أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٥

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٥

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: د. أحمد محمد المهدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب والوثائق القوميّة
المطبعة: مطبعة دار الكتب والوثائق القوميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 977-18-0328-x
الصفحات: ٣١٨

وأما التفصيل : فهو أن الشروط المعتبرة فى الإمامة كلها متحققة فى حقه (١) ، فإنه كان ذكرا ، حرا ، قرشيا ، مشهور النسب ، بالغا ، عاقلا من غير خلاف ، وكان مسلما ، عدلا ، ثقة ؛ لأنه كان متظاهرا بالإسلام ، والتزام أحكامه ، والإقرار بالشهادتين ، محافظا على أمور دينه ، رشيدا فى دينه ، ودنياه ولم يعلم منه صدور كبيرة ، ولا مداومة على صغيرة ، ولا معنى للمسلم العدل إلا هذا.

وكان من أهل الحل ، والعقد ، والاجتهاد فى المسائل الشرعية ، والأمور السمعية ، وله فى ذلك الأقوال المشهورة ، والمذاهب المأثورة فى أحكام الفرائض ، وغيرها. كما هو معروف فى مواضعه ، مضافا إلى ما كان يعلم من أنساب العرب ، ووقائعها ، والعلوم الأدبيّة والأمور السياسية ، التى لا ريب فيها إلا لجاحد معاند.

وكان مع ذلك خبيرا بأمور الحرب ، وترتيب الجيوش ، وحفظ الثغور ، بصيرا بالأمور السياسية ، لم يلف فى تصرفه مدة ولايته خلل ، ولا زلل.

وكان شجاعا [مقدما] ، مقداما ، شديد البأس قوىّ المراس ، ثابت الجنان وقت التحام الشدائد ، واصطلام الأهوال بدليل صبره مع النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فى ساعة الخوف ، واستتاره فى الغار (٢) من الكفار ، ووضع عقبه على كوة فى الغار ، وقد لسعته الأفعى ، ولم يتأوّه مخافة استيقاظ النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ.

وقصته المشهورة مع المرتدين ، وقد تخاذل الصّحابة عنهم وقوله : «لأقاتلنهم ولو بابنتى هاتين» (٣). وأنه لم يتخلف عن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فى وقعة من الوقائع ، ولا مشهد من المشاهد ، إلا وهو أول القوم ، وآخرهم فى نصرة الدين ، والذّب عن حوزة المسلمين ، وأنّه كان مطاعا ، مهابا ، نافذ الأمر ، صيّب النّظر ، بدليل رجوع الصّحابة فى وقت اضطرابهم ، وتشويش أحوالهم ، عند ما قبض النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ واختلافهم فى موته (٤) ومحلّ

__________________

(١) قارن بما ورد فى المراجع التالية : الإبانة عن أصول الديانة للإمام الأشعرى ص ٢٠٤ وما بعدها. واللمع له أيضا ص ١٣١ ، ١٣٢ ، والتمهيد للباقلانى ص ١٨٧ ـ ١٩٧. والإرشاد للجوينى ص ٢٤٠ وما بعدها ، والأربعين للرازى ص ٤٠ وما بعدها والمغنى فى أبواب التوحيد والعدل للقاضى عبد الجبار ٢٠ / ٢١٥ وما بعدها من القسم الأول.

وشرح المواقف ـ الموقف السادس ص ٢٩٥ وما بعدها.

(٢) كان رضي الله عنه ثانى اثنين فى الغار قال تعالى (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) [التوبة ٤٠].

(٣) انظر صحيح البخارى ٩ / ١١٥ ، وصحيح مسلم ١ / ١٣٨ فقد وضحا الأقوال المأثورة التى تدل على إصرار أبى بكر ـ رضي الله عنه ـ على قتال المرتدين.

(٤) قال الشهرستانى فى الملل والنحل ص ٢٣ : مبينا الخلافات التى حدثت فى الملة الإسلامية. «الخلاف الثالث : فى موته عليه‌السلام. قال عمر بن الخطاب : من قال إن محمدا قد مات قتلته بسيفى هذا ...» وانتهى الخلاف على يد أبى بكر ـ رضي الله عنه ـ عند ما قرأ قول الله تعالى (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ).

٢٤١

دفنه (١) ، ومن يقوم بالأمر بعده ، إلى قوله (٢) ، والرجوع إليه / فى ذلك وفى كل ما كان ينوب من الأمور المعضلة ، والقضايا المشكلة ، على ما سبق تقريره.

قولهم : إنه كان ظالما ، لا نسلم [ذلك] (٣).

قولهم : إنه كان كافرا قبل البعثة ، فقد سبق الجواب عنه (٤).

قولهم : إنه ظلم فاطمة بمنعها من ميراثها ؛ لا نسلم أنه كان لها ميراث حتى يقال بمنعها منه ، قوله تعالى : (فَلَهَا النِّصْفُ) (٥) معارض بما روى عنه عليه‌السلام أنه قال : «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة» (٦).

فإن قيل : إنما تصح المعارضة بذلك أن لو كان خبر الواحد حجة ؛ وهو غير مسلم. وبتقدير التّسليم بذلك ، فإنّما يكون حجّة ، إذا لم يكن الراوى له متهما. وأما إذا كان متهما فيه فلا.

وبيان وجود التهمة من وجهين :

ـ الأول : أن / / الرّاوى له أبو بكر. وهو الخصم فى هذه المسألة ، ورواية الخصم ، لا يحتج بها على خصمه ، كشهادته عليه ؛ فلا تقبل ؛ لكونه متهما فيه.

الثانى : أنه قد انفرد بسماعه من النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مع عدم حاجته إلى معرفته ، دون من حاجته داعية إلى معرفته : كالعباس ، وفاطمة ؛ وذلك موجب للتّهمة.

وإن سلمنا خلوه عن التهمة ؛ ولكن إنّما يكون حجة إذا لم يكن مرجوحا ؛ وهو مرجوح من جهة السند ، والمتن.

__________________

(١) قال الشهرستانى (المصدر السابق) الخلاف الرابع : فى موضع دفنه» وانتهى هذا الخلاف عند ما ذكرهم أبو بكر.

بحديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الأنبياء يدفنون حيث يموتون».

(٢) قال الشهرستانى : الخلاف الخامس : فى الإمامة ـ وقد استطاع أبو بكر أن يحسم هذا الخلاف عند ما ذكر الأنصار بقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الأئمة من قريش». وهذه الخلافات كلها قد انتهت على يد أبو بكر رضي الله عنه لكل هذا فهو أهل للخلافة.

(٣) ساقط من أ.

(٤) راجع ما سبق.

(٥) سورة النساء ٤ / ١١.

(٦) رواه أحمد فى مسنده ١ / ١٠.

/ / أول ل ١٧٣ / أمن النسخة ب.

٢٤٢

أما من جهة السند : فلأنه آحاد ، ونص التوريث متواتر ؛ والمتواتر أقوى من الآحاد.

وأما من جهة المتن : فمن وجهين :

الأول : أن قوله تعالى : (فَلَهَا النِّصْفُ) قاطع فى دلالته على توريث النصف. وقوله ـ عليه الصلاة والسلام : «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة» يحتمل أن يكون المراد به ، لا نورث ما تصدّقنا به ؛ والقاطع راجح على المحتمل.

الثانى : أن آية الميراث مترجحة ، بموافقة قوله تعالى : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) (١) وقوله ـ تعالى ـ حكاية عن زكريا ـ عليه الصلاة والسلام ـ (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) (٢) والخبر على خلافه.

قلنا : أما منع كون خبر الواحد حجة ؛ فلا يستقيم لوجهين : ـ الأول : أنّه مجمع على قبوله بين الصحابة ، ويدلّ عليه رجوع الصحابة فى الأحكام الشرعية ، إلى أن أخبار الآحاد من غير نكير منهم ؛ فكان إجماعا (٣).

فمن ذلك رجوع عمر بن الخطاب فى إيجاب غرة الجنين إلى خبر حمل بن مالك (٤).

وفى توريث المرأة من دية زوجها ، إلى خبر الضحاك (٥).

وفى إجراء المجوس على سنّة أهل الكتاب ، إلى خبر عبد الرحمن بن عوف.

وفى وجوب الغسل من التقاء الختانين ، إلى خبر عائشة (٦).

__________________

(١) سورة النمل ٢٧ / ١٦.

(٢) سورة مريم ١٩ / ٦.

(٣) قارن : التمهيد للباقلانى ص ١٦٤ ، والإرشاد للجوينى ص ٢٣٥ والإحكام فى أصول الأحكام للآمدى ٢ / ٢٧٣ وما بعدها : الباب الثالث فى أخبار الآحاد.

(٤) حمل بن مالك : (ويقال له : حملة) كانت له امرأتان. فرمت احداهما الأخرى بحجر فألقت جنينا فقضى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بغرة عبد ، أو أمة. [أسد الغابة ١ / ٥٣٥].

(٥) انظر الإحكام فى أصول الأحكام للآمدى ٢ / ٢٧٣ وما بعدها. والضحاك : هو أبو سعيد الضحّاك. نجدى. ولاه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أمر مسلمى قومه. وكتب إليه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن يورث امرأة من دية زوجها. توفى سنة ١١ ه‍ (الإصابة ٢ / ١٩٨ ، أسد الغابة ٢ / ٤٢٩).

(٦) فى صحيح مسلم ١ / ١٨٧ عن عائشة رضى الله عنها : (قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا جلس بين شعبها الأربع ومسّ الختان الختان ، وجب الغسل».

٢٤٣

ومن ذلك رجوع عثمان فى الحكم بالسّكنى ، إلى خبر فريعة بنت مالك (١).

وما اشتهر عن عليّ عليه‌السلام من قبوله لخبر الواحد مع يمينه ، وقوله : «كنت إذا سمعت حديثا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفعنى الله بما شاء منه / وإذا حدثنى غيره حلفته [وإذا حلف] (٢) صدقته» (٣).

ومن ذلك رجوع أهل قباء إلى خبر الواحد فى التحوّل عن بيت المقدس ، إلى القبلة فى أثناء الصلاة (٤) ، إلى غير ذلك من الوقائع التى لا تحصى عددا.

الثانى : أنّا نعلم علما ضروريا ، بأخبار التواتر ، أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان يبعث الواحد من القضاة ، والرسل ، ليبلغ الشرائع ، والأحكام ، وقبض الصدقات ؛ وذلك كتأميره أبا بكر فى الموسم سنة تسع ، وإيفاده بسورة براءة مع على ـ عليه‌السلام ـ ؛ لقراءتها على أهل الموسم ، وتولية عمر على الصدقات ، إلى غير ذلك مع اتفاق الإجماع ، وأهل النقل ، أن النبي ـ عليه‌السلام ـ كان يوجب على أهل الأطراف قبول ذلك واتباعه ، وإلا فلو افتقر فى ذلك ، إلى تنفيذ عدد التواتر ربما كان ذلك لا يفى بجميع الصحابة ، وتحقق ذلك مستقصى لائق بالأصول الفقهية (٥).

وإن سلمنا أن خبر الواحد ليس بحجة ، غير أن أبا بكر هو الحاكم ، ولم يعمل بخبر الواحد ؛ بل بخبر الرسول الصادق حيث سمعه عنه.

قولهم : إنه كان متهما فيه ؛ لا نسلم.

قولهم : إنه الخصم ، لا نسلم ؛ بل الحاكم ، والحاكم غير متهم.

__________________

(١) هى الفريعة بنت مالك بن سنان أخت أبى سعيد الخدرى ، وكان يقال لها : الفارعة شهدت بيعة الرضوان (أسد الغابة ٦ / ٢٣٥ ، الإصابة ٤ / ٣٧٥).

(٢) ساقط من أ.

(٣) قال الآمدي فى كتابه الإحكام فى أصول الأحكام ٢ / ٢٧٧ : «وأما من جهة الأثر ، ونخص مذهب من فرق بين خبر وخبر : كبعض المحدثين : فهو أن عليا ـ كرم الله وجهه قال : «ما حدثنى بحديث إلا استحلفته ، سوى أبى بكر» صدق أبا بكر ، وقطع بصدقه ، وهو واحد».

(٤) ذكر هذا الخبر بتمامه فى سنن ابن ماجة ١ / ٣٢٢ وما بعدها.

(٥) انظر الإحكام فى أصول الأحكام للآمدى ٢ / ٨٨ وما بعدها.

٢٤٤

وقولهم : إنه انفرد بروايته ، لا نسلم (١). فإنه قد نقله جماعة من الصحابة كبشر بن مالك ، وسعد بن عبادة الأنصارى (٢) ، وغيرهما.

قولهم : إنه مرجوح ، لا نسلم ذلك.

قولهم : إنه آحاد ، ونصّ التوريث متواتر.

قلنا : إلا أنه خاص يتناول إرث النبيين بخصومه. وآية التوريث تتناوله بعمومها. والخاص أقوى من العام (٣) وذلك أن ضعف العموم ، بسبب تطرق التخصيص إليه ، وأكثر العمومات مخصصة ، وضعف الآحاد ، بسبب تطرق الكذب إليه ؛ وهو بعيد فى حق العدل ؛ فكان الظن بخبر الواحد الخاص أولى ، وأقوى.

قولهم : دلالة الآية قاطعة فى توريث النصف ، ودلالة الخبر مظنونة.

قلنا : وإن كانت دلالة الآية قاطعة فى توريث النصف ، غير أنها ظنية ، بالنظر إلى آحاد البنات ؛ لاحتمال تطرق التخصيص إليها ، وقد تطرق بالمقابلة ، والمخالفة فى دين الإسلام ؛ فدلالتها على توريث فاطمة تكون ظنية ، لا قطعية.

ثم الترجيح مع ذلك لدلالة الخبر ، فإن إخراج فاطمة عن التوريث ، غايته تخصيص عموم ؛ وهو غالب على ما تقدم.

وصرف الخبر إلى نفى التوريث ، فيما ترك صدقه مخالفة للظاهر من لفظ الخبر ، وما هو متبادر إلى الفهم منه / / عند إطلاقه ، وأكثر الظواهر مقررة لا مغيّرة ، فكان الخبر أقوى.

__________________

(١) قارن بالمغنى ٢٠ / ٣٣٢ وما بعدها.

(٢) سعد بن عبادة بن ديلم بن حارثة ، الخزرجى ، أبو ثابت ، صحابى جليل من أهل المدينة ، كان سيد الخزرج ، وأحد الأمراء الأشراف فى الجاهلية والإسلام ، وكان يلقب فى الجاهلية بالكامل (لمعرفته الكتابة والرمى والسباحة) كان أحد النقباء الاثنى عشر.

كان كريما جواد ، وكانت جفنته تدور مع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فى بيوت أزواجه. (فكان يرسل للرسول جفنة من ثريد فى كل يوم).

وكان يكرم أهل الصفة فكان يطعم كل ليلة منهم ثمانين. عن محمد بن سيرين قال : كان أهل الصفة إذا أمسوا انطلق الرجل بالرجل ، والرجل بالرجلين والرجل بالخمسة فأما سعد بن عبادة ؛ فكان ينطلق بثمانين كل ليلة.

وكان يدعو بعد كل صلاة مكتوبة : «اللهم ارزقنى ما لا أستعين به على فعالى فإنه لا يصلح الفعال إلا المال».

توفى ـ رحمه‌الله ورضى عنه بحوران سنة ١٤ ه‍.

[صفة الصفوة ـ ت رقم (٥٣) ١ / ١٨٩ ، ١٩٠ ، الأعلام ٣ / ٨٥].

(٣) قارن بما ورد فى الإحكام فى أصول الأحكام للآمدى ٢ / ٢٤١.

/ / أول ل ١٧٣ / ب من النسخة ب.

٢٤٥

كيف وأن حمل الخبر على ما قيل ممّا يبطل فائدة تخصيص النبيين بالذكر ، من حيث أن غيرهم مشارك لهم فى ذلك بالإجماع.

قولهم إن الآية مترجحة ؛ لموافقة قوله تعالى : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) (١) وقول زكريا : (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) (٢).

قلنا : يحتمل أن يكون المراد به وراثة العلم ، ووراثة العلم سابقة ؛ لقوله تعالى / (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) (٣) وقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ «العلماء ورثة الأنبياء» (٤) ويجب الحمل على هذا المعنى الأمور أربعة :

الأول : ما فيه من الجمع بين الأدلة بأقصى الإمكان.

الثانى : أن قوله تعالى : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) إنما ذكره فى معرض التعظيم له ، والإجلال لشأنه ؛ وذلك إنما يليق بوراثة العلم ، لا بوراثة المال.

الثالث : أنه قد كان لداود أولاد أخر لم يذكرهم ، ولو كان المراد به وراثة المال ؛ لما اختص به سليمان دونهم.

الرابع : قول سليمان : (يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) (٥) ؛ وذلك دليل [على] (٦) أنه أراد بالميراث ، العلم دون غيره ، ولما كانت وراثة العلم أشرف من وراثة المال ؛ فيجب أيضا حمل قول زكريا عليه.

كيف وأنه قد قيل : إن زكريا كان رجلا فقيرا ، لا مال له غير قدوم ، ومنشار ، وليس ذلك ممّا يعظم عند نبى كريم ، حتى أنه يطلب حرمان مستحقيه عنه ؛ فتعين أن يكون المراد به ، وراثة العلم ، ولا يلزم من كونه طلب ولدا يرث علمه ، أن يكون قد بخل بوصول علمه إلى غير ولده ؛ ليكون حراما ؛ فإنه لا يمتنع مع ذلك أن يكون ولده ، وغير ولده وارثا لعلمه.

__________________

(١) سورة النمل ٢٧ / ١٦.

(٢) سورة مريم ١٩ / ٦.

(٣) سورة فاطر ٣٥ / ٣٢.

(٤) رواه البخارى فى صحيحه «وإن العلماء هم ورثة الأنبياء ورّثوا العلم من أخذه أخذ بحظ وافر ، ومن سلك طريقا يطلب به علما ، سهل الله له طريقا إلى الجنة). كتاب العلم ـ باب العلم قبل القول والعلم ـ (١ / ١٩٢). وقارن بلفظ متقارب بمسند أحمد / ١٩٦ ، وسنن الدارمي ١ / ٩٨.

(٥) سورة النمل ٢٧ / ١٦.

(٦) ناقص من (أ).

٢٤٦

وأيضا فإنه قد قيل : إنه لم يرد بقوله : (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) (١) ولدا ، ولهذا قال : (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) (٢).

وإنما أراد به : وليا يقوم مقامه فى العلم ، وأمر الدين.

وقوله فى موضع آخر : (هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ) (٣) ، وليس فيه ما يدل على طلب الولد ؛ بل من يكون من ذرية طيبة يكون لى وليا ، ولهذا لم يقل من ذريتى (٤).

قولهم : إن فاطمة كانت معصومة عن الخطأ ؛ لا نسلم.

قولهم : إنها كانت من أهل البيت ، مسلم ؛ ولكن لا نسلم أن أهل [البيت] (٥) معصومون.

والآية فقد نقل الضحاك. أنه لما نزلت هذه الآية ، قالت عائشة : «يا نبى الله ، أنحن من أهل بيتك الذين قد أذهب الله عنهم الرجس بالتطهير» (٦) ، فقال عليه الصلاة والسلام ، يا عائشة أو ما تعلمين أن زوجة الرجل هى أقرب إليه فى التودد والتحبب من كل قريب.

وأن زوجة الرجل مسكن له ، والّذي بعثنى بالحق نبيّا ؛ لقد خصّ الله بهذه الآية فاطمة ، وزينب ، ورقية ، وأم كلثوم ، وعليا ، والحسن ، والحسين ، وجعفرا ، وأزواج محمد ، وخاصته ، وأقرباءه.

وإذا ثبت ذلك فالآية تتناول الكل تناولا واحدا (٧).

وقد أجمعنا على أنها غير مقتضية لعصمة الزوجات وعصمة العباس ، وغيره من الأقارب ؛ فكذلك فى غيرهم.

قولهم : يلزم من ذلك إبطال فائدة التخصيص ؛ ليس كذلك ؛ فإنه جاز أن يكون ما صرف عن أهل البيت من الرجس الخاص ، غير مصروف عن غيرهم.

__________________

(١) سورة مريم ١٩ / ٥.

(٢) سورة مريم ١٩ / ٨.

(٣) سورة آل عمران ٣ / ٣٨.

(٤) قارن بالجامع لأحكام القرآن ١ / ٧٩ وما بعدها ، وتفسير ابن كثير ١ / ٣٦٠.

(٥) ساقط من أ.

(٦) انظر الضحاك فى زاد المسير ٣ / ٣٨٣.

(٧) قارن به تفسير ابن كثير ٣ / ٤٨٣ ، وشرح المواقف ـ الموقف السادس ـ ص ٢٩٨ وما بعدها.

٢٤٧

وقوله عليه / الصلاة والسلام : «فاطمة بضعة منى» (١) فإن كان من أخبار الآحاد ؛ فليس هو عندهم حجة ، إلا أنه لا يمكن حمله على الحقيقة ، فإن البضعة من الشخص جزء الشخص وجزء الشخص ما ينقص ذلك الشخص بنقصانه ، وينمو بنموه ، ويغتذى بغذائه ، ويتألم بما يرد عليه من الآلام ، وفاطمة بالنسبة إلى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ليست كذلك ، فأمكن حمل قوله : «بضعة منى» أى ، كبضعة منى فيما يرجع إلى الحنو ، والشفقة.

وإن سلمنا أنّها بضعة منه حقيقة ؛ ولكن لا نسلم أنه يجب أن تكون معصومة.

قولهم : لأن النبي عليه‌السلام معصوم ، ممنوع على ما تقدم.

وإن سلمنا أنه معصوم فلا نسلم أنه يلزم من وصف الجملة بوصف ، وصف جزئها به.

فلئن قالوا : وإن لم يثبت الإرث ، فقد ادّعت أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ نحلها بها ، وشهد لها عليّ والحسن ، والحسين ، وأم أيمن (٢) ؛ فرد شهادة الكل ، ولم يقبل دعواها.

قلنا : أما أنه لم يقبل شهادة الحسن ، والحسين ؛ فلأنه رأى فى اجتهاده امتناع قبول شهادة الولد لوالديه ؛ وهو رأى أكثر أهل العلم. ونصاب / / البينة لم يتم بعلى ، وأم أيمن. ولعله أيضا لم ير الحكم بالشاهد الواحد ، واليمين ؛ فإنه مذهب كثير من العلماء (٣).

قولهم : إنه لم يولّه شيئا فى حال حياته ؛ لا نسلم ذلك ؛ فإنه قد أمّره على الحجيج فى سنة تسع ، واستخلفه فى الصلاة بالنّاس فى مرضه ، وصلّى خلفه ، ويدل على ذلك ما روى جابر (٤) بن عبد الله أنه قال : «لما ثقل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فى مرضه حين أهل ربيع الأول أمر أبا بكر أن يصلّى بالناس ، وكان إن وجد خفة ، وأطاق الصلاة قائما ؛ خرج فصلّى بنا قائما ، وإن وجد خفة ولم يستطع القيام ؛ خرج وصلّى جالسا ، وأبو بكر يصلى بالناس ؛ لأنه ـ عليه‌السلام ـ نهانا أن يصلى القاعد بالقائم) (٥).

__________________

(١) انظر ما مر فى هامش ل ٢٩٥ / ب.

(٢) أم أيمن : هى بركة بنت ثعلبة بن عمرو ـ مولاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعتقها رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وزوجها زيد بن حارثة فولدت له أسامة بن زيد (الإصابة فى تمييز الصحابة ٤ / ٤١٥ ، الاستيعاب ٢ / ٧٦٥).

/ / أول ل ١٧٤ / أ.

(٣) انظر المغنى للقاضى عبد الجبار ٢٠ / ٣٣٢ وما بعدها ، وشرح المواقف. الموقف السادس ص ٢٩٩ ، فهو ينقل عن الآمدي غالبا.

(٤) جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الخزرجى الأنصارى السلمى : صحابى من المكثرين فى الرواية عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقد روى (١٥٤٠) حديثا له ولأبيه صحبة غزا تسع عشرة غزوة ، وكانت له فى أواخر أيامه حلقة فى المسجد النبوى يؤخذ عنه العلم. شهد بيعة العقبة مع السبعين وكان أصغرهم سنا ، توفى رحمه‌الله ورضى عنه بالمدينة سنة ٧٨ ه‍ [صفة الصفوة. الترجمة رقم (٧٩) ١ / ٢٤٤ ، ٢٤٥ ، الأعلام ٢ / ١٠٤].

(٥) ورد بألفاظ متقاربة فى مسند الإمام أحمد ٦ / ١٥٩. وسنن الترمذي ٢ / ١٩٥ وما بعدها.

٢٤٨

وأيضا ما روى عن عبد الله بن زمعة (١) أنه قال : «جاء بلال فى أول ربيع الأول فأذن بالصلاة فقال رسول الله : مروا أبا بكر يصلّى بالناس ، فخرجت ؛ فلم أر بحضرة الباب إلا عمر فى رجال ليس فيهم أبو بكر ، فقلت : قم يا عمر فصلّ بالناس ؛ فقام عمر ؛ فلما كبّر وكان رجلا صيّتا ، فلما سمع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ صوته بالتكبير ، فقال : أين أبو بكر ، يأبى الله ذلك ، والمسلمون ، ثلاث مرات ، مروا أبا بكر فليصل بالناس. فقالت عائشة : يا رسول الله إن أبا بكر رجل رقيق القلب إذا قام فى مقامك غلبه البكاء ؛ فقال : أنتن صويحبات يوسف ، مروا أبا بكر فليصل بالناس» (٢).

وأيضا ما روى المغيرة عن إبراهيم أنه قال : «صلّى النبي خلف أبى بكر». وأيضا ما روى عن ابن عباس أنه قال «لم يصل النبي عليه‌السلام خلف أحد من أمته إلا خلف أبى بكر ، وصلّى خلف عبد الرحمن بن عوف ركعة» (٣).

وأيضا ما روى عن رافع (٤) بن عمرو عن أبيه أنه قال : «لما ثقل / النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عن الخروج ، أمر أبا بكر أن يقوم مقامه ؛ فكان يصلى بالناس ، وكان النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ربّما خرج بعد ما يدخل أبو بكر فى الصلاة ؛ فيصلى خلفه ، ولم يصل النبي خلف أحد غيره. غير ركعة صلاها فى سفر خلف عبد الرحمن بن عوف».

ولا يخفى أن التولية فى الصلاة تولية فى القراءة ، وغيرها (٥).

ثم وإن سلمنا مع الاستحالة أنه لم يولّه شيئا فى حياته ؛ فليس فى ذلك ما يدل على أنه لم يكن أهلا للإمامة ؛ فإنه لم ينقل أنه ولى الحسن شيئا فى حال حياته ؛ وهو عندهم أهل للإمامة.

قولهم : إنه عزله عن قراءة سورة براءة ، لا نسلم ذلك ؛ بل المروى أنه ولّاه الحج ، وردفه بعلى لقراءة سورة براءة ، وقوله : «لا يؤدى عنى إلا رجل منى».

__________________

(١) عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد ، قتل مع عثمان ـ رضي الله عنه ـ يوم الدار [الإصابة ٢ / ٣٠٣ ، تهذيب التهذيب ٥ / ٢١٨].

(٢) ورد بألفاظ متقاربة فى مسند الإمام أحمد ٤ / ٤١٢ ، ٤١٣ ، وصحيح البخارى ١ / ١٦٩ ، ١٧٢ ، وصحيح مسلم ٢ / ٢٠ ـ ٢٥ ، وسنن الترمذي ٥ / ٦١٣.

(٣) رواه مسلم ١ / ١٥٩ ، ٤ / ٢٤٨ ، ٢٤٩ ، كما ورد فى سنن ابن ماجة ١ / ٣٩٢.

(٤) رافع بن عمرو : هو رافع بن عمرو بن حارثة المزنى ، له صحبة ، روى عن الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولقب برافع الخير.

[طبقات ابن سعد ٦ / ٦٧ ، وتهذيب التهذيب ٣ / ٢٣١].

(٥) قارن بما ورد فى المغنى ٢٠ / ١ / ٣٥١.

٢٤٩

قلنا : إنما كان كذلك ؛ لأنه كان من عادة العرب أنهم إذا أرادوا نبذ العهود ، والمواثيق لا يفعل ذلك إلا صاحب العهد ، أو رجل من بنى أعمامه ؛ فجرى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على سابق عهدهم.

قولهم : إنه عزله عن الصلاة ، غير صحيح بدليل ما ذكرناه من الروايات الصحيحة ، وكل ما يقال فى ذلك ، فإنما هو من الأكاذيب التى لا تثبت لها عند المحصلين من أرباب النقل ؛ بل الصحيح ما رواه الزهرى عن أنس بن مالك أنه قال : «صلى أبو بكر صبيحة اثنتى عشرة ، فخرج النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والناس فى صلاة الصبح عاصبا رأسه حتى وقف على باب حجرة عائشة ، فلما رآه الناس تحوّزوا ، وذهب أبو بكر يستأخر ؛ فأشار إليه النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن صلّ ؛ فصلوا وعاج وانصرف» (١).

قولهم : إن شرط الإمام أن يكون معصوما ؛ فقد أبطلناه فيما تقدم (٢).

قولهم : إنه قال : «إن لى شيطانا يعترينى» (٣) لا يمكن حمله على أنه كان به خبل مع ما بيّناه من عقله وفضله وسياسته ، وطواعية الناس له.

وإنما معناه : أنه يلحقنى وساوس ، وذهول ، على سبيل التواضع ، وكسر النفس ، وما من أحد إلا وله شيطان بهذا الاعتبار ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : «وما منكم إلا وله شيطان يعتريه ، قيل وأنت يا رسول الله ، قال وأنا ، إلا أن الله أعاننى عليه» (٤) ؛ وليس المراد به إلا ما ذكرناه.

قولهم : إنه خالف أمر رسول الله ؛ لا نسلم ذلك.

قولهم : إن عمر كان فى جيش أسامة.

قلنا : غايته أنه كان داخلا فيه نظرا إلى عموم أمر الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ وكان ذلك لإصلاح الدين ، ولعله رأى أن المصلحة فى إقامة عمر فى المدينة أكثر للدين ، وتخصيص العموم بالرأى جائز عنده ، وعلى أصول أهل الحق ، كما فى علم الأصول //.

__________________

(١) وردت رواية الزهرى عن أنس رضي الله عنه فى صحيح مسلم ٢ / ٢٤.

(٢) انظر ما سبق ل ٢٨٥ / ب وما بعدها.

(٣) انظر ما سبق ل ٢٩٦ / أوما بعدها.

(٤) رواه مسلم ٨ / ١٣٩.

/ / أول ١٧٤ / ب من النسخة ب.

٢٥٠

قولهم : إنه سمّى نفسه خليفة رسول الله (١).

قلنا : إنّما سمّى نفسه / بذلك لاستخلافه له فى الصلاة كما قدّمناه ، ولم يكن كاذبا فيه ، ويمكن أن يقال إنه إنما سمى نفسه بذلك ؛ لأنه قام مقام النبي ـ عليه‌السلام ـ فيما كان بصدده من إقامة الدين ، وسياسة المسلمين ، بوجه شرعى ، وهو انعقاد الإجماع عليه ؛ فإن كل من قام مقام شخص فيما كان ذلك الشخص بصدده ؛ فإنه يصح أن يقال : خلفه فيه ، ولهذا يصح أن يقال : فلان خليفة فلان فى العلم : أى أنه قائم مقامه فيه ، وإن لم يكن ذلك باستخلاف من ذلك الشخص.

قولهم : إن شرط الإمام أن يكون أفضل الأمة ، ممنوع على ما تقدم.

وإن سلمنا ذلك ؛ فلا نسلم أنه لم يكن أفضل.

وقوله : «ولّيتكم ولست بخيركم أقيلونى» (٢).

قلنا : أما قوله : «وليتكم ولست بخيركم» فيحتمل أنه أراد به التولية فى الصلاة على عهد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ (٣) ، ومن المعلوم أنه لم يكن خير قوم فيهم رسول الله ، ويكون فائدة ذكر ذلك الاحتجاج على جواز توليته بعد الرسول بطريق التنبيه ، بالأعلى على الأدنى ، ويحتمل أنه أراد بقوله : «لست بخيركم» أى فى العشيرة ، والقبيلة ، فإن الهاشمى ، أفضل من القرشى ، وإن لم يكن شرطا فى الإمامة كما سبق.

وعلى كل واحد من التقديرين يكون صادقا ، ولا ينافى أفضليته.

وأما طلبه القيلولة ، فليس فيه ما يدل على عدم الأهلية أيضا ، ولا سيما مع اتفاق الأمة عليه ، وقولهم. «لا نقيلك ولا نستقيلك رضيك رسول الله لديننا ، أفلا نرضاك لدنيانا» ؛ بل لعل ذلك إنما كان للفرار من حمل أعباء المسلمين ، والتقلد لأمور الدين ، أو للامتحان ليعرف الموافق من المخالف ، أو غير ذلك من الاحتمالات ، ومع ذلك فلا ينتهض ما ذكروه شبهة فى نفى الاستحقاق للإمامة.

قولهم : شرط الإمام أن يكون أعلم الأمة ؛ لا نسلم ذلك ؛ كما تحقق من قبل.

__________________

(١) انظر ما ورد فى المغنى للقاضى عبد الجبار ٢٠ / ٣٥٥ وما بعدها من القسم الأول.

(٢) انظر ما مر ل ٢٩٦ / أوما بعدها.

(٣) قارن بما ورد فى غاية المرام ص ٣٨٩ ، وأصول الدين للبغدادى ص ١٨٢.

٢٥١

قولهم : إنه ما كان عالما بأحكام الشرع.

إن أرادوا به ، أنّه ما كانت جميع أحكام الشرع حاضرة عنده على سبيل التفصيل ؛ فهذا مسلم. ولكن لا نسلم أن ذلك من خواص أبى بكر ؛ بل جميع الصحابة فى ذلك على السويّة (١).

وإن أرادوا به : أنه لم يكن من أهل الحل ، والعقد ، والاجتهاد فى المسائل الشرعية ، والقدرة على معرفتها ، باستنباطها من مداركها ؛ فهو ممنوع على ما تقدم ؛ ولهذا فإنه ما من مسألة فى الغالب ، إلا وله فيها قول معتبر بين أهل العلم (٢).

قولهم : إنه أحرق فجاءة بالنار.

قلنا : إذا كان مجتهدا فكل مجتهد مؤاخذ بما أوجبه ظنه ، وإذا كان قد رأى ذلك فى اجتهاده ، كان هو حكم الله فى حقه ، ولم يسبقه فى ذلك إجماع قاطع ؛ ليكون حجة عليه ، وما عدا ذلك من الأدلة فهى / عرضة للتأويل ، والمعارضة (٣).

قولهم : إن فجاءة كان يقول : أنا مسلم عند الإحراق ، لم يثبت. وإن ثبت فلعله ثبت عنده أنه كان زنديقا ، والزنديق غير مقبول التوبة على رأى صحيح (٤).

قولهم : إنه قطع يسار السارق.

قلنا : لعلّ ذلك كان من غلط الجلاد وأضيف إليه ؛ لأن أصل القطع [كان] (٥) بأمره. ويحتمل أنه كان ذلك فى المرة الثالثة على ما هو رأى أكثر أهل العلم.

وأما وقوفه فى مسألة الجدة ، ورجوعه إلى الصحابة فى ذلك ؛ فليس بدعا من المجتهدين أن يبحثوا عن مدارك الأحكام ، ويسألوا من أحاط بها النقل والأعلام.

__________________

(١) قارن بالمغنى للقاضى عبد الجبار ٢٠ / ٣٥٣ من القسم الأول ، وشرح المواقف ـ الموقف السادس ص ٣٠١.

(٢) قارن بالفصل فى الملل لابن حزم ٤ / ١٣٧ وما بعدها ، والمغنى للقاضى عبد الجبار ٢٠ / ١٠٨ وما بعدها من القسم الأول. وشرح المواقف للشريف الجرجانى ـ الموقف السادس ص ٣٠١ ، ٣٠٢.

(٣) قارن بشرح المواقف ـ الموقف السادس ص ٣٠٢.

(٤) انظر أصول الدين للبغدادى ص ٣٣٠ وما بعدها فقد وضح رأى الإمام مالك فى الباطنى والزنديق فقال «وقال مالك فى الباطنى والزنديق إن جاءنا تائبين ابتداء قبلنا التوبة منهما. وإن أظهرا التوبة بعد العثور عليهما لم تقبل التوبة منهما ، وهذا هو الأحوط فيهم».

(٥) ساقط من (أ).

٢٥٢

ولهذا رجع عليّ فى حكم المذى إلى قول المقداد (١) ، وفى بيع أمهات الأولاد إلى عمر ، وما دلّ ذلك على عدم علمه بأحكام الشريعة.

قولهم : إنه قال : «وددت أنى سألت رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عن هذا الأمر فيمن هو» (٢).

قولنا : ليس ذلك شكا منه فى صحة إمامته ؛ بل إنما ذلك للمبالغة فى طلب الحق ، ونفى الاحتمال البعيد ؛ فإنه يحتمل أن تكون الإمامة فى نفس الأمر منصوصا عليها ، وإن كان ذلك الاحتمال بعيدا مع جزمه فى الظاهر بنفيه.

قولهم : إن عمر ذمّه بما يقولوه من قصة عبد الرحمن بن أبى بكر ؛ فهو من الأكاذيب الباردة ؛ فإن عاقلا لا يشك فى عقل عمر ، ومعرفته بالأمور ، وهو فإنما كان يستدل على صحة إمامته بعهد أبى بكر (٣) إليه ، فكيف يليق به مع هذا التظاهر بذمّه ، والقدح فيه؟ فإن / / ذلك ممّا يوجب القدح فى إمامته ، وصحة توليته.

قولهم : إنه أنكر عليه ، حيث لم يقتل خالد بن الوليد ، ولم يعزله بقتل مالك بن نويرة ، وتزوجه بامرأته.

قلنا : ليس فى ذلك ما يدل على القدح فى إمامة أبى بكر أيضا ، ولا كان ذلك مقصودا لعمر ؛ لما تقدم ؛ بل إنما أنكر على أبى بكر ذلك ؛ لغلبة ظنّه بخطإ خالد. كما ينكر بعض المجتهدين على بعض (٤) ، وليس فى ذلك ما يدل على خطأ أبى بكر فى ظنّه عدم الخطأ فى حق خالد.

وذلك لأنه قد قيل : إن خالدا إنما قتل مالكا ؛ لأنه تحقق منه الردة ، وتزوج بامرأته فى دار الحرب ؛ لأنه من المسائل المجتهد فيها بين أهل العلم.

وقيل : إن خالدا لم يقتل مالكا ، وإنما قتله بعض أصحابه خطأ (٥) ؛ لظنه أنهم ارتدوا ، وأن خالدا قال للقوم لفظا يريد به تدفئة أسراهم ، وكان ذلك اللفظ فى لغة

__________________

(١) المقداد بن عمرو : هو المقداد بن عمرو بن ثعلبة ، ويعرف بابن الأسود الكندى ، صحابى جليل من السابقين للإسلام توفى بالمدينة فى خلافة عثمان رضي الله عنه [الاستيعاب ١ / ٢٧٩ أسد الغابة ٤ / ٤٧٧].

(٢) راجع ما مر فى ل ٢٦٩ / أوما بعدها.

(٣) انظر غاية المرام للآمدى ص ٣٨٩ ، وشرح المواقف ـ الموقف السادس ص ٣٠٢ ، ٣٠٣.

/ / أول ل ١٧٥ / أ.

(٤) قارن به المغنى للقاضى عبد الجبار ٢٠ / ١ / ٣٥٤ ، والمواقف ص ٤٠٣ وشرح المواقف الموقف السادس ص ٣٠٢.

(٥) ورد فى تاريخ الطبرى ٣ / ٢٨٠ «وكان الّذي قتل مالك بن نويرة عبد الأزور الأسدى ، وقال ابن الكلبى : الّذي قتل مالك بن نويرة ضرار بن الأزور».

٢٥٣

المخاطب معناه اقتلوهم ، فظن ذلك الشخص أنه قد أمر بقتل الأسارى ؛ فقتل مالكا (١). ولم يبق إلا تزويجه بامرأته ، ولعلها كانت مطلقة منه ، وقد انقضت عدتها.

وقوله عمر : «إن بيعة أبى بكر كانت فلتة وقى الله شرّها» (٢) فلا ينبغى أن يحمل ذلك على أن بيعته لم تكن صحيحة ، ولا مجمعا عليها ، وإلا كان ذلك قدحا فى إمامة / نفسه ، كما تقدم ، وهو غاية الخرق ، فلا يليق نسبته إليه ؛ بل المراد بقوله : فلتة : أى بغتة فجأة.

وقوله : «وقى الله شرّها» أى : شرّ الخلاف الّذي كاد أن يظهر عندها ، بين المهاجرين ، والأنصار ، وقول الأنصار : «منّا أمير ، ومنكم أمير» لا أن البيعة كانت شرا ، وذلك أنه قد يضاف الشيء إلى الشيء إذا ظهر عنده ، وإن لم يكن منه ، كقوله تعالى : (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) (٣) وأضاف (٤) المكر إلى الليل ، والنهار (٤) ، وليس المكر منهما ؛ بل يظهر عندهما منه.

وقوله : «فمن عاد إلى مثلها قاتلوه» أى إلى مثل الخلاف الموجب لتبديل الكلمة كقول الأنصار : «منّا أمير ، ومنكم أمير».

قولهم : لا نسلم إجماع الأمة (٥) على عقد الإمامة له.

قلنا : دليله ما سبق. ومن تأخر عن بيعته مثل عليّ وغيره ، لم يكن عن شقاق ، ومخالفة ، وإنما كان لعذر وطرو أمر (٦). ولهذا اقتدوا به ، ودخلوا فى آرائه ، وأخذوا من عطائه ، وكانوا منقادين له فى جميع أوامره ، ونواهيه ، معتقدين صلاحيته ، وصحة بيعته حتى قال عليّ : «خير هذه الأمة بعد النبيين أبو بكر ، وعمر» (٧) على ما تقدم ذكره.

__________________

(١) ورد فى تاريخ الطبرى ٣ / ٢٨٨ «فجاءته الخيل بمالك بن نويرة فى نفر معه ... فلما اختلفوا فيهم أمر بهم فحبسوا فى ليلة باردة ... فأمر خالد مناديا ينادى : ادفئوا أسراكم ، وكانت فى لغة كنانة إذا قالوا : دثروا الرجل فادفئوه ، دفئة : قتله ، وفى لغة غيرهم أدفه فاقتله ، فظن القوم أنه أراد القتل فقتلوهم».

(٢) راجع بشأنه ما مر فى هامش ل ٢٩٦ / ب.

(٣) سورة سبأ ٣٤ / ٣٣.

(٤) وأضاف المكر إلى الليل والنهار) ساقط من ب.

(٥) قارن بما ورد فى غاية المرام للآمدى ص ٣٨٩.

(٦) ورد فى المصنف ٥ / ٤٥٠ «لما بويع لأبى بكر تخلف على عن بيعته ، فلقيه عمر ، فقال : تخلفت عن بيع أبى بكر ، فقال : إنى آليت بيمين حين قبض رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ألا ارتدى برداء إلا إلى الصلاة المكتوبة ، حتى أجمع القرآن ، فإنى خشيت أن يتفلت القرآن ثم خرج فبايعه».

(٧) انظر ما مر فى هامش ل ٢٧٩ / ب.

٢٥٤

وأمّا ما ذكروه من الأخبار الدالة على نقيض ذلك ، فمن تخرّصات الأعداء وتشنيعات السفساف [الأغبياء] (١).

ولهذا فإنه لم ينقل شيء من ذلك على ألسنة الثقات ، وأرباب العدالة من الرواة.

قولهم : لا نسلم أن الإجماع حجة ، سبق جوابه فى قاعدة النظر (٢).

كيف وأن منع كون الإجماع حجة ، بعد تسليم وقوعه ، ممّا لا يستقيم على مذهب الإمامية ؛ لأنه لا يتصوّر ذلك عندهم إلّا وفيهم الإمام المعصوم ، فلو لم يكن إجماع الأمة حجّة ، لما كان قول المعصوم حجة ، وهو خلاف مذهبهم.

قولهم : إنّما يكون الإجماع حجة ، إذا لم يلزم منه مخالفة النّصّ الجلىّ.

قلنا : لا نسلم وجود النص الجلىّ ، على ما تقرر قبل.

__________________

(١) ساقط من (أ).

(٢) انظر ما مر فى الجزء الأول ـ القاعدة الثانية ل ٢٥ / ب وما بعدها.

٢٥٥

الفصل الخامس

فى إثبات إمامة عمر بن الخطاب رضي الله عنه (١)

وطريق إثباتها (٢) أن أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ كان إماما حقا ، على ما تقدم ذكره ، وقد رآه أهلا للإمامة ، ووضع الأمر فيه ؛ فعهد إليه بالإمامة ، وأجمعت الصحابة على جعل العهد طريقا فى انعقاد الإمامة ؛ فكانت إمامة عمر ـ رضي الله عنه ـ منعقدة ـ.

وبيان عهده إليه : أن ذلك ممّا شاع ، وذاع ، ونقل بالتواتر ، نقلا لا ريب فيه ، هذا من جهة الجملة.

وأما من جهة التفصيل : فما روى عن أبى بكر رضي الله عنه ـ أنه استدعى فى مرضه عثمان بن عفان ، وأمره أن يكتب العهد المشهور الّذي كان يقرأ على المنابر (٣) وهو : «هذا ما عهد أبو بكر بن أبى قحافة آخر عهده من الدنيا ، وأول عهده بالعقبى ، حالة يبر فيها الفاجر ، ويؤمن فيها الكافر ، إنى استخلفت عليكم عمر بن الخطاب ؛ فإن أحسن السيرة ،

__________________

(١) عمر بن الخطاب بن نفيل القرشى العدوى ، أبو حفص.

ثانى الخلفاء الراشدين وأول من لقب بأمير المؤمنين ، لقبه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالفاروق ، وكناه بأبى حفص. أحد المبشرين بالجنة. صاحب الفتوحات المشهورة ، يضرب بعدله المثل. وهو من عظماء العالم على مدى التاريخ الإنسانى. كان فى الجاهلية من أبطال قريش وأشرافهم ، أسلم قبل الهجرة بخمس سنين ، وشهد الوقائع كلها.

قال ابن مسعود : ما كنا نقدر أن نصلى عند الكعبة حتى أسلم عمر. بويع بالخلافة يوم وفاة أبى بكر رضي الله عنه سنة ١٣ ه‍ بعهد منه. وفى أيامه تم فتح الشام والعراق. وافتتحت القدس والمدائن ومصر والجزيرة. حتى قيل : انتصب فى مدته اثنا عشر ألف منبر فى الإسلام أول من دون الدواوين فى الإسلام ، واتخذ بيت مال للمسلمين وهو أول من وضع للعرب والمسلمين التاريخ الهجرى. له فى كتب الحديث (٥٣٧) حديثا.

استشهد رحمه‌الله بعد أن طعنه أبو لؤلؤة فيروز الفارسى (غلام المغيرة بن شعبة) غيلة بخنجر وهو فى صلاة الصبح سنة ٢٣ ه‍ رحمه‌الله ورضى عنه.

[الإصابة. الترجمة رقم (٥٧٣٨) ، وصفة الصفوة. الترجمة رقم (٣) ١ / ١٠١ ـ ١١١ والأعلام للزركلى ٥ / ٤٥ ، ٤٦].

(٢) لمزيد من البحث والدراسة بالإضافة إلى ما ورد هاهنا :

انظر بعض المراجع التى استفاد منها الآمدي وناقشها : الإبانة عن أصول الديانة للإمام الأشعرى ص ٢٠٧ ، واللمع له أيضا ص ١٣٣ ، ١٣٤.

والتمهيد للباقلانى ص ١٩٧ ـ ٢٠٨ ، وأصول الدين للبغدادى ص ٢٨٦ ، ونهاية الأقدام للشهرستانى ص ٤٧٩.

ومن كتب المعتزلة : المغنى فى أبواب التوحيد والعدل للقاضى عبد الجبار ٢٠ / ٣ وما بعدها من القسم الثانى والمعتمد فى أصول الدين ص ٢٢٨ وما بعدها. ومن كتب الآمدي : غاية المرام ص ٣٨٩. ومن كتب المتأخرين عن الآمدي. شرح المواقف ـ الموقف السادس ص ٣١٥.

(٣) قارن بما ورد فى تاريخ الخلفاء للسيوطى ص ٦٢ وما بعدها.

٢٥٦

فذاك ظنى به والخير أردت ، وإن تكن الأخرى (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) (١) / إلى آخره.

وأما أن الأمة من الصحابة أجمعوا على جعل ذلك طريقا فى انعقاد الإمامة ، ما تواتر من اتفاقهم على مبايعته ، وصحة إمامته ، وتصرفاته ، فى أموال المسلمين بالجمع ، والتفرقة ، ونصبه للولاة ، والحكام ، وقبول أوامره ، ونواهيه ، وطواعية الكل / / له فيما يتعلق بالأمور الدينية ، والدنيوية من غير نكير.

فإن قيل : لا نسلم إجماع الأمة على صحة العهد إليه ، فإنه قد نقل أن طلحة (٢) ـ وهو أحد العشرة ـ قال لأبى بكر : «ما ذا تقول لربك وقد وليت علينا فظا غليظا» (٣) وذلك يدل على عدم موافقته.

ثم كيف يدّعى الإجماع على ذلك مع ما علم من حال عليّ وأتباعه إنكار ذلك ، ودعواه أن صرف ذلك الأمر عنه ظلم ، وعدوان ، وأنه المستحق له دون غيره ، كما تقدم تقريره فى إمامة أبى بكر.

والّذي يدل على عدم إجماع الأمة على ذلك : أنهم لو أجمعوا ؛ لكان أهلا للإمامة ، وهو لم يكن أهلا للإمامة وبيانه : ـ

أنه غيّر ما كان مشروعا على عهد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ، وبدل كثيرا من سنته ، وكان جاهلا بالقرآن ، وعلم الشريعة ، وشاكا فى دين الإسلام ، وفى إسلام نفسه ، ومات النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو عنه غير راض ، ومن هذا شأنه لا يكون أهلا للإمامة.

أما أنه بدّل ، وغيّر ما شرعه الرسول : فمن ثلاثة عشر وجها : ـ

__________________

(١) سورة الشعراء ٢٦ / ٢٢٧.

/ / أول ١٧٥ / ب من النسخة ب.

(٢) طلحة بن عبيد الله بن عثمان ، التيمى القرشى ، أبو محمد : صحابى جليل شجاع من الأجواد ، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة ، وأحد الثمانية السابقين للإسلام ، وأحد الستة أصحاب الشورى. كان من دهاة قريش وعلمائها. ولقبه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم طلحة الجواد ، وطلحة الخير ، وطلحة الفياض وذلك فى مناسبات مختلفة.

شهد أحدا ، وثبت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبايعه على الموت ودافع عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أصيب بأكثر من سبعين إصابة بين طعنه وضربة ورمية كما قال أبو بكر رضي الله عنه.

وكان رضى الله عنه كريما موسرا ، وكانت له تجارة وافرة مع العراق ولم يكن يدع أحدا من بنى تيم عائلا إلا كفاه مئونته ومئونة عياله ، ووفى دينه ، قتل يوم الجمل ، ودفن بالبصرة سنة ٣٦ ه‍. روى ثمانية وثلاثين حديثا.

[صفة الصفوة ١ / ١٢٦ ـ ١٢٨ الترجمة رقم (٦) ، وحلية الأولياء ١ / ٨٧ والأعلام للزركلى ٣ / ٢٢٩].

(٣) قارن عنه بألفاظ مختلفة : تاريخ الطبرى ٣ / ٣٢٢ ، وتاريخ الخلفاء للسيوطى ص ٥٥.

٢٥٧

الأول : أنه صعد المنبر وقال : «أيها النّاس ثلاث كنّ على عهد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنا أنهى عنهنّ ، وأحرمهنّ ، وأعاقب عليهنّ : وهى متعة النّساء ، ومتعة الحج ، وحىّ على خير العمل» (١).

الثانى : أن الناس كانوا على عهد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لا يسوّغون الجمع بين الطلقات الثلاث فى مجلس واحد (٢) حتى أن واحدا (٢) طلق امرأته ثلاثا على عهد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ؛ فردّها عليه ، وأمره بإمساكها ، وأن يطلقها للسّنة ؛ وعمر جوز ذلك.

وأيضا : ما روى أن واحدا طلق زوجته بين يدى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ثلاثا ؛ فغضب وقال : «أتلعبون بكتاب الله» (٣) اللعب بكتاب الله حرام ؛ وعمر جوّز ذلك.

الثالث : أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ جمع بين الظهر ، والعصر وبين المغرب ، والعشاء من غير خوف ، ولا مطر ، على ما رواه ابن عباس (٤) ؛ وعمر منع ذلك.

الرابع : أنه وضع العطاء للمجاهدين اتباعا لسنة الأكاسرة ، وجعلهم يجاهدون بالأجرة ، ولم يكن ذلك معهودا على عهد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٥).

الخامس : أنه اشترط الكفاءة فى تزويج ذوات الأحساب ؛ ولم يكن ذلك معهودا على عهد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

السادس : أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ سبى كثيرا من قبائل العرب ، فأعتق ، واسترق ، وأطلق ، وقال عمر : «ليس على عربى ملك» (٦).

السابع : أنه نهى عن جلد العرب ، ورجمها ، وخالف فى ذلك كتاب الله وسنة رسوله (٧).

__________________

(١) ورد فى صحيح مسلم ٤ / ٣٨ ، وسنن ابن ماجة ١ / ٦٣١.

(٢) قوله (حتى أن واحدا) ساقط من ب.

(٣) ورد فى سنن النسائى بشرح السيوطى ٦ / ١٤٢ «أخبر رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا فقام غضبانا ، ثم قال : أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم ؛ حتى قام رجل وقال : يا رسول الله ألا أقتله».

(٤) وردت رواية ابن عباس رضى الله عنهما ـ فى صحيح مسلم ٢ / ١٥١ ، وسنن الترمذي ١ / ٣٥٥.

(٥) انظر بخصوص عطاء المجاهدين : تاريخ الطبرى ٣ / ٥٦٧ ، وسيرة عمر ٨١.

(٦) راجع هذا القول فى : الأم للشافعى ٤ / ١٨٦ ، ونيل الأوطار ٧ / ٢٠٦.

(٧) عن نهى عمر ـ رضي الله عنه ـ عن جلد العرب ورجمها : ارجع إلى تاريخ الطبرى ٤ / ٢٠٤ ، والعقد الفريد ٤ / ١٨٤. وهذا من مفاخر عمر رضي الله عنه.

٢٥٨

الثامن : أنه فضّل فى القسمة المهاجرين / على الأنصار ، والأنصار على غيرهم ، والعرب على العجم ، ولم يكن ذلك معهودا فى زمن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولا زمن أبى بكر (١).

التاسع : أنه أجلى أهل نجران ، وخيبر عن ديارهم بعد إقرار النبي لهم فيها (٢).

العاشر : أن السنة على عهد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كانت جارية بأخذ دينار عن كل حالم من أهل العهد ، فغيّره عمر برأيه ، ووضع ذلك على أقدارهم (٣).

الحادى عشر : أنه أمر بالتراويح فى شهر رمضان ، ولم تكن معهودة فى زمن الرسول ولا [زمن] (٤) أبى بكر ، أبدع ذلك (٥).

الثانى عشر : أنه ولى معاوية بن أبى سفيان أمور المسلمين ؛ فخطب على منابرهم ، وخالف أمر الرسول حيث قال : «إذا رأيتم معاوية على منبرى هذا فاقتلوه» (٦).

الثالث عشر : أنه منع أهل البيت من الخمس ، وغير ما كان فى عهد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وخالف النص (٧).

وأما أنه كان جاهلا بالقرآن : فما روى أنه لما قبض الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان يقول : «لا تتركون هذا القول حتى تقطع أيدى رجال وأرجلهم» (٨) ، ولم يسكن إلى موت النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حتى تلا أبو بكر قوله تعالى : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) (٩) وقوله تعالى : (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) (١٠) وذلك يدل على أنه لم يكن عالما بالقرآن ، وآياته.

__________________

(١) عن كيفية توزيع عمر للعطاء بين المسلمين : ارجع إلى طبقات ابن سعد ٣ / ٢٨٤ ، ٢٩٦ وما بعدها. وتاريخ اليعقوبى ٢ / ١٥٣.

(٢) ارجع إلى سيرة بن هشام ٣ / ٢٣١ ، وطبقات ابن سعد ٣ / ٢٨٣.

(٣) ورد فى طبقات ابن سعد ٣ / ٢٨٣ «فوضع على الغنى ثمانية وأربعين درهما وعلى الوسط أربعة وعشرين درهما ، وعلى الفقير اثنى عشر درهما».

(٤) ساقط من أ.

(٥) عن صلاة التراويح ارجع إلى تاريخ الطبرى ٤ / ٢٠٩ ، وسيرة عمر ٥٤ ـ ٥٦.

(٦) وقد علق عليه ابن الجوزى فى الموضوعات ٢ / ٢٥ ـ ٢٦ «هذا حديث موضوع فى اسناده عباد بن يعقوب. قال فيه ابن حبان : كان رافضيا داعية يروى المناكير عن المشاهير ؛ فاستحق الترك».

(٧) قارن هذا الطعن بما ورد فى المغنى للقاضى عبد الجبار ٢٠ / ٢ / ١٥.

(٨) ورد فى المصنف ٥ / ٤٣٣ «والله إنى لأرجو أن يعيش رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حتى يقطع أيدى رجال من المنافقين ، وألسنتهم» وبألفاظ متقاربة فى تاريخ الطبرى ٣ / ٢٠٠».

(٩) سورة الزمر ٣٩ / ٣٠.

(١٠) سورة آل عمران ٣ / ١٤٤.

٢٥٩

وأيضا ما روى أن رجلا أتاه فسأله عن معنى قول الله تعالى : (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً) (١) ، وعن : (وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً) (٢) ، وعن (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) (٣) فعلاه بدرّته ، ثم أمر به فحبس ، فجعل يخرجه فى كل يوم ، فيضربه خمسين جريدة مدة أيام ، ثم نفاه إلى البصرة ، وأمر أهل البصرة أن لا يجالسوه ولا يعاملوه ، ومن المعلوم أنه لم يكن فى السؤال عن ذلك مما يوجب هذا / / الأمر ، وإنما فعل ذلك ؛ ليسد عليه باب السؤال ؛ لأنه كان جاهلا بالقرآن ، وما يتعلق به (٤).

وأما أنه كان جاهلا بالأحكام الشرعية : فيدل عليه أمور سبعة : ـ

الأول : ما روى : «أن رجلا من اليهود أصيب مقتولا فى سكك المدينة ؛ فخطب عمر بالناس ، وناشدهم بالله ، فقام إليه رجل معه سيف مضرج بالدم وقال : يا أمير المؤمنين ، إن أخى خرج غازيا فى جيش ، وخلفنى فى أهله أتعهدهم ، وإنى أتيت منزله ، فإذا أنا بهذا اليهودى ، قاعد مع أهله ؛ فلم أملك نفسى أن دخلت إليه ؛ فضربته بهذا السيف حتى برد ، فقال : عمر : «اقتل وأنا شريكك» (٥) وذلك منه جهل بأحكام الشرع ، حيث أنه أهدر دما محرما ، بمجرد قول المقر بالقتل ، ولم يقم عليه الحد ، بقذف امرأة أخيه.

الثانى : أنه همّ أن يرجم حاملا ، فقال له معاذ : «وإن كان لك عليها سبيل فلا سبيل لك على حملها» (٦) ؛ فأمسك وقال : «لو لا معاذ (٧) لهلك عمر».

__________________

(١) سورة الذاريات ٥١ / ١.

(٢) سورة النازعات ٧٩ / ١.

(٣) سورة المرسلات ٧٧ / ١.

/ / أول ل ١٧٦ / أمن النسخة ب.

(٤) وردت هذه الرواية بألفاظ مختلفة فى سيرة عمر ص ١٠٨ ، ١٠٩ ، وسنن الدارمى ١ / ٥٤ ، ٥٥ ، وتفسير ابن كثير ٤ / ٢٣٢.

(٥) ورد فى رواية أخرى : «لا يقطع الله يدك كما جاءت بألفاظ أخرى فى روضة المحبين لابن القيم ص ٣٠١.

(٦) انظر : الإصابة ٣ / ٤٢٧ ، وفتح البارى لابن حجر ١٢ / ١٢٨.

(٧) معاذ بن جبل بن عمرو أوس الأنصارى الخزرجى : أبو عبد الرحمن صحابى جليل. كان أعلم الأمة بالحلال والحرام.

وكان أحد الستة الذين جمعوا القرآن على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسلم وهو فتى ، وشهد العقبة مع الأنصار السبعين وآخى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بينه وبين جعفر بن أبى طالب.

قال عنه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «أعلم أمتى بالحلال والحرام معاذ بن جبل» وبعثه رسول الله قاضيا ومرشدا لأهل اليمن وقال فى كتابه لهم «إنى بعثت لكم خير أهلى».

كان مولده سنة ٢٠ قبل الهجرة ، ووفاته سنة ١٨ ه‍ توفى فى طاعون عمواس بعد أن استخلفه أبو عبيدة ، وأقره عمر ؛ ولكنه مات فى نفس العام الّذي مات فيه أبو عبيدة بن الجراح. رحمه‌الله ورضى عنه.

[حلية الأولياء ١ / ٢٢٨ ، وصفة الصفوة ١ / ١٨٣ ـ ١٨٨ ترجمة رقم (٥١) ، الأعلام للزركلى ٧ / ٢٥٨].

٢٦٠