أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٥

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٥

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: د. أحمد محمد المهدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب والوثائق القوميّة
المطبعة: مطبعة دار الكتب والوثائق القوميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 977-18-0328-x
الصفحات: ٣١٨

وقد احتجوا عليه بأنّ الإماميّة مع كثرتهم فى زماننا كثرة لا يتصور على مثلهم التواطؤ على الكذب قد نقلوا النّصّ الجلىّ على عليّ عمّن تقدّمهم ونقلوا أن من تقدّمهم أخبرهم بذلك ، وكانوا فى الكثرة إلى حدّ لا يتصوّر عليهم التواطؤ على الكذب.

وأنّهم أخبروا بذلك وأخبروهم أنّ من أخبرهم بذلك كان حاله كحالهم وهلم جرا ، إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمخبر به محسوس مشاهد وهو خبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقوله ، فكان خبرهم متواترا ، والتواتر مفيد للعلم كما تقدّم تحقيقه (١).

ولا يمكن أن يقال بأنّ ذلك مما وضعه بعض النّاس فى بعض الأعصار ، ثم اشتهر وشاع وذاع بحيث نقله عدد التواتر ؛ لأنّه من الأمور العظيمة المتضمّنة تخطئة الأمّة فيما اتفقوا عليه من عقد الإمامة لغير عليّ.

وما كان كذلك فالدّواعى تكون متوفّرة على نقله ، وإشاعته من القائلين بعدم التنصيص ؛ لإظهار إبطال القول بالتّنصيص وإفساده ، لا سيما وهم غير خائفين فى نقله ، فإنّه لم تزل الغلبة لهم فى كلّ عصر.

ومن قال بالتّنصيص تحت القهر والتّقية ، فحيث لم ينقل ذلك دلّ على إبطاله ، ولا يمكن أن يقال إنّما يلزم [نقل] (٢) ذلك أن لو عرف واضعه ، وقت حدوثه ، وليس كذلك ؛ بل أمكن أن يكون من وضع [بعض] (٣) الناس ، وقد تناقلته الألسنة ، واشتهر من غير أن يعرف واضعه ، ووقت حدوثه. كما فى الأراجيف الواقعة فى كلّ زمان ؛ لأنّ القول بتجويز ذلك ممّا يوجب تطرّقه إلى كل خبر متواتر ويخرج التّواتر عن كونه مفيدا للعلم ؛ وهو محال.

وأما النّصوص الخفية فكثيرة :

الأول منها : أنهم قالوا إنا قد بيّنا فى الأدلّة العقليّة امتناع ثبوت الإمامة بالدعوة ، والاختيار. وأنّه لا بدّ وأن يكون الإمام منصوصا عليه وقد انعقد الإجماع على أنّ المنصوص عليه لا يخرج عن أبى بكر ، والعباسى ، وعليّ (٤).

__________________

(١) راجع ما مر فى القاعدة السادسة ـ الأصل الثانى ـ الفصل الأول : فى الدليل السمعى وأقسامه ، وأنه هل يفيد اليقين ، أم لا؟ ل ٢١٥ / ب وما بعدها.

(٢) ساقط من «أ».

(٣) ساقط من «أ».

(٤) قارن ما ورد هاهنا بما ورد فى اللمع للأشعرى ص ١٣١ ، والإبانة له أيضا ص ٨٨ والمغنى للقاضى عبد الجبار ٢٠ / ١ / ١١٨ ، ١١٩ ، وأصول الدين للبغدادى ص ٢٧٩.

١٤١

وأبو بكر غير منصوص عليه لوجهين :

الأول : انّه قد نقل عنه أنّه قال : «وددت أنّى سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم / عن هذا الأمر فيمن هو ؛ فكنّا لا ننازعه أهله» (١).

ولو كان منصوصا عليه ؛ لكان أعلم به.

الثانى : أنّه لو كان منصوصا عليه لما وافق على البيعة ؛ لأنّه يكون من أعظم المعاصى ؛ وذلك قادح فى إمامته.

والعبّاس أيضا غير منصوص عليه ؛ لأنه لما مرض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال العبّاس لعليّ «أدخل بنا عليه لنسأله عن هذا الأمر ؛ فإن كان لنا بيّنه ، وإن كان لغيرنا ؛ وصّى النّاس بنا» (٢). ولو كان العبّاس منصوصا عليه ؛ لكان أعلم به من غيره.

وإذا بطل أن يكون المنصوص عليه أبا بكر ، والعبّاس ؛ تعيّن أن يكون عليا ـ عليه‌السلام ـ عملا بالإجماع.

الثانى : أن عليا ـ عليه‌السلام ـ أفضل الصّحابة ، والأفضل يجب أن يكون هو الإمام وإلا كان الأكمل الأفضل تبعا للأنقص ؛ وهو قبيح عقلا ، وإذا كان إماما فقد بيّنا أن الإمامة لا تكون إلّا بالتّنصيص ؛ فكان عليّ هو المنصوص عليه.

وبيان كونه أفضل الصحابة من ثمانية عشر وجها :

الأول : قوله تعالى : (فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ) (٣) الآية ، ووجه الاستدلال بها أنه ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ دعا عليا إلى ذلك المقام ، وذلك يدلّ على أنّه أفضل من جميع الصّحابة ، وبيان دعائه إليه ما ورد فيه من الأخبار الصّحيحة ، والرّوايات الثابتة عند أهل النقل.

__________________

(١) ورد فى تاريخ الطبرى ٣ / ٤٣١ «وددت أنى سألت رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لمن هذا الأمر فلا ينازعه أحد ، وددت أنى كنت سألته هل للأنصار فى هذا الأمر نصيب».

(٢) فى المصنف ٥ / ٤٣٥ «فاذهب بنا إليه فلنسأله ؛ فإن يك هذا الأمر إلينا علمنا ذلك وإلا يك أمرناه أن يستوصى بنا خيرا ، فقال له على : أرأيت إذا جئناه فلم يعطناها ، أترى الناس أن يعطوها ، والله لا أسأله إياها أبدا ، وقارن بألفاظ متقاربة صحيح البخارى ٨ / ١٠١ وشرح نهج البلاغة ١ / ٣٠٩.

(٣) سورة آل عمران ٣. ٦١.

١٤٢

وأيضا فان قوله «وأنفسنا» ليس / / المراد [به] (١) نفسه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنّ الإنسان لا يدعو نفسه كما لا يأمر نفسه ، وليس المراد به فاطمة ، والحسن ، والحسين لأنّهم اندرجوا فى قوله تعالى : (أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ) فلا بدّ وأن يكون شخصا آخر غير نفسه ، وغير فاطمة ، والحسن ، والحسين ، وليس ذلك المدعو غير عليّ بالإجماع ، فتعيّن أن يكون عليا ـ عليه‌السلام (٢).

وبيان دلالته على كونه أفضل الصّحابة من وجهين :

الأول : أنّه دعاه إلى المباهلة ، [وهذا] (٣) يدلّ على أنّه ـ عليه‌السلام ـ فى غاية الشفقة والمحبّة لعليّ ، وإلّا لقال المنافقون إن الرّسول ليس على بصيرة من أمره حيث أنه لم يدع إلى المباهلة من يحبه ، ويحذر عليه من العذاب ، وزيادة الشفقة والمحبّة للمدعوّ إلى المباهلة إمّا أن تكون لزيادة قربه منه ، أو لكونه أفضل.

الأول : محال وإلّا كان العبّاس أولى بذلك ، ولما كان على أولى من أخيه عقيل لتساويهما فى القرابة ؛ فلم يبق إلّا أن يكون ؛ لكونه أفضل.

الثانى : أنه ـ عليه‌السلام ـ لما جعل عليا نفسا له وجب أن يثبت لعلىّ كل ما هو ثابت للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضرورة الاتّحاد ، غير أنا خالفناه فى أمور كالنّبوّة ، وغيرها / فوجب العمل به فيما وراء محلّ المخالفة ، ومن جملة ذلك كون النبي ـ عليه‌السلام ـ أفضل من الصّحابة ؛ فكذلك عليّ عليه‌السلام.

الثانى : قوله ـ عليه‌السلام ـ فى [ذى] الثّدية «يقتله خير الخلق» (٤) وقد قتله عليّ ـ عليه‌السلام.

الثالث : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أخى ، ووزيرى ، وخير من أتركه بعدى ، يقضى دينى ، وينجز موعدى على بن أبى طالب» (٥).

الرابع : قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لفاطمة «أما ترضين أنى زوجتك خير أمّتى» (٦).

__________________

/ / أول ل ١٥٥ / أ.

(١) ساقط من «أ».

(٢) قارن بما ورد فى المغنى للقاضى عبد الجبار ٢٠ / ١ / ١٤٢ ، والأربعين للرازى ص ٤٦٥.

(٣) ساقط من «أ».

(٤) ورد فى شرح نهج البلاغة ٢ / ٢٦٧ ، والبداية والنهاية لابن كثير ٧ / ٣٠٣.

(٥) ورد بألفاظ متقاربة فى تاريخ ابن عساكر ١ / ١٣٠ ، ومجمع الزوائد ٦ / ١٢١ وقال فيه «وفيه من لم أعرفه» وقد اعتبره السيوطى فى اللآلئ المصنوعة ١ / ٣٥٨ موضوعا.

(٦) ورد بألفاظ متقاربة فى طبقات ابن سعد ٨ / ٢٤ ، وتاريخ ابن عساكر ١ / ٢٥٣.

١٤٣

الخامس : قوله ـ عليه‌السلام ـ «خير من أترك بعدى عليّ» (١).

السادس : ما روى عن عائشة ـ رضى الله عنها ـ أنها قالت : كنت عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ أقبل عليّ ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هذا سيّد العرب ، فقلت بأبى أنت وأمى يا رسول الله ، ألست أنت سيد العرب؟ ، فقال أنا سيّد العالمين ، وعليّ سيّد العرب» (٢).

السابع : قوله ـ عليه‌السلام ـ لفاطمة «إنّ الله ـ تعالى ـ اطّلع على أهل الأرض فاختار منهم أباك فاتخذه نبيا ، ثمّ اطلع ثانية فاختار منهم بعلك (٣).

الثّامن : ما روى عنه ـ عليه‌السلام ـ أنه أهدى له طائر مشوى فقال «اللهم ائتنى بأحب خلقك إليك يأكل معى ، فجاءه على وأكل معه» (٤) والأحب إلى الله تعالى هو (٥) من أراد الله ـ تعالى ـ زيادة ثوابه ، وليس فى ذلك ما يدل على كونه أفضل من النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والملائكة.

أما أنه لا يدل على كونه أفضل من النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فلأنه قال «ائتني بأحب خلقك إليك ، والمأتى به إلى النّبي يجب أن يكون غير النّبي ، فكأنه قال : أحب خلقك إليك غيرى ، وأما أنّه لا يدل على كونه أفضل من الملائكة ، فلقوله «يأكل معى» وتقديره : ائتنى بأحب خلقك إليك ممن يأكل ؛ ليأكل معى ، والملائكة لا يأكلون وبتقدير عموم اللفظ للكل ؛ فلا يلزم من تخصيصه بالنسبة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والملائكة تخصيصه بالنسبة إلى غيرهم.

التاسع : أنّه ـ عليه‌السلام ـ آخى بين الصّحابة واتخذ عليا أخا لنفسه ؛ وذلك دليل على أفضليته ، وعلو رتبته (٦).

__________________

(١) هو جزء من الحديث السابق. انظر عنه ما ورد فى الهامش السابق.

(٢) ورد فى المستدرك على الصحيحين ٣ / ١٢٤ قال عنه «وفى اسناده عمر بن الحسين وأرجو أنه صدوق ، ولو لا ذلك لحكمت بصحته على شرط الصحيحين» وعلق الذهبى على قول صاحب المستدرك «أظن هو الّذي وضع هذا».

(٣) ورد بألفاظ متقاربة فى المستدرك على الصحيحين ٣ / ١٢٩ ، وتاريخ ابن عساكر ١ / ٢٧٠ وقد ذكره ابن الجوزى فى الأحاديث الواهية. انظر العلل المتناهية ١ / ٢٢٤ ، ٢٢٥.

(٤) ورد بألفاظ متقاربة فى سنن الترمذي ٥ / ١٧٠ وقد ذكره ابن الجوزى فى العلل المتناهية ١ / ٢٢٩ وقال : «هذا حديث لا يصلح». وعلق عليه ابن تيمية فى كتابه منهاج السنة النبوية ٤ / ٩٤ قائلا : «إن حديث الطائر من المكذوبات الموضوعات عند أهل العلم والمعرفة بحقائق النقل».

(٥) من أول (هو من أراد الله تعالى) ساقط من ب.

(٦) جاء فى نقد ابن تيمية لهذا الخبر فى منهاج السنة ٤ / ٩٧ «أنه قد آخى بين المهاجرين والأنصار والنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وعلى كلاهما من المهاجرين ؛ فلم يكن بينهما مؤاخاة ؛ بل آخى بين على وسهل بن حنيف ؛ فعلم أنه لم يؤاخ عليا ، وهذا مما يوافق ما فى الصحيحين من أن المؤاخاة إنما كانت بين المهاجرين والأنصار ، ولم تكن بين مهاجرى ، ومهاجرى».

١٤٤

العاشر : ما روى عنه ـ عليه‌السلام ـ : «أنه بعث أبا بكر إلى خيبر فرجع منهزما ، ثم بعث عمر ؛ فرجع منهزما ؛ فغضب الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لذلك ، فلما أصبح خرج إلى الناس ومعه راية فقال : لأعطينّ الرّاية اليوم رجلا يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله كرار غير فرار ، فتعرض لها المهاجرون ، والأنصار ، فقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : أين عليّ؟ فقيل له : إنّه أرمد العين ؛ فتفل فى عينيه ، ثم دفع الراية إليه» (١) وذلك يدل على أنّ ما وصفه به مفقود فيمن تقدم ذكره ؛ فيكون أفضل منهما ، ويلزم من كون عليّ أفضل من أبى بكر ، وعمر أن يكون / أفضل من باقى الصّحابة ؛ ضرورة أن لا قائل بالفرق ، ولأنّ أبا بكر ، وعمر أفضل من غيرهما من الصّحابة ، فإذا كان عليّ أفضل منهما ؛ فالأفضل من الأفضل أفضل.

الحادى عشر : أنّ عليا كان أعلم الصحابة لقوله ـ عليه‌السلام ـ «أقضاكم عليّ» (٢) ، والأقضى أعلم لاحتياجه إلى جميع أنواع العلوم ، وإذا كان أعلم ؛ فالأعلم يكون أفضل لقوله ـ تعالى : ـ (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (٣) وقوله ـ تعالى : ـ / / (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) (٤).

الثانى عشر : أن عليا كان أكثر جهادا مع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من جميع الصّحابة على ما هو معلوم فى مواضعه ؛ فيكون أفضل لقوله ـ تعالى ـ : (وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً) (٥) ولا يمكن حمل الجهاد فى الآية على جهاد النفس ، بدليل قوله (عَلَى الْقاعِدِينَ).

الثالث عشر : أنّ إيمان عليّ كان سابقا على إيمان جميع الصحابة وبيانه من ثلاثة أوجه:

__________________

(١) ورد هذا الحديث فى صحيح البخارى ٥ / ١٧١ ، والمستدرك ٣ / ١٤٠ ، وتاريخ الطبرى ٣ / ٩٣.

(٢) جاء فى منهاج السنة لابن تيمية ٤ / ١٣٨ «فهذا الحديث لم يثبت وليس له اسناد تقوم به الحجة». أما الحاكم فقد خرجه فى المستدرك ٣ / ١٣٥ (كتاب معرفة الصحابة ـ باب كان على أقضى أهل المدينة) عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

(٣) سورة الزمر ٣٩ / ٩.

/ / أول ل ١٥٥ / ب.

(٤) سورة المجادلة ٥٨ / ١١.

(٥) سورة النساء ٤ / ٩٥.

١٤٥

الوجه الأول : ما روى «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث يوم الاثنين ، وأسلم على يوم الثلاثاء» ولا أقرب من هذه المدة (١).

الوجه الثانى : قوله عليه‌السلام : «أولكم إسلاما عليّ بن أبى طالب» (٢).

الوجه الثالث : ما روى عن على ـ عليه‌السلام ـ أنه كان يقول : «أنا أول من صلّى ، وأول من آمن بالله ورسوله ، ولا سبقنى إلى الصلاة إلا نبىّ الله» (٣). وقد نقل عنه أنه قال فى ذلك :

سبقتكم إلى الإسلام طرا

غلاما ما بلغت أوان حلمى (٤).

وكان قوله مشهورا فيما بين الصحابة ، ولم ينكر عليه منكر ، فدل على صدقه ، وإذا ثبت أنه أقدم إيمانا من الصّحابة ، كان أفضل منهم لقوله تعالى : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) (٥). وبتقدير أن لا يكون إيمانه سابقا على إيمان جميع الصحابة ، غير أن إيمانه كان سابقا على إيمان أبى بكر بدليل قول عليّ ـ رضي الله عنه ـ وهو على المنبر بمشهد من الخلق «أنا الصّدّيق الأكبر آمنت قبل أن آمن أبو بكر ، وأسلمت قبل أن يسلم (٦)» ولم ينكر عليه منكر.

وإذا كان أقدم إيمانا من أبى بكر كان أفضل منه للآية ، ويلزم من كونه أفضل من أبى بكر أن يكون أفضل من باقى الصحابة ؛ لما تقدم.

الرابع عشر : قوله ـ تعالى ـ فى حق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) (٧) ، والمراد بصالح المؤمنين : عليّ بن أبى طالب (٨) على ما نقله أبو

__________________

(١) ورد فى تاريخ ابن عساكر ١ / ٨٤.

(٢) ورد فى المستدرك ٣ / ١٣٦ ، ومجمع الزوائد ٩ / ١٠٢.

(٣) قارن بألفاظ متقاربة فى مسند الإمام أحمد. ١ / ٢٠٩ ، ٣٧٣ وطبقات ابن سعد ٣ / ٢١.

(٤) ورد فى شرح نهج البلاغة ٥ / ١٢٢.

(٥) سورة الواقعة ٥٦ / ١٠ ، ١١.

(٦) ورد فى أنساب الأشراف (ترجمة أمير المؤمنين) ٢ / ٣٤٥ وما بعدها.

والمستدرك ٣ / ١٢ وتاريخ ابن عساكر ١ / ٦٢.

(٧) سورة التحريم ٦٦ / ٤.

(٨) انظر شرح المواقف ـ الموقف السادس ص ٣٢٤.

١٤٦

صالح عن ابن عباس ، ومحمد بن على ، وجعفر ، وهكذا / حكاه النقاش (١) ، وغيره فى تفسيره ، والمراد بالمولى هاهنا : الناصر ؛ إذ هو القدر المشترك بين الله وجبريل وعليّ ، وذلك يدل على أن عليا أفضل من باقى الصحابة من وجهين :

الأول : أن ظاهر الآية للحصر ، ولأنه لو لم تكن للحصر لما كان للتخصيص بذكر الله ـ تعالى ـ وجبريل ، وعليّ فائدة. وتقديره أنه لا ناصر لمحمد عليه‌السلام غير البارى ـ تعالى ـ وجبريل ، وعليّ ، واختصاص عليّ بنصرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دون باقى الصحابة ، دليل على أنّه أفضل منهم ، نظرا إلى أنّ نصرة النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من أفضل العبادات.

الثانى : أنّه تعالى بدأ بنفسه ، ثم بجبريل ، ثم بعلىّ ، وذلك يدل على أنه أفضل من غيره من الصّحابة.

الخامس عشر : قوله ـ عليه‌السلام : ـ «من كنت مولاه فعلىّ مولاه» (٢). وقوله عليه‌السلام : «أنت منى بمنزلة هارون من موسى (٣)» ، وقد سبق وجه الاحتجاج بذلك.

السادس عشر : قوله عليه‌السلام : «على خير البشر ، ومن أبى فقد كفر» (٤).

السابع عشر : ما روى عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال : «من أراد أن ينظر إلى آدم فى علمه ، وإلى نوح فى تقواه ، وإلى إبراهيم فى حلمه ، وإلى موسى فى هيبته ، وإلى عيسى فى عبادته ؛ فلينظر إلى عليّ بن أبى طالب (٥). [فالنبى (٦) قد] أوجب مساواته للأنبياء فى

__________________

(١) النقاش : هو أبو بكر محمد بن الحسين بن زياد البغدادى المعروف بابن النقاش. اشتغل بالتفسير والاقراء. ولد ببغداد سنة ٢٦٦ ه‍ وتوفى سنة ٣٥١ ه‍ [تاريخ بغداد ١ / ٢٣ ، وفيات الأعيان ٤ / ٢٩٨].

(٢) ورد فى مسند الإمام أحمد ١ / ١١٨ ، ١١٩ ، ١٥٢ قال : وفى رواية أخرى قال : فزاد الناس بعد وال من والاه «وعاد من عاداه» كما ورد فى سنن ابن ماجه ١ / ٤٣ وسنن الترمذي ٥ / ٦٣٣.

(٣) متفق عليه. فى صحيح البخارى ٥ / ٢٤ «قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلى : أما ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى».

كما ورد فى صحيح مسلم ٧ / ١٢٠.

(٤) ورد فى تاريخ ابن عساكر ٢ / ٤٤٤ وذكر الشوكانى فى الفرائد المجموعة ص ٣٤٨

«فى اسناده محمد بن على الجرجانى وهو المتهم به ، ومحمد بن شجاع الثلجى وهو كذاب» كما ورد فى اللآلى المصنوعة ١ / ٣٢٨.

(٥) جاء فى الفوائد المجموعة ص ٣٦٧. قال ابن الجوزى : موضوع وفى إسناده أبو عمر الأزدى متروك. كما ذكره السيوطى فى اللآلى المصنوعة ١ / ٣٥٥ وما بعدها.

(٦) ساقط من «أ».

١٤٧

صفاتهم ، والأنبياء أفضل من باقى الصحابة ؛ فكان على أفضل من باقى الصحابة ؛ لأن المساوى للأفضل أفضل من ذلك المفضول عليه (١).

الثامن عشر : ان فضيلة المرء على غيره إنّما هى بما يعود إليه من الكمالات ويتصف به من الأدوات ، ويتحلى به من الصّفات المرضية ، والأخلاق السّنيّة. ولا يخفى أنه قد اجتمع من هذه الصفات فى حق على ، ما تفرق فى مجموع الصّحابة : كالعلم ، والزّهد ، والكرم ، والشّجاعة ، وحسن الخلق ، والاختصاص بمزيد القوة وشدة البأس ، وعظم المراس ، والقرب من رسول الله نسابة ، وصهارة ، فهو ابن عم رسول الله ، وزوج البتول ، وأبو السبطين : الحسن ، والحسين (٢).

أمّا اتّصافه بالعلم : فظاهر على ما سبق.

وأما بالزّهد : فلما اشتهر عنه ، مع اتساع أبواب الدّنيا عليه ، والتّمكن منها ، من التّخشن فى المأكل ، والملابس وشطف العيش وترك / / التنعم حتى قال للدنيا «طلقتك ثلاثا» (٣).

وأما الكرم : فلما اشتهر عنه من إيثار المحاويج على نفسه ، وأهل بيته مع تأكد حاجتهم حتى تصدّق فى الصّلاة بخاتمه على المسكين ، ونزل فى حقه قوله تعالى : ـ (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) (٤).

وأما الشّجاعة : فلما اشتهر عنه ، وتواتر من مكافحة الحروب / وقتل أكابر الجاهلية ، وملاقاة أبطالها ، ووقائعه فى خيبر ، وأمثالها حتى قال ـ عليه‌السلام ـ فى حقه يوم الأحزاب : «نصرة عليّ خير من عبادة الثقلين» (٥).

__________________

(١) قارن ما ورد هنا بما ورد فى شرح المواقف ـ الموقف السادس ص ٣٢٤ تحقيق الدكتور أحمد المهدى.

(٢) قارن ما ورد هنا بما ورد فى الأربعين للإمام الرازى ص ٤٧٦ ، ٤٧٧ ، وشرح المواقف ، الموقف السادس ص ٣٢٩.

/ / أول ل ١٥٦ / أ.

(٣) انظر مروج الذهب ومعادن الجوهر ٢ / ٤٣١ وما بعدها.

وقارن بما ورد فى شرح المواقف ـ الموقف السادس ص ٣٢٧.

وصفة الصفوة لابن الجوزى ١ / ١١٨.

(٤) سورة الإنسان ٧٦ / ٨.

(٥) قارن بما ورد فى المغنى ٢٠ ق ٢ / ١٤١ وما بعدها وشرح المواقف ـ الموقف السادس ص ٣٢٨ وما بعدها.

١٤٨

وأما حسن الخلق : فظاهر مشهور حتى أنّه نسب بسبب ذلك إلى كثرة الدّعابة ، وقد قال عليه‌السلام : «حسن الخلق من الإيمان» (١).

وأما الاختصاص بمزيد القوة : فأظهر وأشهر حتى أنه اقتلع بيده باب خيبر وقال عليه‌السلام : «والله ما قلعت باب خيبر بقوة جسمانية ؛ لكن بقوة إلهية» (٢).

وأما اختصاصه بالنسب ، والصهارة من الرسول : فظاهر غير خفى. ومن هذه صفاته ؛ وجب أن يكون أفضل.

الثالث : فى بيان كون عليّ منصوصا عليه.

هو أنّ الأمّة مجمعة على أنّ الإمام بعد رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ غير خارج عن أبى بكر ، وعليّ ، والعبّاس.

والعبّاس ، وأبو بكر ؛ لا يصلحان للإمامة لوجهين :

الأول : أنّا سنبيّن أن الإمام لا بدّ وأن يكون معصوما (٣) وأبو بكر ، والعباس لم يكونا معصومين بالاتفاق.

الثانى : انّ أبا بكر ، والعبّاس قبل البعثة كانا كافرين ؛ فيكونا ظالمين لقوله ـ تعالى : ـ (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٤) ، والظالم لا يكون إماما لقوله تعالى لإبراهيم : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (٥).

فإن قيل : إن الآية إنّما تدل على امتناع نيل الظالمين للعهد ، والظالم حقيقة إنّما يكون حالة اتصّافه بالظلم لا بعد زواله.

__________________

(١) جزء من حديث طويل : رواه الإمام أحمد فى المسند عن عمرو بن عنبسة.

وقد سأل النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عن أى الإيمان أفضل؟ حسن الخلق.

كما ورد ما يدل على هذا المعنى فى صحيح البخارى ٨ / ١٦ ، والجامع الصغير ١ / ١٢٨.

(٢) ورد فى شرح نهج البلاغة ٢ / ٣١٦.

(٣) قارن بما ورد فى الأربعين للرازى ص ٤٤١ وما بعدها.

(٤) سورة البقرة ٢ / ٢٥٤.

(٥) سورة البقرة ٢ / ١٢٤.

١٤٩

[قلنا] (١) : إنّما يصحّ أن لو اشترط فى إطلاق الاسم المشتق حقيقة وجود المشتق منه حالة الاطلاق ، وليس كذلك ، وإلّا لما صحّ اطلاق اسم الماشى ولا القائل حقيقة ولا مجازا.

أما أنه لا يصحّ حقيقة : فلأن اسم المشى لحركات متعاقبة مخصوصة لا وجود لها معا ، وكذلك القول عبارة عن حروف منظومة متعاقبة لا وجود لها معا ، وأما أنه لا يصح بجهة المجاز ؛ فلأن المجاز مستعار من محل الحقيقة فإذا لم يكن حقيقة فلا مجاز ، وبتقدير اشتراط بقاء المشتق منه لاطلاق الاسم المشتق حقيقة ، غير أن الظّالم حالة اتّصافه بالظلم يصدق عليه فى ذلك الوقت أنّه لا ينال عهد الله ، وذلك عامّ فى الوقت الحاضر ، وغيره من الأوقات المستقبلة ، ولهذا يصحّ استثناء جميع الأوقات المستقبلة ، فيقال : الظالم لا ينال عهد الله إلّا بعد زوال ظلمه ، والاستثناء يدل على خروج ما لو لاه ، لكان داخلا تحت اللفظ ، وإذا بطل أن يكون أبو بكر ، والعبّاس إماما تعيّن أن يكون الإمام عليا / وأن لا يكون قد كفر طرفة عين عملا بمقتضى الآية ، وحتى لا يخرج الحق عن قول الأمة ، ويلزم من ذلك أن يكون منصوصا عليه لما تقدم (٢).

الرابع : قوله تعالى : ـ (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) (٣) ووجه الاحتجاج به أن لفظ الولى قد يطلق ويراد به الأولى ، والأحق بالتصرف (٤). ويدل عليه النقل اللغوى والنّص ، والعرف الاستعمالى.

أمّا النّقل اللغوى : فقول المبرّد (٥) الولىّ هو الأولى بالتصرف ، ومنه قول الكميت (٦).

__________________

(١) ساقط من «أ».

(٢) قارن به : الأربعين للإمام الرازى ص ٤٤٦.

(٣) سورة المائدة ٥ / ٥٥.

(٤) قارن بالمعنى فى أبواب التوحيد والعدل ٢٠ / ١٣٣ وما بعدها.

وشرح المواقف ـ الموقف السادس ص ٣٢٤ وما بعدها. تحقيقنا

(٥) المبرّد : هو أبو العباس محمد بن يزيد الأزدى ولد بالبصرة سنة ٢١٠ ه‍ وتوفى بالكوفة ٢٨٥ ه‍ (وفيات الأعيان ٤ / ٣١٣ ، معجم الأدباء ١٩ / ١١١).

(٦) الكميت : هو أبو سهل بن زيد الأسدى من أهل الكوفة. شاعر وخطيب وفقيه من أشهر شعره «الهاشميات» ولد سنة ٦٠ ه‍ وتوفى سنة ١٢٦ ه‍.

[الشعر والشعراء ٢ / ٤٨٥ ، جمهرة أشعار العرب ص ٣٥١].

١٥٠

ونعم ولى العهد بعد وليّه

ومستجمع التّقوى ونعم المؤدب

وأراد به القيّم بتدبير الأمور ،

وأما النص : فقوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «أيمّا امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليّها فنكاحها باطل» ، وأراد به الأولى بالتصرف فيها ، وقوله عليه‌السلام : «وإن اشتجروا فالسلطان ولى من لا ولى له (١)» : أى أولى بالتصرف.

وأما العرف الاستعمالى : فإنه يقال لأب المرأة وأخيها أنّه وليّها : أى أولى بالتصرف فيها. وقد يطلق الولى بمعنى المحبّ والنّاصر ، ومنه قوله تعالى : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) (٢) : أى بعضهم محب بعض وناصره ، لا أنه الأولى بالتصرّف فيه ؛ إذ هو خلاف الإجماع ، ولم يعهد فى اللغة للولى معنى ثالث ، وإذا ثبت أن الولىّ / / قد يطلق بمعنى الأولى بالتّصرف وبمعنى الناصر ؛ فلفظ الولى فى الآية مما يتعذر حمله على الناصر.

وإنما قلنا ذلك لأنّ الولاية بمعنى النصرة عامة فى حق كل المؤمنين ، بدليل قوله تعالى (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) (٣) ، ذكر ذلك بصيغة الجمع المعرف فكان عاما ، والولاية فى الآية ليست عامة لكل المؤمنين ، فإن لفظه إنّما تفيد الحصر فى المؤمنين الموصوفين فى الآية ، بالصّفات المذكورة ؛ فتكون الولاية المذكورة فى الآية خاصة ببعض المؤمنين.

وإنما قلنا إن لفظة إنّما تفيد الحصر فى المذكور دون غيره ؛ لأن ذلك مما يتبادر إلى الأفهام من إطلاقها فى قول القائل : إنّما رأيت اليوم زيدا ؛ فإنّه يفهم منه أنه رأى زيدا دون غيره ؛ ويدل عليه أيضا قوله تعالى : ـ (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ) (٤). فإنه يفهم منه أنّ الله تعالى إله واحد ، وأن غيره ليس كذلك ، وإذا ثبت أن الولاية فى الآية خاصة وبمعنى النصرة

__________________

(١) أخرجه الإمام أحمد فى المسند ١ / ٢٥٠ ، ٦ / ١٦٦. وهما حديث واحد.

وانظر سنن أبى داود ١ / ٣٢٥ ، وسنن ابن ماجه ١ / ٦٠٥.

(٢) سورة التوبة ٩ / ٧١.

/ / أول ل ١٥٦ / ب.

(٣) سورة التوبة ٩ / ٧١.

(٤) سورة النساء ٤ / ١٧١.

١٥١

عامة ، فقد امتنع حمل الولاية فى الآية ، على الولاية بمعنى النصرة ، وتعيّن حملها على الولى ، بمعنى الأحق ، والأولى بالتصرف. وعلى هذا فيكون المراد من الآية : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) (١) : أى الأولى بالتصرف فيكم أيها الأمة ، والّذي هو أولى بالتصرف فى كل الأمة من المؤمنين إنّما هو الإمام ، فإذا الآية خاصة / على إمامة بعض المؤمنين ويتعين أن يكون عليا ـ عليه‌السلام ـ لاتفاق أئمة التفسير على أن المراد بقوله تعالى : ـ (وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) (٢) ، إنما هو عليّ كرّم الله وجهه ، فالآية نصّ على إمامته.

الخامس : قوله تعالى : ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (٣). [أمر بالكون مع الصادقين] (٤) ، وإنما يتصور الأمر كذلك ، أن لو علم الصادق ، وإنما يعلم كون الشّخص صادقا ، أن لو كان معصوما ، فالأمر إذا إنّما هو بمتابعة المعصوم ، وغير عليّ من الصحابة غير معصوم بالاتفاق ؛ فكان المأمور بمتابعته إنما هو على كرّم الله وجهه ؛ وذلك نصّ على إمامته.

السادس : قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (٥) ، أمر بمتابعة أولى الأمر ، وإنما يأمر بمتابعة من لا يأمر بالمعصية ، لقوله تعالى : ـ (إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) (٦) ، فالأمر بمتابعة أولى الأمر الذين لا يأمرون بالمعصية أصلا ، وذلك إنما يكون فى حق من ثبتت عصمته ، فالإمام يجب أن يكون معصوما ، وغير على من الصحابة غير معصوم بالاتفاق فتعيّن أن يكون عليّ معصوما ؛ ضرورة موافقة الأمر بطاعته ؛ وذلك نصّ فى إمامته.

السّابع : قوله ـ عليه‌السلام ـ يوم غدير خم وقد جمع الناس «ألست أولى بكم من أنفسكم ، قالوا : بلى ، فقال : من كنت مولاه فعلى مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله» (٧) ... وهذا الحديث مما اتفقت الأمة على

__________________

(١) سورة المائدة ٥ / ٥٥.

(٢) سورة المائدة ٥ / ٥٥.

(٣) سورة التوبة ٩ / ١١٩.

(٤) ساقط من أ.

(٥) سورة النساء ٤ / ٥٩.

(٦) سورة الأعراف ٧ / ٢٨.

(٧) أخرجه الإمام أحمد فى المسند ١ / ١١٨ ، ١١٩ ، وابن ماجه فى سننه ١ / ٤٣ عن البراء بن عازب.

وسنن الترمذي ٥ / ٦٣٣ ، والمستدرك ٣ / ١١٦.

١٥٢

صحته ، ووجه الاحتجاج به (١) هو أن لفظة المولى قد تطلق بمعنى الأولى ، وقد تطلق بمعنى الناصر ، والمعين ، وقد تطلق بمعنى المعتق والمعتق ، وبمعنى الجار ، وابن العم.

أما إطلاقه بمعنى الأولى : فيدل عليه الكتاب ، والسنة.

أما الكتاب : فقوله تعالى : (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ) (٢) الآية.

قال المفسرون : المراد به من كان أولى بالميراث ، وأحق به. وقوله ـ تعالى : ـ (مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ) (٣) : أى أولى بكم على ما قاله المفسّرون.

وأما السنة : فقوله ـ عليه‌السلام ـ فى بعض الروايات : «أيّما امرأة نكحت نفسها بغير إذن مولاها فنكاحها باطل» (٤). والمراد به المالك لأمرها ، والأولى بالتصرف فيها.

وأما إطلاقه بمعنى الناصر ، والمعين : فيدل عليه النص ، والشعر.

أما النص : فقوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) (٥). والمراد به الناصر.

وأما الشعر : فقول الأخطل (٦) :

فأصبحت مولاها من النّاس كلّهم

ومعناه فأصبحت ناصرها والذّاب عنها.

وأما إطلاقه بمعنى المعتق [والمعتق] (٧) : فظاهر مشهور ، ومنه يقول الفقهاء : لفلان موال من أعلى ، وموال من أسفل (٨).

__________________

(١) قارن ما ذكره الآمدي هاهنا بما ورد فى نهاية الأقدام ص ٤٩٣ ، وغاية المرام ص ٣٧٥ والمواقف ص ٤٠٥ ، وشرح المواقف ـ الموقف السادس ص ٣٠٧ ، ٣٠٨. تحقيقنا.

(٢) سورة النساء ٤ / ٣٣.

(٣) سورة الحديد ٥٧ / ١٥.

(٤) سبق تخريج هذا الحديث فى بعض رواياته ه. ل ٢٧٢ / أ.

(٥) سورة محمد ٤٧ / ١١.

(٦) الأخطل : هو أبو مالك غياث بن غوث بن الصلت التغلبى ، من شعراء العصر الأموى ، ولد سنة ١٩ ه‍ وتوفى سنة ٩٠ ه‍ أكثر من مدح بنى أمية. كان منافسا لجرير والفرزدق ، وأكثر فى هجائهما. انظر ديوان الأخطل ١ / ٣١٩.

وانظر طبقات الشعراء ص ١٠٧ وتمام بيت الأخطل.

فأصبحت مولاها من الناس كلهم

وأحرى قريش أن تهاب وتحمدا

(٧) ساقط من «أ».

(٨) قارن بالمغنى ٢٠ / ١٥٥ ، والتمهيد للباقلانى ص ١٧١ ، وشرح المواقف ـ الموقف السادس ص ٣٠٨ وما بعدها.

تحقيقنا.

١٥٣

وأما إطلاقه بمعنى الجار : فيدل عليه [قول] (١) معمر الكلابى (٢) / لما نزل جارا لكليب بن يربوع فأحسنوا جواره.

 / / جزى الله خيرا والجزاء بكفّه

كليب بن يربوع وزادهم حمدا

هم خلطونا بالنّفوس وألجموا

إلى نصر مولاهم مسوّمة جردا

وأراد به جارهم.

وأما إطلاقه بمعنى ابن العم : فيدل عليه قوله ـ تعالى ـ حكاية عن زكريا (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي) (٣) ، قيل معناه بنى عمى ، ومنه قول العباس بن فضيل بن (٤) عتبه فى بنى أمية :

مهلا بنى عمّنا مهلا موالينا

لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا

وأراد بقوله : «مهلا موالينا» : بنى عمنا.

وعند ذلك فإما أن يكون [لفظ] (٥) المولى ظاهرا بحكم الوضع الأول ، أو لا يكون كذلك.

فإن كان [الأول] (٦) : وجب الحكم عليه دون غيره عملا بظاهر اللفظ ؛ إذ هو الأصل.

وإن كان الثانى : فيجب الحمل عليه [أيضا] (٧) لوجهين :

__________________

(١) ساقط من أ.

(٢) معمر الكلابى : نسب إليه الآمدي هذين البيتين.

أما القاضى الباقلانى فقد نسبهما إلى مربع بن دعدعة وقد جاور كليب ابن يربوع فأحسنوا جواره : ومعنى إلى نصر مولاهم : إلى نصر جارهم

وكليب بن يربوع : إحدى فروع قبيلة تميم (انظر جمهرة الأنساب ٢١٤).

/ / أول ل ١٥٧ / أ.

(٣) سورة مريم : ١٩ / ٥.

(٤) هو : هاشمى الأبوين : جده أبو لهب : ولقب باللهبى نسبة إليه من شعراء بنى هاشم. (طبقات فحول الشعراء ١ / ٧٥). وقد ورد فى التمهيد ص ١٧١ بعد هذا

البيتين التاليين :

لا تحسبوا أن تهينونا ونكرمكم

وأن نكفّ الأذى عنكم وتؤذونا

الله يعلم أنا لا نحبكم

ولا نلومكم ألا تحبونا

(٥) ساقط من «أ».

(٦) ساقط من «أ».

(٧) ساقط من «أ».

١٥٤

الأول : أن اللفظ المتّحد إذا أطلق وله محامل وقد اقترن به ما يعيّن أحدها فيجب الحمل عليه نظرا إلى الترجيح ، والمذكور فى مبدأ الحديث وهو قوله : «أولى بكم» صالح لتفسير لفظ المولى وبيانه ، وهو محتاج إلى البيان فوجب الحمل عليه (١).

الثانى : أنه يتعذر حمل لفظ المولى فى الحديث على ما سوى الأولى فيتعين حمله على الأولى ضرورة العمل باللفظ ، وبيانه أنه يمتنع حمله على الناصر ؛ لأن ذلك معلوم من قوله تعالى : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ) (٢) على ما سبق ، ويمتنع حمله على المعتق [والمعتق] (٣) وعلى الجار وابن العم ؛ لكونه كذبا ؛ فإنه ليس كل من كان النبي معتقا له ، أو جارا [له] (٤) أو ابن عم له يكون على معتقا له ، وجارا وابن عم له ؛ فإن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ابن عم عقيل ، وهو أخ لعلى.

وإذا ثبت أن لفظ المولى فى الحديث بمعنى الأولى ، فقد اتفق المفسّرون على أن معنى قوله ـ عليه‌السلام : «ألست أولى بكم من أنفسكم» أنه أولى بتدبيرهم ، والتصرف فى أمورهم ، وأن نفاذ حكمه فيهم أولى من نفاذ حكمهم فى أنفسهم. ولأن ذلك هو المتبادر من إطلاق لفظ الأولى فى قوله : «ولد الميّت أولى بالميراث من غيره ، والسلطان أولى بإقامة الحدود من الرعية ، والزوج أولى بامرأته ، والمولى أولى بعبده» ، وإذا ثبت أن معنى المولى الأولى فى التصرف ؛ فحاصل الحديث يرجع إلى أن قوله : «من كنت مولاه فعلى مولاه» من كنت أولى بالتصرف فيه ؛ فعلى أولى بالتصرف فيه ؛ وذلك يدل على إمامته ؛ فإنه لا معنى للإمام إلّا هذا.

الثامن : قوله ـ عليه‌السلام ـ لعلى حين خرج إلى غزاة تبوك : «أنت منّى بمنزلة هارون من موسى إلّا أنه لا نبى بعدى» (٥) ووجه الكلام فى صحته كما تقدم فى الخبر الّذي قبله ، ووجه الاستدلال به (٦) ، أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ اخبر بأن منزلة

__________________

(١) قارن به المغنى ٢٠ / ١٤٥ ، وشرح المواقف ـ الموقف السادس ص ٣٠٩.

(٢) سورة التوبة ٩ / ٧١.

(٣) ساقط من أ.

(٤) ساقط من أ.

(٥) هذا الحديث متفق على صحته رواه البخارى ومسلم. انظر عنه ما مر فى هامش ل ٢٧١ / أ.

(٦) اهتم بهذا الحديث وذكره الكثير من علماء السنة منهم على سبيل التمثيل لا الحصر والجوينى فى الإرشاد ص ٢٣٨ والشهرستانى فى نهاية الأقدام ص ٤٩٤. والإيجى فى المواقف ص ٤٠٦ وابن تيمية فى منهاج السنة ٤ / ٨٧ وما بعدها. والرازى فى الأربعين ص ٤٥٠ ، ٤٥١. والجرجانى فى شرح المواقف ـ الموقف السادس ص ٣١٠.

١٥٥

على منه كمنزلة هارون من موسى ، وذلك يدل على أن جميع المنازل الثابتة لهارون بالنسبة إلى / موسى ، ثابتة لعلى بالنسبة إلى النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ ولفظة منزلة وإن لم يكن فيها صيغة عموم إلّا أن المراد بها التعميم.

وبيانه هو أن قوله منزلة (١) اسم جنس صالح لكل واحد من أحاد المنازل الخاصة ، وصالح للكل ، ولهذا يصح أن يقال : فلان له منزلة من فلان ومنزلته منه أنه قرابة له ، وأنه محبّه ، ونائبه فى جميع أموره ، وعند هذا فلو حملناه على بعض المنازل دون البعض فإما أن تكون معينة ، أو مبهمة.

والأول ممتنع ضرورة عدم دلالة اللفظ على التعيين. والثانى : أيضا ممتنع لما فيه من الإجمال ، وعدم الإفادة. فلم يبق غير الحمل على الجميع. ويدل عليه قوله «إلّا أنه لا نبى بعدى» ، استثنى هذه المنزلة دون باقى المنازل ، ولو لم يكن اللفظ محمولا على كل المنازل ؛ بل على الواحد منها ؛ لما حسن الاستثناء. وإذا ثبت التعميم ؛ فذلك يدل على ثبوت الإمامة لعلى كرّم الله وجه ، وبيانه من وجهين :

الأول : أن من جملة منازل هارون من موسى أنه كان خليفة له على قومه فى حال حياته ، بدليل قوله ـ تعالى إخبارا عن موسى (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي) (٢) والخلافة لا معنى لها غير القيام مقام المستخلف فيما كان له من التصرفات ، وإذا كان خليفة له فى حال حياته ؛ وجب أن يكون خليفة له بعد وفاته بتقدير بقائه ، وإلّا كان عزله موجبا لتنقيصه ، والنّفرة عنه / / وذلك غير جائز على الأنبياء.

وإذا كان ذلك ثابتا لهارون وجب أن يثبت مثله لعلىّ عليه‌السلام (٣).

الثانى : هو أنّ من جملة منازل هارون بالنسبة إلى موسى أنّه كان شريكا له فى الرسالة بدليل قوله تعالى : (اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٤٣) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) (٤) ومن لوازمه استحقاقه للطاعة بعد وفاة موسى أن لو بقى ، فوجب أن يكون ذلك لعلىّ ـ عليه

__________________

(١) ساقط من ب.

(٢) سورة الأعراف ٧ / ١٤٢.

/ / أول ل ١٥٧ / ب.

(٣) قارن بما ورد فى المغنى للقاضى عبد الجبار ٢٠ / ١ / ١٥٩ ، والأربعين للرازى ص ٤٥١ والمواقف للإيجي ص ٤٠٦ ، ومنهاج السنة لابن تيمية ٤ / ٨٧.

وشرح المواقف للرجانى ـ الموقف السادس ص ٣١٠

(٤) سورة طه ٢ / ٤٣ ، ٤٤.

١٥٦

السلام ـ غير أنه قام الدليل على امتناع كونه مشاركا للنبى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فى الرسالة ؛ ولهذا قال ـ عليه‌السلام : «إلّا أنه لا نبى بعدى» فوجب أن يبقى مفترض الطاعة على الأمة بتقدير بقائه بعد النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عملا بالدليل بأقصى الإمكان ، ولا معنى لكونه إماما إلّا هذا.

التاسع : قوله ـ عليه‌السلام ـ : «سلّموا على عليّ بإمرة المؤمنين» (١) وقوله ـ عليه‌السلام ـ [لعلى] (٢) : «أنت أخى ، ووصيى ، وخليفتى من بعدى ، وقاضى دينى ، ومنجز وعدى» (٣) أثبت كونه خليفة بعده ، ولا معنى للإمام إلّا هذا.

العاشر : أنه ـ عليه‌السلام ـ استخلف عليا على المدينة ، ولم يعزله عنها ؛ فوجب أن يبقى خليفة له بعد موته ـ عليها ويلزم من ذلك الخلافة فى جميع الأمور ضرورة أن لا قائل بالفرق (٤).

والجواب : قولهم : لا نسلم أن وقوع ذلك بمشهد من الجمع الكثير مما يوجب اشتهاره مدفوع بما ذكرناه.

وأما الإقامة فإنه إذا كانت / من عظائم الأمور ، وأنها وقعت بمشهد من المشهد الكثير ، غير أن الاختلاف فى روايتها مثنى ، وفرادى إنّما كان لاختلاف المؤذنين فى عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلعلّ منهم من كان يقيم مثنى ، ومن كان يقيم فرادى ، ونقل كل واحد ما رآه وسمعه ، وكان منشأ الاختلاف بين الأئمة فى ذلك.

وأما انشقاق القمر فمن أصحابنا من منع وقوعه ، وتأوّل قوله تعالى (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) (٥) على معنى سينشق (٦) ، وبتقدير وقوعه ، فلعله وقع لا بمشهد جماعة يحصل العلم بخبرهم

__________________

(١) وقد نقد ابن تيمية هذا الحديث وقال عنه إنه موضوع فى منهاج السنة ٤ / ١٠٣ فقال : «وكل من له أدنى معرفة بالحديث يعلم أن هذا كذب موضوع لم يروه أحد من أهل العلم بالحديث فى كتاب يعتمد عليه ، لا الصحاح ، ولا السنن ، والمسانيد المقبولة».

(٢) ساقط من «أ».

(٣) سبق تخريجه فى هامش ل ٢٧٠ / أ.

(٤) قارن بما ورد فى المغنى للقاضى عبد الجبار ٢٠ / ١ / ١٨١ ، والأربعين للرازى ص ٤٥١ ومنهاج السنة لابن تيمية ٤ / ٩١.

(٥) سورة القمر ٥٤ / ١.

(٦) انظر تفسير الإمام الرازى ٢٩ / ٢٩. قال رحمه‌الله : «القمر انشق والمفسرون بأسرهم على أن المراد : أن القمر انشق ، وحصل فيه الانشقاق ودلت الأخبار على حديث الانشقاق ، وفى الصحيح خبر مشهور رواه جمع من الصحابة ، وقالوا : سأل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ آية الانشقاق بعينها معجزة. فسأل ربه فشقه ومضى».

ثم نقل رأى بعض المخالفين الذين نقل عنهم الآمدي. فقال : «وقال بعض المفسرين المراد سينشق. وهو بعيد ولا معنى له».

١٥٧

وهو الأظهر ؛ لأن ذلك كان ليلا ، وأكثر الناس نيام ، ومحجوبون عن رؤيته بجدران بيوتهم.

وأما فتح مكة : عنوة ، أو صلحا : فإنما لم ينتشر ويتواتر إلينا ، وإن وقع ذلك بمشهد من الخلق الكثير ؛ لعدم الفائدة فى نقله ، بخلاف الإمامة ؛ لأن جميع مصالح الدين ، والدنيا متعلقة بها.

وأما البسملة : فلا نسلم أنها آية من أول كل سورة على قول الشافعى رضي الله عنه وهو اختيار القاضى أبى بكر من أصحابنا (١).

قولهم : متى يلزم الانتشار إذا وجد الداعى إلى الكتمان ، أم لا.

قلنا : الفرض أن التنصيص وقع بمشهد من جماعة لا يتصور عليهم التواطؤ على الخطأ ، فلو كتموه ـ وإن كان ذلك لنفع ، أو دفع ضرر ، أو لحسد ـ فيكون خطأ ؛ وهو ممتنع مخالف للفرض (٢).

قولهم : يحتمل اطلاعهم على وجود ناسخ للنّصّ.

قلنا : لو وجد النّص وكان له ناسخ فالعادة تحيل أيضا عدم نقله ، ولم ينقل أحد من الصحابة ذلك.

وقوله تعالى : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) (٣) يجب حمله على جماعة يتصور تواطئهم على الخطأ ؛ والفرض فيما نحن فيه بخلافة (٤).

قولهم : إن قوم موسى ـ عليه‌السلام ـ ضلّوا بعبادتهم العجل مع علمهم أن العجل لا يكون إلها.

قلنا : وإن سلمنا أنهم ضلّوا بذلك مع كونهم جمعا كبيرا ، غير أنا لا نسلّم أنهم كانوا عالمين بامتناع حلول الإله ـ تعالى ـ فى غيره ، ولعلهم لم ينظروا فى الأدلة المحيلة

__________________

(١) انظر تفسير الفخر الرازى ١ / ٢٠٠.

(٢) قارن به : المغنى للقاضى عبد الجبار ٢٠ / ١ / ١١٩ وما بعدها ، والإرشاد للجوينى ص ٢٣٧ والأربعين للرازى ص ٤٥٩.

(٣) سورة النمل ٢٧ / ١٤.

(٤) راجع الأربعين فى أصول الدين للرازى ص ٤٥٩.

١٥٨

لذلك ، ويجب اعتقاد ذلك حتى لا يكون الجمع الكثير متفقين على فعل ما يعتقدون بطلانه ؛ إذ هو خلاف العادة ، بخلاف اتفاقهم على ما يعتقدون بطلانه ، وهذا خلاف ما نحن فيه ؛ فإنه ما من أحد من الصحابة إلّا ويعتقد تحريم كتمان نصوص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فى آحاد المسائل الفروعية ، فما ظنك بذلك فى العظائم (١).

وإن سلمنا اعتقادهم لبطلان ذلك ؛ ولكن لا نسلم عدم النكير عليهم من هارون ، وأتباعه بخلاف ما نحن فيه ؛ فإنه لم ينقل عن أحد من الصّحابة نقل النّص.

قولهم : إن الإمام يجب أن يكون معصوما. لا نسلم بذلك على ما يأتى (٢) ، وبتقدير أن يكون معصوما فلا مانع من التّنصيص على عصمته ، وتفويض نصبه إماما إلى اختيارنا.

قولهم : يجب أن يكون أفضل من رعيته وعالما بجميع أمور الدين ، وأحكام / / الشرع. لا نسلم ذلك على ما يأتى / أيضا وبتقدير التسليم ، فيجب ذلك طاهرا ، أو فى نفس الأمر؟ الأول : مسلم. غير أن معرفة ذلك لا تتوقف على التنصيص بدليل نصب القضاة والأمناء. والثانى : ممنوع. وهو الجواب عن قولهم شرطه أن لا يكون كافرا.

وإن سلمنا اشتراط إيمانه فى نفس الأمر ، غير أنا لا نسلم مع ذلك امتناع نصب الإمام بالاختيار ، وذلك ممكن بأن ينص الشارع على إيمان جماعة ، ويفوض تعيين الواحد منهم إلى اختيارنا.

قولهم : إن المختار لا يملك التّصرف فى أمور المسلمين ، فلا يملك تمليك غيره لذلك ؛ فهو باطل بولى المرأة ؛ فإنه لا يملك نكاحها لنفسه ، ويملك تمليك ذلك لغيره ، وكذلك الوكيل لا يملك التّصرف فى منافع العين الموكل فى بيعها ، وهبتها ، ويملك تمليك ذلك من غيره بالبيع ، والهبة (٣).

__________________

(١) قارن بما ورد فى التمهيد للباقلانى ص ١٦٥ وما بعدها. والمغنى للقاضى عبد الجبار ٢٠ / ١ / ١١٥ ، والإرشاد للجوينى ص ٢٣٧ ، والأربعين للرازى ص ٤٥٩.

(٢) انظر ما سيأتى فى ل ٢٨٥ / ب.

/ / أول ل ١٥٨ / أمن النسخة ب.

(٣) قارن بما ورد فى المغنى ٢٠ / ١ / ٢٧٦ وما بعدها.

١٥٩

قولهم : إن المختار لو أراد أن يجعل غيره نافذ الحكم على نفسه وحده ، أو على غيره وحده ؛ لما تمكن [من] (١) ذلك ، مسلم.

قولهم : فالتولية على نفسه وغيره أولى ، ليس كذلك. فإن جاز أن يكون الاختيار سببا للتولية العامة ، لحصول التمكن التام الّذي لا يبقى معه منازع ، بخلاف التولية الخاصة.

قولهم : لو ثبتت الإمامة بالاختيار ؛ لكان لمن أثبتها إزالته : كالتوكيل ؛ فهو تمثيل من غير دليل ، كيف وأن التوكيل حق للموكل ، فكان له إبطاله بخلاف نصب الإمام ، فإنه ينفذ بتقدير ثبوته بالاختيار يكون حقا على المختارين ، ولهذا فإنه لو اتفقت الأمة على عدم نصب الإمام مع القدرة عليه أثموا ، بخلاف الموكل ، ولا يلزم من ثبوت حق على المختار بإثباته ؛ جواز إبطاله (٢).

قولهم : إنّ نصب الإمام بالاختيار مما يفضى إلى وقوع الفتن والاختلاف.

قلنا : هذا الاحتمال ظاهر ، أو غير ظاهر؟

الأول : ممنوع ، بدليل العادة فى كل عصر عند موت إمام واختيار غيره.

والثانى : مسلم. غير أن ذلك ممّا لا يمنع من اعتبار الاختيار مع ظهور المصلحة فيه.

فإن قالوا : وقوع المفسدة مع الاختيار وإن كانت نادرة غير أنها مع التنصيص تكون أندر ؛ فكان التنصيص أولى من الاختيار.

فنقول : وإن كان التنصيص أبلغ فى دفع المفسدة من الاختيار ، فليس ذلك ممّا يمنع من صحة الاختيار (٣). ولهذا فإنه لو بعث الله ملكا خاطب الأمة بالتنصيص على الإمام ، مع تنصيص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسلب المخالفين له قدرتهم على المخالفة ؛ فإنه يكون أبلغ فى دفع المفسدة ، وما لزم من ذلك جواز الاكتفاء بما هو دونه من تنصيص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكذلك لا يلزم من كون التنصيص من النبي عليه‌السلام ـ أبلغ فى دفع المفسدة امتناع الاكتفاء بالاختيار.

__________________

(١) ساقط من «أ».

(٢) قارن بما ورد فى المغنى ٢٠ / ١ / ٣٠٥.

(٣) قارن بما ورد فى المغنى ٢٠ / ١ / ٦٤ وما بعدها.

١٦٠