أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٥

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٥

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: د. أحمد محمد المهدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب والوثائق القوميّة
المطبعة: مطبعة دار الكتب والوثائق القوميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 977-18-0328-x
الصفحات: ٣١٨

الخامس : أن ابن جرموز (١) لما أتى إلى عليّ ـ رضى الله عنه ـ برأس الزبير (٢) وقد قتله بوادى السباع (٣) ، وقال : الجائزة يا أمير المؤمنين ، فقال له : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يقول : «بشّر قاتل ابن صفية بالنار». وهو لا يخلو : إما أن يكون قتله حراما ، أو لا يكون حراما.

فإن كان حراما : فالإنكار على فعل المحرم واجب لقوله عليه‌السلام : «من رأى منكم منكرا ، فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه» (٤) ، وعليّ كان قادرا على الإنكار على ابن جرموز بيده ، ولسانه ، ولم ينقل عنه الإنكار ؛ فكان تاركا للواجب.

وإن لم يكن حراما : فقد أخطأ فى اعتقاد استحقاق فاعل ما ليس بحرام النار ، مع ما فيه من حمل كلام النبي على ما لا يليق.

السادس : أنه ـ رضي الله عنه ـ قال وقد رقى على منبر الكوفة فى حق أمهات الأولاد : «اتفق رأيى ، ورأى عمر ، على أن لا يبعن ، والآن فقد رأيت بيعهن» ، فقام إليه عبيدة السّلمانى وقال : رأيك مع الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك ، فقال : «إن السّلمانى لفقيه». وفى ذلك دلالة على أنه ليس بمعصوم ؛ فإنه لا بدّ وأن يكون مصيبا فى إحدى الحالتين ، ومخطئا فى الأخرى (٥).

__________________

(١) هو عمرو بن جرموز التميمى ، قتل الزبير بن العوام ـ رضى الله عنه ـ بعد مغادرته أرض المعركة. وابن جرموز فى النار لقول الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «بشر قاتل بن صفية بالنار» ومن الغريب أن ابن جرموز قتل الزبير ـ رضى الله عنه ـ وهو يصلى وقتل الزبير وعمره خمس وسبعون سنة.

[انظر مروج الذهب ٢ / ٣٧٢ وما بعدها].

(٢) الزبير بن العوام : ـ رضى الله عنه ـ بن خويلد الأسدى القرشى ، أبو عبد الله أحد العشرة المبشرين بالجنة ، الصحابى الشجاع ، أول من سل سيفه فى الاسلام ـ ولد بمكة سنة ٢٨ قبل الهجرة.

وأمه صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أسلمت وأسلم معها الزبير وهو صغير ؛ فعذبه عمه لكى يترك الاسلام فلم يفعل وهاجر الهجرتين إلى أرض الحبشة ، ولم يتخلف عن غزاة غزاها رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وكان من الستة الذين رشحهم عمر للخلافة بعده ، قتله ابن جرموز غيلة يوم الجمل سنه ٣٦ ه‍ روى ٣٨ حديثا.

[صفة الصفوة ١ / ١٢٨ ـ ١٣٠ ، والأعلام للزركلى ٣ / ٤٣].

(٣) وادى السباع مكان يقع بين البصرة والكوفة على بعد خمسة أميال من البصرة (معجم البلدان ٨ / ٣٧٣).

(٤) أخرجه الإمام أحمد فى مسنده ٣ / ٢٠ ، ومسلم فى صحيحه ١ / ٥٠.

(٥) انظر ما ذكره الآمدي فى غاية المرام ص ٣٨٥ ، وقارن بما ورد فى التمهيد للباقلانى ص ١٨٥.

٢٠١

السابع : أنّه عليه‌السلام / خطب بنت أبى جهل (١) بن هشام في حياة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فبلغ ذلك فاطمة ؛ فشكته إلى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ / / فقام على المنبر وقال : «إن عليا قد آذانى ، وخطب بنت أبى جهل بن هشام ؛ ليجمع بينها ، وبين بنتى فاطمة ، ولن يستقيم الجمع بين بنت ولى الله ، وبين بنت عدوه ، أما علمتم معشر الناس أنّ من آذى فاطمة ؛ فقد آذانى ، ومن آذانى ؛ فقد آذى الله تعالى» (٢). وذلك يدل على أنه [ليس] (٣) بمعصوم.

الإلزام الثانى :

أن الحسن (٤) بن عليّ كان عندهم إماما منصوصا عليه ، وقد صدر عنه ما يدل على عدم عصمته ؛ وذلك أنه خلع نفسه من الإمامة ، وسلمها إلى معاوية مع أنه كان فاسقا ، فاجرا ، غير مستحق للإمامة ، وأظهر موالاته ، وأخذ من عطائه ، وأقرّ بإمامته مع كثرة أعوانه ، وأنصاره ، حتى عاتبوه فى ذلك ، وسمّوه مذل المؤمنين ؛ وذلك كله معصية ينافى العصمة.

__________________

(١) هى : جويرية بنت أبى جهل. أسلمت. أراد على ـ رضى الله عنه ـ خطبتها ؛ فجاء أهلها يستأذنون النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فلم يأذن لهم.

[طبقات ابن سعد ٨ / ٢٦٢ والإصابة ٤ / ٢٥٧].

/ / أول ل ١٦٥ / ب من النسخة ب.

(٢) أخرجه مسلم فى صحيحه ٧ / ١٤٠ ، كما ورد فى سنن ابن ماجة ١ / ٦٤٤.

(٣) ساقط من (أ).

(٤) الحسن بن على ـ رضى الله عنهما ـ بن أبى طالب الهاشمى ، القرشى أبو محمد خامس الخلفاء الراشدين وآخرهم ، وثانى الأئمة الاثنى عشر عند الإمامية ولد فى المدينة المنورة فى النصف من رمضان سنه ٣ ه‍ وأذّن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فى أذنه ، وسماه الحسن.

وأمه فاطمة الزهراء : ـ رضى الله عنها ـ بنت رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان رضى الله عنه أشبه الناس بجده رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وكان عاقلا حليما محبا للخير فصيحا من أحسن الناس منطقا وبديهة جمع الله به الأمة بعد أن تنازل عن الخلافة بشروطه حقنا لدماء المسلمين وكانت مدة خلافته ستة أشهر وخمسة أيام قال عنه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «إن ابنى هذا سيد ، ولعل الله ـ عزوجل ـ أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» وتوفى بالمدينة لخمس ليال خلون من ربيع الأول سنة ٥٠ ه‍ ودفن بالبقيع ـ رضى الله عنه.

[صفة الصفوة ١ / ٢٩٠ ، ٢٩١ ، والأعلام للزركلى ٢ / ١٩٩ ، ٢٠٠].

٢٠٢

الإلزام الثالث :

هو أن الحسين (١) بن عليّ ـ رضى الله عنهما ـ [كان] (٢) أيضا عندهم إماما منصوصا عليه ، ومع ذلك ألقى نفسه فى التهلكة مع ظنّ وقوعها ؛ وذلك معصية منهى عنها بقوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (٣).

وبيان ذلك ، أنه خرج بأهله ، وعياله إلى الكوفة ؛ لقتال أعدائه ، مع كثرتهم وقوة شوكتهم ، وما رآه من صنيعهم بأبيه ، واستظهارهم على أخيه ، وقتلهم لمسلم بن عقيل (٤) ، لما أنفذه رائدا إليهم ، وغدرهم به ، وإشارة كل واحد عليه بعدم الخروج ، حتى قال له ابن عمر (٥) [بعد أن] (٦) أبلى عذرا فى نصحه : «استودعتك الله من قتيل» (٧) ، إلى أن عرض ابن زياد عليه الأمان إن بايع يزيدا ؛ فامتنع من ذلك مع ظهور أمارات القتل له ، والاستيلاء عليه ، وهلاكه وهلاك من معه ، حتى أدّى الأمر ، إلى ما أدّى إليه من قتله ، وهلاك من كان معه من المسلمين.

__________________

(١) الحسين بن على بن أبى الطالب ـ رضى الله عنه ـ الهاشمى ، القرشى ، أبو عبد الله السبط الشهيد ابن فاطمة الزهراء ـ رضى الله عنها ـ وفى الحديث الشريف «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة»

ولد فى المدينة فى شعبان سنة أربع من الهجرة ، ونشأ فى بيت النبوة.

عن ابن عمر قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : ـ «هما ريحانتاى من الدنيا» (يعنى الحسن والحسين ـ عليهما‌السلام). (رواه البخارى ٣٧٥٣).

وعن عبد الله قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «هذان ابناى ؛ فمن أحبهما ؛ فقد أحبنى» يعنى الحسن والحسين ـ عليهما‌السلام.

واستشهد الحسين ـ رضى الله عنه ـ يوم الجمعة ـ يوم عاشوراء فى محرم سنة إحدى وستين.

[صفة الصفوة لابن الجوزى ١ / ٢٩١ ، ٢٩٢. والأعلام للزركلى ٢ / ٢٤٣].

(٢) ساقط من (أ).

(٣) سورة البقرة ٢ / ١٩٥.

(٤) مسلم بن عقيل بن أبى طالب بن عبد المطلب بن هاشم : تابعى من ذوى الرأى والشجاعة ، كان مقيما بمكة المكرمة ، وانتدبه الإمام الحسين للتعرف على حال أهل الكوفة حين وردت عليه كتبهم ؛ فرحل مسلم الى الكوفة ، وأخذ البيعة من أهلها فشعر به عبيد الله بن زياد (أمير الكوفة) فقبض عليه وقتله سنة ٦٠ ه‍ (الكامل لابن الأثير ٤ / ٨ ـ ١٥ ، والأعلام للزركلى ٧ / ٢٢٢).

(٥) عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوى ، أبو عبد الرحمن ، صحابى جليل ، كان جريئا كوالده ، نشأ فى الإسلام ، وهاجر إلى المدينة مع أبيه ، وشهد فتح مكة أفتى الناس فى الاسلام ستين سنة ، عرض على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يوم بدر فرده ، ويوم أحد فرده لصغر سنه ، وعرض عليه يوم الخندق وهو ابن خمسة عشرة فأجازه ، قال عنه أبو سلمة بن عبد الرحمن ، مات ابن عمر ، وهو مثل عمر فى الفضل ، وكان عمر فى زمان له فيه نظراء ، وعاش ابن عمر فى زمان ليس له فيه نظير ، له فى كتب الحديث (٢٦٣٠ حديثا) توفى بمكة سنة ٧٣ ه‍ [صفة الصفوة ١ / ٢١١ ـ ٢١٩ ، والأعلام ٤ / ١٠٨].

(٦) ساقط من أ

(٧) فى أنساب الأشراف ٣ / ١٦٣ «استودعك الله من مقتول».

٢٠٣

الإلزام الرابع :

ان القائم المهدى (١) من الأئمة المنصوص عليهم عندهم أيضا ، وقد فعل ما ينافى العصمة.

وبيانه : أن الإمام إنما جعل إماما ؛ لأن يكون وسيلة إلى الإرشاد ، وبابا إلى معرفة الحق ، وطريقا إلى الله ـ تعالى ـ فى تعريف الواجبات والمحظورات ، والقيام بمصالح المؤمنين ، التى لا قيام لها دون الإمام عندهم ، وهو باختفائه واستتاره عن الخلق بحيث لا يعرف ، ممّا يوجب وقوع الناس فى الحيرة ، وعدم معرفة الحق ، وتورّطهم فى شبه الضلالة ، إن كان لا طريق لهم إلى معرفة ذلك ، والوصول إليه إلّا بالإمام ؛ وذلك من أعظم المعاصى ، وأكبر المناهى ، وإن أمكنهم الوصول إلى ذلك بالأدلة دون الإمام ؛ فلا حاجة إذا إلى الامام (٢).

فإن قيل : إنما يكون ذلك معصية أن لو اختفى مع القدرة على الظهور ، وليس كذلك. فإنه إنما اختفى تقية ، وخوفا من الظلمة الظاهرين على نفسه.

قلنا : هذا وإن أوجب الاستتار عن الأعداء ؛ فهو غير موجب له عن أشياعه ، وأوليائه ؛ فكان من الواجب أن / يكون ظاهرا لهم مبالغة فى حصول مصالحهم ، ودفع المفاسد عنهم. وإن أوجب ذلك الاستتار مطلقا ، بحيث لا يصل إليه أحد من الخلق ، ولا ينتفع به ، فلا فرق بين وجوده ، وعدمه ، ولا فائدة فى إبقائه.

فلئن قالوا : الفائدة فى إبقائه رجاء ظهوره عند زوال المخافة للقيام بمصالح المؤمنين.

قلنا : فهلا قيل بعدمه حالة المخافة ، وبإيجاده حالة زوالها ؛ فإنه كما أن إيجاده بعد عدمه خارق للعادة ، فإبقاؤه المدة الخارجة عن العادة خارق للعادة أيضا ؛ وليس أحد الأمرين أولى من الأخر.

__________________

(١) محمد بن الحسن العسكرى بن على الهادى (المهدى المنتظر) آخر الأئمة الاثنى عشر عند الإمامية ، وهو المعروف عندهم بالمهدى ، وصاحب الزمان ، والحجة ، وصاحب السرداب. ولد فى سامراء. ومات أبوه وله من العمر خمس سنين ولما بلغ التاسعة أو التاسعة عشرة ، دخل سردابا فى دار أبيه ، ولم يخرج منه. والإمامية ينتظرون عودته فى آخر الزمان وقيل فى تاريخ مولده : إنه ليلة النصف من شعبان سنة ٢٥٥ ه‍. [وفيات الأعيان ٤ / ١٧٦ ، والأعلام للزركلى ٦ / ٨٠].

(٢) قارن بما ورد فى المغنى للقاضى عبد الجبار ٢٠ / ٨٠ وما بعدها من القسم الثانى.

٢٠٤

الإلزام الخامس :

أنا قد بيّنا فيما تقدم أن العصمة غير واجبة للأنبياء عليهم‌السلام (١) فلو كان الإمام يجب أن يكون معصوما ؛ لكان أكثر طاعة من النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ، ولو كان أكثر طاعة من النبي ؛ لكان أكثر ثوابا عند الله ـ تعالى ـ لقوله ـ تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) (٢) وقوله ـ تعالى : (وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) (٣). ولو كان الإمام أكثر ثوابا من النبي ؛ لكان أفضل منه ؛ فإنه لا معنى للأفضل ، غير أنه أكثر ثوابا ، ومحال أن يكون نائب النبي ، أفضل منه.

فإن قيل : أما ما ذكرتموه من الإجماع على إمامة أبى بكر ، وعمر ؛ فهو غير مسلم التصوّر ، وبتقدير تسليم تصوّره ؛ فلا نسلم أنه حجة على ما سبق (٤).

وبتقدير كونه حجة ، فإنما يصح دعوى ذلك فيما نحن فيه ، أن لو بيّنتم كون عليّ داخلا فيه ؛ وهو غير مسلم. وما ظهر منه من الموافقة ، لا نسلم أنه كان عن اعتقاد ؛ بل تقية ، وخوفا على نفسه ؛ ولذلك فإنه لم يظهر منه الموافقة على إمامة أبى بكر مدة ستة أشهر حتى ظهرت له / / الإخافة منهم. وبتقدير أن لا يكون على موافقا على ذلك ، فأى إجماع يكون فى عصر عليّ وهو غير داخل فيه.

وأما ما ذكرتموه من الإلزامات فغير لازمة لوجهين إجمالا ، وتفصيلا :

أما الإجمال :

فهو أن ما ذكرتموه فى إبطال عصمة الأئمة صلوات الله عليهم ـ فرع عدم عصمتهم ، وإذا كان ما يذكر فى إبطال العصمة فرعا على إبطالها ؛ فلا يكون صحيحا ؛ لما فيه من الدّور ، وهو توقف عدم العصمة ، على ما ذكر دليلا ، وتوقف كونه دليلا على عدم العصمة.

__________________

(١) انظر ما سبق فى القاعدة الخامسة ل ١٦٨ / ب وما بعدها.

(٢) سورة الأنعام ٦ / ١٦٠.

(٣) سورة النجم ٥٣ / ٣١.

(٤) راجع ما مر ل ٢٨٥ / ب وما بعدها.

/ / أول ل ١٦٦ / أمن النسخة ب.

٢٠٥

وبيان ذلك أنه بتقدير أن [لا] (١) يكون الإمام معصوما فيما صدر منه ، وإن كان ظاهره الذنب ؛ فيجب صرفه عن ظاهرة ، إلى ما يوافق العصمة ، كما كان ذلك فى آيات القرآن التى ظاهرها يقتضي التشبيه ، وما لا يجوز على الله تعالى.

وإنما لا يجب الصرف عن الظاهر بتقدير أن لا يكون معصوما ؛ فإذا قد ظهر توقف ما ذكرتموه من الدلائل ، على إبطال عصمة الأئمة ، على عدم العصمة.

وأما التفصيل :

قولكم : فيما يتعلق بعلىّ ـ عليه‌السلام ـ أنه لم يظهر النكير على مبايعة غيره ، لا نسلم أنه لم ينكر ؛ فإنه قد نقل عنه فى الروايات الكثيرة ، أنه لم يزل يتظلم فى كل زمان على حسب ما يليق به ، حتى انتهت النوبة إليه ، فصرّح بالنكير فى كل مواقفه ، وخطبه ، والتظلم على من غصبه حقّه ، حتى اشترك فى معرفة ذلك الخاص ، والعام. وبتقدير عدم إظهار النكير ؛ فلا يخفى أن النكير على المنكر [مشروط] (٢) بشروط متفق عليها ، وهى التمكّن من الإنكار ، وأن لا يغلب / على ظن المنكر أن تعرضه للإنكار ، يجر إلى منكر يزيد على النكير ؛ فلا بدّ لكم من تحقيق هذه الشروط فى حق عليّ حتى تتم الدلالة ، والأصل عدمها.

كيف وأنه لا مانع من عدم تمكنه ، وخوفه من الإنكار على نفسه ، وشيعته ، لا سيّما مع ظهور الأمارات الدالة على ذلك ، وهو اتفاق السّواد الأعظم ، والجمّ الغفير على مبايعة الغير ، والرضى به ، ومراسلتهم ، إليه ، وإلى من تأخّر عن البيعة من شيعته [بالمبايعة] (٣) ، والتهديد على التخلف عنها.

قولكم : إنه بايعهم.

قلنا : بمعنى الرضى بذلك ، والتسليم فى نفس الأمر ، أو ظاهرا للتقية؟ الأول : ممنوع ، والثانى : مسلم ؛ فلم قلتم بالرضى ، والتسليم؟

قولكم : إنه دخل فى آرائهم.

قلنا : إنما كان يدخل فى ذلك ؛ لقصد الإرشاد لهم إلى ما شذّ عنهم من الصواب ، وذلك واجب ؛ لا أنه معصية.

__________________

(١) ساقط من أ.

(٢) ساقط من أ.

(٣) ساقط من أ.

٢٠٦

قولكم : إنه اقتدى بهم فى الصلاة.

قلنا : ناويا لذلك ، وقاصدا له ، أو مظهرا له من غير قصد؟ الأول : ممنوع ، والثانى : مسلم ، وإظهار الاقتداء لهما [إنما] (١) كان للتقية ؛ لأن تركها مجاهرة بالعداوة ، والمنازعة ، ولم يكن قادرا على دفع ما يؤدى إليه من المحذور.

قولكم : إنه كان يأخذ عطيّتهم.

قلنا : لأن ذلك كان حقا له ، ولا بأس على من أخذ حقه.

قولكم : إنه استباح وطء سبيهم ، لا نسلم أنه استباح ذلك بناء على [أنه] (٢) سبيهم ؛ فإنه قد روى البلاذرى أنه أغارت بنو أسد على بنى حنيفة ؛ فسبوا خولة بنت جعفر ، وقدموا بها [إلى] (٣) المدينة فى أول خلافة أبى بكر ؛ فباعوها من عليّ ـ عليه‌السلام ـ فبلغ الخبر قومها ؛ فقدموا على عليّ ـ عليه‌السلام ـ فعرفوها ، وأخبروه بموضعها منهم فأعتقها ؛ وتزوجها ؛ فولدت له محمدا.

قولكم : إنه زوّج ابنته من عمر.

قلنا : إنّما فعل ذلك بعد مراجعة ، ومنازعة وتهديد ، وتواعد ، أشفق معه من الهلاك ، وإضرار يزيد على ، أضرار التزويج منه ، ولهذا فإنه لما رأى العباس ما يفضى الحال إليه ، سأله ردّ أمرها إليه ؛ فزوجها منه ، ولم يكن ذلك عن اختيار ، وإيثار ، وعلى هذا ؛ فلا يكون ذلك معصية منه ، ولا منكرا.

قولكم : إنه دخل فى الشورى.

قلنا : الحامل له على ذلك ما كان الحامل له على إظهار البيعة ، وبتقدير أن يكون راضيا بذلك ، فإنّما كان لغرض صحيح يتيح له الرضى بذلك ، وهو ظنّه الوصول إلى حقه بذلك ، وتمكنه من الاحتجاج عليهم بفضائله ، ومناقبه التى يستحق بها الخلافة ، وإظهار الأخبار الدالة على التنصيص عليه ، وكل أمر ظنّ معه الوصول إلى ما هو متعين عليه ، فأدنى درجاته أن يكون جائزا له ؛ لا أنه يكون محرما.

قولكم : إنه لم يردّ الناس بعد ظهور أمره إلى مذهبه.

__________________

(١) ساقط من أ.

(٢) ساقط من أ.

(٣) ساقط من أ.

٢٠٧

قلنا : أما أنه لم يظهر ذلك قبل عود الأمر إليه تقية ، وخوفا بما يفضى إليه من وحشة المخالفة ، وأما بعد عود الأمر إليه ؛ فلأنه لم يعد إليه إلّا بالاسم دون المعنى ؛ فإنه ما زال منازعا [معارضا] (١) مبغضا من أعدائه ، وأن أكثر من بايعه شيعة من مضى من أعدائه ، ومن يعتقد / / أنهم مضوا على أعدل الأمور ، وأن / غاية من يأتى بعدهم تتبع آثارهم ، والاقتداء بسنتهم ؛ فبقى على ما كان عليه من التقية ، وخوف ثورات الفتنة بإظهار المخالفة والأمر بالعود إلى مذهبه. ولهذا قال ـ عليه‌السلام ـ : «والله لو ثنى لى الوساد ، لحكمت بين أهل التوراة [بتوراتهم] (٢) ، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم ، وأهل الزبور بزبورهم ، وأهل القرآن بقرآنهم» (٣).

قولكم : إنه حكّم أعداءه ومكّنهم من خلعه.

قلنا : إنه ما فعل [ذلك] (٤) اختيارا ؛ بل اضطرارا على سبيل الإلجاء إليه ؛ وذلك أن معاوية ، وأصحابه لما تبين لهم استظهار عليّ ـ عليه‌السلام ـ عليهم ، وأيقنوا بالعطب ، رفعوا المصاحف ، وأظهروا الرضى بما فيها ، وطلبوا التحكيم بحيلة وضعها معاوية ، وعمرو بن العاص ، ومكيدة لم تخف على عليّ ـ عليه‌السلام ـ ؛ فتخاذل عنه أكثر الصحابة ، وتقاعدوا عن متابعته فى إبائه عن ذلك ؛ لعلمه بالمكيدة ، ومالوا إلى موافقة التحكيم مع الخصوم إما لفرارهم من شدة الزحف ، ومللهم من طول المنازلة ، وإما لدخول تلك الشبهة عليهم ؛ لغلظة أفهامهم ، وعدم اطلاعهم على المكيدة. ولم يزل يمتنع من ذلك ويحذرهم المكيدة إلى أن غلبوه على رأيه ، ورأى أن الإجابة إلى ذلك أولى ؛ دفعا لما علمه من سوء عاقبة المخالفة ، وافضاء الأمر إلى خروج أكثر أصحابه عنه ؛ واستظهار عدوه عليه استظهارا يكون فيه هلاكه ، وهلاك شيعته ، فأجاب إلى التحكيم على أن يكون الحكم بكتاب الله ، وسنة رسوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ، فآل الأمر إلى ما آل. ومن قصد دفع الشر العظيم ، بالتزام شر هو دونه فى نظره ؛ لا يكون مخطئا ، ولا عاصيا.

__________________

(١) ساقط من أ.

/ / أول ل ١٦٦ / ب من النسخة ب.

(٢) ساقط من أ.

(٣) انظر تاريخ الخلفاء للسيوطى ص ١٢٤.

(٤) ساقط من أ.

٢٠٨

وأما ما نقل عنه من الشعر : فقد نقل [عنه] (١) أنه سئل عن مراده به ، فقال : «كتب إلى محمد بن أبى بكر (٢) : أن أكتب له كتابا فى القضاء ليعمل به ؛ فكتبت له ذلك ، وأنفذته إليه ، فاعترضه معاوية فأخذه ؛ فأشفقت أن يعمل بما فيه من الأحكام ، ويوهم أصحابه أن ذلك من علمه ؛ فتقوى الشبهة عليهم فى متابعته (٣). أما أن يكون ذلك اعترافا منه بالخطإ فى التحكيم فلا.

قولكم : إن من قتله فى وقعه الجمل إن لم يكونوا مرتدين ؛ فقد أخطأ فى اعتقاد ارتدادهم ، وإن كانوا مرتدين ؛ فقد أخطأ حيث لم يجعل مالهم فيئا.

قلنا : بل كانوا كفّارا مرتدين ، وحيث لم يجعل أموالهم فيئا ، إنّما كان ؛ لأن أحكام الكفار مما يختلف ، ولا يلزم أنه إذا كان مال من ارتد ، ومات وهو معترف بالارتداد ، ومصر عليه ؛ كالمسلم إذا تهوّد ، أو تنصّر فيئا ؛ أن يكون مال من ارتد ، وهو لا يعتقد ارتداده ؛ بل هو متمسك بأحكام الإسلام ، ويلتزم لها فيئا.

وعلى هذا فإنّما يكون مخطئا أن لو حكم بأن المال ليس بفيء مع الاعتراف بالارتداد المستلزم لكون المال فيئا ، وأما فى غيره فلا.

كيف وأنه ممّا يجب اعتقاد تصويبه فيما ذهب إليه لقوله عليه ـ الصلاة والسلام : ـ «[اللهم] (٤) أدر الحق مع عليّ كيف دار» (٥).

قولكم : فى الزبير ، وقتل ابن جرموز له ، إما أن يكون حراما ، أو لا يكون حراما.

قلنا : لم يكن حراما ؛ لأنه كان من مقاتلة عليّ ـ عليه‌السلام ـ وكل من قاتلة ؛ فهو كافر مرتد.

__________________

(١) ساقط من أ.

(٢) محمد بن أبى بكر (محمد بن عبد الله «أبى بكر» بن عثمان التيمى القرشى) أمير مصر ، وابن الخليفة الأول ـ رضى الله عنهما ـ كان يدعى (عابد قريش) ولد فى حجة الوداع بين مكة والمدينة ، ونشأ فى المدينة بعد وفاة أبيه عند على بن أبى طالب رضى الله عنه (وكان قد تزوج أمه أسماء بنت عميس) ولاه على إمارة مصر فدخلها سنة ٣٧ ه‍ وبعد تحكيم الحكمين وانصراف على رضى الله عنه إلى العراق ، أغار معاوية على مصر فأرسل جيشا بقيادة عمرو بن العاص ، فدخلها حربا ، وقتل محمد بن أبى بكر فى هذه المعركة سنة ٣٨ ه‍ ودفن بالفسطاط ، وكانت مدة ولايته خمسة أشهر.

[الولاة والقضاة : لمحمد بن يوسف الكندى ص ٢٦ ـ ٣١ ، والأعلام ٦ / ٢١٩ ، ٢٢٠]

(٣) وردت هذه الرواية فى شرح نهج البلاغة ٦ / ٧٣.

(٤) ساقط من أ.

(٥) ورد هذا الحديث فى سنن الترمذي ٢ / ٢٨٩ ، والمستدرك ٣ / ١٢٤.

٢٠٩

قولكم : فلا معنى لاعتقاده ، كون قاتله / مستحقا للنار.

قلنا : إنما يكون مخطئا أن لو اعتقد استحقاق ابن جرموز للنار بقتله للزبير ، وليس كذلك ؛ بل إنما اعتقد ذلك له بالنظر إلى عاقبته ، وخاتمة أمره ؛ وذلك لأن ابن جرموز خرج بعد ذلك [على عليّ مع أهل النهر ، وقتل هناك (١) ؛ فكان بذلك] (٢) الخروج من أهل النار ؛ لا بقتل الزبير.

قولكم : إنه فى قضية أمهات الأولاد لا بدّ وأن يكون مخطئا : إما فى الحالة الأولى ، أو الأخيرة.

قلنا : يحتمل أنه كان موافقا لعمر فى الظاهر لا فى نفس الأمر تقية ، وخوفا ممّا يلزمه من إظهار الخلاف معه من المضار ، والمفاسد كما قررناه فى الموافقة على البيعة / / وإذا كان ذلك محتملا ؛ فيجب الحمل عليه ؛ دفعا لاحتمال الخطأ عنه ، لقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «اللهم أدر الحق مع عليّ كيف دار».

وبضربه على صدره بيده حين بعثه إلى اليمن وقوله : «اللهم أهد قلبه ، وثبّت لسانه» (٣).

ولقوله عليه‌السلام : «أنا مدينة العلم ، وعلى بابها ، فمن أراد المدينة ؛ فليأت الباب» (٤).

وأما قصّة عليّ فى خطبته بنت أبى جهل بن هشام ؛ فخبر موضوع غير مسلم الصحة.

والّذي يدل على ضعفه أن عليا لو فعل ذلك ؛ لكان فعله مسوغا له شرعا. وما يكون فعله سائغا شرعا ، لا يحسن أن ينسب إلى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ الإنكار على فاعله ، مع ورود إباحته على لسانه.

وأما ما ذكرتموه من الإلزام الثانى فى قصّة الحسن ، وخلعه لنفسه من الإمامة ، وتسليمها لمعاوية ؛ فغير لازم ، فإنه لو قدر أنه لم يكن إماما معصوما ، ولا له

__________________

(١) ورد فى الاستيعاب ١ / ٢٠٣ ، وأسد الغابة ٢ / ١٠٠ أن ابن جرموز عاش حتى ولى مصعب بن الزبير البصرة ، ثم اختفى.

(٢) ساقط من أ.

/ / أول ل ١٦٧ / أمن النسخة ب.

(٣) ورد فى الصواعق المحرقة ١٨٩ ، وتاريخ الخلفاء للسيوطى ١٣٥.

(٤) ورد فى سنن الترمذي ٢ / ٢٩٩ ، ومجمع الزوائد ٩ / ١١٤ وضعفه وقال فيه : «وفيه عبد السلام بن صالح الهروى.

وهو ضعيف»

أما السيوطى : فقد حسنه فى اللآلئ المصنوعة ١ / ٣٢٩ ـ ٣٣٦.

أما ابن الجوزى ؛ فقد حكم عليه بالوضع. أنظر الموضوعات ١ / ٣٥٠.

٢١٠

حق فى الإمامة ؛ فلا يشك عاقل أن أحدا لا ينزل عن ولايته ، وعظيم مملكته مسلما فى ذلك الأمر لعدوه ، رغبة عنها عادة ؛ بل العادة تقضى أن ذلك لا يكون إلّا لدفع مفسدة تربى على مصلحة الولاية ، فما ظنك بمن كان معصوما ، ومستحقا للإمامة ، وواجبا عليه طلبها ، للقيام بلوازمها.

وعلى هذا فنزوله عن الإمامة ، وتسليمها إلى معاوية مع فسقة ، إنما كان لما ظهر له من تخاذل أصحابه ، وميلهم إلى أموال معاوية ، ودنياه ، وأن الأمر لا يتم له ، وأن الإصرار على طلب الحق ممّا يفضى إلى ضرر يحل به ، وبشيعته يزيد على مصلحة الإمامة.

وأما إظهار البيعة منه لمعاوية ، وموالاته ، وأخذ عطاياه ؛ فجوابه ما سبق فى قصة عليّ عليه‌السلام.

وأما عذل بعض أصحابه له على ذلك ، وتسميتهم له خاذل المؤمنين ؛ فإنما كان لاغترارهم بما رأوه من كثرة عدد أصحابه ، وبموافقتهم له فى مراده ، وأن الأمر لو استمر على الإمامة ، لدام ، ولم يقفوا على ما وقف عليه ، ولم ينتهوا لما يفضى عاقبة الأمر إليه ؛ لغلظ أفهامهم ، وقلة معرفتهم.

وما ذكرتموه من الإلزام الثالث فى قصة الحسين عليه‌السلام ، فغير لازم.

أيضا ؛ فإنه إنما تحرك إلى الكوفة بعد أن ظهر له من أهل الكوفة الرغبة فيه ، والميل إليه ، بما أخذه عليهم من العهود ، والمواثيق بعد كثرة مكاتبات رؤسائهم له ، والأعيان منهم / ومن تبعهم من السواد الأعظم ، وذلك مع ما اجتمع له من الأعوان ، والأنصار المعتمد عليهم. ومتى غلب على ظن الإمام الوصول إلى حقه ، والقيام بما أوجبه [الله] (١) عليه من النظر فى أحوال المسلمين ؛ وجب عليه السعى فى طلبه.

وأما عذل من خذله : كابن عباس ، وابن عمر ، وغيرهما ؛ فإنما كان لأنه لم يظهر لهم ما ظهر له [من قرائن الأحوال ، ومكاتبات أهل الكوفة له] (٢) بالمعاضدة والمناصرة.

وأما قولكم : إنه ألقى نفسه ، وشيعته فى التهلكة ، حيث أنه لم ينزل على أمان عبيد الله بن زياد ؛ ليس كذلك ؛ فإنه كيف يظنّ به ذلك ، وقد قال لعمر بن سعد (٣) لما

__________________

(١) لفظ الجلالة ساقط من (أ).

(٢) ساقط من أ.

(٣) عمر بن سعد (توفى سنة ٦٦ ه‍) هو عمر بن سعد بن أبى وقاص من التابعين ، كان على رأس الجيش الّذي قتل الامام الحسين ـ رضى الله عنه ـ وصحبه ، وقد قتله المختار بن أبى عبيد.

[تاريخ الطبرى ٥ / ٤١٢ ، تهذيب التهذيب ٧ / ٤٥٠].

٢١١

أقبل عليه فى عسكره ، ورأى أمارات الضعف : «اختاروا منى : إما الرجوع إلى المكان الّذي أقبلت منه ، أو أن أضع يدى فى يد يزيد ليرى فىّ رأيه ، وإما أن تسيروا بى إلى ثغر من ثغور المسلمين ؛ فأكون رجلا من أهله لى ما لهم ، وعليّ ما عليهم» (١). وإن عمر بن سعد كتب بذلك إلى عبيد الله بن زياد ؛ فأتاه ، وأمره بالمناجزة له ، فلما آل الأمر إلى ما آل من ضعف الحسين ، وشيعته وإحاطة الأعداء بهم ، امتنع من النزول على أمان عبيد الله بن زياد ؛ لأنه ظهر له من قرائن أحواله ، وبما تقدم منه من عدم إجابته للأمان قبل انتهاء الأمر إلى ما انتهى إليه أمر الحسين من شدة الضعف ، وظهور الظفر به ، أن قصده من ذلك أن يجمع له بين الذل بالنزول على حكمه ، وقتله ، وأن نزوله على حكمه ، ممّا لا يعصمه من القتل بعد ذلك ؛ فاختار التزام القتل دفعا للجمع بينه ، وبين النزول على حكم عبيد الله بن زياد.

وأما الإلزام الرابع : فغير لازم أيضا ، فإن اختفاء القائم المهدى ـ عليه‌السلام ، إنما هو للمخافة من أعدائه على نفسه.

قولكم : فهذا وإن أوجب الاستتار عن الأعداء ، فغير موجب للاستتار عن شيعته.

قلنا : لا نسلم أنه مستور عن شيعته الذين لا يخشى من جهتهم شيئا ، وما / / المانع من ظهوره لهم ، دون غيرهم ، وإنما لم يظهر لمن لم يخش منه ، إشاعة خبره ، وتحدثه عنه بما يؤدى إلى مخافته.

قولكم : فلا فائدة فى إبقائه.

قلنا : الفائدة فى إبقائه رجاء ظهوره عند زوال المخافة.

قولكم : ليس ذلك أولى من عدمه ، وإيجاده عند زوال المخافة. لا نسلم ذلك. والفرق بينهما ، أنه إذا غيّب شخصه ، للمخافة منهم ، كان ما يفوتهم من المصالح لازما لهم من إخافتهم له ، وإلجائهم له إلى الاستتار ؛ فتكون العهدة فى ذلك لازمة لهم ، والحجة مركبة عليهم ، وإذا أعدمه الله ـ تعالى ـ كان ما يفوتهم من المصالح لازما من فعل الله ـ تعالى ـ ومنسوبا إليه ؛ فلا تكون العهدة فى ذلك لازمة لهم ؛ بل لله ـ تعالى ـ وهو يتعالى ، ويتقدس عن فعل القبيح.

__________________

(١) انظر هذه الرواية في تاريخ الطبرى ٥ / ٤١٣ ، أنساب الأشراف ٣ / ١٨٢.

/ / أول ل ١٦٧ / ب من النسخة ب.

٢١٢

قولكم فى الإلزام الخامس : أنه لو كان الإمام معصوما ؛ لكان أفضل من النبي ؛ فهو مبنى على أن الأنبياء غير معصومين ، وهو ممنوع ، على ما سلف وبتقدير أن لا يكون النبي معصوما ، والعياذ بالله ؛ فلا يلزم [أن يكون] (١) أفضل من النبىّ ؛ لأن النبىّ بتقدير أن يعصى ، قد يعرف ذنبه ، والمعاتبة / عليه من الوحى ؛ فيتوب عنه ، والتّائب من الذنب كمن لا ذنب له ، بخلاف الإمام فإنه لا يقدر على ذلك ؛ إذ هو غير موحى إليه.

ثم وإن سلمنا دلالة ما ذكرتموه على أن الإمام غير معصوم ؛ لكنه معارض بما يدل على عصمته.

وبيانه من عشرة أوجه :

ـ الأول : هو أن الاحتياج إلى الإمام ، إنما كان لكون الأمة أبعد عن فعل الخطأ ، وأقرب إلى فعل الواجب ، فلو كان الإمام ممّن يجوز عليه الخطأ ؛ لكان أيضا محتاجا إلى إمام أخر حسب افتقار الأمة إليه ، ويلزم من ذلك التسلسل ؛ وهو محال ، أو الانتهاء إلى إمام لا يتصور عليه الخطأ ؛ وهو المطلوب (٢).

الثانى : أنه يجب متابعته بدليل اللغة ، والإجماع.

أما اللغة : فهو أن الإمام فى اللغة عبارة عن شخص يؤتم به ؛ أى يقتدى به ، كما أن اسم الرداء : لما يرتدى به ، واللحاف : لما يلتحف به (٣).

وأما الإجماع : فلأنه لا خلاف ، فى أنه يجب على كل واحد من الناس قبول حكم الإمام ، واتباعه فى جميع سياساته ، ووجوب إتباع قوله ، فى ذلك إما أن يكون لمجرد قوله ، أو لدليل دلّ على ذلك ، أو لا لقوله ، ولا لدليل دلّ عليه.

لا جائز أن يقال أنه لا لقوله ولا لدليل دل عليه ؛ وإلّا كان وجوب الإتباع لقوله ، لا مستند له ، وهو محال.

ولا جائز أن يقال باستناده ، إلى دليل الإجماع على وجوب الإتباع ، فإن لم يظهر ثمّ دليل ، فلم يبق إلا أن يكون وجوب إتباع قوله لمجرد قوله ، وإذا كان كذلك ، فلو جاز عليه

__________________

(١) ساقط من (أ).

(٢) قارن بما ورد فى المواقف ص ٣٩٩ ، وشرح المواقف ـ الموقف السادس ص ٢٩١.

(٣) قارن بما ورد فى الأربعين للرازى ٤٣٥ «الإمام فى اللغة عبارة عن الشخص الّذي يؤتم به ، ويقتدى به : كالرداء ؛ فإنه اسم لما يرتدى به ، واللحاف اسم لما يلتحف به».

٢١٣

الخطأ [فبقدير إقدامه على الخطأ] (١) ، إما أن يقال بوجوب اتباعه ، والأمر من الله ـ تعالى ـ بالاقتداء به ، أو لا يقال ذلك.

فإن كان الأول : فيلزم أن الله ـ تعالى ـ أمرنا بالخطإ ، وهو محال.

وإن كان الثانى : فقد خرج الإمام فى تلك الحالة عن كونه إماما ، ولزم منه خلو ذلك الزمان عن الإمام ؛ وهو محال.

الثالث : أنا قد علمنا بالتواتر علما ضروريا ، بعثة النبي ـ عليه‌السلام ، وتكليف الناس فى كل عصر باتباع ما جاء به ، من الشريعة ، وإنما يتصور تكليف من بعده بشريعته ، بتقدير نقلها إليهم ، وإلّا كان تكليفهم بما لا يعرفونه ؛ وهو محال (٢).

وإذا لم يكن بدّ من نقلها ؛ فذلك الناقل : إما أن يكون معصوما ، أو لا يكون معصوما :

لا جائز أن يكون غير معصوم : وإلّا لما [حصل] (٣) العلم بقوله فيما ينقله (٤). وإن كان معصوما : فالمعصوم عند القائلين بعصمة غير الأنبياء ، إما الإمام أو الأمة ، فيما أجمعوا عليه ، أو أهل التواتر فيما نقلوه لا غير ، والقول بمعصوم خارج عن هذه الثلاثة ، قول لا قائل به.

وعند ذلك : فلا جائز أن يكون مستند علم من بعد النبي بشريعة انعقاد الإجماع من الأمة عليه ، فإن عصمة الأمة عن الخطأ ، إنما تعرف بالنصوص الواردة على لسان الرسول من الكتاب ، أو السنة ، وكل نص يدل على كون الإجماع حجة ؛ فلا بدّ من معرفة كونه منقولا عن الرسول ، وأنه لا ناسخ له ، ولا معارض ؛ وذلك أيضا يتوقف على صدق الناقل له ، وصدقه إما أن يكون معلوما ، بالإجماع ، أو بغيره.

فان كان بالإجماع : لزم الدّور ، من حيث أنّا لا نعرف صدق الخبر الدال على / عصمة أهل الإجماع / / إلّا بالإجماع ، وعصمة أهل الإجماع ، لا تعرف إلا بعد معرفة صدق ذلك [الخبر] (٥).

__________________

(١) ساقط من «أ».

(٢) قارن بما ورد فى الأربعين للرازى ص ٤٣٤.

(٣) ساقط من (أ)

(٤) قارن بما ورد فى الأربعين للرازى ص ٤٣٤.

/ / أول ل ١٦٨ / أ.

(٥) ساقط من (أ)

٢١٤

وإن كان بغير الإجماع : فإما بالتواتر ، أو بغيره ، لا جائز أن يكون بالتواتر : فإن غاية التواتر ، معرفة كون ذلك الخبر منقولا عن النبي ـ عليه‌السلام ـ وليس فيه ما يدل على أنه ليس بمنسوخ ، ولا معارض.

وعلى هذا ، فلا يكون مفيدا لكون الإجماع حجة ، فلم يبق إلّا القسم الثالث ، وهو الإمام ؛ وذلك هو المطلوب.

الرابع : أنه لو لم يكن الإمام معصوما ، فبتقدير وقوعه فى المعصية إما أن يجب الإنكار عليه ، أو لا يجب.

فإن وجب الإنكار [عليه] (١) ؛ لزم الدّور من جهة توقف انزجار الإمام على زجر الرعية له ، ويتوقف زجر الرعية على زجر الإمام لهم ؛ وهو ممتنع.

وإن لم يجب الإنكار عليه (٢) : فهو ممتنع لما فيه من مخالفة قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «من رأى منكم منكرا فلينكره» (٣) ... الحديث.

الخامس : هو أن الأمة قد اختلفت فى أحكام ليست فى كتاب الله تعالى ولا السنة المتواترة ، والإجماع غير مساعد عليها لوقوع الخلاف [فيها] (٤) ، وما عدا ذلك من القياس ، وأخبار الآحاد ، فمن باب الترجيح بالظن ، وذلك لا يصلح لإفادة الشريعة لقوله ـ تعالى ـ : (وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (٥) ؛ فلا بدّ من معصوم يعرف الحق من الباطل ؛ وذلك هو الإمام.

السادس : هو أن القرآن إنما أنزل ليعلم ويعمل به.

قال المتقدمون من الروافض : [والقرآن] (٦) قد دخله التغيير ، والتحريف ، ويدل على ذلك اختلاف المصاحف (٧) ، واختلاف الصحابة فى الفاتحة ، والمعوذتين (٨) ، وآية

__________________

(١) ساقط من (أ)

(٢) ساقط من (ب)

(٣) قارن بما ورد فى الأربعين للرازى ص ٤٣٦.

(٤) ساقط من (أ)

(٥) سورة النجم ٥٣ / ٢٨.

(٦) ساقط من (أ)

(٧) انظر فى اختلاف مصاحف الصحابة : كتاب المصاحف لأبى داود ٥٠ ـ ٨٨.

(٨) انظر فى الخلاف حول الفاتحة والمعوذتين البرهان فى علوم القرآن ٢ / ١٢٧ ، ١٢٨ والإتقان فى علوم القرآن : ١٩ / ١٠٤ ـ ١٠٥.

٢١٥

الرجم (١) ، ودعاء القنوت (٢) ، هل ذلك من القرآن أم لا؟ وكاختلاف الناس فى البسملة ، هل هى آية من أول كل سورة ، أم لا ، ووجود ما فيه من اللحن ، والتناقض ، والاختلاف إلى غير ذلك من الأمور التى حققناها فى النبوات (٣) ، وذلك كله يدل على دخول التّحريف والتّبديل فيه.

وعلى هذا : فالعمل بما منه من القرآن ، وما ليس منه ، إنما يعرف بمعرفة معصوم ؛ وذلك هو الإمام.

وأما المتأخرون من الرّوافض : فإنهم وإن سلّموا امتناع تطرق التّحريف والتّبديل إلى القرآن ، غير أنّهم زعموا ، أنّه مشتمل على ألفاظ مشتركة ، مجملة ، لا يعرف مدلولها من نفسها ، وآيات متعارضة ، وآيات متشابهة ؛ ولذلك وقع الاختلاف فيها ، بين المفسرين ، ولا سبيل إلى معرفة الحق منها ، بقول غير المعصوم ؛ إذ ليس قول أحد غير المعصومين ، أولى من الآخر ؛ فلا بدّ أن يكون المعرّف لذلك معصوما ؛ وهو الإمام.

السابع : هو أنّ الإمام لا بدّ وأن يكون منصوصا عليه ، من الله ـ تعالى ـ على لسان رسوله ، كما سبق بيانه ، والبارى ـ تعالى ـ عالم بعواقب الأشياء ، حكيم ؛ فلا يجوز عليه تولية من يعلم فساده ؛ فلا بدّ وأن يكون معصوما.

الثامن : هو أن معرفة الله ـ تعالى ـ واجبة على ما سبق ، وعند ذلك فإما أن يكون العقل مستقلا بالمعرفة ، أو غير مستقل.

فإن كان الأول : فهو محال لوجهين : ـ الأول : ـ هو أنّا قد شاهدنا العقول ، مفضية إلى المذاهب المتناقضة ، ولو كان / العقل مستقلا بالإيصال إلى معرفة الحق ؛ لما كان كذلك.

الثانى : ـ أنه يلزم [منه] (٤) تفويض أمر كل واحد إلى عقله ، وأن لا ينكر عاقل على عاقل ، وأن لا يحتاج مع ذلك ، إلى نبى ، ولا إمام ؛ وهو محال.

وإن كان الثانى : فإما أن يقال بالافتقار إلى المعلم ، أو لا يقال بالافتقار إلى المعلم. فإن قيل إنه لا يفتقر إلى المعلم : فهو تعليم بأنه لا حاجة إلى المعلم ؛ وهو تناقض.

__________________

(١) انظر الاتقان فى علوم القرآن : ٣٢ ، ٣٤ ، ٣٥.

(٢) انظر البرهان فى علوم القرآن : ٢ / ٣٧.

(٣) انظر ما سبق ل ١٤٦ / ب وما بعدها من الجزء الثانى.

(٤) ساقط من (أ)

٢١٦

وإن قيل بالافتقار إلى المعلم : فإما أن يقال بعصمته ، أو لا يقال بعصمته ، فإن لم يقل بعصمته : فلا تحصل المعرفة بتعليمه ، لجواز خطئه.

وإن قيل بعصمته : فهو المطلوب ، وهذه شبهة الملاحدة من غلاة الشيعة (١).

التاسع : قوله تعالى لإبراهيم : ـ (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (٢).

ووجّه الاحتجاج بالآية : أنّه نفى أن ينال عهد الإمامة الظالمين ، ومن ليس بمعصوم ، [ومن] (٣) جاز عليه الذنب ، وبتقدير صدور الذنب عنه يكون ظالما لقوله ـ تعالى : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) (٤) ؛ فلا ينال عهد الإمامة ، ولا بدّ من الإمام لما تقدم ؛ فلا بدّ وأن يكون معصوما.

العاشر : قوله ـ تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (٥). أمر بطاعة أولى الأمر ، وكل ذلك من أمر الله ـ تعالى ـ بطاعته ؛ فلا بدّ وأن يكون معصوما ، وإلّا كان البارى ـ تعالى ـ قد أمر بطاعته فيما هو مخطئ فيه ؛ وذلك محال.

والجواب :

أما منع تصور الإجماع ، وكونه حجة ؛ فجوابه ما سبق فى قاعدة النظر (٦).

قولهم : / / إنما يكون الإجماع منعقدا على إمامة أبى بكر ، أن لو بينتم دخول عليّ فيه ؛ وهو غير مسلم.

قلنا : لا نزاع فى وقوع الموافقة منه للجماعة ؛ لمبايعته لأبى بكر (٧).

قولهم : إن ذلك لم يكن عن اعتقاد.

__________________

(١) قارن بما ورد فى شرح المواقف ـ الموقف السادس ص ٢٩١.

(٢) سورة البقرة ٢ / ١٢٤.

(٣) ساقط من أ.

(٤) سورة فاطر ٣٥ / ٣٢.

(٥) سورة النساء ٤ / ٥٩.

(٦) انظر ما مر فى القاعدة الثانية : فى النظر وما يتعلق به ل ١٥ / ب وما بعدها.

/ / أول ل ١٦٨ / ب.

(٧) قارن بما ورد فى المغنى ٢٠ / ١ / ٢٨٣)

٢١٧

قلنا : الاعتقادات [والقصود] (١) من الأمور الباطنة التى لا سبيل إلى الاطلاع عليها ، لذواتها ، وأنفسها ، وإنما تعرف بدلائلها ، والإقدام على عقد البيعة صالح للدلالة عليها ؛ فكان ذلك دليلا ، ويلزم من وجود الدليل ، وجود المدلول ، اللهم إلّا أن يوجد [له] (٢) معارض ، والأصل عدمه ، فمن ادعاه يحتاج إلى بيانه ، واحتمال وجود المعارض إذا لم يكن ظاهرا ، لا يمنع من التمسك بالدليل المتحقق ، وإلّا لما ساغ التمسك بشيء من الدلائل اللفظية على مدلول أصلا ، لا فى كتاب الله ، ولا سنّة رسوله. ولا مخاطبات أهل العرف ؛ فإنه ما من لفظ إلّا ويجوز أن لا يكون المتكلم به معتقدا ، لما هو دليل عليه فى وضع اللغة ؛ لقيام معارض له ، وذلك ممّا يجر إلى إبطال الشرائع واللغات ، وأن يكون الله ـ تعالى ـ ورسوله أمرا بشيء فى الظاهر ، أو نهيا ، أو أخبرا عن شيء ، وهما لا يريدانه ؛ وهو محال.

كيف وأن ذلك ممّا يجر أيضا إلى امتناع الاحتجاج بالإجماع ، الّذي وافقوا على كونه حجة ، وهو ما كان الإمام المعصوم داخلا فيه ؛ لجواز أن يكون ما أطلقوه من الألفاظ ، وأتوا به من الدليل غير مراد المدلول ؛ لاحتمال وجود المعارض / ؛ وذلك كله محال. وعدم صدور البيعة منه قبل ذلك ، لا يدل على كونه غير راض ، بالبيعة حالة صدور البيعة.

وعلى هذا : فالقول بأن البيعة منه ، إنما كانت تقية ، ودفعا للمخافة عنه ، فرع كونه كارها للبيعة ، وغير راض بها ، وهو غير مسلم. وكل ما يوردونه من ألفاظه الدالة على الكراهة لإمامة أبى بكر ، وإنما عقد البيعة معه تقية ، ومخافة ؛ فهو من التخرصات ، والأكاذيب التى لا ثبت لها عند أهل الحديث ، والرواة الثقات (٣).

قولهم : ما ذكرتموه فى إبطال عصمة الأئمة فرع عدم عصمتهم ، لا نسلم ذلك ، وما ذكروه فى تقريره ، فيلزم منه صرف الدلائل عن مدلولاتها ، لمجرد احتمال المعارض لها ؛ وذلك باطل بما سبق تقريره.

كيف وأن ما ذكروه لازم لهم أيضا ؛ وذلك لأن كل من اعتقد كونه معصوما ، فالعلم بعصمته ، ليس من الضروريات ، وإلّا لما شاع الخلاف فيه ، من أكثر العقلاء.

__________________

(١) ساقط من (أ)

(٢) ساقط من (أ)

(٣) قارن ما ذكره الآمدي هنا بما ورد فى المغنى للقاضى عبد الجبار ٢ / ١٢٦ ، ٢٨٤ وما بعدها.

٢١٨

ولأن القضية الضرورية ، ما يصدق العقل بها ، من غير توقف على شيء غير تصور مفرداتها ، ومن تصور شخصا ما ، وتصور معنى العصمة ، لا يجد من نفسه التصديق بكونه معصوما ، إلّا بدليل يدل عليه ، وإلّا كان كل شخص يتصوره ، مع تصور العصمة فى الجملة ، يكون معصوما ؛ وهو محال (١).

فإذا اعتقاد كون شخص من الأشخاص معصوما ؛ لا بدّ له من دليل ، وكل دليل يدل على عصمته ؛ فدلالته موقوفة علي كونه ، معصوما فى نفس الأمر ، فإنه بتقدير أن لا يكون معصوما فى نفس الأمر ؛ فيجب صرف دلالة الدليل على العصمة ، إلى ما يليق بعدم العصمة.

فإذا قد توقفت دلالة الدليل على عصمته ، على وجود عصمته ، ووجود العصمة ، متوقف على دلالة الدليل على العصمة ؛ وهو دور ممتنع.

وكل ما يقال فى الجواب هاهنا ، هو الجواب فيما نحن فيه ، ويدل على ما ذكرناه [من] (٢) الإلزامات.

قولهم : فى الإلزام الأول ، لا نسلم أن عليا لم ينكر.

قلنا : الأصل عدم النكير ، فمن ادعاه احتاج إلى بيانه.

قولهم : إنّه صرّح بالنّكير لا نسلمّ ، وكل ما يذكرونه فى الدّلالة على ذلك قبل ولايته ، وبعد ولايته ، فهو من التّخرّصات ، والأكاذيب التى لم تنقل على ألسنة الرواة الثقات ؛ فلا اعتماد عليها.

ثم [إنه] (٣) لا يخلو : إمّا أن يكون ما نقلوه عنه ـ عليه‌السلام ـ من إظهار الإنكار صحيحا ، أو لا يكون صحيحا.

فإن لم يكن صحيحا : فهو المطلوب ، وإن كان صحيحا : فلا يخلو : إما أن يكون محقا فيه ، أو مبطلا.

فإن كان محقا فيه : فقد أخطأ فى المبايعة. وإن كان مبطلا فيه : فقد أخطأ فى الإنكار ؛ وعلى كلا التّقديرين لا يكون معصوما من الخطأ (٤).

__________________

(١) قارن بما ذكره القاضى فى عصمة الأئمة ، ومناقشاته لها ٢٠ / ٥٧ ، ٢٠ / ٩٦.

(٢) ساقط من (أ)

(٣) ساقط من (أ)

(٤) قارن بما ذكره ابن حزم فى الفصل فى الملل والنحل ٤ / ٩٦. وما ذكره القاضى عبد الجبار فى المغنى ٢٠ / ٢٨٤ وما بعدها.

٢١٩

فلئن قالوا : إنّما بايع تقيّة.

قلنا : / / لو كان كذلك ؛ لما أنكر أيضا تقيّة ، فإنّه لا فرق فى المخافة بين أن لا يبايع ، وبين أن يبايع مع تصريحه بالإنكار ، والمخالفة.

كيف وأن دلالة ما ذكروه على النكير ، متوقّفة على إبطال إمامة أبى بكر ؛ فإنه لو كان إماما حقا ؛ لما أنكر عليّ ذلك ؛ لأنّه يخرج به عن كونه معصوما ، فإذا حمل ما وجد منه من الدّلائل ، على حقيقة ـ الإنكار ، متوقّف على إبطال إمامة أبى بكر ، وإبطال إمامته ، متوقف / على دلالة ما وجد من على على حقيقة الإنكار ؛ وهو دور على ما ذكروه فى دليل إبطال العصمة [فإن أبطلوه هاهنا بما ذكرناه ؛ فقد اعترفوا ببطلان ما ذكروه ، على دليل إبطال العصمة] (١) ، مع أنه من أكبر عمدهم فى إثبات العصمة.

قولهم : إنما بايع ظاهرا للتقية ؛ فقد سبق إبطالها فى أول الجواب (٢).

قولهم : إنّما كان يدخل فى آرائهم لقصد إرشادهم عمّا شذّ عنهم.

قلنا : إلا أن أصل تصرفهم فى الأمور السّياسية ، وما يتعلق التّصرف فيه بالإمام ، غير مسوغ لهم شرعا ، عند الخصوم ، وقد كان يدخل معهم فى آراء السّياسة المتعلقة بالإمام ، والإرشاد إلى فعل ما لا يسوغ شرعا ؛ غير جائز (٣).

قولهم : إنه كان يقتدى بهم فى الصّلاة ، غير ناو للاقتداء بهم ؛ فهو خلاف ما يدل عليه الاقتداء ظاهرا ، ومجرد احتمال التّقصير ؛ لا يقدح فى الدلالة الظاهرة ؛ لما سبق.

كيف وأن اقتداء المنفرد بصلاته ، ومتابعته لأفعال غيره ، إذا لم يكن مؤتما به مبطل للصّلاة بإجماع المسلمين ، فلو صدر منه ؛ لما كان معصوما.

قولهم : إنّما كان يأخذ عطيتهم ؛ لأنّ ذلك كان حقا له.

قلنا : إنّما يكون حقا أن لو كان سبب اكتسابه مسوّغا فى الشرع ، وغير عليّ من الأئمة الثلاثة غاصب عند الخصوم ، وتصرّف الغاصب ، غير مسوّغ فى (٤) الشّرع (٤) ؛ فلا يترتب عليه حق شرعى.

__________________

/ / أول ل ١٦٩ / أ.

(١) ساقط من (أ)

(٢) انظر ما مر ل ٢٩١ / أ.

(٣) قارن بالمغنى فى أبواب التوحيد والعدل ٢٠ / ٢٨٦ وما بعدها من القسم الأول.

(٤) ساقط من (ب)

٢٢٠