شرح الأصول الخمسة

عبد الجبّار بن أحمد الهمداني الأسدآبادي

شرح الأصول الخمسة

المؤلف:

عبد الجبّار بن أحمد الهمداني الأسدآبادي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٧

ما يعلم صدقه اضطرارا فكالأخبار المتواترة ، نحو الخبر عن البلدان والملوك وما يجري هذا المجرى ، ونحو خبر من يخبرنا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يتدين بالصلوات الخمس وإيتاء الزكاة والحج إلى بيت الله الحرام وغير ذلك ، فإن ما هذا سبيله يعلم اضطرارا. وأقل العدد الذين يحصل العلم بخبرهم خمسة ، حتى لا يجوز حصوله بخبر الأربعة. ولا يكفي خبر الخمسة على أي وجه أخبروا ، بل لا بد من أن يكون خبرهم مما عرفوه اضطرارا ، ولهذا لا يجوز أن يحصل لنا العلم الضروري بتوحيد الله وعدله بخبر من يخبرنا عن ذلك ، لما لم يعرفوه اضطرارا.

وما يعلم صدقه استدلالا فهو كالخبر بتوحيد الله تعالى وعدله ونبوة نبيه عليه‌السلام وما يجري هذا المجرى ، وكالخبر عما يتعلق بالديانات إذا أقر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يزجره عنه ولا أنكر عليه ، فإنا نعلم صدق ما هذا حاله من الأخبار استدلالا ، وطريقة الاستدلال عليه ، هو أنه لو كان كذبا لأنكره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما لم ينكره دل على صدقه فيه ، وهذا هو القسم الأول.

وأما القسم الثاني ، فهو ما يعلم كذبه من الأخبار ، وذلك ينقسم إلى : ما يعلم كذبه اضطرارا ، وإلى ما يعلم اكتسابا.

ما يعلم كذبه اضطرارا ، فكخبر من أخبرنا أن السماء تحتنا والأرض فوقنا وما جرى هذا المجرى.

وما يعلم كذبه استدلالا ، فكأخبار المجبرة والمشبهة عن مذاهبهم الفاسدة المتضمنة للجبر والتشبيه والتجسيم إلى غير ذلك من الضلالات.

وأما ما لا يعلم كونه صدقا ولا كذبا ، فهو كأخبار الآحاد. وما هذه سبيله يجوز العمل به إذا ورد بشرائطه فأما قبوله فيما طريقه الاعتقادات فلا ، وفي هذه الجملة أيضا خلاف ، فإن في الناس من يجوز ورود التعبد بخبر الواحد ، وفيهم من ينكر ثبوت التعبد به.

أما الذي يدل على جواز ورود التعبد بخبر الواحد ، فهو أنه لا مانع يمنع أن يتعلق الصلاح بأن يتعبدنا الله تعالى به ، وأكثر ما فيه أنه تعبد على طريقة الظن وذلك ثابت جائز : بل لو قيل : بأن أكثر العبادات الشرعية تنبني على الظن كان ممكنا. وبعد ، فمعلوم أن القاضي قد تعبد بالحكم عند شهادة الشاهدين ، وإن لم يقتض ذلك العلم وإنما يقتضي غالب الظن.

٥٢١

وأما الذي يدل على ثبوت التعبد به : الإجماع ، وهاهنا أصل آخر ، وهو أن ما هذا سبيله من الأخبار فإنه يجب أن ينظر فيه ، فإن كان مما طريقه العمل عمل به إذا أورد بشرائطه ، وإن كان مما طريقه الاعتقادات ينظر ، فإن كان موافقا لحجج العقول قبل واعتقد موجبه ، لا لمكانه بل للحجة العقلية وإن لم يكن موافقا لها ، فإن الواجب أن يرد ويحكم بأن النبي لم يقله ، وإن قاله فإنما قاله على طريق الحكاية عن غيره ، هذا إذا لم يحتمل التأويل إلا بتعسف ، فأما إذا احتمله فالواجب أن يتأول ، وفصيل هذه الجملة موضعه أصول الفقه.

فصل

في القضاء والقدر :

وجملة القول في ذلك أن القضاء قد يذكر ويراد به الفراغ عن الشيء وإتمامه. قال الله تعالى : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) [فصلت : ١٢] وقال : (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ) [القصص : ٢٩] الآية ، وقال أبو ذؤيب :

وعليهما مسرودتان قضاهما

داود أو صنع التوابع تبع

وقد يذكر ويراد به الإيجاب. قال الله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) [الإسراء : ٢٣] وقد يذكر ويراد به الإعلام والإخبار كقوله : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (٤)) [الإسراء : ٤] واستعماله في هذه الوجوه لا يمنع من أن يكون حقيقة في بعضها متعارفا بها في الباقي ، كالإثبات فإنه حقيقة في الإيجاب ثم قد يذكر بمعنى الخبر عن وجود الشيء ، وقد يذكر بمعنى العلم.

وأما القدر فقد يذكر ويراد به البيان ، قال الله تعالى : (إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ) [النمل : ٥٧] وقال الشاعر.

واعلم بأن ذا الجلال قد قدر

في الصحف الأولى التي كان سطر

أمرك هذا فاجتنب منه التبر

وإذا قد عرفت ذلك ، وسألك سائل عن أفعال العباد أهي بقضاء الله تعالى وقدره أم لا؟ كان الواجب في الجواب عنه أن تقول ، إن أردت بالقضاء والقدر الخلق فمعاذ الله من ذلك ، وكيف تكون أفعال العباد مخلوقة لله تعالى وهي موقوفة على قصورهم

٥٢٢

ودواعيهم ، إن شاءوا فعلوها وإن كرهوا تركوها؟ فلو جاز والحال هذه أن لا تكون أفعال العباد من جهتهم لجاز في أفعال الله تعالى ذلك ، فإن بهذه الطريقة يعرف أن الفعل فعل لفاعله.

وبعد ، فلو كانت مخلوقة لله تعالى لما استحق العباد عليها المدح والذم والثواب والعقاب.

وأيضا ، فلو كانت أفعال العباد كلها بقضاء الله تعالى وقدره للزم الرضا بها أجمع وفيها الكفر والإلحاد ، والرضى بالكفر كفر.

فإن قيل : إنا نرضى بالكفر من حيث خلقه الله تعالى ولا نرضى به من حيث أنه قبيح فاسد مناقض.

قلنا : دعنا من هذه الترهات ، أو ليس أن الكفر على سائر أوصافه وجهاته وقع بالله تعالى وبقضائه وقدره فكيف رضيتم به من وجه دون وجه؟

فإن قيل : الرضا بقضاء الله تعالى واجب ، وإنما يجب على الجملة لا على التفصيل فلا يلزم ، قلنا إذا كان لا فعل من أفعال العباد حقا كان أو باطلا إيمانا كان أو كفرا إلا وهو بقضاء الله وقدره ، فقولكم : نرضى بجملته نرضى بتفصيله مناقضة كمناقضة الملحدة ، الذين يقولون إن لكل واحدة من حركات الفلك أولا وليس لجملتها أول ، فكما أن ذلك خلف كذلك هنا ، هذا إذا أريد بالقضاء والقدر والخلق.

فإذا أريد به الإيجاب وقيل هل تقولون بأن أفعال العباد بقضاء الله تعالى وقدره ، كان كالجواب أن في الأفعال ما لا يجب بل لا يحسن ، فكيف أوجبه الله تعالى وقضاه وقدره؟

وإذا أريد به الإعلام والإخبار ، فإن ذلك يصح على بعض الوجوه ، غير أنه لا يجوز له إطلاق هذه العبارة لما قد بينا أن العبارة متى كانت مستعملة في معنيين أحدهما صحيح والآخر فاسد فإنه لا يجوز إطلاقه إلا لمن ثبتت حكمته وصح عدله ، فأما الواحد منا ولو لم يثبت ذلك فيه فلا. فهذه جملة الكلام في هذا الفصل.

فصل

وقد اتصل بهذه الجملة الكلام في من القدرية من الأمة :

اعلم أن القدرية عندنا إنما هم المجبرة والمشبهة ، وعندهم المعتزلة ، فنحن

٥٢٣

نرميهم بهذا اللقب ، وهم يرموننا به. وقد حكي عن بعضهم أنه قال : إن المعتزلة كانت تلقبنا بالقدرية ، فقلبناها عليهم ، وقد أعاننا السلطان على ذلك.

والذي يدل على أنهم هم القدرية ، ما ذكره قاضي القضاة في مجلس بعضهم وقد سئل عن هذه المسألة ، وتحريره أن الاسم اسم ذم ، فيجب أن يجري على من له مذهب مذموم في القدر ، وليس ذلك إلا مذهب المجبرة.

ومما يدل على ذلك أيضا ، قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : القدرية مجوس هذه الأمة فشبه القدرية بالمجوس على وجه لا يشاركهم فيه غيرهم ، فبناء ننظر أي المذاهب يشبه المجوس على هذا الحد ، فليس ذلك إلا مذهب هؤلاء المجبرة فإنه يضاهي مذهب المجوس من وجوه :

شبه المجبرة مع المجوس :

أحدها : هو أن المجوس يقولون في نكاح البنات والأمهات : بقضاء الله وقدره ، ولا يشاركهم في القول بذلك إلا هؤلاء المجبرة ، إذ لا أحد سواهم يقول فيما يجري هذا المجرى أنه بقضاء الله تعالى وقدره.

وأحدها : هو أن المجوس يقولون إن مزاج العالم وهو شيء واحد حسن من النور قبيح من الظلمة ، ولا يشاركهم في القول بذلك إلا المجبرة لأنهم هم الذين يقولون إن الكفر وهو شيء واحد يحسن من الله تعالى ويقبح من الواحد منا ، يحسن من حيث خلقه الله تعالى ويقبح من حيث كسبه.

وأحدها : هو أن المجوس يجوزون الأمر بما ليس في الوسع ولا في الطاقة ، والنهي عما لا يمكنه الانفكاك منه ، يقال : إنهم يصعدون ببقرة إلى شاهق ، ويشدون قوائمها ثم يدهدونها ، ويقولون : انزلي ولا تنزلي ، مع أن البقرة لا يمكنها الانفكاك من النزول ولا الإتيان بخلافه ، وهذه حال القوم ، لأنهم يقولون إن الله تعالى كلف الكافر الإيمان مع أنه لا يمكنه فعله ولا الإتيان به ، ونهاه عن الكفر مع أنه لا يتصور الانفكاك منه.

وأحدها : هو أن المجوس قالوا : إن القادر على الخير لا يقدر على خلافه بل يكون مطبوعا عليه ، وكذلك القادر على الإيمان لا يقدر على الكفر بل يكون محمولا عليه ، والقادر على الكفر لا يقدر على الإيمان بل يكون مطبوعا عليه لا يمكنه مفارقته

٥٢٤

ولا الانفكاك منه.

ومما يدل على أن القوم هم القدرية وهم مجوس الأمة ، قول الرسول عليه‌السلام في آخر الخبر : «وهم خصماء الرحمن وشهود الزور وجنود إبليس» وهذه الأوصاف لا توجد إلا فيهم ، لأنهم هم الذين يخاصمون الله تعالى إذا عاقبهم على المعاصي وسألهم عنها ، ويقولون : إنك أنت الذي خلقت فينا المعصية وأردتها منا فما لك تعذبنا وتعاقبنا. وكذلك فإنهم هم الذين يشهدون الزور لإبليس وغيره من الشياطين إذا سألهم الله عن الإضلال والإغراء والإفساد ، وقال لهم : أضللتم عبادي وأغويتموهم ، فيجيبون بأنا لم يكن لنا في شيء من ذلك ذنب ، بل كنت أنت المتولي لجميع ذلك ، فيطالبهم الله تعالى بإقامة الحجة فلا يجدون إلا شهادة هؤلاء القوم سبيلا. وهم الذي يتعصبون للشياطين في الدارين جميعا ، ألا ترى أنا إذا أردنا ذمهم ولعنهم يمنعوننا عن ذلك ويقولون ما بالكم تلعنون من لا يتعلق به من الإخلال أو الإغراء إلا مجرد هذه الإضافة دون المعنى ، وأما في الدار الآخرة فإنه تعالى إذا رام عقابهم على ذلك ومعاتبتهم عليه ، قالوا : إنك أنت الذي خلقت فيهم الضلال ، وأقدرتهم على الاضلال ، فما بالك تعذبهم به.

ويدل على ذلك أيضا ، ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : لعن الله القدرية على لسان سبعين نبيا ، قيل من القدرية يا رسول الله ، قال : الذين يعصون الله تعالى ويقولون : كان ذلك بقضاء الله وقدره.

ومما يدل على ذلك أيضا هو أن القدري اسم نسبة ، والنسبة قد تكون نسبة قرابة كنسبة الرجل إلى أبيه أو جده أو أحد أقربائه المعروفين كقولهم : هاشميّ وعربيّ وعلوي ، وقد تكون نسبة الرجل إلى حرفته وصناعته المعروف هو بها ، نحو باقلاني وقلانسي وصيدلاني وما يجري هذا المجرى ، وقد تكون نسبته إلى بلده الذي يسكنه هو أو كان قد سكنه أبوه أو جده نحو بغدادي وبصري ورازي وما يجري مجراه ، وقد تكون نسبته إلى لهجة بكلمة وحرصه على تكريرها وذلك نحو ما نقوله : الخارجي حكمي لولوعه وشدة حرصه على قول : لا حكم إلا لله. إذا ثبت هذا ، ووجوه النسبة كلها مفقودة في هذا الاسم إلا هذا الوجه الأخير ، فالواجب أن ينظر أن لهج أي القوم بالقضاء والقدر أكبر ، وحرص أيهم أشد ، ومعلوم أن القوم هم الذين يولعون بالإكثار من قولهم : لا تسقط ورقة ولا تنبت شجرة ولا تحدث حادثة إلا بقضاء الله وقدره ، فيجب أن يكونوا هم القدرية.

٥٢٥

ومما يدل على أنهم هم المستحقون لهذا الاسم ، هو أنه اسم إثبات فلا يستحقه إلا المثبت للقدر ، والذي يثبتون القدر هم المجبرة ، فأما نحن فإنا ننفيه وننزه الله تعالى عن أن تكون الأفعال بقضائه وقدره ، فيجب أن يكونوا هم الموسومون بهذا الاسم.

وبهذا أبطلنا قولهم لنا : إنكم المستحقون لهذا الاسم فقد نفيتم القدر وقلتم لا قدر ، فقلنا : القدري اسم إثبات ، ولا يجري إلا على من أثبت القدر على الوجه المذموم دون من نفاه تنزيها لربه عن الأفعال القبيحة.

قالوا : أنتم بهذا الاسم أحق منا فقد أثبتم القدر لأنفسكم ، قلنا : إن القدر بمعزل عن القدرة ، فما هذه الجهالة؟ وعلى أنه لا يخلو حالنا وقد أثبتنا القدر لأنفسنا من أحد أمرين : إما أن نكون صادقين ، أو كاذبين. فإن صدقنا لم نستحق به اسم ذم وصار سبيلنا سبيل من أثبت القدرة لله تعالى ، وحكم بكونه تعالى قادرا ، فكما أنه لا يستحق بذلك أن يسمى قدريا ويجري عليه اسم من أسماء الذم ، كذلك إذا أثبتنا القدرة لأنفسنا وإن كذبنا لم يجز إجراء هذا الاسم علينا ، وصار الحال فيه كالحال فيمن أثبت الصناعة لنفسه ولا علم له بها البتة ، فكما أنه لا يستحق بذلك أن يسمى صانعا ، كذلك في مسألتنا.

قالوا : فهلا رضيتم منا بمثل هذا الكلام؟ قلنا : ولا سواء ، لأنا إنما سميناكم القدرية لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «القدرية مجوس هذه الأمة» ولأن الاسم اسم نسبة ووجوه النسبة كلها مفقودة سوى اللهج بذكر القضاء والقدر ، والذين يلهجون بذلك ليس إلا أنتم ، فاستحققتم هذا الاسم لا محالة.

قالوا : أنتم القدرية من الأمة ، فمذهبكم الذي يضاهي مذهب المجوس حيث أثبتم فاعلين صانعين ، كما أنهم أثبتوا فاعلين أحدهما النور والآخر الظلمة.

قلنا : إن مذهبنا هذا لا يضاهي مذهب المجوس ، فلسنا نثبت صانعين على الحد الذي أثبتوه ، لأن القوم جعلوا النور فاعلا للخير بطبعه على حد لا يمكنه مفارقته ، والظلمة فاعلة للشر بطبعها على حد لا يصح منها الانفكاك على حد لا يمكنه مفارقته ، والظلمة فاعلة للشر بطبعها على حد لا يصح منها الانفكاك منه ، فليس هذا حالنا : فإنا إنما أثبتنا فاعلين يفعلان ما يفعلانه على طريقة الاختيار والإيثار. وعلى أن مذهبنا إن كان يشبه مذهب المجوس من هذا الوجه فهو مشبه لمذهب اليهود والنصارى ، فالكل يوافقوننا على أن هذه الأفعال تتعلق بنا ونحن الموجودون لها ، وقد شبه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم القدرية بالمجوس على حد لا يشارك مذهبهم مذهب غيرهم ، وذلك ثابت في المجبرة

٥٢٦

الذين جعلوا القديم مجبولا على فعل الخير بحيث لا يقدر على قبيح حتى أنه لا يصح أن ينفرد الله تعالى بالظلم ، والشيطان مجبول على الشر بحيث لا يمكنه مفارقته والانفكاك عنه.

ولجعفر بن حرب كلام في هؤلاء المجبرة هذا موضعه ، فقد ذكر أن حالهم أسوأ من حال سائر أرباب الملل ، وذلك ظاهر ، فإن كل فرقة من الفرق لا يضيفون إلى معبودهم إلا ما اعتقدوا فيه الحسن سواهم.

ألا ترى أن الملحدة لما اعتقدت قبح هذه الصور قالوا : لو كان هاهنا صانع حكيم لما جاز أن يخلق مثل هذه الصور القبيحة لأنه يقدح في حكمته ، فنفوا الصانع كيلا يلزمهم إضافة القبيح إليه.

وكذلك فإن اليهود لما اعتقدوا حسن القول بنبوة موسى عليه‌السلام والعمل بما في التوراة ، وقبح الصيد في السبت ، وتحريم المكاسب فيه ، أضافوا إليه الأول ونفوا عنه الثاني.

وكذلك ، فإن النصارى لما اعتقدوا حسن القول بالتثليث وقبح ما عداه أضافوا الأول إليه ونزهوه عن الثاني.

وهؤلاء المجبرة مع علمهم بقبح هذه المقبحات أضافوها إلى الله تعالى من غير حشمة ولا مراقبة ، حتى أنك تراهم يفتخرون بذلك ، ولا يأنفون منه فقد صار حالهم أسوأ من حال سائر الكفرة.

ومما يوضح لك سوء حالهم في الإسلام ، أنهم بإضافتهم الأفعال كلها حسنها وقبيحها إلى الله تعالى ، سدوا على أنفسهم طريق معرفته أصلا ، فإن الطريق إلى إثبات المحدث في الغائب هو إثبات المحدث في الشاهد على ما مضى في غير موضع.

وكذلك ، فبنسبتهم القبائح إليه أخرجوا أنفسهم من صحة العلم بنبوة الأنبياء فإن صحة العلم بذلك يترتب على عدل الله وحكمته ، وأنه لا يختار القبح ولا يفعله ولا يصدق الكذابين ولا يظهر عليهم الأعلام المعجزة ، فصار حالهم لهذه الوجوه شرا من حال سائر المبطلين من الملحدة والمجسمة وغيرهم.

أفعال العباد لا توصف أنها من الله :

وقريب من هذه الجملة الكلام في أن أفعال العباد لا يجوز أن توصف بأنها من

٥٢٧

الله تعالى ومن عنده ومن قبله ، وذلك واضح ، فإن أفعالهم حدثت من جهتهم وحصلت بدواعيهم وقصودهم ، واستحقوا عليها المدح والذم والثواب والعقاب ، فلو كانت من جهته تعالى أو من عنده أو من قبله لما جاز ذلك ، فإذن لا يجوز إضافتها إلى الله تعالى إلا على ضرب من التوسع والمجاز ، وذلك بأن تقيد بالطاعات فيقال إنها من جهة الله تعالى ومن قبله ، على معنى أنه أعاننا على ذلك ، ولطف لنا ، ووفقنا ، وعصمنا عن خلافه.

فصل

حقيقة الألفاظ : ـ المعونة ـ اللطف ـ المصلحة ـ التوفيق ـ العصمة.

واتصل بهذه الجملة ، الكلام في حقيقة هذه الألفاظ التي هي المعونة واللطف والمصلحة والتوفيق والعصمة.

اعلم أن المعونة هي تمكين الغير من الفعل مع الإرادة له ، ولا بد من اعتبار الإرادة ، فإن من دفع إلى غيره سكينا ليذبح بها بقرة أو شاة وأراد منه ذلك ، يقال إنه أعانه على ذبح البقرة والشاة لما أراد منه ذلك ، وهذا يقوي كلامنا المتقدم ، فإنا قد ذكرنا أنه لا يجوز إطلاق القول بأن أفعالنا كلها من جهة الله تعالى على معنى أنه أعاننا عليها ، لأنه لا يصح أن يقال إنه أعاننا على المعاصي لأنه لم يردها ، وإنما يتصور ذلك في الطاعات ، فلا جرم أجزنا استعمال هذه الألفاظ إذا أريد بها ذلك المعنى.

وأما اللطف والمصلحة فواحد ، ومعناها ما يختار المرء عنده واجبا أو يجتنب عنده قبيحا على وجه لولاه لما اختار ولما اجتنب ، أو يكون أقرب إلى أداء الواجب واجتناب القبيح. ثم إن ما هذا حاله ينقسم إلى ما يكون من فعلنا فيلازمنا فعله سواء كان عقليا أو شرعيا لأنه يجري مجرى دفع الضرر ، وإلى ما يكون من فعل القديم جل وعز ولا بد من أن يفعله الله تعالى ليكون مزيحا لعلة المكلف ولكي لا ينتقض غرضه بمقدمات التكليف.

والمفسدة في نقيضة ، فإن معناها هو ما يختار المرء عنده قبيحا أو يجتنب واجبا أو يكون أقرب إلى ذلك ، وما هذا حاله فلا شك في أنه يجب على الله تعالى الامتناع منه ، وفي هل يجب المنع منه ينظر ، فإن كان من جهة غير المكلف وجب على الله تعالى المنع منه بلا خلاف بين شيخينا أبي علي وأبي هاشم ، وإن كان من جهة المكلف اختلفا فيه ، فعند أبي علي أنه يجب المنع منه كما لو كان من جهة غير

٥٢٨

المكلف ، وعند أبي هاشم لا يجب ، وكان الحال فيه كالحال في غيره من القبائح في أنه ليس يجب على الله تعالى المنع منها ، وهو الصحيح من المذهب.

وأما التوفيق ، فهو اللطف الذي يوافق الملطوف فيه في الوقوع ، ومنه سمي توفيقا. وهذا الاسم قد يقع على من ظاهره السداد ، وليس يجب أن يكون مأمون الغيب حتى يجري عليه ذلك.

وأما العصمة ، فهي في الأصل المنع ، ولهذا قال الله تعالى : (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ) ، أي لا مانع ، ومنه قيل للذي يشد به رأس الدابة : عصام ، وقد صار بالعرف عبارة عن لطف يقع معه الملطوف فيه لا محالة ، حتى يكون المرء معه كالمدفوع إلى أن لا يرتكب الكبائر ، ولهذا لا يطلق إلا على الأنبياء أو من يجري مجراهم.

فصل في الآجال

الآجال :

ووجه اتصاله بما تقدم ، هو أنه ربما يسأل عن الآجال هل هي بقضاء الله وقدره.

وقبل الدخول في المسألة نبين حقيقة الأجل.

الأجل :

اعلم أن الأجل إنما هو الوقت ، وأما في العرف فإنما يستعمل في أوقات مخصوصة ، نحو أجل الحياة وأجل الموت وأجل الدين ، ولا يكادون يستعملونه في غير ذلك. وذلك مما لا مانع منه ، فإن الدابة كان في الأصل عبارة عن كل ما يدب على وجه الأرض ، والآن فقد خص ببعض ما يدب دون بعض ، وكذلك الملك كان مستعملا في كل رسول ، والآن فقد خص به بعض الرسل ، وهكذا الجن والقارورة.

وإذ قد فسرنا الأجل بالوقت فإنا نفسر الوقت أيضا.

الوقت :

اعلم أن الوقت هو كل حادث يعرف به المخاطب حدوث الغير عنده أو ما يجري مجرى الحادث ، وإنما أوجبنا في الوقت أن يكون حادثا ، لأنه لو كان باقيا لم يصح التوقيت به ، ألا ترى أنه لا يصح أن يقال أجيئك إذا السماء أو الأرض لما كانا

٥٢٩

باقيين ، ثم لا يجب أن يكون حادثا على كل حال بل إذا جرى مجراه كفى ، ولهذا لا فرق بين قولهم أجيئك إذا طلعت الشمس أو صحت السماء ، وبين قولهم آتيك إذا أمسك المطر ، وبهذه الطريقة التي ذكرناها أبطلنا قول ابن زكريا المتطبب في الوقت : إن الشيء لا يتقدم على غيره إلا بوقت ومدة ، وقلنا له : إذا كان لا يجوز التوقيت بالباقي حتى لا يسمع قول القائل أجيئك إذا السماء ، فكيف يصح أن يوقت بالقديم وهل هذا إلا الجهل المحض. ويقال له : ـ وإن كان الكلام عليه هاهنا كالعارض ـ لا يخلو الوقت عندك من أن يكون شيئا واحدا أو أشياء ، وإذا كان أشياء لا يتقدم البعض منها على البعض كانت الحوادث كلها واقعة في وقت واحد ، وأما ما يجري مجرى الوقت الواحد ، فلا يثبت فيها التقدم والتأخر ، وإن كان أشياء يتقدم بعضها على البعض ، كان يجب أن لا يتقدم بعضها بعضا إلا بوقت ، والكلام في ذلك الوقت كالكلام فيه فيتسلسل بما لا نهاية له ، وذلك محال.

واعلم أن الموقت كالوقت في أنه ينبغي أن يكون حادثا أو ما يجري مجرى الحادث ، ولهذا يصح أن يجعل الوقت وقتا مرة ومؤقتا أخرى. بيان ذلك ، أن الإنسان ربما يقول : دخول زيد الدار حين طلوع الشمس ، وربما يقول : طلوع الشمس حين دخول زيد الدار ، فيوقت الأول بالثاني مرة ويوقت الثاني بالأول أخرى ، فيكون طلوع الشمس في إحدى الحالتين وقتا وفي الأخرى مؤقتا ، وذلك مما لا مانع يمنع منه.

الميت والمقتول ماتا بأجلهما :

وإذ قد عرفت هذه الجملة من حقيقة الأجل والوقت ، فاعلم أن من مات حتف أنفه مات بأجله ، وكذا من قتل فقد مات بأجله أيضا ، ولا خلاف في هذا.

والدليل عليه ، أن الأجل ليس المراد به هاهنا إلا وقت الموت ، وهما قد ماتا جميعا في وقت موتهما. وإنما الخلاف في المقتول لو لم يقتل كيف كان يكون حاله في الحياة والموت؟ فعند شيخنا أبي الهذيل أنه كان يموت قطعا لولاه وإلا يكون القاتل قاطعا لأجله وذلك غير ممكن ، وعند البغدادية أنه كان يعيش قطعا ، والذي عند ما أنه كان يجوز أن يحيا ويجوز أن يموت ، ولا يقطع على واحد من الأمرين فليس إلا التجويز.

وأما ما قاله أبو الهذيل فليس يصح ، لأن ذلك الأجل الذي لو لم يقتل فيه لبقي إليه أجل مقدر غير محقق ، فكيف يلزم أن يكون قاطعا لأجله والحال ما ذكرناه؟ ولو

٥٣٠

جاز أن يقال إنه قد أفنى ولده ، بأن يكون المعلوم من حاله أنه لو لم يقتل ، لرزق ولدا ، وأنه يكون قد اغتصب ماله بأن يكون المعلوم من حاله أنه كان يرزق مالا لو لم يمت ، ومعلوم خلافه.

وبعد ، فكان يجب في الواحد منا إذا دخل حظيرة غيره وأتى على أغنامه أن يكون منعما عليه بذبحها أجمع ، لأنه قد جعلها مذكاة بعد أن كانت بفرض الموت ، والمعلوم خلافه.

وأما البغداديون فقد قالوا : إنه يعيش قطعا ، لأنه لو لم يعش لكان لا يكون القاتل ظالما له ، وفي علمنا لخلافه دليل على أنه كان يعيش لا محالة ، وربما يقولون : إنا نعلم من حيث العادة أن الجماعة الكبيرة لا تموت دفعة واحدة ، وإن كنا نجوز أن يقتلوا دفعة واحدة ، فكيف يصح ما ذكرتموه؟ والجواب :

أما الأول فدعوى منكم فمن أين؟ فلا يجدون إلى تصحيحه سبيلا ، يقال لهم : كيف لا يكون ظالما له وقد أوصل إليه ضررا لا نفع فيه ولا دفع ضرر ولا استحقاق ولا الظن لأحد الوجهين المتقدمين؟ وهذه صورة الظلم. وبعد ، فإنه فوت عليه الأعواض التي كان يستحقها بالإمامة من جهة الله تعالى ، فهلا صار له ظالما ، وعلى أنا نجوز أن يعيش بعد ذلك مدة فينتفع بحياته ، فهلا جعلوه ظالما والحال ما نقوله.

وأما الثاني فهو بيّن ، لأن الجماعة كما يقتلون دفعة واحدة فقد يموتون دفعة واحدة أيضا ، والعادة قد جرت بذلك فكيف ينكرها من يعرف أحوال البلدان وعرف طواعين الشام ووباء المواضع الوبيئة نعوذ بالله منها.

وإذ قد تحقق لك هذه الجملة ، وقال لك قائل : هل الآجال بقضاء الله وقدره؟ فمن الواجب عليك أن تفصل عليه الكلام فتقول : إن أردت بالقضاء الخلق فنعم ، لأن الأجل بما قد تقدم عبارة عن حركات الفلك وهي من فضل الله تعالى ، وإن أردت به الإيجاب فلا ، وإن أردت به الإعلام فمن المجوز أن يرى الله تعالى الصلاح في أن يعلم بعض الملائكة حالنا في الحياة والموت وأنا نعيش إلى مدة ونموت بعدها ، فعلى هذه الجملة يجري الكلام في هذا الفصل.

٥٣١

فصل

الكلام في الأرزاق :

وقد عطف على ما تقدم الكلام في الأرزاق ، ووجه اتصاله به هو أن يجري في كلام الناس ، أن الآجال والأرزاق والأسعار كلها بقضاء الله تعالى وقدره ، فأراد أن يتكلم عليه.

وقبل الشروع في المسألة نذكر حقيقة الرزق.

اعلم أن الرزق هو ما ينتفع به وليس للغير المنع منه ، ولذلك لم يفترق الحال بين أن يكون المرزوق بهيمة أو آدميا.

وهو ينقسم إلى ما يكون رزقا على الإطلاق وذلك نحو الكلاء والماء وما يجري مجراهما ، وإلى ما يكون رزقا على التعيين وذلك نحو الأشياء المملوكة.

ثم إن سبب الملك ربما يكون الحيازة ، وربما يكون الإرث ، وربما يكون المبايعة وربما يكون الهبة ، هذا في الآدميين.

وأما في البهائم فإنه ينقسم أيضا إلى ما يكون رزقا على الإطلاق وذلك نحو الكلأ والماء وغير ذلك ، وإلى ما يكون رزقا على التعيين وذلك ما حواه فمه وحازه بهذه الطريقة.

فإن قيل : إنكم فسرتم الرزق بما ينتفع به ، فما معنى الانتفاع؟ قلنا : الالتذاذ.

فإن قيل : ما حقيقة الالتذاذ؟ قلنا : إدراك الشيء مع الشهوة.

ثم إن ما يدرك مع الشهوة ينقسم إلى ما يكون حادثا وإلى ما يكون باقيا ، ما يكون حادثا ، فهو المعنى الحاصل عند حك الجرب وما يجري هذا المجري ، وهو الذي يسمى لذة مرة وألما أخرى ، يسمى لذة إذا أدرك مع الشهوة وألما إذا أدرك مع النفار. أما ما يكون باقيا فهو كالطعوم والأراييح ، فإن الالتذاذ إنما يقع بإدراكها مع الشهوة ولا يحدث هناك معنى يلتذ به. هذا هو الذي ذهب إليه أبو هاشم.

وقد خالفه فيه أبو علي وقال : بل يحدث عند إدراك هذه الباقيات معاني يقع بها الالتذاذ ، والصحيح ما اختاره أبو هاشم.

والذي يدل على صحته ، هو أنه لو كان على ما ذكره أبو علي ، لكان يجوز

٥٣٢

اختلاف الحال فيه ، فكان يجب أن يتناول في بعض الحالات بعض الأطعمة الشهية ثم لا يقع بها الالتذاذ بأن يحدث ذلك المعنى ، وقد عرف خلافه ، فليس إلا القضاء بأن الالتذاذ إنما يقع بإدراك هذه الباقيات نفسها لا غير.

وإذ قد عرفت هذه الجملة فاعلم أن الأرزاق كلها كأنها من جهة الله تعالى ، فهو الذي خلقها وجعلها بحيث يمكن الانتفاع بها ، فهو الرزاق حقيقة وإذا وصف به الواحد منا فيقال : رزق الأمير جنده والسلطان رعيته ، كان على نوع من التوسع والمجاز.

غير أنه ينقسم إلى ما يحصل من جهة الله تعالى ابتداء ، وإلى ما يحصل بالطلب.

فالأول ، نحو ما يصل إلينا من المنافع بطريقة الإرث ونحوه مما وصل بغير علاج. والثاني فكما يحصل بالتجارات والزراعات وغير ذلك.

ثم إن الطلب ينقسم إلى ما يلحقه بتركه ضرر وإلى ما لا يلحقه بتركه ضرر ، فإنه يجب عليه الاشتغال به دفعا للضرر عن نفسه ، وما لا يلحقه بتركه ضرر فإنه وإن اشتغل به جاز وحسن وإن لم يشتغل به جاز أيضا وحسن.

واعلم أن جماعة من المتآكلة الذين سموا أنفسهم المتوكلة ، خالفوا في هذه الجملة ، وذهبوا إلى أن الطلب قبيح. واحتجوا لذلك بوجهين : أحدهما : هو أن الطلب يضاد التوكل وينافيه ويمنع منه فيجب القضاء بقبحه ، والثاني : هو أن الطالب لا يأمن فيما يجمعه ويتعب فيه نفسه أن تغصبه الظلمة فيكون في الحكم كأنه أعانهم على الظلم وذلك قبيح ، وهذا الذي ذكروه بخلاف ما في العقول.

التوكل طلب القوت من وجهه :

أما قولهم إن الطلب ينافي التوكل ويضاده فمحال ، بل التوكل هو طلب القوت من وجهه ، وعلى هذا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا ، جعل التوكل هو أن تغدوا وتروح في طلب المعيشة من حله.

وأما قولهم : إن ذلك في الحكم كأنه أعان الظلمة على ظلمهم فيجب قبحه فمما تدفعه العقول ، وقد تقرر في عقل كل عاقل حسن التجارات والفلاحات طلبا للأرباح ، يؤكد ذلك ويوضحه أن التاجر إنما يتجر ليربح على درهم درهما أو أقل من ذلك أو أكثر ، لا ليغصبه السلطان ، وكذلك الزراع فإنه إنما يزرع ليرزقه الله تعالى بدل حبة

٥٣٣

أضعافها لا ليحوزها الجورة والظلمة ، فكيف يصح والحال ما قلناه أن يقال : إن التجارة والفلاحة وغيرهما من أنواع الطلب إعانة الظلمة على ظلمهم ، على أنا قد ذكرنا في غير موضع أن الإعانة لا تثبت إلا مع الإرادة ، وبينا في مثاله أن من رفع سكينا إلى غيره ليذبح بها شاة فذبح به مسلما لم يقل إنه أعانه على قتل المسلم وذبحه ، وإن كان هو الذي رفع إليه السكين لهذا الغرض وإنما دفعه إليه لوجه آخر ، ففسد هذا الكلام من كل وجه.

فهذا هو الرزق وما يتعلق به من الأقسام حسب ما يحتمله هذا المكان.

وقد خالفنا في ذلك بعضهم وقالوا : إن الرزق هو ما يتغذى به ويؤكل ، وذلك مما لا وجه له ، فإن الأولاد والأملاك أرزاق من جهة الله تعالى ، ثم لا يقع به الاغتذاء.

وبعد ، فإن الحرام مما يقع به الاغتذاء ، ثم لا يجوز أن يكون رزقا.

فإن قيل : من أين أن الحرام لا يجوز أن يكون رزقا؟ قلنا : لأن الله تعالى منعنا من إنفاقه واكتسابه ، فلو كان رزقا لم يجز ذلك.

وبعد ، فإن الله تعالى قال : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً) وأيضا ، فإنه تعالى مدحنا بإنفاق ما رزقناه ، حيث قال : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) ومعلوم أنه لا يجوز أن يمدح على الإنفاق من الحرام ، فصح لنا ما ذكرناه ، فهذه طريقة القول فيه.

فصل في الأسعار

وقد ذكرنا وجه اتصاله بما تقدم.

الأسعار :

والذي نذكره هاهنا هو أن السعر شيء والثمن شيء آخر غيره ، فالسعر هو ما تقع عليه المبايعة بين الناس ، والثمن هو الشيء الذي يستحق في مقابله المبيع ، ثم إن السعر يوصف بالغلاء مرة وبالرخص أخرى ، فالرخص هو بيع الشيء بأقل مما اعتيد بيعه في ذلك الوقت وفي ذلك البلد ، والغلاء بالعكس من ذلك. ولا بد من اعتبار البلد والوقت فتأثيرهما مما لا يخفى.

٥٣٤

ثم إن الغلاء والرخص ربما يكون من قبل الله تعالى ، وربما يكون من قبل السلطان. ما يكون من قبل الله تعالى هو أن يقل ذلك الشيء وتكثر حاجة المحتاجين إليه ، أو يكثر ذلك الشيء وتقل حاجة المحتاجين إليه. وأما ما يكون من قبل السلطان فهو أن يسوم رعيته أن لا يبيعوا إلا بقدر معلوم.

وإذ قد عرفت ذلك وسئلت عن الأسعار أهي بقضاء الله وقدره أم لا؟ قلت : نعم ولم تحتج فيه إلى التقييد الذي مر في نظائره.

فإن قال : إذا قلتم إن الآجال والأرزاق والأسعار كلها بقضاء الله وقدره فهلا سميتم أنفسكم قدرية ودخلتم تحت قول النبي عليه‌السلام : القدرية مجوس هذه الأمة؟ قلنا : لا لأن ذلك الاسم اسم ذم فلا يستحق إلا على مذهب مذموم ، ونحن براء من ذلك على ما سبق القول فيه.

فصل في التوبة

وهو آخر فصول الكتاب.

التوبة :

وإنما أخر هذا الفصل وختم به الكتاب رغبة في أن تكون عاقبة أمره وخاتمة أعماله التوبة ، وترغيبا لنا أيضا في ذلك.

وجملة القول في ذلك أن ، المكلف لا تخلو حاله من أمور ثلاثة : إما أن تكون طاعاته أكثر من معاصيه ، أو معاصيه أكثر من طاعاته ، أو يكونا متساويين.

لا يجوز أن يكونا متساويين وإن اختلف في علته على ما تقدم.

وإذا كانت طاعاته أكثر من معاصيه كانت معصيته صغيرة فلا يجب التوبة عنها عقلا وإنما يجب سمعا ، خلافا لما يقوله أبو علي فإن من مذهبه أن التوبة عن الصغائر تجب عقلا وسمعا ، وقال أبو هاشم : بأنه لا تجب إلا سمعا ، وهو الصحيح من المذهب. والذي يدل على صحته أن التوبة إنما تجب لدفع الضرر عن النفس ، ولا ضرر في الصغيرة فلا تجب التوبة عنها. يبين ذلك ، أنه لا تأثير لها إلا في تقليل الثواب ، ولا ضرر في ذلك.

وإذا كانت معاصيه أكثر من طاعاته فهو صاحب كبيرة وتلزمه التوبة لكي يسقط

٥٣٥

عنه ما يستحقه من العقوبة.

وصورتها ، أن يندم على القبيح لقبحه ويعزم على أن لا يعود إلى أمثاله في القبح.

وفي هل التوبة تسقط العقوبة كلام :

فالذي عليه البغداديون من أصحابنا أنها لا تأثير لها في إسقاط العقاب وإنما الله يتفضل بإسقاطه عند التوبة.

وأما عندنا فإنها هي التي تسقط العقوبة لا غير ، والذي يدل على ذلك هو أن نظير التوبة في الشاهد الاعتذار ، ومعلوم أن الجاني إذا اعتذر إلى المجنى عليه اعتذارا صحيحا فإنه ليس له أن يذمه بعد ذلك ، لا لوجه سوى أنه اعتذر إليه ، وهذا يدل على أن الاعتذار هو المسقط للذم الذي استحقه على الجناية ، وإذا ثبت ذلك في الاعتذار فكذلك في التوبة.

يبين ما ذكرناه ويوضحه ، أنه إذا تاب لا بد من أن يسقط عنه العقوبة على حد لولاها لما أسقطت ، ولن يكون كذلك إلا والمسقط لها إنما هي التوبة ، فإن بهذه الطريقة ينكشف تأثير المؤثرات ، وهو أن يقف الحكم عليه حتى يثبت بثباته ويزول بزواله.

وأحد ما يدل على ذلك ، هو أنها لو لم تكن مسقطة للعقاب ، لكان يجب أن يحسن من الله تعالى أن لا يتفضل بل يعاقب عند التوبة ، لأن التفضل إنما يبين عما ليس بتفضل بهذه الطريقة : وهو أن لفاعله أن يفعل وأن لا يفعل ، والمعلوم خلافه.

فإن قيل : إنه تعالى يتفضل ولا يعاقب لأن الأصلح أن لا يعاقب ، قلنا إن الأصلح مما لا يجب عندنا فكان يجب حسن المعاقبة بعد التوبة ، وذلك مما قد عرف خلافه.

وإذا قد تقررت هذه الجملة ، فاعلم أنه لا فرق في هذه القضية التي ذكرناها بين معصية ومعصية ، إذ التوبة إذا أسقطت عقاب بعض المعاصي فإنما تسقطها لأنها بذل المجهود في تلافي ما وقع منه ، وهذا لا يختص ببعض المعاصي دون بعض ، ولا خلاف في ذلك إلا شيء يحكى عن بعضهم أن التوبة لا تسقط عقاب القتل ، ونسب هذا المذهب إلى ابن عباس ، فقيل إنه قال : لا توبة لمن قتل نفسا بغير حق ، وذلك

٥٣٦

على بعده منه لا يصح ، لأن التوبة بما ذكرناه من أنها بذل الجهد في تلافي ما فرط منه لا بد من أن تسقط عقوبة سائر المعاصي ، ولهذا تسقط عقوبة الكفر مع أنه أعظم حالا من القتل ، لا لوجه سوى ما قلناه.

واعلم أن التوبة إن كانت توبة عن القبيح فإن صورته أن يندم على القبح لقبحه ويعزم على أن لا يعود إلى أمثاله في القبح ، وإن كانت توبة عن الإخلال بالواجب فإن صورته أن يندم على الإخلال به لكونه إخلالا بالواجب ويعزم على أن لا يعود إلى أمثاله في ذلك.

شروط التوبة :

ولا بد من اعتبار الندم والعزم جميعا حتى تكون التوبة توبة صحيحة ، فإنه إن ندم ولم يعزم أو عزم ولم يندم لم يكن تائبا توبة نصوحا.

وكما لا بد من اعتبارهما جميعا فلا بد من أن يكون الندم ندما على القبيح لقبحه ، وكذلك العزم عزما على أن لا يعود إلى أمثاله في القبح ، إذ لو ندم على القبيح لا لقبحه بل لوجه آخر ، أو عزم على أن لا يعود إلى أمثاله لا لقبحه ، لم يكن تائبا فحصل لك أن المرء لا يكون تائبا توبة نصوحا إلا إذا ندم على القبيح لقبحه وعزم على أن لا يعود إلى مثله في القبح.

اقتران الندم بالعزم :

ولسنا نعني به أن يندم على القبيح اليوم ويعزم على ترك أمثاله غدا ، بل لا بد من اقتران الأمرين أحدهما بالآخر ، فلو انفصلا لم تصح توبته ، وهذا كله لأن من حق التائب أن يجعل نفسه في الحكم كأنه لم يفعل من القبيح ما فعله ، ولن يتأتى ذلك إلا على الطريقة التي ذكرناها من قبل. فإن قيل : وما الأصل في التوبة من هذين الأمرين : الندم أو العزم ، أو كل واحد منهما أصل برأسه؟ قيل له : بل الأصل بينهما إنما هو الندم والعزم شرط.

العزم أصل والندم شرط :

فإن قيل : فمن أين ذلك ولا تتم التوبة إلا بمجموع الأمرين؟ قلنا : لأن التوبة إنما تجب على ما مضى فلا بد من أن يكون الأصل فيهما أمرا يتعلق بالماضي ، والذي يتعلق بالماضي من هذين الأمرين ليس إلا الندم فإن العزم لا يتعلق بالماضي البتة ، إذ

٥٣٧

المرجع به إلى إرادة مخصوصة وحالها ما ذكرناه.

فإن قيل : وما الندم ومن أي جنس هو قلنا : إنه أمر معقول يجده كل أحد من نفسه.

فإن قيل : كيف يوجد من النفس مع أن الناس مختلفون فيه وفي جنسه ، وقال بعضهم : هو من قبيل الاعتقادات وهو الذي قال شيخكم أبو هاشم ، وقال الآخرون : بل هو جنس برأسه وهو الذي اختاره شيخكم أبو علي.

قيل له : إن الأمر في اختلاف الناس في الندم على ما ذكرته ، غير أن ذلك لا يمنع من أن يكون معلوما بالاضطرار موجودا من النفس ، فمعلوم أن العلم قد يوجد من النفس في بعض الحالات ، مع أن العقلاء اختلفوا في جنسه ، حتى ظن أبو الهذيل أنه جنس برأسه غير الاعتقاد ، وكذلك فاللون مع أنه مدرك لحاسة العين قد اختلف فيه ، فقال بعضهم : إنه جسم رقيق ، وظن آخرون أنه صفة الجسم ، وهكذا فالظن يعلم ضرورة ثم إن الناس اختلفوا فيه : فمنهم من ظنه من قبيل الاعتقاد ، ومنهم من أثبته جنسا برأسه. وعلى الأحوال كلها فإن اختلاف الناس في الندم مما لا يقدح في كونه معلوما بالاضطرار على الجملة.

فإن قيل : فما قولكم في الندم أهو جنس برأسه على ما قاله أبو علي أم الصحيح ما قاله أبو هاشم من أنه من قبيل الاعتقادات؟ قلنا : بل الصحيح ما قاله أبو هاشم ، والذي يدل على صحته هو أنه لو كان أمرا آخر سوى الاعتقاد لكان لا يمتنع انفصال أحدهما عن الآخر ، فكان يصح أن يعتقد الواحد منا استضراره بالفعل المتقدم مع التأسف على ذلك ثم لا يكون نادما ، أو يكون نادما ولا يكون معتقدا هذا الاعتقاد ، فإن هذه الطريقة هي الواجبة في كل أمرين لا علاقة بينهما في وجه معقول ، ومعلوم خلافه.

فإن قيل : كيف يصح قولكم إن الشرط في صحة التوبة أن يعزم على أن لا يعود إلى أمثال ما أتى به من القبيح ، مع أن العزم لا يتعلق بأن لا يعود إلى أمثاله في القبح ، فإنه نفي والعزم إرادة والإرادة لا تتعلق بالنفي؟ قيل له : إن المراد بذلك أن يعزم على ترك أمثاله في القبح ، والترك فعل يصح تعلق العزم به.

فإن قيل : هلا كفى في صحة التوبة أن يندم على القبيح لقبحه ويعزم على أن لا يعود إلى أمثاله في الصورة لا في القبح؟ قيل له : لأنه لو كان كذلك لكان لا يصح

٥٣٨

توبة المحجوب عن الزنا ، فإن صورة الزنا مما لا تتصور منه ، فكان يجب أن تستحيل التوبة عنه ، وفي علمنا بصحة توبته عن الزنا وغيره دليل على أن ذلك مما لا يصح ، وعلى أن في الواجبات ما هو بصورة القبيح ، فكيف يصح هذا الذي ذكرتموه.

واعلم أن من أراد التوبة فإما أن تتميز له الصغائر من الكبائر أو لا تتميز ، فإن تميز له الصغيرة من الكبيرة لم يلزمه التوبة عنها إلا سمعا على ما سبق القول فيه ، وهؤلاء الذين تتميز لهم الصغائر من الكبائر إنما هم الأنبياء دون سواهم ، وإن لم تتميز له الصغيرة من الكبيرة تلزمه التوبة من كل معصية أتى بها لتجويز أن يكون كبيرا.

واعلم أن من اعتقد في بعض الكبائر أنها حسنة وتاب عن غيرها فإن توبته عنها تصح ، غير أنها تقع محبطة في جنب هذا الاعتقاد ، وذلك كتوبة الخارجي عن الزنا وشرب الخمر مع اعتقاده حسن القتل.

وقريب من هذه الجملة الكلام في ، هل تصح التوبة عن بعض الكبائر مع الإصرار على البعض أو لا تصح ، والذي عليه شيخنا أبو علي أنه تصح ما لم يصرّ على شيء من ذلك الجنس ، فلو أنه تاب من شرب الخمر وأصر على الزنا كانت توبته عن الأول توبة نصوحا صحيحة ، فأما إذا أصر على شيء من ذلك الجنس لم تصح توبته ، وذلك لأنه لو تاب عن شرب هذا القدح من الخمر مع إصراره على شرب قدح آخر فلا إشكال في أن لا تصح توبته هذه.

وأما شيخنا أبو هاشم ، فقد ذهب إلى أنه لا تصح التوبة عن بعض القبائح مع الإصرار على البعض وهو الصحيح من المذهب. والذي يدل على صحته أن التوبة عن القبيح يجب أن تكون ندما عليه لقبحه وعزما على أن لا يعود إلى أمثاله في القبح على ما تقدم ، وإذا كان هذا هكذا فليس تصح توبته عن بعض القبائح مع الإصرار على البعض ، إذ لا يصح أن يترك أحدنا بعض الأفعال لوجه ، ثم لا يترك ما سواه في ذلك الوجه ، ألا ترى أنه لا يصح أن يتجنب سلوك طريق لأن فيها سبعا ، ثم لا يتجنب سلوك طريقة أخرى فيها سبع ، وكذلك لا يصح أن لا يتناول طعاما لأن فيه سما ، ثم يتناول طعاما آخر مع أن فيه سما.

فإن قيل : أليس أن أحدنا يفعل فعلا لوجه ثم لا يجب أن يفعل كل ما ساواه في ذلك الوجه ، فهلا جاز مثله في الترك؟

قلنا : إن لكل واحد منهما حكما مقررا في العقل وموضعا يخصه فيجب أن يفرد

٥٣٩

كل واحد منهما بحكمه ويقر في موضعه ، فلا يقاس أحدهما على الآخر.

يبين ذلك ويوضحه ، أنه قد تقرر في عقل كل عاقل أن من تجنب سلوك طريق لأنها مسبعة لا بد من أن يترك سلوك كل طريق هذه سبيلها وإلا علم أنه لم يترك هذه الطريق لهذه العلة ، وكذلك من لم يتناول بعض الأطعمة لأنه مسموم لا بد من أن يترك كل طعام فيه سم ، وإلا آذن بأنه لم يترك تناول الطعام الأول لهذا الوجه.

وكما أن هذا مقرر في العقول فكذلك فقد تقرر في عقل كل عاقل أن من تفضل على غيره بدرهم لأنه حسن لم يجب أن يتفضل عليه بجميع دراهمه لثبات هذا الوجه وهذه الطريقة فيه ، ولا إشكال في ذلك وإنما الكلام في علته.

فالذي يذكره أبو هاشم في علة ذلك ، أن الفعل مشقة ، فليس يجب إذا فعل فعلا لوجه أن يفعل كل ما شاركه في ذلك الوجه للمشقة ، وليس كذلك الترك فلا مشقه فيه ، لذلك افترق الحال في الفعل والترك ، وذلك مما لا يصح ، فإن المشقة غير حاصلة في حق القديم تعالى ، ثم إنه ليس يجب إذا تفضل نوعا من التفضل لجنسه ولكونه إحسانا يتفضل بسائر أنواع التفضل.

فإن قيل : فما العلة الصحيحة في ذلك إذا ، فقد أفسدتم كلام أبي هاشم؟ قلنا : الحكم معلوم ، فإن أمكن أن يطلب له علة صحيحة فذاك ، وإلا لم يقدح في صحة الحكم ، ويكون من الأحكام التي لا يمكن أن تعلل لأنه بأي شيء علل فسد.

وأما أبو علي فقد احتج لمذهبه بوجوه ، من جملتها : أن الذي نقوله يقتضي أن لا تصح توبة أحدنا عن القبيح إلا إذا تاب عن الواجب أو الحسن أيضا ، وذلك خلف. قال : وبيان ذلك ، أن من ارتكب كبيرة وأراد أن يتوب عنها وعنده أن اعتقاد نبوة نبينا مثلا قبيح ، فإنه لا تصح توبته عن تلك الكبيرة إلا إذا تاب عن هذا الاعتقاد الذي هو واجب ، وذلك فاحش من الكلام. والجواب أن هذا الالزام إما أن يكون من جهة الداعي ، أو من حيث التكليف فإن كان من حيث الداعي فملتزم ، والدليل عليه الأمثلة المتقدمة. وإن كان من حيث التكليف ، فليس يلزم لأنه يصح توبة هذا الذي ذكرته على وجه لا يكو تائبا عن هذا الاعتقاد ، وذلك بأن يتوب عن القبائح جملة فلا يدخل هذا الاعتقاد تحته ، أو يتوب عن الكبيرة ولا يتعرض لهذا الاعتقاد أصلا ، أو يتوب عما يعلم قبحه وقطع عليه ولا يتعرض لما لا يمكنه القطع على قبحه ، وإذا أمكنه أن يتوب على الكبيرة على هذه الوجوه ، كيف يصح ما ادعاه أبو علي علينا؟

٥٤٠