شرح الأصول الخمسة

عبد الجبّار بن أحمد الهمداني الأسدآبادي

شرح الأصول الخمسة

المؤلف:

عبد الجبّار بن أحمد الهمداني الأسدآبادي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٧

الأصل الخامس

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

٥٠١
٥٠٢

الأصل الخامس

وهو الكلام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

وكان من حقنا أن نذكر حقيقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، غير أنا قد قدمناها في أول الكتاب فلا نعيدها هاهنا.

وجملة ما نقوله في هذا الموضع ، أنه لا خلاف بين الأمة في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، إلا ما يحكى عن شرذمة من الإمامية لا يقع بهم وبكلامهم اعتداد. والذي يدل على ذلك بعد الإجماع قوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران : ١٨٠] الآية وقوله تعالى حاكيا عن لقمان : (يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ) ومما يدل على ذلك مما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ليس لعين ترى الله يعصي فتطرف حتى تغير أو تنتقل».

والغرض بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن لا يضيع المعروف ولا يقع المنكر ، فمتى حصل هذا الغرض بالأمر السهل لا يجوز العدول عنه إلى الأمر الصعب ، وهذا مقرر في العقول ، وإلى هذا أشار تعالى بقوله : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) ، الآية ، فبدأ أولا بإصلاح ذات البين ، ثم بالمقاتلة إن لم يرتفع الغرض إلا بها حسب ما ذكرناه.

ولا خلاف في هذه الجملة بين شيخنا أبي علي وأبي هاشم ، وإنما الخلاف بينهما في أن وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعلم عقلا أو شرعا؟.

فذهب أبو علي إلى أن ذلك يعلم عقلا.

وقال أبو هاشم : بل لا يعلم عقلا إلا في موضع واحد ، وهو أن يرى أحدنا غيره يظلم أحدا فيلحقه بذلك غم ، فإنه يجب عليه النهي ودفعه دفعا لذلك الضرر الذي لحقه من الغم عن نفسه ، فأما فيما عدا هذا الموضع فلا يجب إلا شرعا ، وهو الصحيح من المذهب.

والذي يدل على أن ذلك مما لا سبيل إلى وجوبه من جهة العقل إلا في الموضع

٥٠٣

الذي ذكرنا ، هو أنه إن وجب عقلا فإما أن يجب للنفع أو لدفع الضرر ، ولا يجوز أن يجب للنفع لأن طلب النفع لا يجب فلأن لا يجب الإيجاب لأجله أولى ، فليس إلا أن يكون وجوبه لدفع الضرر على ما نقوله.

فإن قيل : هلا جاز أن يكون الوجه في وجوبه هو أن لا يقع المنكر ولا يضيع المعروف فيكون وجوبه معلوما عقلا فإن ذلك أمر معقول؟ قيل له : لأنه لو كان كذلك لكان يجب أن يمنعنا الله تعالى عن المنكر ويلجئنا إلى المعروف ، ومعلوم خلافه.

فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون الوجه في وجوبه كونه لطفا لنا ومصلحة؟.

قلنا : إن هذا وإن كان هو الوجه في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، غير أنا لا نعلم ذلك من حاله إلا بالشرع ، لأنه ليس في قوة العقل أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يدعونا إلى الواجب ويصرفنا عن القبيح.

فإن قيل : أو لستم قد عرفتم بالعقول أن معرفة الله تعالى لطف ، وأن نعته من هو كافر في الحال أو كان كافرا من قبل مفسدة ، فهلا جاز مثله في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قلنا : إن هذا اقتراح على العقل وذلك مما لا وجه له ، فليس يجب إذا علمنا أمرا من الأمور عقلا ، بأن قرر الله تعالى في عقولنا ، أن نعلم أيضا بالعقل ما لم يقرره فيه ، ففسد هذا الكلام.

يبين ذلك ، أن ما قالوه جمع بين أمرين من غير علة جامعة بينهما ، فيقال لهم : ما أنكرتم أنا إنما علمنا كون المعرفة لطفا لنا بالعقل ، لأنه قرر تعالى كونه لطفا في عقولنا ، وهذا غير ثابت فيما نحن فيه ، فلا يجب أن نعلمه أيضا بالعقل.

وأما ما يقوله أبو علي في هذا الباب ، فهو أنه لو لم يكن الطريق إلى وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر العقل ، لكان يجب أن يكون المكلف مغرى بالقبيح ، ويكون في الحكم كمن أبيح له ذلك ، فليس يصح ، لأن ذلك يقتضي أن لا يجب واجب ولا يقبح قبيح إلا والطريق إلى وجوبه أو قبحه العقل ، والإلزام أن يكون المكلف مغرى على القبيح وعلى الإخلال بما هو واجب عليه ، ويكون كأنه أبيح له ذلك ، ومعلوم خلاف ذلك.

يبين ذلك ويوضحه ، أن وجوب الصلاة وقبح الزنا إنما نعلمه شرعا ، ثم لم يقتض أن يكون المرء من قبل كان مغرى على القبيح أو الإخلال بالواجب ، أو يكون في الحكم كمن أبيح له شيء من ذلك.

٥٠٤

وبعد ، فكيف تصح هذه العبارة ، مع أن الإباحة ليس المرجع بها إلا إلى تعريف المكلف حسن الفعل وأنه لا صفة له زائدة على حسنه ، إما بخلق العلم الضروري أو بنصب الأدلة ، فكيف يصح إباحة ما ليس بمباح.

ومما يقوله أيضا : هو أنه قد ثبت أن الامتناع عن المنكر واجب ، فيجب أن يكون المنع منه أيضا واجبا ، لأنه لا فرق في قضية العقل بينهما.

وجوابنا ، لو كان الأمر على ما ذكرتموه ، لكان يجب كما يمتنع القديم تعالى عن هذه القبائح أن يمنعنا عن ذلك ويضطرنا إلى خلافه ، ومعلوم خلاف ذلك. فثبت بهذه الجملة أن الطريق إلى وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما هو السمع إلا في الموضع الذي ذكرناه ، على ما يقوله أبو هاشم.

والشرائط المعتبرة في هذا الباب قد ذكرناها في أول الكتاب ، فمن استكمل تلك الشرائط لزمه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومن لم يستكملها لم يلزمه.

واعلم أن بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرقا من حيث أن في الأمر بالمعروف يكفي مجرد الأمر به ، ولا يلزمنا حمل من ضيعه عليه ، حتى ليس يجب علينا أن نحمل تارك الصلاة على الصلاة حملا ، وليس كذلك النهي عن المنكر فإنه لا يكفي فيه مجرد النهي عند استكمال الشرائط ، حتى نمنعه منعا ، ولهذا فلو ظفرنا بشارب خمر وحصلت الشرائط المعتبرة في ذلك ، فإن الواجب علينا أن ننهاه بالقول اللين ، فإن لم ينته خشّنا له القول ، فإن لم ينته ضربناه ، فإن لم ينته قاتلناه إلى أن يترك ذلك.

واعلم أن مشايخنا أطلقوا القول في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والواجب أن يفصل القول فيه فيقال :

أقسام المعروف :

المعروف ينقسم إلى ما يجب ، وإلى ما هو مندوب إليه ، فإن الأمر بالواجب واجب ، وبالمندوب إليه مندوب غير واجب ، لأن حال الأمر لا يزيد على حال الفعل المأمور به في الوجوب.

المناكير ضرب واحد ولكنها تتنوع حسب المكلف :

وأما المناكير فهي كلها من باب واحد في وجوب النهي عنها ، فإن النهي إنما يجب لقبحها ، والقبح ثابت في الجميع.

٥٠٥

غير أنها تنقسم إلى ما يختص المكلف ، وإلى ما يتعداه.

وما يختصه فينقسم إلى ما يقع به الاعتداد ، وإلى ما لا يقع به الاعتداد.

فأما ما يقع به الاعتداد ، فإن النهي عنه واجب من جهتي العقل والشرع جميعا ، أما من جهة العقل فلأنه يدفع عن نفسه بالنهي عنه الضرر ، ودفع الضرر عن النفس واجب ، وأما من جهة الشرع فلأن قوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) لم يفصل بين أن يكون هذا الضرر مما يختصه وبين أن يكون مما يتعداه.

وأما ما لا يقع به الاعتداد ، فذلك كأن يحاول أحدنا اغتصاب دانق من ماله وهو بمنزلة قارون في اليسار ، فإنه لا يجب النهي عنه إلا سمعا ، فأما من جهة العقل وهو غير مستضر به فلا يجب ، هذا فيما يختصه.

وأما ما يتعداه ، فإنه ينقسم إلى ما يقع به الاعتداد فيجب النهي عنه شرعا وعقلا إن لحق قلبه به مضض ، وإلى ما لا يقع به الاعتداد فلا يجب النهي عنه إلا شرعا ، وهذه بقية القول في هذا الفصل.

فصل

وقد أورد رحمه‌الله بعد هذه الجملة ، الكلام في أن المنكر إذا كان من باب الاعتقادات وكيفية النهي عنه ، ثم عطف عليه الكلام فيمن أراد التوبة عنه كيف يتوب. وهذا الفصل الأخير بباب التوبة أليق وبذلك الموضع أخص غير أنا لا نخالفه في ذلك بل نوافقه عليه.

وجملة القول في ذلك ، أنه لا فرق في باب المناكير بين أن تكون من أفعال القلوب ، وبين أن تكون من أفعال الجوارح في أنه يجب النهي عنها ، إذ النهي عنها إنما وجب لقبحها ، والقبح يعمها.

ومتى فصل بينها بأن أفعال القلوب مما لا يمكن الاطلاع عليها ، فذلك أمور مغيبة عنا ، وما هذا سبيله لا يجب النهي عنه.

قلنا : إن في أفعال القلوب ما يمكن الاطلاع عليه ، فقد علمنا من حال العلوية بغضهم لبني أمية واعتقادهم فيهم ، وكذلك فإنما نعلم ضرورة من حال من يدرس طول عمره مذهبا من المذاهب وينصره ويدعو الناس إليه ويبذل جهده فيه وفي الدعاء إليه أنه

٥٠٦

معتقد لذلك المذهب ، وإذ قد تقرر أن الاطلاع على الاعتقاد ممكن ، وصح لدينا خطأ بعض الاعتقادات وفسادها ، وكونها من باب المناكير ، فإنه يلزمنا النهي عنها على حد لزوم النهي عن غيرها من المناكير ، فهذا جملة ما يلزم تحصيله في الفصل الأول.

أما الفصل الثاني

كيفية التوبة :

فالأصل فيه ، أن من اعتقد اعتقادا ثم ظهر له فساده وكونه خطأ باطلا ، فإن الواجب عليه أن يتوب عنه ويندم عليه لا محالة ، إلا أنه لا يخلو ، إما أن يكون قد أظهره من نفسه فظهر وانتشر واطلع عليه الناس ، أو لم يظهره لأحد ولم يطلع عليه أحد كفاه التوبة بينه وبين الله تعالى ، وإن أظهره حتى أطلع عليه غيره ، فلا يخلو ، إما أن يكون قد دعا إليه أو لم تكن منه الدعوة ، فإن لم يدع غيره إليه غير أنه ظهر منه ذلك وعرف هو به ، فإن الواجب عليه أن يتوب من ذلك سرا وبين يدي الذين قد عرفوه بذلك المذهب والاعتقاد الفاسد كيلا يتهموه به بعد ذلك ، وإن كان منه إلى ذلك المذهب والاعتقاد الفاسد دعوة فلا يخلو ، إما أن يكون قد قبل منه غيره أو لا ، فإن لم يقبل منه غيره كفاه التوبة بين يديه على الحد الذي ذكرناه ، فإن قبل ، فإنّ الواجب عليه أن يتوب عن ذلك ويعرف ذلك الغير الذي قبل منه توبته عنه ، وأنه قد تبين له فساد ذلك الاعتقاد. ثم هل يجب عليه إفساد ذلك المذهب ، وحل تلك الشبهة التي ألقاها إليه؟ ينظر ، فإن كان في الناس من يقوم مقامه في حل تلك الشبهة عليه لم يلزمه إلا القدر الذي ذكرناه ، ويكون حل تلك الشبهة عليه من فروض الكفايات ، وإن لم يكن في العلماء من يقوم مقامه في حل تلك الشبهة ، أو كان في العلماء الذين يقومون مقامه في الحل كثرة ، غير أن لبيانه مزية على بيانهم ، فإن الواجب أن يظهر من ذلك الاعتقاد التوبة ، ثم يبين وجه الخطأ فيه ويحل له الشبهة التي ألقاها إليه ، فهذه طريقة القول في ذلك.

ومما يشبه هذه الجملة ، الكلام في المفتي إذا أخطأ ، ما الذي يلزمه إذا أراد التوبة عنه؟ وجملة القول فيه : أن من أفتى ، فإما أن تكون فتواه فيهما الحق فيه واحد وأخطأ فيلزمه التوبة عنه وأن يذكر للمستفتي خطأه في ذلك ، وإما أن تكون فتواه فيما لا يتعين الحق فيه واحد بل يكون طريقه الاجتهاد ، ثم إنه في ذلك بين أن يكون قد وفي الاجتهاد حقه غير أنه ترجح لديه وجه على الوجه الذي أفتى به فلا يلزمه والحال

٥٠٧

هذه شيء ، إذ لم يكن عليه غير تأدية الاجتهاد حقه وقد فعل ، وبين أن لا يكون قد وفي الاجتهاد حقه بل أفتى فيما بدا له ، فيلزمه والحال هذه أن يتوب عن ذلك ، ويبين للمستفتي أني قد قصرت في الجوانب ولم أؤد الاجتهاد حقه.

وقريب من هذا ، الكلام في الحاكم إذا أخطأ في الحكومة ، لأنه إما أن يكون قد حكم بما الحق فيه واحد ، أو بما طريقه الاجتهاد. فإن كان قد حكم بما ألحق فيه واحد وأخطأ لزمه أن يتوب عن ذلك ويظهر للمحكوم له والمحكوم عليه خطأه في الحكم ، وإن حكم بما في طريقه الاجتهاد ، فإما أن يكون قد وفي الاجتهاد حقه وحكم بما أدى إليه الاجتهاد ثم تغير حاله في الاجتهاد ورأى القوة في خلاف ما حكم به ، وإما أن لا يكون قد وفى الاجتهاد حقه بل حكم بما بدا له ، فإن كان الأول فلا شيء عليه البتة ، إذ الاجتهاد لا ينقض الاجتهاد ، اللهم إلا أن يكون قد ظهر له أن القوة في أحد الوجهين قبل الحكم إلا أنه حكم بالأضعف عنده ، فحينئذ يلزمه الحكم بالأقوى والرجوع إلى المحكوم عليه وبيان أن الحكم كيت كيت ، وإن كان الثاني فإن الواجب أن يتوب عن ذلك ويبين للمحكوم له والمحكوم عليه أن الحكم كذا وكذا وأني لم أحكم يوم حكمت عن اجتهاد. فهذه طريقة القول في ذلك.

فصل في الإمامة

وقد اتصل بباب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الكلام في الإمامة ، ووجه اتصاله بهذا الباب أن أكثر ما يدخل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقوم بها إلا الأئمة.

وجملة ذلك أن معرفة الإمام واجب ، ولسنا نعني به أنه يجب معرفته سواء كان أو لم يكن ، وإنما المراد إذا كان ظاهرا يدعو إلى نفسه ، ولا خلاف في هذا إلا شيء يحكى عن قاضي القضاة أبي الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني ، ومن البعيد أن يكون قد أنكر ما قلناه ، وإنما الذي يقوله أن ذلك لا يجب على الكافة والعوام ، وإنما هو من تكليف العلماء.

فقد حصل لك أنما ادعيناه من وجوب معرفة الإمام على الحد الذي نقوله مجمع عليه.

٥٠٨

خمسة فصول :

واعلم أن الكلام في الإمامة يقع في خمسة مواضع : أحدها : في حقيقة الإمام ، والثاني : فيما له ولأجله يحتاج إلى الإمام ، والثالث : في صفات الإمام ، والرابع : في طرق الإمامة ، والخامس : في تعيين الإمام.

حقيقة الإمام :

أما الفصل الأول

وهو أن الإمام في أصل اللغة هو المقدم ، سواء كان مستحقا للتقديم أو لم يكن مستحقا. وأما في الشرع فقد جعله اسما لمن له الولاية على الأمة والتصرف في أمورهم على وجه لا يكون فوق يده يد ، احترازا عن القاضي والمتولي. فإنهما يتصرفان في أمر الأمة ولكن يد الإمام فوق أيديهم. هذا هو الفصل الأول.

الحاجة إلى الإمام :

وأما الفصل الثاني

وهو الكلام فيما له ولأجله يحتاج إلى الإمام. اعلم أن الإمام إنما يحتاج إليه لتنفيذ هذه الأحكام الشرعية ، نحو إقامة الحد وحفظ بيضة البلد وسد الثغور وتجييش الجيوش والغزو وتعديل الشهود وما يجري هذا المجرى.

ولا خلاف في أن هذه الأمور لا يقوم بها إلا الأئمة ، إلا في إقامة الحد والغزو ، فعندنا أن إقامة الحدود والغزو كغيرهما من هذه الأشياء التي عددناها في أنه لا يقوم بها إلا الأئمة ، والدليل عليه إجماع أهل البيت عليهم‌السلام وإجماعهم حجة على ما سيجيء من بعد إن شاء الله تعالى.

وقد ذهبت الإمامية إلى أن الإمام إنما يحتاج إليه لتعرف من جهته الشرائع ، والذي يدل على فساد مقالتهم هذه ، هو أن الشرائع معروفة أدلتها من كتاب الله تعالى وسنة الرسول عليه‌السلام وإجماع أهل البيت وإجماع الأمة؟ فأي حاجة بالأمة إلى الإمام؟ وفيهم من قال بأن الحاجة إلى الإمام هو لأنه لطف في الدين وذلك مما لا دلالة عليه. وبعد ، فكيف يجوز أن يغيب الإمام عن الأمة طوال هذه المدة ، مع كونه لطفا في الدين ، ومع أن الحاجة إليه بهذه الشدة.

٥٠٩

فإن قيل : إن هذا الذي ذكرتموه إنما يدل على فساد ما يقوله هؤلاء ، فما دليلكم على صفحة ما اخترتموه مذهبا.

قلنا : الإجماع ، فقد اتفقت الأمة على اختلافها في أعيان الأئمة أنه لا بد من إمام يقوم بهذه الأحكام وينفذها ، وإجماع الأمة حجة لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عليكم بالسواد الأعظم» ، وقوله : «لا تجتمع أمتي على الضلالة».

ومما يدل عليه أيضا آية المشاقة والاستدلال بها مشروح في مجموع العمد.

صفات الإمام :

وأما الفصل الثالث :

في صفات الإمام ، اعلم أن الإمام يجب أن يكون من منصب مخصوص خلاف ما يحكى عن طائفة من الخوارج ، ولا يكفي هذا القدر حتى يكون فاطميا ، ثم لا يجب أن يكون حسنيا أو حسينيا بل الذي لا بد منه هو أن يكون من أحد البطنين ، ويجب أن يكون مبرزا في العلم مجتهدا ولا خلاف فيه وإنما اختلفوا في القاضي. وقد حكي عن أبي حنيفة ، أنه لا يجب في القاضي أن يكون مجتهدا ، وإن كان قاضي القضاة استبعد عنه هذه الحكاية وقال : إنما أراد به أنه ليس يجب أن يكون حافظا لكتب الفقهاء وترتيب أبوابها ، وهكذا غرضنا إذا اعتبرنا كون الإمام مجتهدا ، فليس من ضرورته أن يكون حافظا لكتب الفقهاء وحكاياتهم وترتيب أبواب الفقه بل إذا كان بحيث يمكنه المراجعة إلى العلماء وترجيح بعض أقوال بعضهم على البعض كفى ، غير أنه لا يكون على هذا الوصف حتى يعلم شيئا من اللغة ، ليمكنه النظر في كتاب الله تعالى ومعرفة ما أراده بخطابه وما لم يرده ، وإن كان في معرفة مراد الله بخطابه وغير ذلك يحتاج إلى أمور أخر غير العلم بالعربية المجردة ، وهو أن يكون عالما بتوحيد الله تعالى وعدله ، وما يجوز على الله تعالى من الصفات وما لا يجوز ، وما يجب له من الصفات وما لا يجب ، ويكون عالما بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإذن قولنا ينبغي أن يكون مجتهدا يجمع هذه الأمور كلها.

ولا بد مع هذه الشرائط أن يكون ورعا شديدا ، يوثق بقوله ويؤمن منه ويعتمد عليه ، وأن يكون ذا بأس وشدة وقوة قلب وثبات في الأمور.

فهذه جملة ما يعتبر من الأوصاف في الشخص حتى يصلح للإمامة.

٥١٠

فأما الأول ، وهو أنه يكون من منصب مخصوص فلا بد من اعتباره لدلالة الإجماع ، فإن أبا بكر لما ادعى بحضرة الجماعة أن الأئمة من قريش لم ينكر عليه أحد.

وأما كونه عالما بحيث يصح معه مراجعة العلماء والفرق بين ضعيف الأقوال وقويها ، فإنه لو لم يكن عالما لم يمكنه القيام بشيء من هذه الأحكام التي احتيج إليه لمكانها ، فما من شيء منها إلا ومن لا علم له بهذه الجملة التي عددناها لا يتأتى منه تنفيذها.

وأما العفاف والورع ، فلأنه لو كان متهتكا لم يجز له تولية القضاة ولا تعديل الشهود وإقامة الحدود وسد الثغور بالإجماع. يبين ذلك ويوضحه ، أن بالاتفاق منع من جواز التولية من قبل قطاع الطريق ، فلا وجه لذلك إلا تهتكهم وتظاهرهم بالفسق ، فإذا كان الإمام بهذه الصفة لم يكن إماما ولا جاز التولي من قبله.

وأما الشجاعة وقوة القلب ، فلأنه لو لم يكن كذلك لم يمكنه تجييش الجيوش وسد الثغور والغزو إلى ديار الكفرة ، وقد ذكرنا أن هذه الأحكام هي التي أحوجت إلى الإمام.

طرق الإمامة :

وأما الفصل الرابع :

وهو الكلام في طرق الإمامة. فقد اختلف فيه ، فعندنا : أنه النص في الأئمة الثلاثة والدعوة والخروج في الباقي ، وعند المعتزلة : أنه العقد والاختيار وإليه ذهبت المجبرة ، ويحكى عن الجاحظ أن الطريق إلى الإمامة إنما هو كثرة الأعمال ، وإلى قريب من هذا ذهب عباد في طريق النبوة ، فقد قال : إن طريقها الجزاء على الأعمال ، وقالت الخوارج : إن طريقها الغلبة ، وقالت العباسية : بل طريقها الإرث ، وقالت الإمامية. والبكرية : إن طريقها النصر.

ونحن إذا أردنا تصحيح ما اخترناه من المذهب فلنا طريقان : أحدهما : هو أن نبدأ بالدلالة عليه ، والثاني : أن نبين فساد هذه المقالات كلها حتى لا يبقى إلا ما نقوله.

أما الذي يدل على ما ذهبنا إليه ابتداء : الإجماع ، فلا خلاف بين الأمة أن من

٥١١

انتدب لنصرة الإسلام ونابذ الظلمة وكان مستكملا لهذه الشرائط التي اعتبرناها ، فإنه يجب على الناس مبايعته والانقياد له ، وكذلك فقد اتفق أهل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أن طريق الإمامة إنما هو الدعوة والخروج على الحد الذي ذكرناه ، هذا إذا أردت ابتداء الدلالة على ذلك.

فأما إذا أردت هذه المقالات ، فإن الذي يشتبه الحال فيه ليس إلا مقالة المعتزلة ، وما عداها فظاهر السقوط.

وإذا أردت إفساد مقالتهم فلك فيه طريقان :

أحدهما : هو أن تطالبهم بتصحيح ذلك وتفسد عليهم ما يحتجون به.

والثاني : هو أن تبدأ بالدلالة على فساد مقالتهم.

أما الطريق الأول ، فهو أن نقول : ما دليلكم على أن العقد والاختيار طريق الإمامة؟ فإن قالوا : إن الإمامة عقد من العقود ، بل هي من أقلها رتبة وأعظمها منزلة فلا بد من عاقد يعقدها للمعقود له ، قلنا : هب أن الأمر على ما ذكرتموه فمن أين أن الإمامة عقد ، وأن العقد لا بد له من عاقد يعقده ، فمن أين أنه لا يجوز أن يكون العاقد نفس الإمام حتى يعقد لنفسه على الحد الذي نقوله ، وصار الحال فيه كالحال في النذور. وهكذا نتبع كلامهم ونفسد عليهم الوجوه التي يذكرونها في هذا الباب ، فهذه طريقة القول في ذلك.

وإذا أردت ابتداء الدلالة على فساد مذهبهم ، فالأصل فيه أن تقول :

لو كان الأصل في الإمامة إنما هو العقد والاختيار لكان لا بد من أن يكون إليه طريق ، والطريق إليه إما العقل أو الشرع ، والعقل مما لا يجوز أن يكون طريقا إليه لأن الإمامة حكم شرعي فيجب أن يكون الطريق إليه أيضا شرعيا ، وإذا كان الطريق إليه الشرع ، فإما أن يكون الكتاب أو السنة أو الإجماع ، وشيء من ذلك غير ثابت هناك.

قالوا : إن الاجماع حاصل على ذلك ، فمعلوم أن نفرا من الصحابة حضروا السقيفة وعقدوا لأبي بكر الإمامة ولم ينكر عليهم أحد ، ولم يقل أن العقد ليس بطريق إلى الإمامة ، وفي ذلك ما نقوله ، يبين ذلك ويوضحه ، أن الصحابة يومئذ كانوا بين مبايع عاقد ، وبين متابع ، وبين ساكت سكوتا يدل على الرضى ، وهذه صورة الإجماع.

وربما يؤكدون ذلك ، بأن عمر جعل الأمر شورى بين ستة ولم ينكر عليه أحد ،

٥١٢

ولو كان طريق الإمامة غير العقد والاختيار لأنكروا عليه ، بل كان لا يدخل علي بن أبي طالب تحت الشورى ، ويقول : إن الله قد نص عليّ في محكم كتابه وكذا الرسول ، فلم أدخل معكم في الشورى ، وهذا الأمر لا حق لغيري فيه؟.

وجوابنا ، أن هذا إنما يصح لو ثبت أن الصحابة كانوا بين مبايع ومتابع وساكت سكوتا يدل على الرضى ، وهذه صورة الإجماع ، ونحن لا نسلم ذلك ، فمعلوم أن عليا عليه‌السلام لما امتنع عن البيعة هجموا على دار فاطمة ، وكذلك ، فإن عمارا ضرب وأن زبيرا كسر سيفه ، وسلمان استخف به ، فكيف يدعى الإجماع مع هذا كله ، وكيف يجعل سكوت من سكت دليلا على الرضى؟ وأما دخوله عليه‌السلام في الشورى ، فلأنه كان صاحب الحق ، ولصاحب الحق أن يطلب حقه بما يمكنه ، فلا يصح ما ذكرتموه.

وقد اعترضت المعتزلة على الذي اخترناه من وجوه تقدم بعضها ولم يتقدم البعض.

فمما لم يتقدم قولهم : إنما قد فسرتم به الدعوة والخروج من حكم الإمامة ، فكيف يجعل طريقا إليها؟ قلنا : لا يمتنع ذلك ، فإن أحد الأمرين ينفصل عن الآخر.

ومن ذلك قولهم : إن الدعوة والخروج لو كان طريقا للإمامة ، لكان يجب إذا اتفق الدعوة من شخصين يصلح كل واحد منهما لذلك ، أن ينعقد أمرهما ويصيرا إمامين لحصول الدعوة والخروج ، وذلك لم يذكره أحد سوى ناصركم وأنتم فقد تأولتم كلامه كيلا يلحقه خرق الإجماع. وجوابنا ، إن ذلك قلما يتفق في وقت واحد ، ولو اتفق فالواجب أن ينظر فيمن سبقت دعوته ، فأيهما سبقت دعوته فهو الإمام. وإن اتفق منهما الدعوة في وقت واحد ، فإنه لا تنعقد إمامة واحد منهما ، وصار الحال في ذلك كالحال في ولي النكاح ، فكما أنه لا ينعقد النكاح ما لم يسبق أحد العقدين على الآخر ، كذلك هاهنا.

وعلى أن هذا لازم لهم في العقد والاختيار ، فيقال لهم : ما تقولون لو اتفق العقد والاختيار على شخصين يصلحان للإمامة ، وكل ما ذكروه من عذر هناك فهو عذر لنا هاهنا.

واعلم أن أبا علي وأبا هاشم لم يختلفا في أن الشخصين إذا عقد لهما فإن الإمام هو من عقد له أولا ، وإنما الخلاف فيما إذا اتفق العقد لهما دفعة واحدة. فعند أبي

٥١٣

هاشم أنه لا ينعقد إمامة واحد منهما كما في ولي النكاح فلا بد أن يعقد ثانيا لأحدهما ، وقد قال أبو علي : إنه لو اتفق العقد لهما جميعا في حالة واحدة فإن الواجب أن يقرع بينهما ، وعلى الأحوال كلها فما أمكنهم ذكره في العقد يمكنا أن نذكره في الدعوة إذ لا فصل.

تعيين الإمام :

وأما الفصل الخامس

في تعيين الإمام ، اعلم أن مذهبنا ، أن الإمام بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، علي بن أبي طالب ، ثم الحسين ثم الحسن ، ثم زيد بن علي ، ثم من سار بسيرتهم.

وعند المعتزلة ، أن الإمام بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي عليه‌السلام ، ثم من اختارته الأمة وعقدت له ، ممن تخلق بأخلاقهم وسار بسيرتهم ، ولهذا تراهم يعتقدون إمامة عمر بن عبد العزيز ، لما سلك طريقهم.

وعند الإمامية أن الإمام بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، عليّ ثم الحسن ثم الحسين إلى تمام اثني عشر ، فهذه طريقة القول في تعيين الإمام وذكر الخلاف.

فصل هل يجوز خلو الزمان عن إمام :

اعلم أن من مذهبنا أن الزمان لا يخلو عن إمام ، ولسنا نعني به أنه لا بد من إمام متصرف فالمعلوم أنه ليس ، وإنما المراد به ليس يجوز خلو الزمان ممن يصلح للإمامة.

ثم إن العلم بالحاجة إلى الإمام لا يجوز أن يكون عقليا ، بل إنما نعلمه شرعا.

وقد خالفنا في ذلك أبو القاسم ، وقال : إنا نعلم وجوب الحاجة إلى الإمام عقلا ، وإليه ذهبت الإمامية.

ويقولون : إن الإمام لا بد من أن ينص الله تعالى عليه لحاجة الناس إليه.

وأبو القاسم يقول : يجب على الناس أن ينصبوه إن لم ينص الله تعالى عليه ، لأن مصلحتهم في ذلك ، وهذا يحتمل أن يريد به المصلحة الدنياوية على ما تقوله الإمامية إن الإمام لطف في الدين ، ويحتمل أن يريد به المصلحة الدينية على ما يقوله بعض

٥١٤

أصحابه. فإن أراد به الأول ، فالفرق بينه وبين الإمامية هو من الوجه الذي ذكرته ، ولأجل ذلك لا يجب في الإمام أن يكون معصوما وأوجبت الإمامية ذلك ، وإن أراد الثاني ، فالفرق بينه وبين الإمامية ظاهر ، لأنهم يقولون إن الإمام لطف في الدين كمعرفة الله بتوحيده وعدله وغير ذلك من الألطاف ، وهو لا يقول به.

والذي يدل على فساد مقالتهم ، هو أنه لو كان العلم بوجوب وجود الإمام عقليا ، لكان لا بد من أن تكون الحاجة إلى الإمام أيضا في العقليات ، ومعلوم أن الإمام إنما يحتاج إليه لتنفيذ الأحكام الشرعية ، فكيف يصح أن تعلم الحاجة إليه عقلا.

فإن قيل : هلا جاز أن يحتاج إلى الإمام في العقليات؟ قلنا : إنه لو احتيج إليه في ذلك لكان لا تخلو الحاجة إليه من أن تكون لمنافع دينية أو دنياوية.

ولم يجز أن تكون الحاجة إليه للمنافع الدنياوية ، كأن يقال يحتاج إليه لتعرف من جهته الأغذية من السمومات وما يضر مما ينفع ، فإن ذلك مما يمكن معرفته بالسير والأخبار ، ولذلك يشترك في معرفته العقلاء وغير العقلاء من البهائم ونحوها ، ولأن ذلك يمكن أن يعرف من واحد فلا يحتاج إلى غيره فيقدح في حاجة الناس إلى الإمام في سائر الأزمان.

وإذا قيل بالحاجة إليه للمنافع الدينية فلا يخلو : إما أن يحتاج إليه في التكاليف العقلية أو السمعية ، فإن احتيج إليه في التكاليف العقلية لم يجز وإلا احتاج الإمام إلى إمام آخر ، والكلام في ذلك الإمام كالكلام فيه فيتسلسل ، ولأنه لا يحتاج في شيء من التكاليف العقلية إلا إلى الأقدار والتمكين وإزاحة العلة بالألطاف ، ولا تأثير للإمام في شيء من ذلك بل حاله وحال غيره في هذه الأمور على سواء.

فإن قيل : ما أنكرتم أن له مزية على غيره من حيث يتعلق بوجوده لطف للمكلف. قلنا : إذا قيل بوجوده لطف للمكلفين وصلاحهم ، فإن المراد أن يؤدي عليهم عن الله تعالى ما فيه صلاحهم أو يقوم بمصالحهم ، وأي ذلك من هذين الأمرين فلاحظ للإمام فيه.

وبعد ، فلا يكون ذلك كذلك إلا والطريق إليه الشرع وفي ذلك ما نقوله.

فإن قيل : إن وجود الإمام لطف من وجه آخر ، وهو أن الناس يطيعون الله تعالى ويتجنبون المعاصي انقيادا لأمره واتباعا له وانخراطا في سلك طاعته ، قلنا : إن ذلك مما لا نعلمه من حال جميع الناس ، بل في الآدميين من إذا ولي عليه غيره كان ذلك

٥١٥

داعيا إلى الفساد ، وعلى هذا فإن أبا جهل لما بعث إليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان قد بلغ في العناد وترك الاستسلام والانقياد كل مبلغ ولم يطع كغيره وكذا الحال في غيره من الكفرة.

وبعد ، فهذا الكلام يوجب على قائله وجود الأئمة الكثيرة ، فإن هذا الغرض لا يندفع بإمام واحد والناس في العالم مفترقون ، بل الواجب أن ينصب في كل محلة إمام ، ليكون أهل تلك المحلة إلى الطاعة أقرب ، انقيادا له وطاعة لرضاه ، وفي ذلك الفساد ما لا يخفى على أحد.

فصل

اعلم أنا قد قدمنا الكلام في طريق الإمامة واختلاف الأقوال فيها ، غير أنا نعيده هاهنا على نوع من الاختصار ، ونضم إليه ما يشذ ويسقط ، فنقول :

إن الزيدية اتفقوا على أن الطريق إلى إمامة علي بن أبي طالب والحسن والحسين عليهم‌السلام النص الخفي ، وأن الطريق إلى إمامة الباقين الدعوة والخروج. ثم اختلفوا في أنه هل يجب تفسيق من أنكر النص على هؤلاء الثلاثة؟ فقال بعضهم : يجب تفسيقه وهم الجارودية ، وقال آخرون لا يجب وهم الصالحية.

وأما الإمامية فقد ذهبت إلى أن الطريق إلى إمامة الاثني عشر النص الجلي الذي يكفر من أنكره ، ويجب تكفيره ، فكفروا لذلك صحابة النبي عليه‌السلام.

وقد وافقتهم البكرية والكرامية في أن طريق الإمامة إنما هو النص ، غير أنهم ذهبوا إلى أن المنصوص عليه بعد النبي عليه‌السلام أبو بكر ، وإليه ذهب الحسن البصري.

واستدلوا على ذلك بقوله تعالى : (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) [الفتح : ١٦] فيقولون : إنه ورد في أبي بكر ، فهو أول من دعا إلى أهل الردة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك مما لا يسلم لهم أن المراد به أبو بكر ، بل الصحيح أنه في عليّ عليه‌السلام ودعائه إلى قتال من قاتلهم من القاسطين والمارقين والناكثين.

ومتى قيل : إن الآية تقتضي إمامة من دعا إلى قتال الكفرة وعليّ لم يدع إلا إلى قتال أهل القبلة من أهل البغي ، قلنا : ليس في قوله تعالى : (أَوْ يُسْلِمُونَ ما ظننتموه).

٥١٦

وربما يستدلون بتقديم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إياه في الصلاة ، وذلك أيضا فمن البعيد ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قدم كثيرا من الصحابة للصلاة ولم يدل على إمامتهم. وبعد ، فإن الإمامة في الصلاة بمعزل عن القيام بالإمامة الكبرى والقيام بأمر الأمة ، ولهذا يصلح لأحدهما العبد دون الآخر ، فكيف قاسوا أحد الأمرين على الآخر ، وما وجه الشبه بينهما.

وأما المعتزلة ، فقد ذهبت إلى أن طريق الإمامة العقد والاختيار ، ورامت تصحيح ذلك بوجوه تقدم بعضها وهذا باقيها :

قالوا : طريق الإمام بالاتفاق إما العقد والاختيار ، أو النص ، وقد بطل النص فلم يبق إلا العقد والاختيار.

قالوا : والذي يدل على أنه لا نص ، هو أنه لو كان كذلك لكان لا يخلو : إما أن يكون نصا جليا أو خفيا. لا يجوز أن يكون نصا جليا ، لأنه لو كان كذلك لكان يجب أن يكون الراد كافرا لرده ما هو معلوم ضرورة من دين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي ذلك تكفير الصحابة على فحش القول به ، ولكان لا يجوز أن يخفى الحال فيه لأن هذا هو الواجب فيما علم ضرورة ، لو لا ذلك وإلا كان يجوز أن يكون الله تعالى قد تعبدنا بصلاة سادسة وبحج إلى غير بيته الحرام إلا أنه خفي على الناس أمره ولم يظهر ، وذلك شنع بمرة. فبطل النص الجلي.

وأما النص الخفي فإنه كان يجب أن لا يذهب الصحابة بأسرهم عن الغرض به ، فقد كانوا في غاية المعرفة بالمقاصد وما يجري هذا المجرى ، وفي علمنا بأنهم لم يعرفوا هناك نصا ولا أقروا به دليل على أنه لم يكن له أصل ، وبعد ، فلو كان هناك نص لأورده المنصوص عليه واستدل به على إمامته ، والمعلوم أنه لم يورده ولم يحتج به وفي ذلك دلالة على أن ذلك لم يكن. والجواب أنكم ألزمتم الإمامية ما يلتزموه فلا معنى له.

وأما النص الخفي على ما نقوله فإنه ليس يجب أن يعرفه كل أحد ، فإن ذلك إنما يجب فيما العلم به ضروري ، ولسنا ندعي أن الصحابة اضطرت إلى قصد النبي بذلك.

فإن قالوا : فلم ذهبوا عن الغرض به ولم يعرفه أحد؟ قلنا : لأنهم لم ينظروا فيه أو حملوه على وجه آخر غير الإمامة ، وعلى أنا لا نسلم أن الصحابة بأسرهم ذهبوا عن الغرض به ، فمعلوم أن أصحاب علي عليه‌السلام كانوا يعرفون ذلك ، وكذلك فكان عليّ يدعيه ويعتقده ، فكيف صح لهم ما قالوه؟

٥١٧

وقد دخل في الجواب عن قولهم : لو كان هناك نص لاحتج به المنصوص عليه تحت هذه الجملة. وقد سأل قاضي القضاة نفسه حين دل على أنه لا نص ، بأنه لو كان لأظهره المنصوص عليه واستدل على إمامته وفي علمنا بأنه لم يفعل دليل على أنه لم يكن ، وقال : ما أنكرتم أنه لم يورده ولم يتمسك به في تثبيت إمامته لعلمه أو لغلبة ظنه أنهم لا يصغون إليه ولا ينظرون فيه؟ وأجاب عن ذلك : بأن هذا مما لا يمكن ، مع أن حال الصحابة في الاستسلام للحق والانقياد له والرجوع إليه بحيث لا يخفى على أحد ، وعلى هذا فالمعلوم أن عليا لما أنكر على عمر إقامة الحد على الحامل ، فقال : هب أن لك عليها سلطانا فما سلطانك على ما في بطنها ، أصغى إليه فرجع إلى قوله ، وقال : لو لا علي لهلك عمر. وكذا فقد روي أنه رجع في بعض الحوادث إلى قول معاذ لما بين له أن الحق في قوله ، وقال : لو لا معاذ لهلك عمر. وهكذا فقد روي أنه على محله في القلوب ومكانه فيها ومنزلته في العلم ، ترك قوله لقول امرأة أنكرت عليه بعض الحوادث ، وقال : كلكم أفقه من عمر حتى المخدرات في البيوت ، إلى غير ذلك من الأحاديث التي لا يلتبس الحال فيها. فلو كان مع المنصوص عليه نص ، لكان من سبيله أن يورده عليهم ويحتج به عندهم ، سيما وقد عرف من حالهم أنهم يرجعون إلى قول كل أحد إذا تبين لهم الحق في جنبته ، فلما لم يظهره ولا احتج علم أنه لم يكن أصلا.

وقد جرى في كلامنا ما هو جواب عن هذا ، فقد ذكرنا أن عليا أورد النصوص وأظهر الاستدلال بها ، فكيف يمكن ادعاء أنه لم يظهر ذلك ، وحديث الشورى يشتمل على نيف وسبعين دلالة وفضيلة أوردها علي بن أبي طالب مستدلا ببعضها على إمامته ، وببعضها على فضله على الصحابة ، وهذا واضح عند من أنصف.

وربما قالوا : إن الصحابة وإن اختلفوا في المختار لم يختلفوا في الاختيار وهذا دعوى منهم ، فمن خالف في إمامة أبي بكر لم يعتقد الاختيار طريقا للإمامة.

وربما يؤكدون كلامهم المتقدم بقول العباس بن عبد المطلب لعلي بن أبي طالب عليه‌السلام : امدد يدك أبايعك ، وقول علي : لو كان عمي حمزة وأخي جعفر حيين لفعلت ، وباحتجاج عليّ على طلحة والزبير بالبيعة وقوله لهما : بايعتماني ثم نكثتماني ، ويقولون : إن هذا كله ينافي النص ويؤذن أصحابهم بأن طريق الإمامة عند علي وغيره العقد والاختيار على الحد الذي نقوله وقريب من هذا احتجاجهم بدخول عليّ عليه‌السلام تحت الشورى ، فقد ذكرنا أن الوجه فيه أنه كان لا يصل إلى حقه إلا بالدخول

٥١٨

فيه وهذا سائغ ، وعلى أنه وإن دخل في الشورى فلم يجعل الأمر موقوفا على اختيارهم إياه وعقدهم للإمامة ، وأما احتجاجه على طلحة والزبير بالبيعة فلكي يبين لهم أنهم لا يثبتون على الحق أصلا. فهذه جملة ما يحتمله هذا المجمل.

فإن قيل : فما ذلك النص الذي دلكم على إمامة عليّ عليه‌السلام؟ قيل له : نصوص كثيرة من كتاب الله تعالى نحو قوله : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ) [المائدة : ٥٥] الآية. بين الله تعالى أن الولاية له عزوجل ثم لرسوله ثم للموصوف بإيتاء الزكاة في حال الركوع ، ولا خلاف في أن الموصوف بذلك عليّ عليه‌السلام دون سواه. فإن قال قوله تعالى : (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) الجماعة ، فكيف يصح حمله على الواحد؟ قيل له : لا بد من أن يحمل على واحد وإلا لزم أن يكون المولى والمولى عليه واحدا وذلك مما لا سبيل إليه ، وبعد فإن في آخر الآية ما يمنع من حمله على الجماعة لأن الواو في قوله : (وَهُمْ راكِعُونَ) ، واو الحال ، فيجب أن يكون المراد به من أدى الزكاة في حال الركوع ، ومتى قيل : إن الآية محمولة على المحبة والنصرة ، قلنا : لا تنافي بين بعض هذه الأمور وبين البعض ، فنحمله على الجميع.

ومن ذلك قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» أثبتت لعلي عليه‌السلام جميع المنازل التي كانت ثابتة لهارون من موسى عليهما‌السلام واستثنى النبوة. ومن المنازل التي كانت ثابتة لهارون من موسى الإمامة ، فوجب ثبوتها لعلي عليه‌السلام. وفي ساداتنا من ادعى بأن الخبر متواتر ، وفيهم من قال إنه متلقى بالقبول وهو الصحيح.

ومن ذلك حديث غدير خم بطوله ، وموضع الدلالة منه قوله : «من كنت مولاه» ، والمولى والأولى في اللغة وعرف الشرع واحد ، قال الله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) [التحريم : ٤] وقال لبيد :

مولى المخافة حلفها وإمامها

ولتطويل الإمامة واستيفاء القول فيها موضع آخر.

فصل في التفضيل

اعلم أن الأفضل في الشرع ، هو الأكثر ثوابا ، ولذلك قال مشايخنا : إن طريق معرفته الشرع ، لأنه لا مجال للعقل في مقادير الثواب والعقاب.

٥١٩

إذا ثبت هذا ، فاعلم أن المتقدمين من المعتزلة ذهبوا إلى أن أفضل الناس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي عليه‌السلام ، إلا واصل بن عطاء فإنه يفضل أمير المؤمنين على عثمان فلذلك سموه شيعيا.

وأما أبو علي وأبو هاشم فقد توقفا في ذلك ، وقالا : ما من خصلة ومنقبة ذكرت في أحد هؤلاء الأربعة إلا ومثله مذكور لصاحبه.

وأما شيخنا أبو عبد الله البصري فقد قال : إن أفضل الناس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم علي بن أبي طالب ثم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ، ولهذا كان يلقب بالمفضل ، وله كتاب في التفضيل طويل.

وقد كان قاضي القضاة يتوقف في الأفضل من هؤلاء الأربعة كالشيخين ، إلى أن شرح هذا الكتاب فقطع على أن أفضل الصحابة أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام.

فأما عندنا : إن أفضل الصحابة أمير المؤمنين عليّ ثم الحسن ، ثم الحسين عليهم‌السلام.

والذي يدل على ذلك الآيات والأخبار المروية في علي عليه‌السلام ، نحو خبر الطير وخبر المنزلة وغيرهما ، وأيضا فما منقبة من المناقب كانت متفرقة في الصحابة إلا وقد كانت مجتمعة في أمير المؤمنين من العلم والورع والشجاعة والسخاء وغير ذلك ، ومما يدل على ذلك إجماع أهل البيت ، وهذا كما يدل على أنه أفضل الصحابة ، فإنه يدل على أن الحسن كان أفضل الصحابة بعده ، ثم الحسين عليهم‌السلام. فهذه جملة ما هو له في هذا الموضع.

فصل

الكلام في الأخبار :

في الكلام في الأخبار ، ووجه اتصاله بما تقدم ، هو أن الإمامة لا تثبت إلا بالأخبار لأنه لا طريق لها سواها.

وجملة القول في ذلك ، أن الأخبار لا تخلو ، إما أن يعلم صدقها ، أو يعلم كذبها ، أو لا يعلم صدقها ولا يعلم كذبها.

والقسم الأول ينقسم إلى ما يعلم صدقه اضطرارا ، وإلى ما يعلم اكتسابا.

٥٢٠