شرح الأصول الخمسة

عبد الجبّار بن أحمد الهمداني الأسدآبادي

شرح الأصول الخمسة

المؤلف:

عبد الجبّار بن أحمد الهمداني الأسدآبادي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٧

لا يجوز أن يكون تأثيره في نفس الصفة لما قد تقدم أن هذه الصفة لا تتعلق بالفاعل ، وإن كان تأثيره فيما يؤثر فيه ، فذلك المؤثر لا يجوز أن يكون معدوما ، لأن الأعدام لا يتعلق بالفاعل ، فيجب أن يكون موجودا على ما نقوله.

وبعد ، فلو كان الجسم مجتمعا لعدم الافتراق ، ومفترقا لعدم الاجتماع ، لوجب إذا عدم المعينان على الجسم ، أن يكون مفترقا مجتمعا دفعة واحدة ، وهذا محال.

فإن قيل : نحن لا نقول بعدم المعنيين عن الجسم ، بل نقول بوجود أحدهما وعدم الآخر ، قلنا : إنك قد أقررت بإثبات الأعراض فكفينا مئونة المناظرة على أن نريك عدم المعنيين عن الجسم ، فنقول : إن زيدا لو جمع بين الجسمين فقد عدم عنه الافتراق ، وعمرا إذا فرق بينهم فقد عدم عنه الاجتماع ، ففي الحالة الثالثة يجب أن يكون الجسم مجتمعا مفترقا في دفعة واحدة لعدم المعنيين جميعا.

فإن قيل : إن الافتراق الأول يعود ، قلنا : العود على مقدورات العباد لا يصح ، فصح ما قلناه.

فإن قال : فإذا جاز في الجسم أن يكون مجتمعا لوجود الاجتماع ومفترقا لوجود الافتراق ، ولا يلزم أن يكون الجسم مجتمعا مفترقا في حالة واحدة ، فهلا جاز أن يكون مجتمعا مفترقا دفعة واحدة؟ قلنا : لأن هذين المعنيين يتضادان في الوجود ولا يتضادان في العدم ، فلا يمنع عدمهما وإن امتنع وجودهما لأجل تضادهما ، فافترقا.

فإن قال : لم لا يجوز أن يكون مجتمعا لوجود الاجتماع ، ومفترقا لعدم الاجتماع؟ قيل له : لأنه لو كان كذلك لوجب إذا وجد فيه الاجتماع من جهة زيد ، وعدم من جهة عمرو ، أن يكون مجتمعا مفترقا دفعة واحدة ، وهذا محال.

دلالة أخرى ، وقد استدل لحسن الأمر والنهي على إثبات الأعراض ، فقيل قد ثبت أنه يحسن من الواحد منا أن يأمر الغير بأن يناوله الكوز فلا يخلو أن يكون أمرا بنفس الجسم أو بأمر زائد على الجسم. لا يجوز أن يكون أمرا بنفس الجسم ، لأن الجسم موجود ، والأمر بإيجاد الموجود محال ، فلم يبق إلا أن يكون أمرا بمعنى سوى الجسم ، وهو الذي نقوله.

فإن قيل : نحن لا نقول إنه أمر بنفس الجسم ، ولا بمعنى سوى الجسم بل نقول هو أمر بتحصيل الجسم على هذه الصفة.

٦١

نهاية إثبات الأكوان

قلنا : قد دللنا على أن هذه الصفة لا تتعلق بالفاعل ، فهذه الجملة كافية في إثبات الأكوان التي هي الاجتماع والافتراق والحركة والسكون.

الكلام في حدوث الأعراض

فصل : والغرض به الكلام في الدعوى الثانية من الدعاوى الأربعة ، وهو الكلام في حدوث الأعراض ، والخلاف فيه مع أصحاب الكمون والظهور فإنهم ذهبوا إلى قدم الاجتماع والافتراق ، وقالوا : إن الاجتماع متى ظهر كمن الافتراق ، وإذا ظهر الافتراق قالوا كمن الاجتماع.

وتحرير الدلالة على ما نقوله في ذلك ، هو أن العرض يجوز عليه العدم ، والقديم لا يجوز أن يعدم ، ولا يجوز أن يكون قديما ، وإذا لم يكن قديما وجب أن يكون محدثا ، لأن الموجود يتردد بين هذين الوصفين ، فإذا لم يكن على أحدهما كان على الآخر لا محالة.

فهذه الدلالة مبنية على أصلين : أحدهما ، أن العرض يجوز عليه العدم ، والثاني ، أن القديم لا يجوز عليه العدم.

أما الأول ، فالدليل عليه ، هو أن الجسم المجتمع إذا افترق فما كان فيه من الاجتماع لا يخلو ، إما أن يكون باقيا فيه كما كان ، أو زائلا عنه. لا يجوز أن يكون باقيا فيه كما كان. وإذا كان زائلا فلا يخلو ، إما أن يكون زائلا بطريقة الانتقال ، أو بطريقة العدم. لا يجوز أن يكون زائلا بطريقة الانتقال لأن الانتقال محال على الأعراض ، فلم يبق إلا أن يكون زائلا بطريقة العدم على ما نقول.

فإن قيل : هذا كله ينبني على أن الاجتماع كان حالا فيه ونحن لا نسلم ذلك بل نقول : إنه كان موجودا لا في محل ، قلنا : لو كان كذلك لم يختص ببعض الأجسام دون بعض ، فكان يجب أن تكون الأجسام كلها مجتمعة لوجود ذلك الاجتماع الموجود لا في محل ، وأن لا يكون شيء منها مفترقا البتة والمعلوم خلافه. ولأنه لو كان كذلك ، لوجب أن لا يحتاج الواحد منا في الجمع بين الجسمين إلى أن يماسهما أو يماس ما يماسهما والمعلوم خلافه.

٦٢

لم لا يكون الاجتماع باقيا فيه كما كان؟

فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون الاجتماع باقيا فيه كما كان؟ قلنا : لأنه لو كان كذلك لوجب في الجسم أن يكون مجتمعا لوجود الاجتماع الباقي ، ومفترقا لوجود الافتراق الطارئ ، وهذا محال.

فإن قيل : لم قلتم ذلك؟ قلنا : لأن هذه الصفة إنما صدرت عن الاجتماع لما هو عليه في ذاته ، وما هو عليه في ذاته ثابت لأن ثباته من قبل.

فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون إيجاب الاجتماع لما يوجبه موقوفا على شرط منفصل عنه؟ قلنا : لأن هذا الشرط غير معقول ولا طريق إليه ، وإثبات ما هذا حاله يفتح باب الجهالات.

فإن قيل : ما أنكرتم أن يكون الشرط فيه هو أن لا يطرأ ضده. قلنا : ليس بأن يقال هذا أولى من أن يقال هذا الشرط في إيجاب الافتراق لما يوجبه لا يصادف في محل له ضدا هو الاجتماع فلا يتميز الشرط من المشروط ، وذلك لا يجوز.

لم لا يكون زائلا بطريق الانتقال؟

فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون زائلا بطريقة الانتقال؟ قلنا : الانتقال لا يجوز على الأعراض.

فإن قيل : ولم قلتم ذلك؟ قيل له : لأن المرجع بالانتقال إلى تفريغ مكان وشغل مكان وهذا من خصائص الجواهر والأجسام ، ولأنه لا يخلو إما أن يكون منتقلا في حال كان يجب انتقاله فيها ، لأنه لا يمكن صرف هذا الوجود إلا إلى ذاته أو ما هو عليه في ذاته ، وهذا يوجب أن يكون منتقلا أبدا وأن لا يستقر فيه أصلا. ولا يجوز أن يكون منتقلا في حال كان يجوز أن لا ينتقل ، لأنه لو كان كذلك لوجب أن يكون منتقلا لمعنى للطريقة المذكورة في إثبات الأعراض. وحال ذلك المعنى لا يخلو ، إما أن يكون حالا فيه ، أو في غيره أو لا في محل. لا يجوز أن يكون موجودا لا في محل لأن حاله مع هذا المحل وهذا العرض كحاله مع سائر المحال وسائر الأعراض فيجب أن ينتقل به سائر الأعراض عن سائر المحال لوجود ذلك المعنى لا في محل ، والمعلوم خلافه. ولا يجوز أن يكون حالا في غيره لمثل هذه الطريقة.

فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون حالا في نفس الاجتماع؟ قلنا : لأن الاجتماع

٦٣

عرض ، والعرض لا يحل العرض.

فإن قيل : لم قلتم ذلك؟ قلنا : لأن الحلول إن لم يعلق بالتحيز لا يعلق ، وكذلك اللون بأن يكون حالا والجوهر بأن يكون محلا أولى من خلافه وإن وجد كل واحد منها بجنب الآخر ، لما كان الجوهر متحيزا دون اللون وكان المرجع بالحلول إلى الوجود بجنب الغير ، والغير متحيز ، وقد ثبت أن الاجتماع ليس بمتحيز ، فلا يجوز أن يكون في نفس الاجتماع.

فإن قيل : لم قلتم ذلك؟ قلنا : لأنه لو كان كذلك لكان لا يخلو ، إما أن يكون مجتمعا أو مفترقا ، فإن كان مجتمعا كان كذلك بالاجتماع والكلام في ذلك الاجتماع كالكلام فيه فيتسلسل إلى ما لا نهاية له ، وكذلك الكلام إذا كان مفترقا. فثبت بهذه الجملة أن الأعراض يجوز عليها العدم.

الدليل على أن القديم لا يجوز عليه العدم

وأما الدليل على أن القديم لا يجوز عليه العدم ، فهو أن القديم قديم لنفسه ، والموصوف بصفة من صفات النفس لا يجوز خروجه عنها بحال من الأحوال. وهذه الدلالة مبنية على أصلين : أحدهما أن القديم قديم لنفسه ، والثاني أن الموصوف بصفة من صفات النفس لا يجوز خروجه عنها بحال من الأحوال. أما الذي يدل على أن القديم قديم لنفسه ، هو أنه لا يخلو ، إما أن يكون قديما لنفسه أو بالفاعل أو لمعنى ، لا يجوز أن يكون قديما بالفاعل ولا لمعنى ، فلم يبق إلا أن يكون قديما لنفسه على ما نقوله.

فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون قديما بالفاعل؟ قلنا : لأن من حق الفاعل أن يكون متقدما على فعله ، وما تقدمه غيره لا يجوز أن يكون قديما ، لأن القديم هو ما لا أول لوجوده.

لم لا يكون القديم قديما لمعنى؟

فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون قديما لمعنى؟ قلنا : لأن ذلك المعنى لا يخلو ، إما أن يكون موجودا أو معدوما ، لا يجوز أن يكون معدوما لأن العدم مقطعة الاختصاص ، ولأن الإيجاب إما أن يصدر عن الصفة المقتضاة عن صفة الذات وهي مشروطة بالوجود ، فلا يجوز أن يكون معدوما وإذا كان موجودا فلا يخلو ، إما أن

٦٤

يكون قديما أو محدثا ، لا يجوز أن يكون محدثا لأن العلة لا تتراخى عن المعلول ، ولا يجوز أن يكون قديما لأنه ليس بأن يكون القديم قديما لهذا المعنى أولى من أن يكون هذا المعنى قديما للقديم ، وهذا يؤدي إلى أن لا تتميز العلة من المعلل به ومن شأن ما يجعله علة أن يجعله متميزا عن المعلل حتى لو لم يتميز دل على فساده.

وبعد ، فإن ذلك المعنى إذا شارك القديم فيما له احتاج إلى معنى وجب احتياجه إلى معنى آخر ، والكلام فيه كالكلام في الأول ، فيتسلسل إلى ما لا نهاية له.

الدليل على أن الموصوف بصفة من صفات النفس لا يجوز خروجه عنها بحال من الأحوال

وأما الذي يدل على أن الموصوف بصفة من صفات الذات لا يجوز خروجه عنها بحال من الأحوال ، فهو أن الذات إنما يدخل في كونها ذاتا معلومة لاختصاصها بصفة الذات ، فلو خرجت عن هذه الصفة لخرجت عن أن تكون ذاتا معلومة أصلا ، ولأن صفة الذات مع الذات تجري مجرى صفة العلة مع العلة ، فكما أن صفة العلة تجب ما دامت العلة ، فكذلك صفة الذات تجب ما دامت الذات.

وأحد ما يدل على أن القديم لا يجوز أن يعدم ، هو أن القديم باق والباقي لا ينتفي إلا بضد أو ما يجري مجرى الضد ، فيجب أن لا ينقضي القديم أصلا لأنه لا ضد له ولا ما يجري مجرى الضد.

وهذه الدلالة تنبني على أصول : أحدها أن القديم باق ، والثاني أن الباقي لا ينتفي إلا بضد أو ما يجري مجرى الضد ، والثالث أن القديم لا ضد له ولا ما يجري مجرى الضد.

أما الذي يدل على أن القديم باق ، فهو أن الباقي ليس إلا الموجود في حال الخبر عنه بالوجود ، وهذا حال القديم.

وأما الذي يدل على أن الباقي لا ينتفي إلا بضد أو ما يجري مجرى الضد ، فهو أنه إذا انتفى في حال كان يجوز أن يبقى ، لم يكن بألا يبقى أحق منه بالبقاء إلا لأمر ، كطريقتنا في إثبات الأعراض ، وليس ذلك الأمر إلا الضد أو ما يجري مجراه.

وأما الذي يدل على أن القديم لا ضد له ، فهو أنه لو كان له ضد لكان لا بد من أن تكون صفته بالعكس من صفة القديم ، فيجب إذا كان القديم موجودا لذاته وجب أن

٦٥

يكون ضده معدوما لذاته وذلك مستحيل ، لأن المعدوم ليس له بكونه معدوما حال ، فضلا عن أن يكون للذات أو للغير.

وأما ما يجري مجرى الضد ، فلأن ذلك يقتضي أن يحتاج القديم في وجوده إلى شيء ولذلك الشيء ضد ، فيقال : إنه جار مجرى الضد له ، والقديم ليس يجوز احتياجه في الوجود إلى شيء ، لأن ذلك يقدح في قدمه.

وقد استدل على حدوث الأعراض بأن قيل : إنها تشتمل على المختلف والمتماثل والمتضاد ، فلو كانت قديمة لما جاز ذلك لأن القدم صفة من صفات النفس ، والاشتراك في صفة من صفات النفس يوجب التماثل.

فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المتماثل منها قديمة والباقي محدثة؟ قلنا : لأن الطريقة في الجميع واحدة ، فلو جاز في بعضها لجاز في كلها.

فإن قيل : ولم قلتم إن الاشتراك في صفة من صفات النفس يوجب الاشتراك في سائر صفات النفس؟ قلنا : لأن ذلك لو لم يجب لكان لا يمتنع أن تشترك ذاتان في صفة ذاتية وتفترقان في صفة أخرى ذاتية فيكونان من حيث اشتركا في إحدى الصفتين مثلين ، ومن حيث افترقا في إحدى الصفتين مختلفين ، وذلك يوجب لو قدر طروء الضد عليهما لبقائهما من وجه ولانتفائهما من وجه آخر ، وذلك محال.

استدلال من وجه آخر

وقد استدل على ذلك بوجه آخر ، فقيل : إن هذه الصفات الصادرة عن هذه المعاني متجددة فيجب في المؤثر فيها الموجب لها أن يكون متجددا فإذا ثبت تجددها ثبت حدوثها ، لأنا لا نعني بالحدوث أكثر من تجدد الوجود. إلا أن هذا لا يعم جميع الأعراض ، ولا بد على حدوث ما يوجب لمحله حالا أو حكما ، ولا يلزم على هذا القديم وتأثيره في هذه الحوادث ، لأنه إنما يؤثر على سبيل الاختيار ، وكلامنا فيما يؤثر على طريقة الإيجاب.

وأحد ما يدل على ذلك ، هو أن هذه المعاني تحتاج في وجودها إلى محال محدثة ، وما يحتاج في الوجود إلى المحدث حتى لا يوجد من دونه يجب حدوثه. وهذا ينبني على أن العلم بحدوث الأجسام غير محتاج إلى العلم بحدوث الأعراض.

٦٦

من الأدلة على حدوث الأكوان

وأحد ما يدل على حدوث الأكوان ، هو أنها لو كانت قديمة لوجب في الصفات لصادرة عنها أن تكون واجبة فيما لم يزل ، والصفة متى وجبت استغنت بوجوبها عن العلة على ما سنبينه في باب الصفات عند الكلام عن الكلابية إن شاء الله تعالى ، وهذا يقدح في أصل إثباتها.

ومن وجه آخر ، وهو أن الطريق إلى إثبات الأكوان إنما هو تجدد هذه الصفات مع جواز أن لا تتجدد ، فلو ثبت فيما لم يزل لكانت الصفات الصادرة عنها واجبة فينسد علينا طريق العلم بها. فهذه جملة كافية في حدوث الأعراض.

الكلام في أن الأجسام لا تخلو من الأكوان

فصل : والغرض به الكلام في الدعوى الثالثة من الدعاوى الأربع ، وهو الكلام في أن الأجسام لا يجوز خلوها من الأكوان التي هي الاجتماع والاقتراف والحركة والسكون.

الخلاف مع أصحاب الهيولى

والخلاف فيه مع أصحاب الهيولى ، وهم جماعة ذهبوا إلى أن الأعيان قديمة والتراكيب محدثة ، وعبروا عنها بعبارات هائلة نحو الاستقص والبسيط والطينة والعنصر والهيولى إلى غير ذلك.

والدليل على صحة ما نقوله في ذلك هو أن الجسم لو جاز خلوه عن هذه المعاني لجاز خلوه عنها الآن بأن يبقى على ما كان عليه من الخلو احترازا عن اللون ، فإنه وإن صح خلو الجسم منه لم يصح أن يخلو منه بعد وجوده فيه.

الجسم لا يخلو من الأكوان

فإن قيل : وبأي علة جمعتم بين حالها الآن وبين حالها فيما مضى من الأيام؟

قلنا : لأنه لم يتغير عليه إلا أمكنة وأزمنة ، والأمكنة والأزمنة مما لا تأثير لهما فيما يصح على الجسم أو يجب أو يستحيل ، ألا ترى أن الجسم لما صح أن يكون مجتمعا أو مفترقا الآن ، صح أن يكون مجتمعا أو مفترقا في كل وقت وفي كل زمان ، ولما استحال أن يكون مجتمعا مفترقا دفعة الآن ، استحال أن يكون في كل وقت وفي

٦٧

كل زمن ، ولما وجب كونه مجتمعا أو مفترقا الآن وجب ذلك في كل زمن وفي كل مكان. فوجب لو جاز خلوه عنها في كل حال من الأحوال أن يجوز خلوه عنها الآن بأن يبقى على ما كان عليه من الخلو ، وهذا يوجب لو أخبرنا مخبر بأن في أقصى بلاد العالم جسما ليس بمجتمع ولا مفترق ولا متحرك ولا ساكن أن نصدقه ، والعلوم خلافه ، فثبت بهذا أن الجسم لا يخلو عن الأكوان في وقت من الأوقات.

الدلالة على أن الجسم لا يخلو من الأكوان

وتحرير هذه الجملة هو أن الجسم لا بد من أن يكون متحيزا عند الوجود ، ولا يكون متحيزا إلا وهو كائن ، ولا يكون كائنا إلا بكون.

فإن قيل : لم قلتم إن الجسم يجب تحيزه عند الوجود؟ قلنا : لأن تحيزه لما هو عليه في ذاته بشرط الوجود.

فإن قيل : ولم قلتم ذلك؟ قيل له : لا يخلو ، إما أن يكون متحيزا لما هو عليه في ذاته على ما نقوله ، أو يكون متحيزا لمعنى ، أو بالفعل. لا يجوز أن يكون متحيزا لمعنى ، لأن ذلك المعنى لا يوجب تحيزه إلا إذا اختص به ، ولا يختص به إلا إذا حله ، ولا يحله إلا وهو متحيز. ولو لم يتحيز إلا إذا حله ذلك المعنى لوقف كل واحد من الأمرين على صاحبه وذلك محال. ولا يجوز أن يكون متحيزا بالفاعل ، وإلا كان يصح من الفاعل أن يوجد ذات الجوهر ولا يجعله متحيزا لأن هذا هو الواجب فيما يتعلق بالفاعل ، ألا ترى أن الوجود لما تعلق بالفاعل وقف عليه ، حتى أن شيئا أوجده وأن شيئا لم يوجده ، بل كان يصح منه أن يوجده فيجعله سوادا بدلا من تحيزه ، وأن يجمع بين هاتين الصفتين فيجعله سوادا متحيزا ، وذلك يقتضي أنه لو طرأ عليه ضد أن ينفيه من وجه دون وجه.

وأحد ما يدل على ذلك ، وهو أن كل جسمين إما أن يكون بينهما بون ومسافة أو لا يكون ، فإن كان بينهما بون ومسافة كانا مفترقين ، وإن لم يكن كانا مجتمعين. فقد صح أن الجسم لم ينفك من هذه المعاني.

وأحد ما يدل على ذلك ، هو أن الجسم لو خلا عن الاجتماع والافتراق لكان السابق إليه لا يخلو ، إما الاجتماع ، أو الافتراق.

٦٨

فإن قال : السابق إليه الاجتماع ، قلنا : فكيف يصح تجميع ما لم يكن مفترقا من قبل؟

وإن قال : السابق إليه الافتراق ، قلنا : كيف يصح تفريق ما لم يكن مجتمعا من قبل ، فعلى هذه الطريقة يجرى الكلام في ذلك.

الجسم إذا لم ينفك عن الحوادث كان مثلها محدثا

فصل : والغرض به ، الكلام في الدعوى الرابعة من الدعاوى الأربع ، وهو الكلام في أن الجسم إذا لم ينفك عن هذه الحوادث التي هي الاجتماع والافتراق والحركة والسكون وجب أن يكون محدثا مثلها.

والخلاف فيه مع جماعة من الملحدة وابن الراوندي

والدليل على صحة ما نقوله ، هو أن الجسم إذا لم يخل من هذه الحوادث ولم يتقدمها ، وجب أن يكون حظه في الوجود كحظها وحظ هذه المعاني في الوجود أن تكون حادثة وكائنة بعد أن لم تكن ، فوجب في الجسم أن يكون محدثا أيضا وكائنا بعد أن لم يكن ، كالتوأمين إذا ولدا معا وكان لأحدهما عشر سنين فإنه يجب أن يكون للآخر أيضا عشر سنين.

فإن قيل : أليس أن الجسم لم يخل من الأعراض ولا يجب أن يكون عرضا ، فهلا جاز أن لا يخلو من المحدث ولا يجب أن يكون محدثا مثله؟ قلنا : ما ذكرناه إنما يقتضي اشتراكها في الوجود لا (١) في الجنس ، ألا ترى أن السواد والبياض إذا وجدا معا فإنما يجب أن يكونا مشتركين في الوجود حتى لو كان أحدهما محدثا لكان الآخر أيضا محدثا ، فأما أن يكون كل أحد منهما من جنس الآخر فلا ، وكذلك التوأمان ، إذا ولدا معا وكان لأحدهما عشر سنين ، فإنما ينبغي أن يكون للآخر أيضا مثل هذه المدة ، فأما اشتراكهما في الجنس حتى إذا كان أحدهما قرشيا يجب أن يكون قرشيا فلا ، بل لا يمتنع أن يكون أحدهما من جنس وأحدهما من جنس آخر.

__________________

(١) قبلها في المطبوع : «و».

٦٩

لا يكون الجسم محلا للحوادث وإن لم يكن محدثا

فإن قيل : ما أنكرتم أن الجسم وإن لم يخل من الحوادث ولم ينفك عنها لم يجب أن يكون محدثا مثلها ، بأن يكون قد حدث فيه حادث ، قبله حادث وقبل ذلك الحادث حادث ، إلى ما لا أول له؟ قلنا : هذه مناقضة ظاهرة ، لأن الحادث والمحدث سواء ، والمحدث لا بد له من محدث وفاعل ، والفاعل المحدث يجب أن يكون متقدما على فعله ، وما تقدم غيره لا يجوز أن يكون مما لا أول لوجوده.

وقد أوردت هذه الطريقة على وجه آخر ، فقيل : لو كان الجسم قديما لوجب أن يكون متقدما على هذه المعاني المحدثة ، لأن من حق القديم أن يكون متقدما على ما ليس بقديم ، كما أن من حق ما وجد منذ يومين أن يكون متقدما على ما وجد منذ يوم ، وقد عرفنا أن الجسم لا يكون متقدما على هذه المعاني ، فوجب أن لا يكون قديما ، وإذا لم يكن قديما وجب أن يكون محدثا لأن الموجود يتردد بين هذين الوضعين ، فإذا لم يكن على أحدهما كان على الآخر لا محالة. فهذه جملة الكلام في هذا الفصل.

الشبه التي تورد في قدم العالم

فصل في الشبه : اعلم أن الشبه التي تورد في قدم العالم وإن كثرت فهى منفصلة غير قادحة ، فإن عرفت الجواب عنها حسن ، وإن لم تعرف لم يقدح في العلم بحدوث الأجسام.

تسلسل الفاعلين محال

فمن ذلك هو أنهم قالوا : لو كان العالم محدثا لاحتاج إلى محدث وفاعل ، وفاعله إذا حصل فاعلا بعد أن لم يكن فاعلا فلا بد أن هنالك من معنى له ولمكانه صار فاعلا ، كطريقتكم في إثبات الأعراض ، وذلك المعنى إذا كان محدثا يحتاج إلى آخر ، والكلام في محدثه كالكلام فيه ، فيتسلسل إلى ما لا نهاية له ، وذلك محال.

والأصل في الجواب عن ذلك ، هو أن الفاعل ليس له بكونه فاعلا حال ، بل المرجع به إلى أنه وجد من جهته ما كان قادرا عليه ، وليس يجب إذا وجد من جهته ما كان قادرا عليه أن يكون هنالك معنى حتى يحتاج ذلك المعنى إلى محدث ، ومحدثه إلى معنى آخر ، فيؤدي إلى ما يتناهى. ألا ترى أن أحدنا في الشاهد يحصل فاعلا بعد أن لم يكن فاعلا ، ولا يجب أن يكون هناك معنى ، كذلك في مسألتنا.

٧٠

لو كان العالم محدثا كان ذلك لغاية أو حكمة وهي مرتبطة بوجود العالم فيكون الفاعل محدثا

ومنها : هو أنهم قالوا : لو كان العالم محدثا لوجب أن يكون له محدث وفاعل ، وفاعله لا بد من أن يفعله لداع وغرض. وذلك الداعي لا يخلو ، إما أن داعي الحاجة أو داعي الحكمة ، لا يجوز أن يكون داعي الحاجة ، فلم يبق إلا أن يكون داعي الحكمة ، وداعي الحكمة هو علمه بحسنه وانتفاع الغير به ، وذلك ثابت فيما لم يزل ، فوجب وجود العالم فيما لم يزل. وهذه شبهة أوردها ابن زكريا المتطبب الرازي.

والجواب عنه ، أن داعي الحكمة لا يوجب الفعل ، ألا ترى أن الواحد منا مع كونه عالما بحسن الصدقة قد يتصدق في وقت ولا يتصدق في وقت ، ويتصدق في وقت بدرهم ولا يتصدق في وقت بدرهم ، فما ذكره جهل.

استحالة وجود العالم فيما لم يزل لو كان محدثا والجواب عن ذلك

ومنها ، أنهم قالوا : لو كان العالم محدثا لاستحال وجوده فيما لم يزل ، فيجب أن يكون لاستحالته وجه. ثم لا يخلو ، إما أن يكون راجعا إلى المقدور أو إلى القادر ، لا يجوز أن يكون راجعا إلى المقدور وإلا استحال وجوده فيما لم يزل ، ولا أن يكون راجعا إلى القادر لهذا الوجه أيضا ، فيجب وجود العالم فيما لم يزل.

والأصل في الجواب عن ذلك ، أن هذا حكم لا يعلل كما في غيره من المواضيع نحو الحلول وغيره.

وبعد ، فلم لا يجوز أن يكون لأمر يرجع إلى المقدور ، فإنه لو وجد الجسم فحينما لم يزل انقلب جنسه وصار المحدث قديما. وذلك محال ، أو لم لا يجوز أن يكون لأمر يرجع إلى القادر؟ فيقال : لو وجد الجسم فيما لم يزل ، قدح في كونه قادرا. لأن من حق القادر أن يكون متقدما على فعله ، ولو كان العالم موجودا فما لم يزل لم يصح هذا.

ومنها ، هو أنهم قالوا لو كان العالم محدثا لوجب أن يكون القديم تعالى غير عالم بوجوده فيما لم يزل ثم حصل عالما بوجوده بعد أن لم يكن عالما ، وهذا يوجب أن يكون قد تغير حاله.

والأصل في الجواب عنه أن العلم بالشيء أنه سيوجد علم بوجوده إذا وجد ،

٧١

ولهذا الكلام موضع هو أخص.

شبهة عوام الملحدة

ومنها ، ما يتعلق به عوام الملحدة ، وهو أنهم يقولون : إنا لم نجد دجاجة إلا من بيضة ، ولا بيضة إلا من دجاجة ، فيجب أن يكون هكذا أبدا ، وهذا يؤذن بقدم العالم.

والأصل في الجواب عنه ، أن هذا اعتماد على مجرد الوجود ، والاعتماد على مجرد الوجود في مثل هذه المسائل لا يمكن ، كما لا يمكن الزنجي أن يقول إن جميع من في العالم أسود لأني لم أر إلا هكذا. يبين ذلك أن أرباب المذاهب جملة أثبتوا خلاف ما قد وجدوه ولم يعتمدوا على مجرد الوجود. ولهذا فإن الفلاسفة يقولون : إن في هذا العالم مواضع لا ينبت فيها نبات ولا يعيش فيها حيوان ، وإنما تكون دائمة الظلمة أو الشمس ، مع أنهم لم يشاهدوا مثله.

على أنا نقول لهم : إن الحال فيما ذكرتموه لا يخلو ، إما أن تكون الدجاجة والبيضة قديمتين أو محدثتين أو أحدهما قديمة والأخرى محدثة ، فإن كانتا محدثتين فهو الذي نقوله ، وإن كانتا قديمتين لم يصح كون إحداهما من الأخرى وكذلك الكلام إذا جعل إحداهما قديمة والأخرى محدثة.

الأجسام لأنها محدثة تحتاج إلى محدث هو الله

فصل : وإذا ثبت أن الأجسام محدثة فلا بد لها من محدث وفاعل ، وفاعلها ليس إلا الله تعالى.

فإن قيل : لم قلتم إن الأجسام إذا كانت محدثة فلا بد لها من محدث وفاعل ، ثم قلتم إن محدثها ليس إلا الله تعالى؟ قلنا :

أما الأول فالذي يدل عليه تصرفاتنا في الشاهد فإنها محتاجة إلينا ومتعلقة بنا ، وإنما احتاجت إلينا لحدوثها ، فكل ما شاركها في الحدث وجب أن يشاركها في الاحتياج إلى محدث وفاعل ، والأجسام قد شاركتها في الحدوث ، فيجب احتياجها إلى محدث وفاعل.

هل تكون تصرفاتنا في حاجة إلى محدث

فإن قيل : ولم قلتم إن تصرفاتنا محتاجة إلينا ، وما معنى هذا الاحتياج أولا ، ثم

٧٢

لم قلتم إنما احتاجت إلينا لحدوثها ، حتى يمكنكم أن تقيسوا الأجسام عليها بعلة الحدوث؟

قيل له : إنما نعني بالاحتياج أن لحالة من أحوالنا فيه تأثير ، والذي يدل على ذلك ، هو أنها تقع بحسب قصودنا ودواعينا وتنتفي بحسب كراهتنا وصوارفنا مع سلامة الأحوال محققا وإما مقدرا ، فلو لا أنها محتاجة إلينا متعلقة بنا وإلا كان لا يجب فيها هذه القضية ، كما في تصرف الغير ، وكما في اللون.

وأما الذي يدل على أنها إنما احتاجت إلينا لحدوثها ، فهو أن حدوثها هو الذي يقف على قصدنا ودواعينا نفيا وإثباتا.

وبعد ، فإنه لا يخلو ، إما أن تكون محتاجة لاستمرار وجودها ، أو لاستمرار عدمها ، أو لتجدد وجودها.

لا يجوز أن تكون محتاجة إلينا لاستمرار عدمها لأنها قد كانت مستمرة العدم ولم تكن.

ولا أن تكون محتاجة إلينا لاستمرار وجودها لأنها تبقى مستمرة الوجود وإن خرجنا عن كوننا أحياء فضلا عن كوننا قادرين.

فلم يبق إلا أن تكون محتاجة إلينا لتجدد وجودها وهو الحدوث ، فصح القياس.

فإن قيل : كيف يصح قياس الجسم على العرض قلنا : إذا اشتركا في علة الحكم لم يمتنع أن يكون حكم أحدهما حكم الآخر ، وقد بينا أن الأجسام قد شاركت تصرفاتنا في علة الاحتياج إلى محدث وهو الحدوث ، فلم يمتنع قياس أحدهما على الآخر.

لم يكون فاعلها هو الله

فأما الثاني ، وهو الكلام في أن فاعلها ليس إلا أن الله تعالى فلا يخلو ، إما أن تكون قد أحدثت نفسها ، أو أحدثها غيرها.

لا يجوز أن تكون قد أحدثت نفسها لأن من حق القادر على الشيء أن يكون متقدما على فعله ، فلو كان الجسم هو الذي أحدث نفسه لزم أن يكون قادرا وهو

٧٣

معدوم ، وسنبين في باب الصفات أن المعدوم لا يجوز أن يكون قادرا إن شاء الله تعالى.

وإن أحدثها غيرها فلا يخلو ، إما أن تكون من فعل أمثالنا من القادرين بالقدرة ، أو من فعل فاعل مخالف لنا.

لا يجوز أن تكون من فعل أمثالنا من القادرين بالقدرة لأنه لو كان كذلك لصح منا أيضا فعل الجسم ، وهذا يوجب أن يصح من الواحد منا أن يخلق لنفسه ما شاء من الأموال والبنين ، والمعلوم خلافه.

فإن قيل : لم قلتم ذلك؟ قيل له : لأن القدرة وإن اختلفت مقدوراتها متجانسة ، حتى لا جنس يفعل بقدرة إلا ويصح أن يفعل مثله بقدرة أخرى على ما سنبينه مشروحا في موضعه.

لم لا يكون الجسم قد حدث بالطبع

فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون الجسم قد حدث بالطبع؟ قلنا : لأن الطبع غير معقول.

ثم إنا نقول لهم : وما تعنون بالطبع ، أتريدون به الفاعل المختار ، أم تريدون به معنى موجبا؟ فإذا أردتم به الفاعل المختار فهو الذي نقوله ، وإن أردتم به المعنى الموجب فلا يخلو ، إما أن يكون معدوما ، أو موجودا.

لا يجوز أن يكون معدوما لأن المعدوم لاحظ له في الإيجاب.

وإذا كان موجودا فلا يخلو ، إما أن يكون قديما ، أو محدثا.

لا يجوز أن يكون محدثا لأنه يحتاج إلى طبع آخر ، والكلام في ذلك الطبع كالكلام فيه فيتسلسل لما لا يتناهى ، وذلك محال.

ولا يجوز أن يكون قديما ، لأنه لو كان كذلك للزم قدم العالم ، لأن حق المعلوم أن لا يتراخى عن العلة ، وقد بينا أن العالم لا يجوز أن يكون قديما.

فهذه جملة الكلام في هذا الفصل.

٧٤

حول القائلين بالنفس والعقل والعلة وأصحاب النجوم

فصل : إن قيل : أين أنتم عن القائلين بالنفس والعقل ، وعمن يقول بإثبات علة كنى بها عن الباري ، وكذلك فأين أنتم عن أصحاب النجوم الذين أضافوا هذه الحوادث إلى تأثيرات الكواكب؟

والأصل في الجواب عن ذلك ، أن القول بالنفس والعقل والعلة إشارة إلى ما لا يعقل ، لأن العقل في الشاهد يدل على فاعل مختار حتى صار كالحقيقة فيه فلا يتغير شاهدا وغائبا. ولو أنهم أرادوا بذلك الفاعل المختار فلا مشاحة بيننا وبينهم إلا في العبارة ، والمرجع فيها إلى أرباب اللسان وأهل اللغة ، ومعلوم أنهم لا يسمون الفاعل نفسا ولا عقلا ولا علة.

وأما أصحاب النجوم الذين أضافوا هذه الحوادث إلى تأثيرات الكواكب فقد أبعدوا ، وذلك لأن هذه النجوم ليست بأحياء فضلا عن أن تكون قادرة ، والفاعل المختار لا بد من أن يكون حيا قادرا. يبين ما ذكرناه ويوضحه ، أن الشمس على ما هي عليه من الحرارة لا يصح أن تكون حية ، لأن الحياة تحتاج إلى بنية مخصوصة هي اللحية والدميمة ، وهي مفقودة فيها.

وبعد ، فلو كانت الشمس قادرة لوجب وقوع الاختلاف في تصرفاتها ، فتطلع تارة من الشرق وتارة من الغرب ، ومعلوم أنه لا اختلاف في حركاتها ، بل هي على طريقة واحدة ووتيرة مستمرة. على أنا نعلم من وحي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ومن دين الأمة ضرورة أنها مسخرة مدبرة غير حية ولا قادرة ، ففسد ما قالوه.

وبعد ، فلو كانت قادرة لوجب أن تكون قادرة بقدرة ، والقادر بالقدرة ، لا يقدر على فعل الأجسام ، إذ لو صح ذلك بما فيه من القدرة لصح من الواحد منا. ذلك لأن القدرة وإن اختلفت فمقدوراتها متجانسة ، فيلزم أن يخلق لنفسه ما شاء من الأموال والبنين ، والمعلوم خلافه.

والذي حملهم على ذلك وأداهم إليه ، هو أنهم ظنوا أن نماء الزرع وإدراك الثمار وغيرها يتبع الشمس ويقع بحسبها ، وليس كذلك لأن الزرع قد ينمو والثمار قد تدرك مع غيبوبة الشمس كما تنمو وتزداد مع طلوعها ، فكيف يصح تعليقه بها.

وبعد فإن الزرع كما يختلف في الزيادة والنقصان بحسب الشمس ، فقد يختلف أيضا بحسب تعهد الزراع ، فليس بأن يضاف إلى الشمس أولى من أن يضاف إلى

٧٥

الزراع ، فلو لا أن هؤلاء القوم استعموا واستصموا وإلا لما احتاجوا إلى إضافة هذه الحوادث إلى النفس والعقل والكواكب والعلة ، فقد تم الكلام في جواب شبههم هذه.

فصل فيما يلزم المكلف معرفته من أصول الدين

اعلم أن ما يلزم المكلف معرفته من أصول الدين أصلان اثنان على ما ذكره رحمه‌الله في «المغني» وهما : التوحيد ، والعدل. وذكر في «مختصر الحسنى» أن أصول الدين أربعة : التوحيد ، والعدل ، والنبوات ، والشرائع ، وجعل ما عدا ذلك من الوعد والوعيد والأسماء والأحكام ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، داخلا في الشرائع. وذكر في الكتاب أن ذلك خمسة : التوحيد ، والعدل ، والوعد ، والوعيد ، والمنزلة بين المنزلتين ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لظهور الخلاف بين الناس في كل واحد من هذه الأصول. والأولى ما ذكره في «المغني» أن النبوات والشرائع داخلان في العدل ، لأنه كلام في أنه تعالى إذا علم أن صلاحنا في بعثة الرسل ، وأن نتعبد بالشريعة ، وجب أن يبعث ونتعبد ، ومن العدل أن لا يخل بما هو واجب عليه. وكذلك الوعد والوعيد داخل في العدل ، لأنه كلام في أنه تعالى إذا وعد المطيعين بالثواب ، وتوعد العصاة بالعقاب ، فلا بد من أن يفعل ولا يخلف في وعده ولا في وعيده ، ومن العدل أن لا يخلف ولا يكذب ، وكذلك المنزلة بين المنزلتين داخل في باب العدل ، لأنه كلام في أن الله تعالى إذا علم أن صلاحنا في أن يتعبدنا بإجراء أسماء وأحكام على المكلفين وجب أن يتعبدنا به ، ومن العدل أن لا يخل بالواجب. وكذا الكلام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فالأولى أن يقتصر على ما أورده في «المغني».

كيف تلزم هذه الأصول جميع المكلفين

ثم سأل رحمه‌الله نفسه فقال : كيف قلتم إن المكلف يلزمه معرفة هذه الأصول ، وقد قلتم : إن من لا يسلك طريقة العلماء ليس يلزمه معرفة هذه الأصول أجمع ، وإنما يلزمه أن يعرف التوحيد والعدل؟ وأجاب : بأنه يلزمه معرفة التوحيد والعدل ، لأنه يخاف من تركه ضررا ، ولأنه لطف له في أداء الواجبات واجتناب المقبحات. ويلزمه معرفة الأصول الأخر أيضا ، لأنه علم بكمال التوحيد ، والعدل موقوف على ذلك. ألا ترى أن من جوز على الله تعالى في وعده ووعيده الخلف والاخلال بما يجب عليه من إزاحة علة المكلفين وغيره ، فإنه لا يتكامل له العلم بالعدل ، ولا فرق في ذلك بين من

٧٦

يسلك طريقة العلماء ، وبين من لا يكون كذلك لأن العامي أيضا يلزمه معرفة هذه الأصول على سبيل الجملة ، وإن لم يلزمه معرفتها على سبيل التفصيل ، لأن من لم يعرف هذه الأصول لا على الجملة ولا على التفصيل لم يتكامل علمه بالتوحيد والعدل.

وسبب الاقتصار على الأصول الخمسة

ثم سأل رحمه‌الله نفسه فقال : ولم اقتصرتم على هذه الأصول الخمسة؟

وأجاب بأن قال : لا خلاف أن المخالفين لنا لا يعدو أحد هذه الأصول. ألا ترى أن خلاف الملحدة والمعطلة والدهرية والمشبهة قد دخل في التوحيد ، وخلاف المجبرة بأسرهم دخل في باب العدل ، وخلاف المرجئة دخل في باب الوعد والوعيد ، وخلاف الخوارج دخل تحت المنزلة بين المنزلين ، وخلاف الإمامية دخل في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ثم سأل رحمه‌الله نفسه على هذا ، فقال : هل عددتم في هذه الجملة النبوات والإمامة؟

وأجاب عنه : بأن الخلاف في ذلك يدخل تحت هذه الأبواب ، فلا يجب إفراده بالذكر.

إلا أن هذا العذر ليس بواضح ، فإن الخلاف في الوعد والوعيد والمنزلة بين المنزلتين وغيرهما ، مما يدخل في العدل. ثم أفرده بالذكر ، فهلا أفرد ما ذكرناه أيضا بالذكر. والصحيح أنه يقتصر على ما أورده في «المغني» أو يزاد على الخمس ويذكر بالغا ما بلغ ، فعلى هذا يجري الكلام في ذلك.

بيان حكم مخالفه في هذا الباب

فصل : ثم إنه رحمه‌الله بين حكم من يخالفه في هذا الباب.

والأصل فيه ، أن المخالف في هذه الأصول ، ربما كفر ، وربما فسق ، ورما كان مخطئا.

أما من خالف في التوحيد ، ونفي عن الله تعالى ما يجب إثباته ، وأثبت ما يجب نفيه عنه ، فإنه يكون كافرا.

٧٧

وأما من خالف في العدل ، وأضاف إلى الله تعالى القبائح كلها ، من الظلم والكذب ، وإظهار المعجزات على الكذابين ، وتعذيب أطفال المشركين بذنوب آبائهم ، والاخلال بالواجب ، فإنه يكفر أيضا.

وأما من خالف في الوعد والوعيد ، وقال إنه تعالى ما وعد المطيعين بالثواب ولا توعد العاصين بالعقاب البتة ، فإنه يكون كافرا ، لأنه رد ما هو معلوم ضرورة من دين النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. والمراد لما هذا حاله يكون كافرا. وكذا لو قال : إنه تعالى وعد وتوعد ولكن يجوز أن يخلف في وعيده لأن الخلف في الوعيد كرم ، فإنه يكون كافرا لإضافة القبيح إلى الله تعالى. فإن قال : إن الله تعالى وعد وتوعد ، ولا يجوز أن يخلف في وعده ووعيده ، ولكن يجوز أن يكون في عمومات الوعيد شرط أو استثناء لم يبينه الله تعالى ، فإنه يكون مخطئا.

وأما من خالف في المنزلة بين المنزلتين ، فقال : إن حكم صاحب الكبيرة حكم عبدة الأوثان والمجوس وغيرهم فإنه يكون كافرا ، لأنا نعلم خلافه من محمد دين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأمة ضرورة. فإن قال : حكمه حكم المؤمنين في التعظيم والموالاة في الله تعالى ، فإنه يكون فاسقا ، لأنه خرق إجماعا مصرحا به ، على معنى أنه أنكر ما يعلم ضرورة من دين الأمة. فإن قال : ليس حكمه حكم المؤمن ولا حكم الكافر ولكن أسميه مؤمنا ، فإنه يكون مخطئا.

وأما من خالف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصلا وقال : إن الله تعالى لم يكلف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصلا ، فإنه يكون كافرا ، لأنه رد ما هو معلوم ضرورة من دين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ودين الأمة. فإن قال : إن ذلك مما ورد به التكليف ولكنه مشروط بوجود الإمام ، فإنه يكون مخطئا.

فهذه جملة ما يلزم المكلف معرفته من أصول الدين. ونحن إذا قلنا إن المكلف يلزمه معرفة هذه الأصول ، فلسنا نعني أنه يجب معرفتها على حد يمكنه العبارة عنها والمناظرة فيها ، وحل الشبه الواردة فيها ، إذ لو سميناه (١) ذلك لأدى إلى تكليف ما ليس في الإمكان ، ويخرج أكثر المكلفين من أن يكونوا مكلفين بمعرفة هذه الأصول ، فعلى هذا يجري الكلام في ذلك.

__________________

(١) في المطبوع : «سمناه».

٧٨

إذا عرف المكلف الأصول لزم معرفة الفقه والشرع

فصل : ثم قال رحمه‌الله : أن المكلف إذا عرف هذه الأصول ، يلزمه معرفة الفقه والشرع.

والأصل أن الفقه هو العلم بغرض الغير فيما يخاطب به ، ولهذا لا يستعمل في كل علم. فلا يقول أحدهم فقهت أن زيدا عندي ، وأن السماء فوقي ، وأن الأرض تحتي. كما لا يقال فهمت وفطنت.

وأما في الاصطلاح : فهو العلم بأحكام الشرع وما يتصل بها من أسبابها ، وعللها وشروطها وطرقها.

وهو على ضربين :

أحدهما : ما يجب على الكافة معرفته ، وذلك نحو العلم بوجوب الصلاة على الجملة ، ووجوب الزكاة والحج والجهاد في سبيل الله تعالى ، وما يجري هذا المجرى.

والثاني : يلزم الكافة معرفته ويكون من فروض الكفاية ، نحو العلم بالمسائل الدقيقة من أصول الفقه والفروع المتعلقة بها المتفرعة عنها ، فإن ذلك مما لا يجب على الأعيان ، وإنما هو من فروض الكفاية. إذا قام به بعض الناس سقط عن الباقين.

كيف يجب معرفة الفقه الشرعيات وفيها ما هو فرض كفاية :

ثم سأل رحمه‌الله نفسه على هذا ، فقال : كيف يصح قولكم إن المكلف إذ عرف هذه الأصول يلزمه معرفة الفقه والشرعيات ، وفي الشرعيات ما لا يجب العلم به ، وهو ما يكون من فروض الكفاية؟ وأجاب : بأن أكثر الشرعيات مما يجب معرفته على الجملة. وبعد ، فإنما هو من فروض الكفاية مما يلزم الكافة ، إلا أنه إذا قام به بعض الناس سقط عن الباقين ، وقد تقدم هذا فيما قدمناه ، فهذه جملة ما أورده في ذلك.

التوحيد :

فصل : اعلم أنه رحمه‌الله بدأ من هذه الجملة بالتوحيد.

والأصل فيه ، أن التوحيد في أصل اللغة عبارة عما به يصير الشيء واحدا ، كما أن التحريك عبارة عما به يصير الشيء متحركا ، والتسويد عبارة عما به يصير الشيء أسود. ثم يستعمل في الخبر عن كون الشيء واحدا لما لم يكن الخبر صدقا إلا وهو

٧٩

واحد ، فصار ذلك كالإثبات ، فإنه في أصل اللغة عبارة عن الإيجاب ، يقال أثبت لهم في القرطاس ، أي أوجدته فيه. ثم يستعمل في الخبر عن وجود الشيء ، فيقال إن فلانا يثبت الأعراض أي يخبر عن وجودها. لما لم يكن الخبر عنها صدقا إلا وهي موجودة.

التوحيد في اصطلاح المتكلمين :

فأما في اصطلاح المتكلمين ، فهو العلم بأن الله تعالى واحد لا يشاركه غيره فيما يستحق من الصفات نفيا وإثباتا على الحد الذي يستحقه والإقرار به. ولا بد من اعتبار هذين الشرطين : العلم ، والإقرار جميعا. لأنه لو علم ولم يقر ، أو أقر ولم يعلم ، لم يكن موحدا.

علوم التوحيد وما يلزم المكلف منها :

وأما علوم التوحيد ، فلا مزيد على ما أورده في الكتاب. غير أنا نورده على هذا ليكون أسهل للحفظ ، وأقرب إلى الضبط ، فنقول :

ما يلزم المكلف معرفته من علوم التوحيد هو ، أن يعلم القديم تعالى بما يستحق من الصفات ، ثم يعلم كيفية استحقاقه لها ، ويعلم ما يجب له في كل وقت ، وما يستحيل عليه من الصفات في كل وقت ، وما يستحقه في وقت دون وقت ، ثم يعلم أن من هذا حاله ، لا بد من أن يكون واحدا لا ثاني له يشاركه فيما يستحقه من الصفات نفيا وإثباتا على الحد الذي يستحقه.

ما يستحقه من الصفات :

أما ما يستحقه من الصفات فهو الصفة التي بها يخالف مخالفة ويوافق موافقة لو كان له موافق تعالى عن ذلك ، وكونه قادرا ، عالما ، حيا ، سميعا ، بصيرا ، مدركا للمدركات ، موجودا ، مريدا ، كارها. هذا عند أبي هاشم. وأما أبو علي ، فإنه لا يثبت تلك الصفة الذاتية.

فأما كيفية استحقاقه لهذه الصفات ، فاعلم : أن تلك الصفة التي يقع بها الخلاف والوفاق يستحقها لذاته ، وهذه الصفات الأربع التي هي كونه قادرا عالما حيا موجودا لما هو عليه في ذاته ، وكونه مدركا لكونه حيا بشرط وجود المدرك ، وكونه مريدا وكارها بالإرادة والكراهة المحدثتين الموجودتين لا في محل.

٨٠