ابن عدى : كان يضع الحديث.

وأما الثانى : فقال أحمد : ويحيى بن عبد الله بن واقد ليس بشيء ، وقال عنه النسائى متروك الحديث.

(٣) سورة الأنبياء ٢١ / ١٠٧.

(٤) ورد فى تاريخ الخلفاء للسيوطى ص ٩٣ وأخرج الطبرانى فى الأوسط عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ قال : «جاء جبريل إلى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال أقرئ عمر السلام ، وأخبره أن غضبه عز ، ورضاه حكم». قارنه بما ورد فى سيرة عمر ص ٢٣ ، والصواعق المحرقة ص ١٤٨ ، ومجمع الزوائد ٢ / ٦٩ وقال فيه : «وفيه خالد بن زيد العمرى وهو ضعيف».

(٥) سورة طه ٢٠ / ١٧.

٢٦٤

وقوله عليه الصلاة والسلام : «عمر سراج أهل الجنة» (١).

وقوله عليه الصلاة والسلام ـ يوم بدر : «لو نزل من السماء عذاب ، لما نجا منه غير عمر» (٢) ، ولا منافاة بين هذا الخبر وبين قوله ـ تعالى ـ (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) (٣) إذ الآية جازمة فى انتفاء العذاب عنهم ، ورسول الله فيهم ، وهو فى الخبر معلق على نزوله ، ونزوله عليهم ممتنع ، والرسول فيهم.

ومما يدل على علو رتبته ، وعظم شأنه ، وكرامته على الله ـ عزوجل ـ كما اشتهر وشاع ، وذاع ، أنه نادى وهو بالمدينة : يا سارية الجبل. وكان سارية فى فارس ؛ فسمع صوته ، وانحاز إلى الجبل» (٤).

ومن ذلك ما ظهر له من حسن السيرة ، واستقامة الأمور ، وحمل الناس على المحجة البيضاء ، واستئصال أعداء الله ـ تعالى ، وظهور كلمة الإسلام شرقا ، وغربا ، وفتح البلاد واستقرار العباد ، مع خشونته فى دين الله ، وتواضعه لعباد الله ـ تعالى ، ومن هو بهذه المنزلة من الله ورسوله ، وإجماع الأمة ، وله هذه المناقب ، والصفات ، ومتحل بهذه الفضائل ، والكمالات ، فيبعد عند العاقل إصغاؤه إلى ما قيل فى حقّه من الأكاذيب ، والالتفات إلى ما لا أصل له عند الثقات من أهل الروايات / / هذا من جهة الإجمال.

وأمّا التفصيل عمّا ذكروه :

__________________

(١) ورد فى تاريخ الخلفاء للسيوطى ص ٩٣ قال السيوطى : وأخرج البزار عن ابن عمر قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «عمر سراج أهل الجنة» وأخرجه ابن عساكر من حديث أبى هريرة ، والصعب بن جثامة».

وانظر مجمع الزوائد ٩ / ٧٤ حيث قال فيه «وفيه عبد الله بن إبراهيم بن أبى عمرو الغفارى وهو ضعيف». وفى تذكرة الموضوعات للفتنى ٩٤ «وقال الصغاني : موضوع».

(٢) ورد فى شرح النهج ١٢ / ١٧٨.

(٣) سورة الأنفال ٨ / ٣٣.

(٤) خصص السيوطى فى كتابه تاريخ الخلفاء ص ٩٩ فصلا فى كرامات عمر رضي الله عنه : وما يهمنا هنا هو ما ذكره فى قصته مع سارية. فقد ذكر السيوطى ثلاث روايات ، سأكتفى بذكر واحدة منها : «أخرج البيهقى وأبو نعيم ، كلاهما فى دلائل النبوة. واللالكائى فى شرح السنة ، وابن الأعرابى فى كرامات الأولياء ، والخطيب فيما رواه مالك عن نافع عن ابن عمر قال : وجه عمر جيشا ورأس عليهم رجلا يدعى سارية. فبينما عمر يخطب. جعل ينادى : يا سارية الجبل. ثلاثا. ثم قدم رسول الجيش ، فسأله عمر ، فقال : يا أمير المؤمنين هزمنا. فبينا نحن كذلك. إذ سمعنا صوتا ينادى : يا سارية الجبل. ثلاثا. فأسندنا ظهورنا إلى الجبل ؛ فهزمهم الله.

قال : قيل لعمر : إنك كنت تصيح بذلك ، وذلك الجبل الّذي كان سارية عنده بنهاوند من أرض العجم. قال ابن حجر فى الإصابة : اسناده حسن».

/ / أول ل ١٧٧ / أمن النسخة ب.

٢٦٥

أما تحريمه للمتعتين ، وحىّ على خير العمل ، إنما كان ؛ لأنه ظهر عنده المحرم لذلك بعد الجواز ، والمجتهد تبع لما أوجبه ظنّه.

وأما حكمه بجواز الجمع بين الطلقات الثلاث ، فلقوله ـ تعالى ـ (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَ) (١) نفى الحرج عند التطليق ؛ فيدخل فيه الجمع ؛ لأنه تطليق (٢).

قولهم : إنه لم يكن ذلك مسوّغا فى عهد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لا نسلم ذلك. وما ذكروه من الخبر الأول فلم ينقل على ألسنة العدول ؛ وبتقدير أن ينقله العدل ؛ فهو خبر واحد ؛ فلا يقع فى مقابلة القرآن المتواتر ، وهذا هو الجواب عن الخبر / الثانى. كيف وأنه واقع فى عين يتطرق إليها الاحتمال ، ولا عموم فيها ؛ فلا تكون حجة.

وبيان تطرق الاحتمال : أنه يحتمل أنه كان قد طلقها ، وهى حائض ، أو فى طهر جامعها فيه ؛ فكان غضبه ـ عليه‌السلام ـ لذلك ، لا للجمع بين الطلقات.

وأما قول ابن عباس : «أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ جمع بين الظهر ، والعصر. والمغرب والعشاء من غير خوف ، ولا سفر» (٣) ، ليس فيه ما يدل على الجمع من غير عذر أصلا ؛ لجواز أنه جمع مع المطر.

وعلى هذا فلا يكون [عمر] (٤) مخالفا للرسول عليه‌السلام.

قولهم : إنه وضع العطاء للمجاهدين.

قلنا : ليس فى ذلك ما يقدح فيه فإنه لم يحرم ما كان فى عهد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا منع من تجويزه ، وما فعله لم يكن محرما ، وعدم فعله لا يدل على تحريمه ؛ بل غايته أنه ترجّح ذلك فى نظره فى زمانه ، ولم يكن ذلك راجحا فى زمن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فلذلك صار إليه.

قولهم : إنه اشترط الكفاءة فى فروج ذوات الأحساب ، ولم يكن ذلك معهودا على عهد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لا نسلم أنه لم يكن معهودا ، ودليله ما روى عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه

__________________

(١) سورة البقرة ٢ / ٢٣٦.

(٢) قارن هذا الرد بما ورد فى الأم للإمام الشافعى ٥ / ١٦٢.

(٣) راجع ما مر فى هامش ل ٣٠١ / ب.

(٤) ساقط من (أ).

٢٦٦

قال : «تخيروا لنطفكم ، وأنكحوا الأكفاء ، وأنكحوا إليهم» (١) ، أمر بذلك ، والأمر للوجوب ، وحكمته ما فيه من دفع العار اللاحق بها ، وبأوليائها ؛ فكان فى ذلك موافقا لقول النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لا أنه مخالف له.

قولهم : إنه قال «لا يسترقّ العرب» ، وهو مخالف لفعل النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قلنا : إن صحّ ذلك عنه ، فلعله اطّلع على ناسخ ، ومعارض ، لم يظهر عليه غيره.

قولهم : إنه خالف كتاب الله ، وسنة رسوله ، فى منعه من جلد العرب ورجمها.

قلنا : كيف يصح دعوى ذلك وهو أول من جلد ولده (٢) ، حتى مات ، وجلد شهود المغيرة بن شعبة ، وكانوا من العرب (٣). ولو صحّ ذلك عنه ؛ لما كان ممتنعا ؛ لجواز ظهوره على معارض ، أو ناسخ فى نظره كما سبق.

قولهم : إنه فاضل فى القسمة بين الناس.

قلنا : ليس فى ذلك أيضا ما يوجب القدح فيه ، وأنه مع ما رآه فى نظره ، واجتهاده من المصلحة فى ذلك لم يحرّم التساوى ، ولا أوجب التفاضل ؛ فلم يكن فى ذلك مخالفا لما قضى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ به من التساوى (٤).

قولهم : إنه أجلى أهل نجران ، وخيبر عن ديارهم.

قلنا : لعله فعل ذلك لإخلالهم بشرط أقرهم النبي ـ عليه‌السلام ـ عليه ، وقد عرفه دون غيره ، فلم يكن بذلك مخالفا للنبى ـ عليه‌السلام ـ ؛ بل موافقا له (٥).

قولهم : إن العادة [كانت] (٦) جارية بأخذ دينار من كل حالم من أهل العهد.

__________________

(١) ورد فى سنن ابن ماجة ١ / ٦٣٣.

(٢) هو عبد الرحمن بن عمر ـ قارن عن هذه الرواية سيرة عمر ٢٠٧ ـ ٢٠٩ ومنهاج السنة ٣ / ١٣٨.

(٣) انظر عنهم ما مر فى ل ٣٠٢ / ب وهامشها.

(٤) قارن بهذا الرد ما ذكره صاحب المغنى ٢٠ / ٢٨ من القسم الثانى.

(٥) عمر رضي الله عنه نفذ ما أشار به رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقد ورد فى موطأ مالك ـ رضي الله عنه ـ ص ٧٨٠ «كان آخر ما تكلم به رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال : قاتل الله اليهود ، والنصارى ، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. لا يبقين دينان بأرض العرب» كما ورد فى سيرة ابن هشام ٣ / ٢٣١ «أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال فى وجعه الّذي قبضه الله فيه : لا يجتمعن بجزيرة العرب دينان ، ففحص عمر ذلك حتى بلغه الثبت فأرسل إلى يهود : فقال : إن الله عزوجل قد أذن فى جلائكم».

(٦) ساقط من أ.

٢٦٧

قلنا : لم يكن ذلك التقدير بطريق الوجوب ؛ بل غايته أنه كان / ذلك على وفق ما اقتضته المصلحة ، فى ذلك الوقت ، ولعله رأى المصلحة بعد ذلك فى الزيادة ، مع تقرير ما كان واجبا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ وهو من أهل الاجتهاد فيه (١).

قولهم : إنه أبدع التراويح ، لا نسلم ، فإنه قد روى : «أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ صلاها ليالى ، وصلوها معه ، ثم تأخر ، وصلاها فى بيته باقى الشهر حتى لا يظن أنها واجبة ، ولم يثبت نسخها» ؛ فعمر فعل ما كان مسنونا ، لا أنه فعل ما لم يكن (٢).

قولهم : إنه خالف أمر الرسول فى تولية معاوية ، لا نسلم ما ذكروه عن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ فى حق معاوية ، فلم يثبت ، ولم يصح. ولا سيّما وهو كان كاتب الوحى ، وخال المؤمنين.

وبتقدير الصحة ؛ فلا نسلم أن عمر خالف أمر النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنه قال : «إذا رأيتم معاوية على منبرى هذا ـ بطريق التعيين ـ فاقتلوه» (٣) ، وما لزم من توليته على إقليم الشام ، المنع من قتله بتقدير أن يرى على منبر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حتى يكون مخالفا لأمره.

قولهم : إنه منع أهل البيت من الخمس (٤).

قلنا : لعله / / اطلع فى اجتهاده على معارض اقتضى ذلك ، وعارض به نص الكتاب.

وبالجملة : فمخالفة المجتهد فى الأمور الظنية لما هو ظاهر لغيره ، لا يوجب القدح فيه ، وإلا لزم ذلك فى كل واحد من المجتهدين المختلفين ؛ وهو ممتنع.

قولهم : إنه كان جاهلا بالقرآن ؛ لا نسلم ذلك (٥).

وأما قصته فى حالة موت النبي ـ عليه‌السلام ـ مع أبى بكر ؛ فذلك ممّا لا يدل على جهله بالقرآن ؛ فإن تلك الحالة ، كانت حالة تشويش البال ، واضطراب الأحوال ، والذهول عن

__________________

(١) قارن رد الآمدي برد صاحب المغنى ٢٠ / ٢٨ من القسم الثانى.

(٢) عمر ـ رضي الله عنه ـ فعل ما كان مسنونا وما فعله رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقد ورد فى صحيح مسلم ٢ / ١٧٧ «عن عائشة أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ صلى فى المسجد ذات ليلة فصلى بصلاته ناس ، ثم صلى من القابلة فكثر الناس. ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة والرابعة فلم يخرج إليهم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فلما أصبح قال : قد رأيت الّذي صنعتم ، فلم يمنعنى من الخروج إليكم إلا أنى خشيت أن تفرض عليكم ، وذلك فى رمضان.

(٣) هذا الحديث موضوع ذكره ابن الجوزى فى الموضوعات ٢ / ٢٥ وما بعدها.

/ / أول ل ١٧٧ / ب.

(٤) قارن هذا الطعن والرد عليه بما ذكره صاحب المغنى فى أبواب التوحيد والعدل ٢٠ / ١٥ وما بعدها. من القسم الثانى.

(٥) قارن هذا الرد بما ورد فى منهاج السنة لابن تيمية ٤ / ٢٢٢ ، ٢٢٣.

٢٦٨

الجليات ، وخفاء الواضحات ، بسبب موت النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حتى أنه تنقل أن بعض الصحابة فى تلك الحالة غمى ، وبعضهم خرس ، وبعضهم جنّ ، وبعضهم هام على وجهه ، وبعضهم صار مقعدا لا يقدر على القيام ، فما ظنك بالغفلة عمّا قيل من الآيات.

وأما قصته مع السائل عن الآيات المذكورة : فإنما فعل به ما فعل ، لا لأنه كان جاهلا بمعانيها ، وكيف يظن به ذلك ، وقد كان من بلغاء العرب ، وفصحاء أهل الأدب ، ومن شاهد التنزيل ، وعرف التأويل ، وشواهد ذلك فى أقواله ، والمسائل المأثورة عنه كثيرة غير قليلة ، مع أن عادة العقلاء غير جارية بأذى من سأل عمّا لا يعرف المسئول جوابه ؛ بل إنما فعل به ذلك ؛ لأنه ظهر له منه أنه قاصد الإزراء والتنقص ، والامتحان دون قصد الفائدة (١).

والإمام له تأديب من هو من هذا القبيل. ثم لو كان سؤاله عمّا لم يعرف عمر جوابه موجبا لضربه ، وأذاه ، أو أن الموجب لذلك سد باب / السؤال عليه ؛ لكان فعل ذلك بالمرأة المعترضة عليه فى منعه من المغالاة فى مهور النساء ، وإفحامه بين الناس حتى قال : «كل الناس أفقه من عمر حتى النساء» أولى (٢).

قولهم : إنه كان جاهلا بالأحكام الشرعية ، إن أرادوا به أنه لم يكن قادرا على معرفتها بالاجتهاد ؛ فممنوع.

وإن أرادوا به أنها لم تكن عنده حاضرة ، مفصلة ؛ فمسلم ؛ لكن ذلك مما لا يوجب القدح فيه ؛ إذ هو مشارك لجميع أئمة الاجتهاد فى ذلك.

وما ذكروه من قصة [اليهودى] (٣) : فلا نسلم صحة قوله : «اقتل وأنا معك».

وأما أنه لم يقم على المقر حدّ قذف المرأة فلأنها لم تطالب به والمطالبة شرط فيه.

قولهم : إنه أهدر دم اليهودى بمجرد قول المقرّ ، لا نسلم ذلك ؛ بل غايته أنه لم يوجب عليه القصاص ؛ لأنه ما كان يرى قتل المسلم بالذمى.

وأما أنه لم يوجب عليه الدّية ؛ لأن شرط إلزامه بها مطالبة ولى القتيل ، ولم يطالب بها.

وأما أنه لم يوجب عليه كفارة ، فلعله كان لا يرى إيجاب الكفارة فى القتل العمد.

__________________

(١) قارن هذا الرد بما ورد فى الإتقان ٢ / ٥.

(٢) قارن بما ذكر القاضى عبد الجبار فى المغنى فى أبواب التوحيد والعدل ـ الجزء العشرون ـ القسم الثانى ص ١٣.

(٣) ساقط من (أ).

٢٦٩

وقولهم : إنه همّ برجم حامل ، ومجنونة.

قلنا : لعلّه لم يعلم بالحمل والجنون.

وقوله : «لو لا على لهلك عمر ، لو لا معاذ لهلك عمر» أى بسبب ما كان يناله من المشقة بتقدير العلم بحالهما بعد الرجم ؛ لعدم المبالغة فى البحث عن حالهما (١).

قولهم : إنه كان ينهى عن المغالاة فى المهور.

قلنا : لم يكن ذلك منه نهيا عما اقتضاه نص الكتاب على جهة التشريع ، بل بمعنى أنه وإن كان جائزا شرعا ؛ فتركه أولى نظرا إلى الأمر المعيشى ، لا بالنظر إلى الأمر الشرعى.

وقوله : كل الناس أفقه من عمر» فعلى طريق التواضع وكسر النفس.

قولهم : إنه قضى فى الجد بتسعين قضية.

قلنا : لأنه كان مجتهدا ، وكان يجب عليه اتباع ما يوجبه ظنّه فى كل وقت ، وإن اتحدت الواقعة كما هو دأب سائر المجتهدين (٢).

وأما قصته مع المغيرة بن شعبة (٣) : فغير موجبة للطعن فيه أيضا.

أما قوله : ما كان الشيطان ليشمت برجل من أصحاب رسول الله : أى بوقوعه فى معصية الزنا ؛ فظاهر أنه غير موجب للقدح.

قولهم : إنه أشمت الشيطان بالشهود ، وهم من أصحاب رسول الله ، إن أرادوا بذلك أنه أشمت الشيطان بهم ، بإقامة الحد عليهم ، مع وجوبه حيث صارت أقوالهم قذفا لنقصان نصاب الشهادة ، ولم يجد لدفع ذلك عنهم سبيلا ؛ فذلك غير موجب للقدح ، وإلا كان الإمام منهيا عن إقامة الحدود الواجبة ؛ وهو محال.

وإن أرادوا غير ذلك ؛ فهو ممنوع (٤).

__________________

(١) قارن بما ذكره صاحب المغنى ٢٠ / ١٢ ، ١٣ من القسم الثانى ؛ فقد تحدث صاحب المغنى عن هاتين الشبهتين بالتفصيل ورد عليهما بالأدلة القاطعة.

(٢) قارن بالمغنى ص ١٨ الجزء العشرون ـ القسم الثانى.

(٣) عن قصة المغيرة بن شعبة وما وجه الخصوم من طعن على الإمام عمر بسببها والرد عليهم بالتفصيل. بالإضافة لما ورد هنا : انظر المغنى ٢٠ / ١٦ وما بعدها من القسم الثانى ومنهاج السنة للإمام ابن تيمية ٣ / ١٤٨.

(٤) قارن بما ورد فى المغنى ص ١٦ ـ ١٨ من المجلد الثانى. من الجزء العشرون.

٢٧٠

قولهم : إنه عطّل حدا لا نسلم ذلك ؛ لأن التعطيل يستدعى سابقة الوجوب ، والحدّ على المغيرة لم يجب ؛ لنقصان نصاب / / الشهادة (١).

قولهم : إنه لقّن الشاهد المداهنة فى الشهادة / لا نسلم ؛ بل غايته أنه قال : إنى لأرى وجه رجل ما كان الله ليفضح بشهادته رجلا من أصحاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، [معناه أنى أتفرس فيه أنه ليس معه شهادة يفضح بها رجلا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم] (٢) ، وليس فى ذلك ما يوجب التعليم بالمداهنة.

قولهم : إنه أراد أن يقيم الحد مرة ثانية ، على بعض الشهود ، حيث كرر الشهادة بعد إقامة الحد عليه ، إنما كان كذلك ؛ لأنه ظنّ أنه قذف ثان غير القذف الأول ، فلما قال له عليّ ـ عليه‌السلام ـ إن جلدته رجمت صاحبك» معناه : إن حددته لظنك أن ما صدر منه من الشهادة ثانيا غير الشهادة الأولى ؛ فقد كمل نصاب الشهادة على الزنا ؛ فيلزم أن ترجم المغيرة ؛ فرجع عمّا ظنّه (٣) وليس ذلك بدعا من أحوال المجتهدين ، كما رجع عليّ ـ عليه‌السلام ـ عن المنع من بيع أمهات الأولاد إلى بيعهن (٤).

قولهم : إنه أخطأ فى صورة الإنكار من ثلاثة أوجه ؛ لا نسلم ذلك.

قولهم : إنه تجسّس ؛ لا نسلم [ذلك] (٥) ؛ بل أخبر بذلك خبرا حصل له به الظن الموجب للإنكار.

قولهم : إنه دخل بغير إذن مسلم ؛ ولكن لا نسلم أن الاستئذان فى مثل هذه الحالة واجب ؛ ليكون مخطئا بتركه ؛ وذلك لأن إنكار المنكر ، واجب على الفور ويلزم من الاستئذان تأخيره ؛ فلا يجب.

قولهم : إنه لم يسلّم.

__________________

/ / أول ل ١٧٨ / أمن النسخة ب.

(١) قارن بما ورد فى المصدر السابق.

(٢) ساقط من أ.

(٣) قارن بمنهاج السنة ٣ / ١٤٨.

(٤) راجع ما مر فى ل ٢٨٦ / أوهامشها.

(٥) ساقط من أ.

٢٧١

قلنا : لأن السلام ليس واجبا ؛ بل غايته أنه يكون مندوبا ، ومن ترك مندوبا لا يعد مخطئا ؛ فإن استيعاب الأوقات بالعبادات مندوب ، وتارك ذلك ، لا يعد مخطئا ، وإلا كان النبي فى كل وقت لا يؤدى فيه عبادة تطوعا مخطئا ؛ وهو ممنوع (١).

قولهم : إنه كان شاكا فى دين الإسلام ، معاذ الله أن يكون ذلك منه مع ما بينّاه من الفضائل الواردة فى حقه ، وإجماع الأمة على إمامته ، وما ظهر منه من حسن سيرته ، وتصلبه فى إقامة الدين ، وتورعه ، الّذي ما سبقه ، ولا لحقه [فيه] (٢) أحد من المسلمين كما بينّاه.

وما ذكروه عنه من تلك الأقوال الشنيعة ، والأحاديث الفظيعة ، فمن أكاذيب أعداء الدين ، وتشنيعات الملحدين ، قصدا لهضم الإسلام فى أعين الضعفاء بالقدح فيمن كان عماد الإسلام ، وبه قوام الإسلام ابتداء وانتهاء ، بدليل قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم أيد الإسلام بأبى جهل ، أو بعمر بن الخطاب» (٣).

قولهم : إنه [كان] (٤) شاكا فى إسلام نفسه بسؤاله لحذيفة بن اليمان ؛ فقد سبق جوابه.

قولهم : إن النبي ـ عليه‌السلام ـ مات وهو غير راض عنه ؛ لا نسلم.

وكيف يكون ذلك مع ورود ما ورد عنه فى مناقبه ، وتحقيق فضائله ، كما تقدم تحقيقه!.

وأما قضية الدواة ، والصحيفة : فلا نسلم أن عمر كان القائل عن النبي ـ عليه‌السلام ـ أنه يهجر ؛ بل الّذي رواه ابن عباس أن القائل لذلك واحد من أهل البيت ، يعنى الحاضرين ، ولم يعيّن عمر.

وإن سلمنا أن القائل لذلك عمر ؛ فمعناه أن الألم والوجع قد غلب على رسول الله ، وغيّب صوابه ، فكيف يكتب ، وليس فى ذلك ما يوجب سخط النبي عليه.

__________________

(١) قارن بما ذكر هنا من خطئه فى صورة الإنكار من ثلاثة أوجه. ورد الآمدي عليه بما ذكره القاضى عبد الجبار فى المغنى ٢٠ / ١٤ من القسم الثانى.

(٢) ساقط من (أ).

(٣) ورد فى سنن الترمذي ٥ / ٦١٧ «اللهم أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك ، بأبى جهل أو بعمر بن الخطاب قال : وكان أحبهما إليه عمر» وفى مسند أحمد ١ / ٤٥٦ «اللهم أيد الإسلام بعمر». وفضائل عمر رضي الله عنه لا ينكرها إلا جاحد ، أو صاحب هوى. فقد رويت فى فضله عشرات الأحاديث. ذكر بعضها الإمام السيوطى فى كتابه تاريخ الخلفاء ص ٩١ : «فصل فى الأحاديث الواردة فى فضله غير ما تقدم فى ترجمة الصدّيق» فارجع إليه.

(٤) ساقط من أ.

٢٧٢

الفصل السادس

فى إثبات إمامة عثمان بن عفان رضى الله عنه (١)

ولا خلاف بين الناس أن عمر ـ رضي الله عنه ـ جعل الإمامة شورى فى ستة نفر ، وهم : عثمان وعليّ ، وعبد الرحمن بن عوف ، وطلحة ، والزبير ، وسعد بن أبى وقاص ، وقال : «لو كان أبو عبيدة بن الجراح فى الأحياء ؛ لما ترددت / فيه» (٢).

وإنما جعلها شورى بين السّتة المذكورين ؛ لأنه كان يراهم أفضل خلق الله فى زمانهم ، وأن الإمامة غير صالحة لمن عداهم ، وقال فى حقهم : «هؤلاء مات رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو عنهم راض» (٣) ، غير أنه تردد فى التعيين ، ولم يترجح فى نظره واحد منهم على الباقين ، وأراد أن يستظهر برأى غيره فى التعيين.

ولهذا قال : «إن انقسموا اثنين فأربعة ؛ فكونوا مع الأربعة ، ميلا منه إلى الكثرة ، وأنها أغلب على الظّنّ ، وإن استووا فكونوا فى الحزب الّذي فيه عبد الرحمن بن عوف» (٤).

ولهذا فإنه لم يعيّن واحدا منهم للصلاة [عليه] (٥) ، مخافة أن يقال مال إليه ، وعيّنه ؛ بل وصّى بذلك إلى صهيب (٦) ؛ بل كان يدعو للخليفة بعده ويقول : «أوصى الخليفة بعدى بالمسلمين خيرا ، أوصيه بالمساكين.

__________________

(١) لمزيد من البحث والدراسة بالإضافة إلى ما ورد هاهنا يرجع إلى المراجع التالية : الإبانة للأشعرى ص ١٠٧ ، والمغنى فى أبواب التوحيد والعدل ٢٠ / ٢ / ٣٠ ـ ٥٩. والتمهيد للباقلانى ص ٢٠٨ ـ ٢٢٧. وأصول الدين للبغدادى ص ٢٨٦ ـ ٢٨٩ ، ونهاية الأقدام للشهرستانى ص ٤٨٠.

ومن كتب المعتزلة : المغنى فى أبواب التوحيد ٢٠ / ٣٠ ـ ٥٩ من القسم الثانى ـ شرح الأصول الخمسة ص ٧٥٨.

وغاية المرام للآمدى ص ٣٩٠.

ومن كتب المتأخرين عن الآمدي : شرح المواقف ـ الموقف السادس ص ٣١٦. وشرح المقاصد للتفتازانى ٢ / ٢١٦. وشرح العقيدة الطحاوية ص ٥٦٢ ، ٥٦٦. وتاريخ الخلفاء للسيوطى ص ١١٨ ـ ١٣١. وانظر ترجمته فى هامش ل ١٥٣ / أمن القاعدة الخامسة.

(٢) قارن هذا القول بما ورد فى طبقات ابن سعد ٣ / ٣٤٣ ، وتاريخ الطبرى ٤ / ٢١٥.

(٣) قارن هذا القول بما ورد فى تاريخ الطبرى ٤ / ٢٢٨.

(٤) انظر طبقات ابن سعد ٣ / ٦١ ، وتاريخ الطبرى ٤ / ٢٢٩.

(٥) ساقط من (أ).

(٦) صهيب : هو صهيب بن سنان بن مالك ، ولد بالموصل ، وسبته الرّوم ونشأ ببلادهم ، ثم اشتراه ابن جدعان وأعتقه. شهد المشاهد مع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولما استشهد عمر ـ رضي الله عنه ـ صلى بالمسلمين حتى انتخبوا عثمان ـ رضي الله عنه ـ [الاستيعاب ١ / ٣١٤ ، والإصابة ٢ / ١٨٨].

٢٧٣

ثم اتفق المسلمون / / بعده على عثمان ؛ لاستجماعه شرائط الإمامة ، وتحقيقها على ما قررناه فى حق أبى بكر.

وكان مع ذلك له من الفضائل المأثورة ، والمناقب المشهورة ما لا خفاء به ؛ فإنه جهّز جيش العسرة ، وسبّل بئر رومة (١) ، وزاد فى مسجد رسول الله ، وجمع النّاس على مصحف واحد (٢) ، عند ما كاد وقوع الاختلاف بين الناس فى القرآن ، واختيار النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ له فى تزويج ابنتيه ، وقوله عليه‌السلام له لمّا ماتت الثانية : «لو كان لنا ثالثة لزوجناك» (٣).

وما اشتهر من كف النبي رجله عند دخول عثمان عليه ، وقوله فى حقه : «كيف لا أستحي ممّن تستحى منه الملائكة» (٤).

وقوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «وزنت بأمتى ، فوضعت فى كفة ، وأمتى فى كفة ؛ فرجحت بأمتى. ثم وضع أبو بكر مكانى ؛ فرجح بأمتى ؛ ثم وضع عمر مكانه فرجح بهم ، ثم وضع عثمان مكانه ؛ فرجح بهم ؛ ثم رفع الميزان» (٥).

وكان مع ذلك كله من الزهاد العباد المتهجدين يختم القرآن فى كل ليلة بركعة واحدة ، حتى نزل فى حقه قوله تعالى : (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً) (٦) الآية. وقال فيه حسان (٧) بعد قتله فى أبيات قصيدة مطولة :

ضحّوا بأشمط عنوان السّجود به

يقطّع الليل تسبيحا وقرآنا (٨)

فإن قيل : كيف يمكن أن يقال : جعل الإمامة شورى بين الستة المذكورين [وعيّنهم] (٩) دون غيرهم مع أنه قدح فى كل واحد منهم (١٠)؟.

__________________

/ / أول ل ١٧٨ / ب.

(١) بئر رومة (بضم الراء وسكون الواو وفتح الميم) وهى فى عقيق المدينة (انظر معجم البلدان ٢ / ٤).

(٢) راجع عن مناقبه. تاريخ الخلفاء للسيوطى ص ١١٨ ـ ١٣١.

(٣) ورد بألفاظ متقاربة فى طبقات ابن سعد ٣ / ٥٦ ، وتاريخ الخلفاء للسيوطى ص ١٢١.

(٤) ورد بألفاظ متقاربة فى صحيح مسلم ٧ / ١١٧ وتاريخ الخلفاء ص ١٢٢.

(٥) ورد بألفاظ متقاربة فى مسند أحمد ٤ / ٦٣ ، ٥ / ٤٤ ، وسنن أبى داود ٢ / ٢١٣.

(٦) سورة الزمر ٣٩ / ٩. وانظر لباب النقول للسيوطى ص ١٨٤ حيث ذكر أربع روايات فى سبب نزول هذه الآية الكريمة الرواية الأولى منها : عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما قال : نزلت فى عثمان بن عفان» وهذه الرواية تتفق مع ما ذكره الآمدي.

(٧) حسان بن ثابت ـ هو أبو عبد الرحمن حسان بن ثابت بن المنذر الأنصارى شاعر الرسول ـ عليه‌السلام ـ وهو من الشعراء المخضرمين توفى بالمدينة المنورة فى خلافة على رضي الله عنه ـ (الإصابة ١ / ٣٢٥).

(٨) وهذا البيت ورد فى ص ٢١٦ فى ديوان : حسان بن ثابت رضي الله عنه.

(٩) ساقط من أ.

(١٠) قارن بما ورد فى المغنى ٢٠ / ٢٠ من القسم الثانى.

٢٧٤

ودليل ذلك ما روى عن ابن عباس أنه قال : «رأيت أمير المؤمنين عمر مفكرا ، فقلت له : يا أمير المؤمنين لو حدّثتك بما فى نفسك ، قال عمر : كنت أصدقك : فقلت : كأنك تفكر فيمن يصلح لهذا الأمر بعدك ، فقال : ما أخطأت ما فى نفسى.

فقال ابن عباس فقلت : يا أمير المؤمنين ما تقول فى عثمان؟ فقال : هو كلف بأقاربه يحمل أبناء أبى معيط ، على رقاب الناس ؛ فيحطمونهم حطم الإبل بنت الربيع ؛ فيدخل الناس من هاهنا ؛ فيقتلونه. وأشار إلى مصر ، والعراق ، والله إن فعلتم ؛ ليفعلنّ والله [إن فعل ليقتلن] (١).

قلت : فطلحة؟ قال : صاحب بأو وزهو وهذا الأمر لا يصلح لمتكبر.

قلت : فالزبير؟ قال : بخيل يظل طوال نهاره بالبقيع يحاسب به عن الصاع من التمر ، وهذا الأمر لا يصلح إلّا لمنشرح الصدر.

قلت : فسعد؟ قال : صاحب شيطان إذا غضب ، وإنسان إذا رضى ، [فمن للناس إذا غضب] (٢) ،

قلت : فعبد الرحمن بن عوف؟ قال : والله لو وزن إيمانه بإيمان الخلق لرجح ؛ لكنه ضعيف.

قلت : / فعلىّ : فصفق إحدى يديه على الأخرى فقال : هو لها ، لو لا دعابة فيه ، وو الله إن ولى هذا الأمر ليحملنّكم على المحجّة البيضاء» (٣).

ثم وإن سلمنا أنه لم يقدح فيهم ؛ ولكن لا نسلّم إجماعهم على عثمان ، وكيف يجمعون عليه ، ولم يكن أهلا للإمامة.

وبيان عدم أهليته من اثنى عشر وجها :

الأول : أنه آوى الحكم (٤) طريد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ورده ، ولم يرده رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولا أبو بكر ، ولا عمر (٥).

__________________

(١) ساقط من أ.

(٢) ساقط من أ.

(٣) المحجة البيضاء : جادة الطريق. قارن هذه الرواية مع اختلاف فى العبارة بشرح النهج ١٢ / ٢٥٩ ، ٢٦٠. والفائق فى غريب الحديث ٢ / ٤٢٥ ، ٤٢٦. ثم ارجع إلى المغنى ٢٠ / ٢ / ٢٠ ـ ٢٦ فقد تحدث صاحب المغنى عن قصة الشورى حتى تمت بيعة عثمان رضي الله عنه بالتفصيل.

(٤) الحكم : هو الحكم بن أبى العاص بن أمية ـ أسلم يوم الفتح نفاه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى الطائف ، واستمر منفيا مدة خلافة أبى بكر ، وعمر فلما ولى عثمان أعاده إلى المدينة وإعطاء مائة ألف درهم (طبقات ابن سعد ٥ / ٤٤٧ ، الاستيعاب ١ / ١١٨).

(٥) قارن بالمغنى ٢٠ / ٣٩ من القسم الثانى ، والتمهيد للباقلانى ص ٢٢٣.

٢٧٥

الثانى : أنه أشخص أبا ذر من الشام ، وضربه بالسوط (١) ، ونفاه إلى الربذة (٢) ، وكان حبيب رسول الله من غير ذنب موجب لذلك ، سوى اتباع هوى معاوية ، وشكواه منه.

الثالث : أنه أحرق المصاحف بالنار (٣).

الرابع : أنه ضرب ابن مسعود ، حتى كسر ضلعين من أضلاعه ، عند إحراق مصحفه ، وحرمه العطاء سنتين (٤).

الخامس : أنه ضرب عمار بن ياسر (٥) ، حتى فتق أمعاءه (٦).

السادس : أنه ولى أقاربه ، ورفع أبناء أبى معيط على رقاب الناس ، بعد نهى عمر له عن ذلك ، وكراهية الناس لهم (٧).

السابع : أنه ولى على المسلمين من لا يصلح للولاية عليهم كتوليته للوليد بن عقبة ، وسعيد بن العاص ، وعبد الله بن أبى سرح ، ومعاوية.

أما الوليد : فلأنه شرب الخمر ، وصلى بالناس سكرانا.

وأما سعيد بن العاص : فلأنه لمّا ولّاه على الكوفة فعل ما أوجب أن أخرجه أهلها منها.

وأما عبد الله بن أبى سرح : فلأنه لما ولّاه مصر أساء التدبير حتى شكاه أهلها ، وتظلموا منه.

__________________

(١) قارن بما ذكره القاضى عبد الجبار فى المغنى ٢٠ / ٤٠ من القسم الثانى ، والتمهيد للباقلانى ص ٢٢٢ وما بعدها ، ومروج الذهب للمسعودى ص ٣٤٨ من الجزء الثانى.

(٢) الربذة : قرية من قرى المدينة المنورة تبعد عنها ثلاثة أميال (معجم البلدان ٤ / ٢٢٢).

(٣) قارن هذا الطعن بما ورد فى المغنى للقاضى عبد الجبار ٢٠ / ٤٠ من القسم الثانى ، والتمهيد للباقلانى ص ٢٢١ وما بعدها.

(٤) قارن بما ورد فى المغنى ٢٠ / ٤٠ من القسم الثانى ، ومروج الذهب ٢ / ٣٤٧ ، والتمهيد للباقلانى ص ٢٢٠.

(٥) عمار بن ياسر بن عامر الكنانى ، المذحجى ، العنسى القحطانى ، أبو اليقظان : صحابى جليل ، أسلم قديما وكان من المستضعفين الذين يعذبون بمكة ؛ ليرجعوا عن دينهم. شهد بدرا ، ولم يشهدها ابن مؤمنين غيره ، وشهد أحدا والمشاهد كلها مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسماه الطيّب المطيّب. كان من الولاة الشجعان ذوى الرأى ، وهو أحد السابقين للإسلام والجهر به. وفى الحديث : ما خير عمار بين أمرين إلا اختار أرشدهما. ولاه عمر الكوفة ، وشهد الجمل وصفين مع على رضى الله عنهما ، واستشهد فى صفين ، وقتلته الفئة الباغية وعمره ثلاث وتسعون ودفن هناك.

روى (٦٢) حديثا. رحمه‌الله ورضى عنه.

[حلية الأولياء ١ / ١٣٩ ، وصفة الصفوة ١ / ١٦٥ ، ١٦٦ ، والأعلام للزركلى ٥ / ٣٦].

(٦) قارن بالتمهيد للباقلانى ص ٢٢٠ ، والمغنى ٢٠ / ٤٠ من القسم الثانى ، ومروج الذهب ٢ / ٣٤٧.

(٧) قارن بالتمهيد ص ٢٢٤ ، ومروج الذهب ٢ / ٣٤٨ وما بعدها ، والمغنى ٢٠ / ٣٨ وما بعدها من القسم الثانى.

٢٧٦

وأما معاوية : فلما ظهر بسببه من الفتن وأحدث من العظائم.

الثامن : أنه كان يبذر أموال بيت مال المسلمين ، ويفرقها على أقاربه حتى أنه نقل عنه ، أنه دفع إلى أربعة نفر منهم أربعمائة ألف دينار (١).

التاسع : أنه كان مضيعا لحدود الله ، ويدل عليه أنه / / لم يقتل عبيد الله بن عمر (٢) ، قاتل الهرمزان ، وكان مسلما ، وأنه أراد أن يعطل حد شرب الخمر ، فى حق الوليد بن عقبة ؛ فحدّه على ـ عليه‌السلام ـ وقال : «لا يعطل حدّ الله تعالى وأنا حاضر» (٣).

العاشر : أنه كاتب ابن أبى السرح سرا بخلاف ما كتب إليه جهرا على يد محمد بن أبى بكر ، وأمره بقتل محمد بن أبى بكر (٤) ولم يوجد منه ما يقتضي ذلك ، حتى آل أمر ذلك ، إلى ما آل إليه من خذلان الصحابة له ، وتمالأ الناس على قتله ، وتركه ثلاثة أيام لا يدفن (٥).

الحادى عشر : أنه حمى لنفسه حمى (٦) ، وأتم الصلاة فى السفر (٧).

الثانى عشر : أنه رقى على المنبر ، إلى حيث كان يرقى النبي ـ عليه‌السلام ـ مساويا له ، بعد نزول أبى بكر درجة ، ونزول عمر درجتين.

وقد نقم الخصوم عليه أشياء كثيرة ، لا حاصل لها ، يظهر فسادها بأوائل النظر لمن لديه أدنى تفطن ؛ فلذلك آثرنا الإعراض عنها مقتصرين على ما ذكرناه ؛ لكونه أشبه ما قيل.

__________________

(١) قارن بالمغنى ٢٠ / ٣٩ من القسم الثانى ، والتمهيد للباقلانى ص ٢٢٤.

/ / أول ل ١٧٩ / أمن النسخة ب.

(٢) عبيد الله بن عمر بن الخطاب العدوى ، القرشى : صحابى ، من أبطال قريش وفرسانهم ، ولد فى عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأسلم بعد إسلام أبيه ، وسكن المدينة. وغزا افريقية ثم رحل إلى الشام فى زمن على رضي الله عنه ؛ فشهد (صفين) بجانب معاوية ، وقتل فيها سنة ٣٧ ه‍. قتل الهرمزان بعد استشهاد عمر رضى الله عنه ـ وكان مسلما.

[طبقات ابن سعد ٥ / ٨ ، والأعلام ٤ / ١٩٥].

(٣) قارن بالمغنى ٢٠ / ٣٨ من القسم الثانى.

(٤) سبقت ترجمته من ه ل ٢٨٨ / أ.

(٥) قارن بالمغنى للقاضى عبد الجبار ٢٠ / ٣٩ من القسم الثانى.

(٦) قارن بالمغنى ٢٠ / ٣٩ من القسم الثانى ، والتمهيد للباقلانى ص ٢٢٢.

(٧) قارن بالتمهيد للباقلانى ص ٢٢٣.

٢٧٧

والجواب :

قولهم : إن عمر قدح فى كل واحد من الستة.

قلنا : [لم يكن] (١) مقصوده بذلك القدح فيهم ، والتنقيص بهم ؛ بل لأنه لمّا اعتقد أنهم أفضل أهل زمانهم ، وجعل الإمامة منحصرة فيهم ، أراد أن ينبه الناس على ما يعلمه من كل واحد من الستة ، ممّا يوافق مصلحة المسلمين ، ويخالفها ، مبالغة فى التّحرّى والنصح للمسلمين ؛ ليكون اختيارهم لمن يختارونه ، أوفق لمصلحتهم (٢).

قولهم : لا نسلم إجماع الأمة على عثمان.

قلنا : طريق إثباته فعلى نحو طريق إثبات إمامة أبى بكر على ما سبق.

قولهم : إنه لم يكن أهلا للإمامة.

قلنا : دليله الإجمال / والتفصيل ، كما تقدم فى حق أبى بكر رضي الله عنه.

قولهم : إنه آوى طريد رسول الله ، وردّه من الطائف.

قلنا : إنما ردّه لأن عثمان كان قد استأذن رسول الله فى رده ؛ فأذن له فى ذلك. ولم يتفق رده فى زمن النبي عليه‌السلام ، حتى آل الأمر إلى أبى أبكر ، وعمر ؛ فذكر لهما ذلك ، فطلبا معه شاهدا آخر على ذلك ؛ فلم يتفق حتى آل الأمر إلى عثمان ؛ فحكم فيه بعلمه.

قولهم : إنه أشخص أبا ذر من الشام ، وضربه بالسوط ، ونفاه إلى الربذة (٣).

قلنا : إنما أشخصه من الشام ؛ لأنه بلغه أنه كان فى الشام إذا صلى الجمعة وأخذ الناس فى ذكر مناقب الشيخين ، يقول لهم : «لو رأيتم ما أحدث الناس بعدهما ، شيّدوا البنيان ، ولبسوا الناعم ، وركبوا الخيل ، وأكلوا الطيّبات» (٤) ، وكاد يفسد بأقواله الأمور ، ويشوّش» الأحوال ؛ فاستدعاه من الشام ؛ فكان إذا رأى عثمان قال : (يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ) (٥) الآية ؛ فضربه عثمان بالسوط على ذلك تأديبا ،

__________________

(١) ساقط من أ.

(٢) قارن رد الآمدي على هذا الطعن بما ذكره صاحب التمهيد ص ٢٠٥ ـ ٢٠٨ وبما ذكره صاحب المغنى ٢٠ / ٢١ ـ ٢٦ من القسم الثانى.

(٣) سبق الحديث عنها فى هامش ٣٠٦ / ب.

(٤) قارن بما ورد فى التمهيد للباقلانى ص ٢٢٢ ، ٢٢٣.

(٥) سورة التوبة ٩ / ٣٥.

٢٧٨

وللإمام ذلك بالنسبة إلى كل من أساء أدبه عليه ، وإن أفضى ذلك التأديب إلى إهلاكه ، ثم قال له ، إما أن تكفّ ، وإمّا أن تخرج إلى حيث شئت (١) ؛ فخرج إلى الربذة غير منفى ، ومات بها.

قولهم : إنه أحرق المصاحف بالنار.

قلنا : هذا من أعظم مناقبه (٢) ، حيث أنه جمع الناس على كلمة واحدة ، ومصحف واحد ، ولو لا ذلك ، لاضطرب الناس واختلفوا كل اختلاف بسبب اختلاف المصاحف ، فإنها كانت مختلفة غير متفقة.

قولهم : إنه ضرب ابن مسعود حتى كسر ضلعيه (٣).

قلنا : إن صحّ ضربه له.

فقد قيل : إنه لما أراد عثمان أن يجمع الناس على مصحف واحد ، ويرفع الاختلاف بينهم فى كتاب الله ، طلب مصحفه منه فأبى ، ذلك مع ما كان عليه من الزيادة ، والنقصان ؛ فأدّبه على ذلك.

قولهم : إنه حرمه العطاء سنتين.

قلنا : احتمل أن يكون ذلك ؛ لأنه رأى صرفه إلى من هو أولى منه ، أو أنه كان قد استغنى عنه (٤).

قولهم : إنه ضرب عمار بن ياسر حتى فتق أمعاءه.

قلنا : إنما فعل به ذلك بطريق التأديب ؛ لأنه روى أنه دخل عليه ، وأساء عليه الأدب ، وأغلظ له فى القول بما لا يجوز التجري بمثله على الأئمة ، وللإمام التأديب لمن أساء الأدب عليه ، وإن أفضى ذلك إلى هلاكه ، ولا إثم عليه ؛ لأنه وقع من ضرورة فعل ما هو جائز له.

كيف وأن ما ذكروه لازم على الشيعة ، حيث أن عليا عليه‌السلام قتل أكثر الصحابة فى حربه (٥).

__________________

(١) قارن بما ورد فى التمهيد ص ٢٢٢.

(٢) قارن بما ورد فى التمهيد ص ٢٢٢.

(٣) قارن بما ورد فى التمهيد ص ٢٢١.

(٤) قارن هذا الرد بما ذكره صاحب التمهيد ص ٢٢٠.

(٥) قارن هذا الرد بما ورد فى التمهيد للباقلانى ص ٢٢٠ والمغنى فى أبواب التوحيد والعدل ٢٠ / ٥٤ من القسم الثانى.

٢٧٩

فلئن / / قالوا : إنما قتلهم بخروجهم عنه ، وإفتائهم عليه.

قلنا : فإذا جاز القتل دفعا لمفسدة الافتئات على الإمام ؛ جاز التأديب أيضا.

قولهم : إنه ولى أقاربه.

قلنا : لأنهم كانوا أهلا للولاية (١).

قولهم : كان ذلك مع كراهية الناس لهم.

قلنا : إن أرادوا به كراهية كل النّاس ؛ فممنوع ، وإن أرادوا كراهية بعض النّاس ؛ فهذا مسلم ؛ لكن ذلك ممّا لا يمنع من التولية ، وإلا لما ساغ للإمام نصب قاض ، ولا وال ضرورة أنه ما من وال ولا قاض إلا ولا بدّ من كراهية بعض الناس له.

قولهم : إنه ولى من لا يصلح / للولاية. لا نسلم ذلك.

قولهم : إنه ولى الوليد بن عقبة وقد شرب الخمر ، وصلى بالناس سكرانا.

قلنا : إنما ولاه لظنه أنه أهل للولاية ، وليس من شرط الوالى أن يكون معصوما ، ولا جرم لمّا ظهر منه الفسق ، عزله وحدّه.

وعلى هذا يكون الجواب عن كلّ من ولاه وظاهره الصلاح ، وإن لم يكن فى نفس الأمر صالحا (٢).

قولهم : إنه كان يكثر فى العطاء لأقاربه.

قلنا : لا نسلم أن الزيادة على القدر المستحق كان من بيت المال ؛ بل لعلّ ذلك من ماله ، وما يختص به (٣).

قولهم : إنه كان مضيعا لحدود الله. لا نسلم.

قولهم : إنه لم يقتل عبيد الله بن عمر قاتل الهرمزان.

__________________

/ / أول ل ١٧٩ / ب.

(١) قارن هذا الرد بما ذكره صاحب التمهيد ص ٢٢٤. وصاحب المغنى ٢٠ / ٤٧ من القسم الثانى.

(٢) قارن رد الآمدي بما ورد فى المغنى للقاضى عبد الجبار ٢٠ / ٤٧ من القسم الثانى وبرد صاحب التمهيد ص ٢٢٤ وما بعدها.

(٣) قارن رد الآمدي برد القاضى فى المغنى ٢٠ / ٥١ من القسم الثانى وبرد صاحب التمهيد ص ٢٢٤ وما بعدها.

٢٨٠