شرح الأصول الخمسة

عبد الجبّار بن أحمد الهمداني الأسدآبادي

شرح الأصول الخمسة

المؤلف:

عبد الجبّار بن أحمد الهمداني الأسدآبادي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٧

ولا خلاف في هذا بين الشيخين إلا في هذه الصفات الأربع ، فإن عند أبي علي أنه يستحقها القديم تعالى لذاته ، وعند أبي هاشم يستحقها لما هو عليه في ذاته. وأما ما يجب له في كل حال فهو تلك الصفة الذاتية ، وهذه الصفات الأربع.

ما يستحيل عليه من الصفات :

وأما ما يستحيل عليه في كل وقت ، فهو ما يضاد هذه الصفات ، نحو كونه عاجزا جاهلا معدوما.

ما يستحقه في وقت دون وقت :

وأما ما يستحقه في وقت ومن وقت ، فنحو كونه مدركا فإن ذلك مشروط بوجود المدرك ، ونحو كونه مريدا وكارها ، فإن ذلك يستند إلى الإرادة والكراهة الحادثتين الموجودتين لا في محل.

وأما الكلام في أن من هذه صفته فلا بد من أن يكون واحدا ، فسنذكره في باب مفرد إن شاء الله تعالى ، وبه الثقة.

قسمة أخرى لصفات القديم :

وقد قسم صفات القديم تعالى في الكتاب قسمة أخرى فقال :

إن صفات القديم جل وعز إما أن تكون من باب ما يختص به على وجه لا يشاركه فيه غيره ، نحو كونه قديرا وغنيا إلا أن هذا لا يصح في المثال ، لأن المرجع بالقدم إلى استمرار الوجود ، والواحد منا يشارك القديم في الوجود ، وكونه غنيا ليس بصفة ، لأن المرجع به إلى نفي الحاجة عنه ، فالأولى أن يذكر في مسألة الصفة الذاتية التي يقع بها الخلاف والوفاق.

وإما أن تكون من باب ما يشاركه غيره في نفس الصفة ويخالفه في كيفية استحقاقه لها ، نحو كونه قادرا عالما حيا موجودا ،

فإن أحدنا يستحق هذه الصفات كالقديم سبحانه ، إلا أن القديم تعالى سبحانه يستحقها لما هو عليه في ذاته ، والواحد منا يستحقه لمعان محدثة.

وإما أن تكون من باب ما يشاركه غيره في نفس الصفة وفي جهة الاستحقاق ، نحو كونه مدركا ومريدا وكارها ، فإن القديم تعالى مدرك لكونه حيا بشرط وجود

٨١

المدرك ، وكذلك الواحد منا ، وكذلك فهو مريد وكاره بالإرادة والكراهية ، وكذلك الواحد منا. إلا أن الفرق بينهما هو أن القديم تعالى حي لذاته فلا يحتاج إلى حاسة ، ومريد وكاره بإرادة وكراهة موجودتين لا في محل ، والواحد منا مريد وكاره لمعنيين محدثين في قلبه. فعلى هذا يجري الكلام في هذا الفصل.

فصل والغرض به الكلام في العدل

اعلم أن العدل ، مصدر عدل يعدل عدلا ، كما أن الضرب ، مصدر ضرب يضرب ضربا ، والشتم ، مصدر شتم يشتم شتما.

وقد يذكر ويراد به الفعل ، ويذكر ويراد به الفاعل.

فإذا أريد به الفاعل فذلك على طريق المبالغة لأنه معدول به عما يجري على الفاعلين ، وهو كقولهم للضارب ضرب ، وللصائم صوم ، وللراضي رضى ، وللمفطر فطر ، إلى غير ذلك. وله حد إذا استعمل في الفعل ، وحد إذا استعمل في الفاعل ، أما حقيقته إذا استعمل في الفعل على ما قيل ، توفير حق الغير واستيفاء الحق منه. وقد قيل في حده ، كل فعل حسن يفعله الفاعل لينفع به الغير أو ليضره. إلا أن هذا يوجب أن يكون خلق العالم عدلا من الله تعالى ليتضمن هذا المعنى ، وليس كذلك ، بل خلق العالم من الله تعالى تفضل. فالصحيح ، الحد الأول ، لأن هذه اللفظة لا تكاد تدخل إلا فيما يتعلق بالحقوق ، وقولنا ليضره احتراز عن العقاب ، لأن ذلك من الله تعالى عدل وإن كان إضرارا بالغير.

وأما إذا استعمل في الفاعل ، فهو فاعل هذه الأمور. هذا في أصل اللغة.

العدل في اصطلاح المتكلمين :

وأما في الاصطلاح ، فإذا قيل : إنه تعالى عدل ، فالمراد به أن أفعاله كلها حسنة ، وأنه لا يفعل القبيح ولا يخل بما هو واجب عليه.

فإن قيل : كيف يصح قولكم إن أفعاله كلها حسنة مع أنه هو الفاعل لهذه الصور القبيحة المنكرة؟ والأصل في الجواب عنه ، أنا لا نعني أنه يحسن من جهة المرأى والمنظر حتى يستحيله كل واحد ، وإنما نريد أنه يحسن من جهة الحكمة ، وهذه الصور كلها حسنة من جهة الحكمة ، ولا يمتنع أن يكون الفعل حسنا من جهة المرأى والمنظر ، قبيحا من جهة الحكمة ، كما أنه يكون حسنا من جهة الحكمة ، قبيحا من

٨٢

جهة المرأى والمنظر ، ألا ترى أن أحدنا لو مشى مشية عرجاء في انقاذ محبوس فإن تلك المشية حسنة من جهة الجملة ، قبيحة من جهة الصورة. وبالعكس من هذا لو مشى مشية حسنة في سعاية بمسلم إلى السلطان الجائر ، فإنها قبيحة من جهة الحكمة ، حسنة من جهة المرأى والمنظر.

هذا هو الكلام في حقيقة العدل.

علوم العدل :

وأما علوم العدل ، فهو أن يعلم أن أفعال الله تعالى كلها حسنة ، وأنه لا يفعل القبيح ، ولا يخل بما هو واجب عليه ، وأنه لا يكذب في خبره ، ولا يجور في حكمه ، ولا يعذب أطفال المشركين بذنوب آبائهم ، ولا يظهر المعجزة على الكذابين ، ولا يكلف العباد ما لا يطيقون ولا يعلمون ، بل يقدرهم على ما كلفهم ، ويعلمهم صفة ما كلفهم ، ويدلهم على ذلك ، ويبين لهم ، ليهلك من هلك عن بينة ، ويحيى من حي عن بينة ، وأنه إذا كلف المكلف وأتى بما كلف على الوجه الذي كلف فإنه يثيبه لا محالة ، وأنه سبحانه إذا آلم وأسقم فإنما فعله لصلاحه ومنافعه ، وإلا كان مخلا بواجب ، وأن يعلم أنه تعالى أحسن نظرا بعباده منهم لأنفسهم ، وفيما يتعلق بالدين والتكليف ، ولا بد من هذا التقييد ، لأنه تعالى يعاقب العصاة ولو خيروا في ذلك لما اختاروا لأنفسهم العقوبة ، فلا يكون الله تعالى والحال هذه أحسن نظرا منهم لأنفسهم وكذلك فإنه ربما يبقى المرء وإن علم من حاله أنه لو اخترمه لاستحق بما سبق منه الثواب وكان من أهل الجنة ، ولو أبقاه لارتد وكفر وأبطل جميع ما اكتسبه من الآخر ، ومعلوم أنه لو يخير بين التبقية والاخترام لاختار الاخترام دون التبقية ، فكيف يكون الله تعالى أحسن نظرا لعباده منهم لأنفسهم والحال هذه ، فلا بد من التقييد الذي ذكرناه.

موقف البغداديين من إطلاق القول بأن الله أحسن نظرا للناس من أنفسهم :

فإن قيل : وهل أطلق أحد ذلك؟ قلنا : نعم. البغداديون من أصحابنا لما أوجبوا الأصلح على الله تعالى أطلقوا ، وقالوا : إنه تعالى أحسن نظرا لعباده منهم لأنفسهم ، وذلك عندنا باطل بما ذكرناه.

ومن علوم العدل أن نعلم أن جميع ما بنا من النعم فمن الله تعالى ، سواء كان من جهة الله تعالى أو جهة غيره ، ودخوله في العدل أنه تعالى كلفنا الشكر على جميع

٨٣

ما بنا من النعم ، فلو لا أنها من فعله وإلا كان لا يكلفنا أن نشكره عليها أجمع ، لأن لك يكون قبيحا.

فصل والغرض به الكلام في الوعد والوعيد

وجملة ما يجب بيانه في هذا الفصل حقيقة الوعد والوعيد ، والخلف والكذب ، وما يتصل بذلك من علوم هذا الباب.

أما الوعد ، فهو كل خبر يتضمن إيصال نفع إلى الغير أو دفع ضرر عنه في المستقبل. ولا فرق بين أن يكون حسنا مستحقا ، وبين أن لا يكون كذلك. ألا ترى أنه كما يقال إنه تعالى وعد المطيعين بالثواب ، فقد يقال وعدهم بالتفضيل مع أنه غير مستحق.

وكذلك يقال : فلان وعد فلانا بضيافة في وقت يتضيق عليه الصلاة مع أنه يكون قبيحا ، وهكذا يقال إن أحدنا وعد غيره بتمليكه جميع ما يملكه حتى إنه يفقر نفسه مع أنه يكون قبيحا ، لقوله تعالى : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) [الإسراء : ٢٩].

وأما الوعيد ، فهو كل خبر يتضمن إيصال ضرر إلى الغير أو تفويت نفع عنه في المستقبل ، ولا فرق بين أن يكون حسنا مستحقا ، وبين أن لا يكون كذلك ، ألا ترى أنه كما يقال : إن الله تعالى توعد العصاة بالعقاب ، قد يقال توعد السلطان الغير بإتلاف نفسه وهتك حرمه ونهب أمواله ، مع أنه لا يستحق ولا يحسن.

ولا بد من اعتبار الاستقبال في الحدين جميعا ، لأنه إن نفعه في الحال أو ضره مع القول ، لم يكن واعدا ولا متوعدا.

وأما الكذب ، فهو كل خبر لو كان له مخبر لكان مخبره لا على ما هو به. وقولنا لو كان له مخبر ، هو أن في الأخبار ما لا مخبر له أصلا ، كالخبر بأن لا ثاني مع الله تعالى ولا بقاء ، وغير ذلك.

وأما الحلف فهو أن يخبر أنه يفعل فعلا في المستقبل ثم لا يفعله ، ثم إن الحلف ربما يكون كذبا بأن يخبر عن نفس الفعل ثم لا يفعله ، وربما لا يكون كذبا بأن يخبر عن عزمه على الفعل ثم لا يفعله. ولهذا فإنه لما استحال العزم على الله تعالى ، لم يكن الخلف في حقه إلا كذبا تعالى الله عنه علوا كبيرا.

٨٤

علوم الوعد والوعيد :

وأما علوم الوعد والوعيد ، فهو أنه يعلم أن الله تعالى وعد المطيعين بالثواب وتوعد العصاة بالعقاب ، وأنه يفعل ما وعد به وتوعد عليه لا محالة ، ولا يجوز عليه الخلف والكذب.

المخالف في هذا الباب :

والمخالف في هذا الباب : إما أن يخالف في أصل الوعد والوعيد ، وقال : إن الله تعالى ما وعد ولا توعد ، وهذا على الحقيقة خلاف في نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنا نعلم من دينه ضرورة أنه وعد وتوعد ، أو يقول : إنه تعالى وعد وتوعد ولكن يجوز أن يخلف في وعيده ، فالكلام عليه أن يقال : إن الخلف في حق الله تعالى كذب لما تقدم ، والكذب قبيح ، والله تعالى لا يفعل القبيح لعلمه بقبحه ولغناه عنه ، وإلى هذا أشار بقوله : (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩)).

وبعد : فلو جاز الخلف في الوعيد لجاز في الوعد ، لأن الطريق في الموضعين واحدة ، فإن قال فرق بينهما ، لأن الخلف في الوعيد ، كرم ، وليس كذلك في الوعد. قلنا : ليس كذلك ، لأن الكرم من المحسنات ، والكذب قبيح بكل وجه ، فكيف تجعله كرما. أو يقول إن الله تعالى وعد وتوعد ، ولا يجوز عليه الخلف والكذب ، ولكن يجوز أن يكون في عمومات الوعيد شرط واستثناء لم يبينه الله تعالى. والكلام عليه ، أن يقال : إن الحكيم لا يجوز أن يخاطبنا بخطاب لا يريد به ظاهره ، ثم لا يبين مراده به ، لأن ذلك يجري مجرى الألغاز والتعمية ، وذلك لا يجوز على القديم تعالى.

وبعد : فلو جاز في عمومات الوعيد لجاز في عمومات الوعد ، بل في جميع الخطاب من الأوامر والنواهي ، والمعلوم خلافه. فإن قيل : فرق بينهما ، لأنا أمرنا بموجبات الأمر والنهي وعلينا في ذلك التكليف ، وليس كذلك في عمومات الوعيد لأنه لا يتعلق بالتكليف ، قلنا لهم : إن علينا في عمومات الوعيد تكليفا كما في غيره من الأوامر والنواهي ، ألا ترى أنا قد أمرنا أن نعتقد مخبراتها ولا نعتقد خلافها ، فلو كان فيها شرط أو استثناء لم يبينه الله تعالى جرى مجرى الإلغاز والتعمية على ما مر ، فهذه هي طريقة القول في هذا الفصل.

٨٥

فصل والغرض به الكلام في المنزلة بين المنزلتين

والأصل في ذلك ، أن هذه العبارة إنما تستعمل في شيء بين شيئين ينجذب إلى كل واحد منهما بشبهة ، هذا في أصل اللغة.

وأما في اصطلاح المتكلمين ، فهو العلم بأن لصاحب الكبيرة اسم بين الاسمين ، وحكم بين الحكمين ، على ما يجيء من بعد.

وهذه المسألة تلقب بمسألة الأسماء والأحكام ، وقد اختلف الناس فيها.

فذهب الخوارج إلى أن صاحب الكبيرة كافر ، وذهبت المرجئة إلى أنه مؤمن ، وذهب الحسن البصري إلى أنه ليس بمؤمن ولا كافر وإنما يكون منافقا ، وإلى هذا ذهب عمرو بن عبيد ، وكان من أصحابه. وذهب واصل بن عطاء إلى أن صاحب الكبيرة لا يكون مؤمنا ولا كافرا ولا منافقا بل يكون فاسقا ، وهذا المذهب أخذه عن أبي هاشم ، عبد الله بن محمد بن الحنفية ، وكان من أصحابه. وقد جرت بين واصل بن عطاء وبين عمرو بن عبيد مناظرة في هذا ، فرجع عمرو بن عبيد إلى مذهبه وترك حلقة الحسن واعتزل جانبا فسموه معتزليا وهذا أصل تلقيب أهل العدل بالمعتزلة.

سبب تسمية أهل العدل بالمعتزلة :

واعلم أن هذه مسألة شرعية لا مجال للعقل فيها لأنها كلام في مقادير الثواب والعقاب ، وهذا لا يعلم عقلا ، وإنما المعلوم عقلا أنه إذا كان الثواب أكثر من العقاب فإن العقاب مكفر في جنبه ، وإن كان أقل منه فإنه يكون محبطا في جنب ذلك العقاب ، وصار الحال في ذلك كالحال في الشاهد ، فإن أحدنا لو أخذ غيره من قارعة الطريق ورباه وخوله وموله ، ثم يكسر رأس قلم له ، فإن هذه الإساءة تقع مكفرة في جنب تلك النعم ، وبالعكس من هذا لو أحسن إليه بأن يعطيه دينارا واحدا ثم يقتل ولده ، فإن تلك النعمة تكون محبطة في جنب هذه الإساءة هذا هو الذي يعلم بالعقل.

فأما أن ثواب بعض الطاعات أكبر من ثواب البعض ، أو عقاب بعض المعاصي أعظم من بعض ، فإن ذلك مما لا مدخل للعقل فيه. بل لو خلينا وقضيه العقل ، لجوزنا أن يكون ثواب الإحسان إلى الغير بدرهم أعظم من ثواب الشهادتين ، وأن يكون عقاب شرب الخمر أعظم من عقاب استحلالها.

٨٦

فحصل من هذه الجملة أن هذه المسألة مما لا سبيل للعقل فيها ، وإنما هي مسألة شرعية على ما قلناه.

وتحصيل الكلام فيها ، هو أن نقول :

إن المكلف لا يخلو ، إما أن يكون من أهل الثواب ، أو يكون من أهل العقاب.

فإن كان من أهل الثواب ، فلا يخلو ، إما أن يكون مستحقا للثواب العظيم ، أو مستحقا لثواب غير ذلك. فإن استحق الثواب العظيم ، فلا يخلو ، إما أن يكون من البشر ، أو لم يكن. فإن لم يكن من البشر سمي ملكا ومقربا إلى غير ذلك من الأسماء ، وإن كان من البشر فإنه يسمى نبيا ورسولا ومصطفى ومختارا أو مبعوثا إلى غير ذلك. وإن استحق ثوابا دون ذلك ، فإنه يسمى مؤمنا برأ تقيا صالحا إلى ما أشبه ذلك.

وإن كان من أهل العقاب ، فلا يخلو ، إما أن يكون مستحقا للعقاب العظيم ، أو لعقاب دون ذلك. فإن استحق العقاب العظيم فإنه يسمى كافرا أو مشركا سواء كان ذلك من البشر أو لم يكن.

ثم أنواع الكفر تختلف ، فربما يكون تعطيلا ، وربما يكون تهودا ، أو تمجسا ، أو تنصرا ، إلى غير ذلك ، وإن استحق عقابا دون ذلك ، فإنه يسمى فاسقا ، فاجرا ، ملعونا ، إلى ما شكاله.

فحصل من هذه الجملة أن صاحب الكبيرة لا يسمى مؤمنا ، ولا كافرا ، ولا منافقا ، بل يسمى فاسقا. وكما لا يسمى باسم هؤلاء فإنه لا يجري عليه أحكام هؤلاء ، بل له اسم بين الاسمين ، وحكم بين الحكمين.

المخالف في هذا الباب :

والمخالف في هذا الباب ، لا يخلو ، إما أن يقول : إن صاحب الكبيرة منافق ، وذلك لا وجه له ، لأن النفاق اسم لمن يبطن الكفر ويظهر الإسلام وليس هذا حال صاحب الكبيرة ، أو يقول إنه كافر على ما تقوله الخوارج.

والكلام عليه ، أن نقول : ما تعني به؟ أتريد أن حكمه حكم الكافر حتى لا يناكح ولا يورث ولا يدفن في مقابر المسلمين ، أو تريد أنه يسمى كافرا وإن لم تجز عليه هذه

٨٧

الأحكام. فإن أردت به الأول ، فذلك ساقط ، لأنا نعلم ضرورة من دين الأمة أن صاحب الكبيرة لا تجري عليه هذه الأحكام ، فلا يمنع على المناكحة والموارثة والدفن وغيرها ، وإن أردت به الثاني ، فذلك لا يصح أيضا ، لأن الكفر صار بالشرع اسما لمن يستحق إجراء هذه الأحكام عليه ، فكيف يجوز إطلاقها على من لا يستحقها؟.

وإما أن يقول إن صاحب الكبيرة مؤمن على ما تقوله المرجئة. والكلام عليه أن نقول ما تريد به؟ أتريد به أن حكمه حكم المؤمن في المدح والتعظيم والموالاة في الله تعالى ، أم تريد أنه يسمى مؤمنا. فإن أردت به الأول ، فذلك لا يصح ، لأنه خرق إجماع مصرح ، فإنا نعلم من حال الصحابة وخاصة من حال علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، أنهم كانوا لا يعظمون صاحب الكبيرة ولا يوالونه في الله عزوجل بل يلعنونه ويستخفون به ، ولهذا فإن أمير المؤمنين عليه‌السلام كان يقول في قنوته : اللهم العن معاوية بن أبي سفيان ، وعمرو بن العاص ، وأبا الأعور السلمي ، وأبا موسى الأشعري. وإن أردت به الثاني. فذلك لا يصح أيضا لأن قولنا مؤمن في الشرع ، اسم لمن يستحق هذه الأحكام المخصوصة ، فكيف يجري على من لا يستحقها.

واعلم أن هذا المذهب مأخوذ عن أمير المؤمنين عليه‌السلام خاصة ، وعن الصحابة التابعين عامة ، ولهذا قال أبو حنيفة : لو لا سيرة أمير المؤمنين عليه‌السلام في أهل البغي ما كنا نعرف أحكامهم فعلى هذا يجب أن نقول في هذا الباب.

فصل والغرض به الكلام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

ونحن أولا نبين حقيقة الأمر ، والنهي ، والمعروف ، والمنكر.

أما الأمر ، فهو قول القائل لمن دونه في الرتبة افعل ، والنهي هو قول القائل لمن دونه لا تفعل.

وأما المعروف ، فهو كل فعل عرف فاعله حسنه أو دل عليه ، ولهذا لا يقال في أفعال القديم تعالى معروف ، لما لم يعرف حسنها ولا دل عليه.

وأما المنكر ، فهو كل فعل عرف فاعله قبحه أو دل عليه ، ولو وقع من الله تعالى القبيح لا يقال إنه منكر ، لما لم يعرف قبحه ولا دل عليه.

٨٨

الخلاف حول العلم بوجوب ذلك سمعا وعقلا :

وإذ قد عرفت هذه الجملة فاعلم : أنه لا خلاف في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وإنما الخلاف في أن ذلك هل يعلم عقلا أو لا يعلم إلا سمعا.

فذهب أبو علي إلى أنه يعلم عقلا وسمعا ، وذهب أبو هاشم إلى أنه إنما يعلم سمعا ، إلا في موضع واحد ، وهو أن يشاهد واحدا يظلم غيره فيلحق قلبك بذلك مضض وحرد ، فيلزمك النهي عنه دفعا لتلك المضرة عن النفس.

والذي يدل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من جهة السمع الكتاب ، والسنة ، والإجماع.

أما الكتاب فقوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [آل عمران : ١١٠] : فالله تعالى مدحنا على ذلك ، فلو لا أنها من الحسنات الواجبات وإلا لم يفعل ذلك.

وأما السنة ، فهو قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس لعين ترى الله يعصى فتطرف حتى تغير أو تنتقل».

وأما الاجماع ، فلا إشكال فيه لأنهم اتفقوا على ذلك.

شرائط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :

ثم إن للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شرائط يجب بوجودها ، ويسقط بزوالها.

أولها : هو أن يعلم أن المأمور به معروف ، وأن المنهي عنه منكر. لأنه لو لم يعلم ذلك لا يأمن أن يأمر بالمنكر وينهي عن المعروف ، وذلك مما لا يجوز ، وغلبة الظن في هذا الموضع لا تقوم مقام العلم.

ومنها : هو أن يعلم أن المنكر حاضر ، كأن يرى آلات الشرب مهيأة والملاهي حاضرة والمعازف جامعة ، وغلبة الظن تقوم مقام العلم هاهنا.

ومنها : هو أن يعلم أن ذلك لا يؤدي إلى مضرة أعظم منه ، فإنه لو علم أو غلب في ظنه أن نهيه عن شرب الخمر يؤدي إلى قتل جماعة من المسلمين أو إحراق محلة لم يجب ، وكما لا يجب لا يحسن.

٨٩

ومنها : هو أن يعلم أو يغلب في ظنه أن لقوله فيه تأثير ، حتى لو لم يعلم ذلك ولم يغلب على ظنه لم يجب. وفي أن ذلك هل يحسن إذا لم يجب كلام. فقال بعضهم إنه يحسن لأنه بمنزلة استدعاء الغير إلى الدين ، وقال الآخرون يقبح لأنه عبث.

ومنها : هو أن يعلم أو يغلب على ظنه أنه لا يؤدي إلى مضرة في ماله أو في نفسه إلا أنه يختلف بحسب اختلاف الأشخاص. فإن كان المرء بحيث لا يؤثر في حاله الشتم والضرب فإنه لا يكاد يسقط عنه ، وإن كان ممن يؤثر ذلك في حاله ويحط مرتبته فإنه لا يجب ، وفي أن ذلك هل يحسن ، ينظر ، فإن كان الرجل ممن يكون في تحمله لتلك المذلة إعزاز الدين حسن ، وإلا فلا. وعلى هذا يجمل ما كان من الحسين بن علي عليهما‌السلام ، لما كان في صبره على ما صبر إعزازا لدين الله عزوجل ، ولهذا نباهي به سائر الأمم ، فنقول : لم يبق من ولد الرسول صلى الله على وآله وسلم إلا سبط واحد ، فلم يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى قتل في ذلك.

إذا تأمن ذلك بالأسهل فلا يجب تجاوزه إلى الأصعب :

واعلم أن المقصود بالأمر بالمعروف إيقاع المعروف ، وبالنهي عن المنكر زوال المنكر ، فإذا ارتفع الغرض بالأمر السهل ، لم يجز العدول عنه إلى الأمر الصعب. وهذا مما يعلم عقلا وشرعا ، أما عقلا فلأن الواحد منا إذا أمكنه تحصيل الغرض بالأمر السهل لا يجوز العدول عنه إلى الأمر الصعب ، وأما الشرع فهو قوله تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) [الحجرات : ٩] فالله تعالى أمر بإصلاح ذات البين أولا ، ثم بعد ذلك بما يليه ، إلى أن انتهى إلى المقاتلة.

إذا فقدت هذه الشرائط فهل يجب عليه تكليف آخر في هذا الباب :

ثم إنه رحمه‌الله سأل نفسه فقال : إن المكلف إذا لم يجب عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لفقد هذه الشرائط فهل يبقى عليه تكليف آخر في هذا الباب أم لا؟. وأجاب عنه : بأن ينظر في حاله ، فإن كان عفيفا مستورا بحيث لا يظن أنه راض بما يجري فلا شيء عليه ، وإن كان ممن نظن به الرضى بذلك فإنه يجب عليه إظهار الكراهة دفعا للتهمة ، ولأن فيه لطفا ومصلحة.

٩٠

المنكرات على قسمين :

ثم ذكر رحمه‌الله أن المناكير على قسمين : أحدهما ما يختص به والآخر ما يتعداه. أما ما يختص به ، فعلى قسمين أيضا.

أحدهما : يقع به الاعتداد.

والثاني : لا يقع به الاعتداد. أما ما لا يقع به الاعتداد ، فهو كأن يكون أحدنا في المال بمنزلة قارون ثم يغصب منه درهم واحد فإنه مما لا يجب النهي عنه عقلا ويجب شرعا. وأما ما يقع به الاعتداد ، فهو كأن يكون أحدنا فقيرا معسرا لا يكون له إلا درهم واحد ثم يغصب منه ذلك الدرهم ، فإنه يجب النهي عنه عقلا وشرعا ، هذا إذا كان مما يختص به.

وأما ما يتعداه ، فإنه يجب النهي عنه عقلا وشرعا عند أبي علي ، وعند أبي هاشم يجب شرعا ولا يجب عقلا إلا في موضع واحد على ما تقدم.

قسمة أخرى للمناكير :

ثم إنه رحمه‌الله قسم المناكير أيضا قسمين :

أحدهما : يتغير حاله بالإكراه ، وهو الذي يكون ضرره عائدا عليه فقط.

والثاني : لا يتغير حاله بالإكراه وهو الذي يتعدى ضرره إلى الغير.

أما ما يتغير حاله بالإكراه ، نحو أكل الميتة وشرب الخمر ، والتلفظ بكلمة الكفر ، فإن ذلك يجوز عند الإكراه ، إلا كلمة الكفر فإنه لا يجوز له أن يعتقد مضمونه بل يجب أن ينوي ، أنك أنت الذي تكرهني على قولي : الله ثالث ثلاثة مثلا.

وأما ما لا يتغير حاله بالإكراه ، فكقتل المسلم والقذف ، فذلك لا يجوز ، اللهم إلا أن يكون في المال فحينئذ يجوز إتلاف مال الغير بشرط الضمان.

إذا سقط الوجوب فهل يبقى الحسن :

ثم إنه رحمه‌الله سأل نفسه فقال : إذا سقط عن المكلف وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهل يبقى الحسن أو لا؟ وأجاب عنه : بأنه ينظر في ذلك.

فإن سقط عنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لفقد الشرط الأول ، وهو العلم بأن ذلك منكر أو معروف ، فلا يجب النهي عنه ، وكما لا يجب لا يحسن ، لأنه لا

٩١

يأمن أن يأمر بالمنكر وينهي عن المعروف.

وإن سقط عنه هذا التكليف لفقد الشرط الثاني ، وهو العلم بحضور المنكر ، فلا يجب ، وكما لا يجب لا يحسن.

وإن سقط عنه لفقد الشرط الثالث ، وهو العلم بأن ذلك يؤدي إلى مضرة أعظم منه كقتل جماعة من المسلمين أو إحراق محلة من محالهم ، فإنه كما يسقط عنه الوجوب لا يثبت الحسن أيضا.

وإذا سقط عنه ذلك لفقد الشرط الرابع ، وهو العلم بأن لقوله فيه تأثيرا ، فإن ذلك مما قد اختلفوا فيه ، فقال بعضهم إنه يحسن ، لأنه بمنزلة استدعاء الغير إلى الإسلام ، وقال الآخرون إنه يكون عبثا قبيحا.

وإذا سقط ذلك عنه لفقد الشرط الخامس ، وهو العلم بأن ذلك يؤدي إلى مضرة في نفسه أو ماله ، فالكلام فيه ما ذكرناه من قبل.

المعروف على قسمين :

ثم قال رحمه‌الله : إن المعروف على قسمين :

أحدهما : واجب ، والآخر : ليس بواجب.

فالأمر بالواجب واجب ، وبالنافلة نافلة. وهذا إنما أخذ عن أبي علي ، لأن المشايخ من السلف أطلقوا القول في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، إلى أن جاء شيخنا أبو علي ، وقسم المعروف إلى هذين القسمين ، وجعل الأمر بالواجب واجبا ، وبالنافلة نافلة ، وهو الصحيح ، لأن حال الأمر لا يزيد في الوجوب والحسن على حال المأمور به. هذا في المعروف.

المنكر كله في باب واحد في أنه يجب النهي عنه :

وأما المنكر ، فكله من باب واحد في أنه يجب النهي عن جميعه عند استكمال الشرائط. وليس لقائل أن يقول إن من المناكير ما يكون صغيرة ، فكيف يلزم النهي عنها ، لأنه ما من صغيرة إلا ويجوزها كبيرة.

وبعد فإن النهي عن المنكر إنما وجب لصحته ، والقبح ثابت في الصغيرة شأنه في الكبيرة.

٩٢

فإن قيل : كيف يمكنكم القول أن المناكير كلها من باب واحد وقد علمنا أن في المناكير ما للاجتهاد فيه مجال ، ومنها ما ليس كذلك.

والأصل في الجواب عن ذلك ، أن الاجتهاد إنما يدخل في أن ذلك الشيء منكر أم لا ، فأما إذا ثبت كونه منكرا فلا مجال للاجتهاد في وجوب النهي عنه.

واعلم أن المناكير على ضربين : عقلية وشرعية :

فالعقليات منها ، نحو الظلم والكذب وما يجري مجراها ، والنهي عنها كلها واجب ، لا يختلف الحال فيه بحسب اختلاف المقدم عليه بعد التكليف.

والشرعيات على ضربين : أحدهما ، ما للاجتهاد فيه مجال ، والآخر لا مجال للاجتهاد فيه. أما ما لا مجال للاجتهاد في كونه منكرا كالسرقة والزنا وشرب الخمر وما يجري هذا المجرى ، والنهي عن كل ذلك واجب ولا يختلف الحال فيه بحسب اختلاف المقدم عليه. وأما ما للاجتهاد فيه مجال ، فكشرب المثلث فإنه منكر عند بعض العلماء وغير منكر عند البعض ، وما هذا سبيله ينظر في حال المقدم عليه ، فإن كان عنده أنه حلال جائز لم يجب النهي عنه ، وإن كان عنده أنه مما لا يحل ولا يجوز وجب النهي عنه. فعلى هذا ، لو رأى واحد من الشافعية حنيفا يشرب المثلث فإنه ليس له أن ينكر عليه وينهاه ، وبالعكس من هذا لو رأى حنفي شفعويا يشرب المثلث ، فإنه يلزم نهيه والانكار عليه. وعلى الجملة ، فما هذا حاله لا يخرج عن كونه منكرا وإن اختلف بحسب اختلاف المقدمين عليه.

كيف يقال بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفي الناس من لم يقل بوجوبه إلا مع إمام

ثم إنه رحمه‌الله سأل نفسه فقال : كيف يمكنكم أن تقولوا بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وفي الناس من ذهب إلى أنه لا يجب إلا إذا كان هناك إمام مفترض الطاعة؟ والأصل في الجواب عن ذلك ، أن المخالف فيه لا يخلو ، إما أن يقول : إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يجب لا قولا ولا فعلا إلا عند وجود الإمام المفترض الطاعة ، أو يقول : إنه إنما لا يجب فعلا ولكن يجب قولا ، وكلا القولين فاسد لأن الدلالة التي دلت على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الكتاب والسنة والإجماع لم تفصل بين أن يكون هناك إمام وبين أن لا يكون.

٩٣

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضربان :

واعلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ضربين : أحدهما ما لا يقوم به إلا الأئمة ، والثاني ما يقوم به كافة الناس.

أما ما لا يقوم به إلا الأئمة ، فذلك كإقامة الحدود ، وحفظ بيضة الإسلام ، وسد الثغور ، وتنفيذ الجيوش ، وتولية القضاة والأمراء ، وما أشبه ذلك.

وأما ما يقوم به غيرهم من أفناء الناس ، فهو كشرب الخمر ، والسرقة والزنا ، وما أشبه ذلك ، ولكن إذا كان هناك إمام مفترض الطاعة فالرجوع إليه أولى.

واعلم أن المقصود في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، هو أن لا يضيع المعروف ولا يقع المنكر. فإذا ارتفع هذا الفرض ببعض المكلفين سقط عن الباقين ، فلهذا قلنا : إنه من فروض الكفايات ، فعلى هذه الطريقة يجري الكلام في ذلك.

٩٤

الأصل الأول

التوحيد

٩٥
٩٦

الكلام في الصفات

فصل

والغرض به الكلام في أن الله تعالى قادر

اعلم ، أن أول ما يعرف استدلالا من صفات القديم جل وعز إنما هو كونه قادرا ، وما عداه من الصفات يترتب عليه. لأن الدلالة التي دلت على أنه تعالى هو المحدث للعالم ، دلت على هذه الصفة التي هي كونه تعالى قادرا من غير واسطة. وليست كذلك باقي الصفات ، لأنا نحتاج فيها إلى واسطة أو واسطتين أو وسائط ، فلهذا قدمنا الكلام فيه.

وتحرير الدلالة على ذلك ، هو أنه تعالى قد صح منه الفعل ، وصحة الفعل تدل على كونه قادرا.

فإن قيل : الدلالة هي صحة الفعل أو وقوعه ، قلنا : بل الدلالة هي صحة الفعل ، لأنه لو وقع لا على طريق الصحة بل على طريق الوجوب ، لم يدل على كونه قادرا. وهذه الدلالة مبنية على أصلين ، أحدهما ، أنه تعالى قد صح منه الفعل ، والثاني ، أن صحة الفعل تدل على كونه قادرا.

أما الذي يدل على أنه تعالى قد صح منه الفعل ، فهو أنه وقع منه الفعل ، وهو أجسام العالم وكثير من الأعراض ، ولو لم يصح لم يقع ، إذ الوقوع أمر زائد على الصحة.

وأما الذي يدل على أن صحة الفعل دلالة على كونه قادرا ، فهو أن نرى في الشاهد جملتين ، إحداهما ، صح منه الفعل كالواحد منا ، والأخرى تعذر عليه الفعل ، كالمريض المدنف. فمن صح منه الفعل فارق من تعذر عليه بأمر من الأمور ، وليس ذلك إلا صفة ترجع إلى الجملة وهي كونه قادرا. وهذا الحكم ثابت في الحكيم تعالى ، فيجب أن يكون قادرا لأن طريق الأدلة لا تختلف شاهدا غائبا.

شبهات وردود

فإن قيل : قد وجدتم كثيرا من المفارقات ولا تعللونه ، فهلا ألحقتم هذه المسألة

٩٧

بها؟ قلنا : الأصل في المفارقات أن تعرض على وجوه التعليل ، فإن قبلت التعليل تعلل ، وإن لم تقبل لم تعلل. وهذه المفارقة قد عرضناها على التعليل وقبلت ، فعللناها ، على أن هاهنا طريقة ملجئة إلى التعليل ، لأن هذين الحيين إذا صح من أحدهما الفعل وتعذر على الآخر مع استوائهما في باقي الصفات ، فلا بد من أن يكون هناك أمر له ولمكانه صح من أحدهما الفعل وتعذر على صاحبه ، وإلا لم يكن هو بصحة الفعل أولى منه بالتعذر ، ولا صاحبه بالتعذر أولى منه بالصحة ، وليس ذلك الأمر إلا صفة راجعة إلى الجملة وكونه قادرا.

فإن قال : قد وجدتم كثيرا من المفارقات التي لا تعلل بأمر راجع إلى الجملة نحو مفارقة المتحرك للساكن ، والأبيض للأسود ، فهلا ألحقتم هذه المسألة بذلك ، فكيف عللتموها بأمر راجع إلى الجملة؟ قلنا : إن صحة الفعل حكم صدر عن الجملة ، فكان ينبغي في المؤثر فيه أن يكون راجعا إلى الجملة. وليس كذلك كونه متحركا ، لأنه حكم راجع إلى الأجزاء والأبعاض ، فكان المؤثر فيه راجعا إلى الأجزاء والأبعاض.

يبين ذلك ، أن هذا الحكم لو لم يصدر عن الجملة وكان راجعا إلى كل جزء ، لوجب في الجملة أن تكون بمنزلة أحياء قادرين ضم بعضهم إلى بعض ، فكان يجب أن لا يحصل منها الفعل بداع واحد ، بل كان يجب إذا دعا أحدهم الداعي إلى إيجاد الفعل ، أو صرف الآخر عنه الصارف ، أن يوجد وأن لا يوجد دفعة واحدة ، وذلك محال. ولوجب في كل جزء أن يأتي الفعل إذا ابتدأ ، حتى يصح الفعل بشحمة الأذن ابتداء ، والمعلوم خلافه. وليس لقائل أن يقول إنما لم يصح ذلك لفقد المفصل ، لما نبينه من بعد إن شاء الله تعالى.

فإن قيل : ما أنكرتم أن هذه المفارقة معللة بالطبع؟ قلنا : أول ما في هذا ، أن الطبع غير معقول لما بينا.

وبعد ، فإنه لا يخلو ، إما أن يريد به أمرا راجعا إلى الجملة ، أو أمرا راجعا ولا ثالث. فإن البعض أراد به الأول فهو الذي نقوله ، وإن أراد به الثاني فقد أبطلناه ، وبهذه الطريقة أبطلنا قول الكلابية ، إن الفعل إنما يصح ويحصل بالقدرة لا بالقادر.

فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : إن صحة الفعل منا هو لزوال المنع في حقنا ، وتعذره على المريض المدنف هو لحصول المنع في حقه؟

قلنا : صحة الفعل حكم ثابت ، وزوال المنع يرجع إلى النفي ، ولا يجوز أن يعلل

٩٨

الثابت بالمنفي.

وبعد فإن المنع إذا لم يكن بطريقة القيد والجنس ، كان بالضد أو ما يجري مجرى الضد ، فكان يجب كما تعذر على المريض المدنف تحريك نفسه أو المشي لمكان ذلك المنع الذي هو الضد ، أن يتعذر علينا أيضا تحريكه ، لأن حال الضد معه كحاله معنا ، والمعلوم خلاف ذلك. فيجب القضاء بأن هذه المفارقة معللة بأمر راجع إلى الجملة ، وهو الذي عبرنا عنه بكونه قادرا.

فإن قيل : نقلب هذه المسألة عليكم ، فنقول : إن من تعذر عليه الفعل إنما تعذر عليه لأمر ، والذي صح منه إنما صح لزوال ذلك الأمر ، قلنا : صحة الفعل حكم ثابت ، فلا يجوز أن يعلل بما يرجع إلى النفي.

وبعد فلو كان كذلك لوجب في كل من زال عنه ذلك الأمر أن يصح منه ذلك الفعل بعينه ، وهذا يقتضي كون المقدور الواحد من قادرين ، وذلك محال.

فإن قيل : ما أنكرتم أن المريض المدنف إنما تعذر عليه الفعل لرطوبات فاضلة ومواد انصبت إلى آلتي بطشه ومشيه؟ قلنا : إنما نفرض الكلام في مريض غلبت عليه اليبوسة وذبل ذبولا لا إلى حد ، فسقط ما أوردتموه.

فإن قيل : ما أنكرتم أن من صح الفعل منه إنما صح لأنه صحيح ، ومن تعذر عليه إنما تعذر لأنه مريض؟ قلنا : ما تعنون بالصحة؟ فإن أردتم صفة ترجع إلى الجملة لها ولمكانها صح الفعل ، فلا خلاف بيننا وبينكم إلا في العبارة ، وإن أردتم به التأليف المخصوص فذلك لا يجوز ، لأن التأليف حكم يرجع إلى الأجزاء والأبعاض ، وقد ذكرنا أن صحة الفعل حكم صدر عن الجملة ، فالمؤثر فيه ينبغي أن يكون راجعا إلى الجملة.

فإن قيل : إنا نعني بالصحة اعتدال المزاج ، قلنا : وما تعنون باعتدال المزاج؟ فإن أردتم به صفة ترجع إلى الجملة فهو الذي نقوله ، وإن أردتم به اعتدال هذه الطبائع الأربع ، التي هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة على ما يقوله الأطباء ، فذلك فاسد ، لأنها علل متضادة ، والعلل الكثيرة المتضادة لا تجتمع على إيجاد حكم واحد ، فعلى هذا يجب أن تترتب هذه الجملة.

٩٩

ما يلزم المكلف معرفته في هذا الباب

ثم إنه رحمه‌الله أورد في آخر الفصل ما يلزم المكلف معرفته في هذا الباب.

والأصل في ذلك ، أن تعلم أنه تعالى كان قادرا فيما لم يزل ، ويكون قادرا فيما لا يزال ، ولا يجوز خروجه عنها لضعف أو عجز ، وأنه قادر على جميع أجناس المقدورات ، ومن كل جنس على ما لا يتناهى ، وأنه لا ينحصر مقدوره لا في الجنس ولا في العدد.

الذي يدل على أنه تعالى كان قادرا فيما لم يزل

وأما الذي يدل على أنه تعالى كان قادرا فيما لم يزل ، فهو أنه لو لم يكن قادرا فيما لم يزل ، ثم حصل قادرا بعد أن لم يكن ، لوجب أن يكون قادرا بقدرة محدثه متجددة ، وسنبين فساده إن شاء الله تعالى.

فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون الحال في كونه قادرا كالحال في كونه مدركا ، فكما أنه حصل مدركا بعد أن لم يكن ، ولا يجب أن يكون مدركا بإدراك محدث ، كذلك في مسألتنا. قلنا : فرق بين الموضعين ، لأن كونه مدركا يجب لكونه حيا بشرط متجدد وهو وجود المدرك ، وليس كذلك كونه قادرا ، فإنه غير مشروط بشرط متجدد ، إذ الشرط فيه ليس إلا عدم المقدور ، وذلك مما لا يتجدد.

وأما الذي يدل على أنه تعالى يكون قادرا فيما لا يزال ، فهو أنه يستحق هذه الصفة لنفسه ، والموصوف بصفة من صفات النفس ، لا يجوز خروجه عنها بحال من الأحوال.

وأما الذي يدل على أنه عزوجل قادر على سائر أجناس المقدورات ، فهو أن أجناس المقدورات لا تخلو ، إما أن تدخل تحت مقدورنا ، أو لا تدخل تحت مقدورنا. فإن لم تدخل تحت مقدورنا وجب أن يختص القديم تعالى بها وإلا خرجت عن كونها مقدورة ، وإن دخلت تحت مقدورنا فالله تعالى بأن يكون قادرا عليها أولى ، لأن حاله في القدرة على الأجناس إن لم يزد على حالنا لم ينقص عنه.

وبعد ، فإن الذي يحصر المقدورات في الجنس والعدد إنما هو القدرة ، والله تعالى يستحق هذه الصفة لذاته ، فيجب أن لا تنحصر مقدوراته ، فعلى هذا يجب أن تعلم هذا الفصل.

١٠٠