شرح الأصول الخمسة

عبد الجبّار بن أحمد الهمداني الأسدآبادي

شرح الأصول الخمسة

المؤلف:

عبد الجبّار بن أحمد الهمداني الأسدآبادي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٧

١
٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

المقدمة

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيّدنا محمد خاتم النبيين وإمام الناصحين ، القائل : «من يرد الله به خيرا يفقّهه في الدين» ورضي الله تعالى عن صحبه الغرّ الميامين ، وعن التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين ...

وبعد ، فهذا كتاب «شرح الأصول الخمسة» لقاضي القضاة عبد الجبار بن أحمد الهمذاني الأسدآبادي المتوفى سنة ٤١٥ ه‍. نقدمه للقارىء الكريم بعد أن قمنا بإعادة طبعة وتصحيح ألفاظه وتخريج آياته بما يفيد المطالع فيه.

والكتاب يتناول «شرح الأصول الخمسة» : التوحيد ، والعدل ، والمنزلة بين المنزلتين ، والوعد والوعيد ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهي الأصول التي اتفق عليها المعتزلة. واختلفوا في غيرها ، وقد أوصل الشهرستاني عدد فرقهم إلى اثنتي عشرة فرقة.

ونحن نقدم هذا الكتاب للقراء وكلنا ثقة في أنه سيخدم الفكر والثقافة الإسلامية العربية المعاصرة خدمة جليلة .. فهو يعرض فكر الاعتزال بصورة متكاملة بقلم عالم فاضل من كبار رجالهم.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

بيروت ١١ محرم ١٤٢٢ ه‍

الموافق ٥ نيسان ٢٠٠١ م

٥
٦

مؤلف الكتاب

هو قاضي القضاة أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد بن الخليل بن عبد الله الهمذاني الأسدآبادي (١) ، لم تحدد كتب الطبقات والتراجم تاريخ مولده ، إلا أن معظم الذين كتبوا عنه اتفقوا على أنه توفي سنة ٤١٥ ه‍ (٢) ، وأنه عمر طويلا حتى جاوز التسعين.

عاصر قاضي القضاة دولة بني بويه في العراق وفارس وخراسان منذ تأسيسها حتى انهيارها (٣) ، ويبدو أنه شارك في كثير من أحداث هذه الدولة ، فقد استدعاه الصاحب بن عباد أعظم وزرائها إلى الري وولاه قاضيا لقضاتها في سنة ٣٦٧ ه‍ ، ويشبه هذا المنصب وزارة العدل في أيامنا ، وكان العهد الأول من الصاحب إليه يشمل رئاسة القضاء في الري وقزوين وزنجان وقم وديناوند ، ثم أضاف إليه في عهد آخر قضاء جرجان وطبرستان (٤).

وكان هذا الوزير الأديب معجبا بالقاضي ، فخورا بوجوده في ديوانه ، ومن مظاهر هذا الإعجاب أنه كتب له عهد القضاء بخط يده على ورق سمرقندي مطرز موشى ، وصفه السبكي وصفا جميلا (٥). وذكر أنه كان من جملة ما أهدى إلى نظام الملك (٦). وكان الصاحب يصف أبا الحسن بأنه أفضل أهل الأرض وأعلمهم (٧).

__________________

(١) الهمذاني نسبة إلى همذان وهي مدينة مشهورة بخراسان ، تخرج منها جماعة من العلماء والأئمة الحديثين. «معجم البلدان» لياقوت الحموي (٤ / ٩٨١) ، و «الأنساب» (ص ٥٩٢) والأسدآبادي نسبة إلى أسدآباد ، وهي بلدة كبيرة على منزل من همذان «ياقوت» ١ / ٢٤٥ و «السمعاني ٣٢)

(٢) خالف ابن الأثير فقال مات سنة ٢١٤ «الكامل» (٩ / ١١٩) ، وكذلك قال ابن شاكر الكتبي في «عيون التواريخ» ، وقال البعض أنه توفي سنة ٤١٦ ، وسبب هذا الالتباس فيما نظن أن وفاته كانت في أواخر سنة ٤١٥ ه‍ أي في شهر ذي القعدة ، كما ذكر الذهبى في «سير أعلام النبلاء» ، والسبكي في «طبقات الشافعية» (٣ / ٣١٩).

(٣) استمرت هذه الدولة من القرن الرابع إلى ما بعد الربع الأول من القرن الخامس الهجري.

(٤) انظر «رسائل الصاحب بن عباب» (متوفى سنة ٣٨٥).

(٥) «الطبقات الكبرى» (٣ / ٢٣٠) ، و «تاريخ الحضارة الإسلامية» (١ / ٣١٠١).

(٦) من أشهر وزراء الدولة السلجوقى وقد قتله أحد الباطنيّة سنة ٤٨٥.

(٧) «المنية والأمل» لابن المرتضى (١١١ ـ ١١٣).

٧

وقد عرف أصحاب الحاجات منزلته عند رجال الدولة فقصدوه بغية التوسط لقضائها ، وقد ذكر ابن شاكر الكتبي أن أحد طلابه رجاه أن يتوسط له عند الصاحب بشأن ضريبة مقدارها ٣٣٠ دينار فوضعها الصاحب عنه بعد أن أجابه القاضي على عدة مسائل فقهية وعقائدية استعصت عليه.

بقي القاضي مدة طويلة في منصبه طيلة حياة الصاحب ، ثم عزل بعد وفاته ، ويرى بعض المؤرخين أن سبب عزله ومصادرته تعود إلى نقمة فخر الدين عليه لعقوقه للصاحب ، فقد رفض أن يصلي عليه لأنه لم يعلم له توبة عن الكبائر التي ارتكبها (١).

وقد عاد القاضي بعد عزله إلى التدريس في مدينة الري ولم ينقطع عنه ولا عن التأليف والكتابة طيلة حياته.

منزلة القاضي في الفكر الإسلامي :

كان أبو الحسن عبد الجبار واسع الأفق ، متنوع الثقافة وغزيرها ، اشتهر بأنه شيخ الاعتزال وإمامه في زمانه وحق له ذلك ، فقد عمر طويلا ولم ينقطع عن التأليف والتدريس طيلة حياته. قال عنه الذهبي والسبكي إنه من غلاة المعتزلة ، وكان صاحب حجة ومعرفة واعتداد برأيه ، وكثيرا ما حاول الدفاع عن رجال الاعتزال بنقده لآراء بعض المتطرفين منهم ، أو التماس تأويلات لا تبعد كثيرا عن تأويلات أهل السنة ولعل للثقافة الفقهية أثرها الكبير في هذا الموقف.

بدأ القاضي حياته العلمية فقيها على مذهب الإمام الشافعي ، ثم انصرف إلى الكلام بعد أن وجد على حد قوله قلة الإقبال عليه لأن صاحبه لا يجني منه ثمرة دنيوية بينما كان الفقه يجذب كثيرا من طلاب الدنيا ..

ودرس القاضي الفقه ودرسه وألف فيه كتبا مطولة تشرح وتدرس (٢) كما درس التفسير وله فيه كتب عديدة منها «تنزيه القرآن عن المطاعن» ، و «متشابه القرآن» وكان على دراية واسعة بالحديث فقد سمع من كبار المحدثين وانتقل إليهم ليأخذ منهم الحديث ، وأملى فيه كتابا هو «نظام الفوائد» و «تقريب المراد للرائد» .. كما أنه لم

__________________

(١) ذكر هذا ابن الأثير ، وأبو شجاع ، وغيرهما.

(٢) منها كتاب «العمد» الذي ذكر أغلب من كتب عن القاضي أن تلميذه أبا الحسن البصري المتوفى سنة ٤٣٧ قد شرحه في كتابه «المعتمد» والصحيح أن شرح المعتمد كتاب آخر.

٨

يقصر في نقض الفلسفة اليونانية ومنطق أرسطو.

وعرف بالإضافة إلى ذلك بأنه مؤلف أفضل كتاب في تثبيت دلائل النبوة وهو بعنوان «تثبيت دلائل نبوة سيدنا محمد».

ونستطيع أن نقول أن القاضي كان ملما بشتى فروع الثقافة الإسلامية المعروفة آنذاك. دراسة وتدريسا وتأليفا ، كما أن أثره كان واضحا على جميع من درس العقائد والتوحيد من بعده مؤيدا أو ناقدا.

أساتذته وتلاميذه :

تتلمذ أبو الحسن على عدد من كبار رجال الفكر الإسلامي في عصره ، فقد درس علم الكلام على أبي إسحاق إبراهيم بن عياش. وأبي عبد الله الحسين بن علي البصري (ت ٣٦٩ ه‍).

وسمع الحديث من إبراهيم بن سلمة القطان (المتوفى سنة ٣٤٥ ه‍) وعبد الرحمن بن حمدان الجلاب (ت ٣٤٦ ه‍) ، وعبد الله بن جعفر بن فارس والزبير بن عبد الواحد الأسدآبادي (٣٤٧ ه‍) وغيرهم كثيرون.

وتتلمذ على القاضي طلاب نابهون منهم الإمام المؤيد بالله (أحمد بن الحسين الآملي) ، وأبو رشيد سعيد النيسابوري وأبو القاسم التنوخي ، والشريف المرتضى أبو القاسم علي بن الحسين الموسوي ، وأبو يوسف عبد السلام القزويني ، وأبو عبد الله الحسن بن علي الصيمري ، وأبو الحسين محمد بن علي البصري ، وأبو القاسم إسماعيل البستي ، وأبو حامد أحمد بن محمد النجار. وغيرهم كثيرون.

مؤلفات القاضي :

يجمع من أرخ للقاضي أنه كان كثير التآليف متنوعها ، يقول صاحب «المنية والأمل» : «هو الذي فتق علم الكلام ونشر بروده ، ووضع فيه الكتب الجليلة التي بلغت الشرق والغرب وضمنها من دقيق الكلام وجليله ما لا يتفق لأحد مثله حتى طبق الأرض بكتبه. وقال الحاكم : «يقال إن له مائة ألف ورقة».

وقال صاحب «لسان الميزان» «وأملى عدة أحاديث وصنف الكتب الكثيرة في التفسير والكلام وحدث الإسنوي : «أن مؤلفاته انتهت إلى أربع مائة ألف ورقة منها «المحيط» اثنين وعشرين و «المغني» ثلاثة عشر و «مختصر الحسنى» عشرة ، و «الأصول

٩

والعمد» نيف وعشرون ... إلخ.

وقد وضع صاحب «المنية والأمل» قائمة طويلة بأسماء مؤلفاته ، وأشار بروكلمان إلى تسع منها مع تحديد أماكن وجودها.

ومن هذه الكتب : «المغني» ، ولكن مما لا نزاع فيه أن «شرح الأصول» أشهر كتب القاضي وأعظمها أثرا وأشيعها ذكرا. «آداب القرآن» ، و «الأمالي في الحديث» ، و «تنزيه القرآن عن المطاعن» ، و «شرح كشف الأغراض عن الأعراض» ، و «شرح الجامعين» ، و «طبقات المعتزلة» ، و «المبسوط» ......

وصف الكتاب :

والكتاب الذي نقدمه للقراء هو «شرح الأصول الخمسة» : التوحيد ، والعدل ، والمنزلة بين المنزلتين ، والوعد والوعيد ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهي الأصول التي اتفق عليها المعتزلة. واختلفوا في غيرها ، وقد أوصل الشهرستاني عدد فرقهم إلى اثنتي عشرة فرقة.

ولم يكن بحث القاضي لهذه الأصول على هذا التصنيف في جميع كتبه فهو في «المغني» اعتمد على أصلين هما العدل والتوحيد وأدخل ما عداهما فيهما ، وفي «مختصر الحسنى» ذكر أن الأصول أربعة وهي : العدل والتوحيد والنبوات والشرائع.

ويظهر أن تصنيف «المغني» مرجح لدى شراح كتب القاضي. فقد ذكر مانكديم : أن (الأولى ما ذكره في «المغني» من أن النبوات والشرائع داخلان في العدل لأنه كلام في أنه تعالى إذا علم أن صلاحنا في بعثة الرسل وأن نتعبد بالشريعة وجب أن يبعث ونتعبد ومن العدل أن لا يخل بما هو واجب عليه. وكذلك فالوعد والوعيد داخل في العدل لأنه كلام في أنه تعالى إذا وعد المطيعين بالثواب وتوعد العصاة بالعقاب فلا بد من أن يفعل ولا يخلف في وعده ولا في وعيده ، ومن العدل أن لا يخلف ولا يكذب ، وكذلك المنزلة بين المنزلتين داخل في باب العدل لأنه كلام في أن الله تعالى إذا علم أن صلاحنا في أن يتعبدنا بإجراء الأسماء والأحكام على المكلفين وجب أن يتعبدنا به ومن العدل أن لا يخل بالواجب ، وكذا الكلام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فالأولى أن يقتصر على ما أورده في «المغني»).

وقد ورد ذكر هذا الكتاب في أماكن مختلفة من كتب المعتزلة وغيرهم ، وبأسماء متعددة. ذكره الحاكم أبو السعد ، وابن المرتضى باسم : «شرح الأصول» و «شرح

١٠

الأصول الخمسة» ، و «الأصول». وذكره صارم الدين صاحب «طبقات الزيدية» (مخطوط دار الكتب) باسم «الشرح» في أكثر من موضع ص ٣٤٤ و ٣٨٩ و ٣٩٧ ... إلخ.

إلا أن عنوان «الأصول» أو «شرح الأصول» على ما يظهر كان شائعا ولذلك نجد أن أكثر من واحد من المعتزلة نسب إليهم كتاب بهذا الاسم نذكر منهم على سبيل المثال : الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي (وهو من أئمة الزيدية ، ومتوفى سنة ٢٤٦ ه‍) إذ توجد له رسالة صغيرة باسم «أصول العدل والتوحيد» ، ورسالة أخرى صغيرة أيضا باسم «العدل والتوحيد ونفي التشبيه عن الواحد الحميد» وكلا الرسالتين من مصورات دار الكتب ـ صنعاء.

فصول الكتاب وأبوابه :

يبدأ «شرح الأصول» بمقدمة عن النظر ووجوبه على المكلف ، وذلك لأن معرفة الله ليست من المعارف الضرورية ولا تكون إلا بالاستدلال ومن هنا كان النظر في الطرق المؤدية إلى معرفة الله واجبا ، ويبدأ هذا الطريق بمعرفة الأجسام والأعراض لأنه سيؤدي بنا إلى أنها حادثة ، وما دامت كذلك فهي تحتاج إلى محدث هو خالق الكائنات كلها وهو الله.

والطريقة التي يعتمدها القاضي لمعرفة حدوث الأجسام هي الدعاوى الأربع التي بدأها أبو الهذيل وتابعه فيها رجال الاعتزال وعلماء الكلام عموما ، وتتلخص فيما يلي : ١ ـ إن في الأجسام معاني لا ينفك عنها كالاجتماع والافتراق والحركة والسكون. ٢ ـ هذه المعاني محدثة. ٣ ـ الجسم لا ينفك عنها ولا يتقدمها. ٤ ـ ولذلك وجب حيث حدوث الجسم أيضا.

والمحدث لهذه الأجسام ليس هو العقل الأول أو الفعال ، أو النفس ، أو الطبيعة ، أو الصدفة ، بل هو الله.

ثم ينتقل البحث إلى ما يجب على المكلف معرفته من أصول الدين ، وذلك لأن معرفة الأصول عند القاضي إما إجمالية أو تفصيلية ، وكثير من المسائل يكفي فيها النظرة الإجمالية ، وخاصة بالنسبة لعامة المكلفين. وهكذا يميز القاضي في بحوث العقائد بين نوعين من الناس : العامة وهؤلاء لا يكلفون إلا بالمعرفة الإجمالية من الأصول ، والعلماء وهؤلاء وحدهم الذين يحق لهم البحث التفصيلي فيها فالمعرفة الإجمالية إذن كافية لترتيب التكليف على المكلفين ، أو بعبارة أخرى إن المكلف لا

١١

يجب عليه أكثر من المعرفة الإجمالية.

ثم يعرض للأصول الخمسة عرضا سريعا يتناسب مع هذه الفكرة مبينا ما يجب على المكلف معرفته من كل أصول من الأصول الخمسة : التوحيد ، والعدل ، والوعد والوعيد ، والمنزلة بين المنزلتين ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ويعود بعد ذلك إلى تفصيل ما أجمله من أصول ويختم الكتاب بفصل في التوبة تيمنا وتبركا وتفاؤلا بالخير والقبول.

وتمتاز عبارة هذا الكتاب بالوضوح والسهولة ، على عكس عبارة «المغني» ، ولعل ذلك لأنه أملاه بعد بدئه في «المغني» ، وكان يلقيه في دروس يحضرها العامة والخاصة ، فأراد أن يبسط قواعد الاعتزال وييسر تناولها ونشرها.

وتبدو قيمة هذا الشرح في أنه يحيط بأغلب المسائل الاعتقادية التي كانت مدار البحث بين الكلاميين على اختلاف مشاربهم من معتزلة وأشعرية وكرامية ومجبرة إلى غيرهم. وهو ينصف خصومه حينما يعرض آراءهم بكل دقة ووضوح ثم يبدأ بالرد عليهم بهدوء وأدب وقلما نجد كلمة نابية في مناقشته لأفكار الغير.

والقارئ لهذا الكتاب يستطيع أن يأخذ فكرة شاملة عن تطور بحوث الكلام وأصول الدين عند المسلمين حتى بداية القرن الخمس الهجري ، لأن القاضي عبد الجبار بسبب اطلاعه على شتى المذاهب ، وبفضل حياته المديدة المليئة بالمناقشات والمحاورات كان أقدر الناس على أن يقدم لنا هذه الصورة الكاملة.

ولا شك أن القاضي كان أحد الأفذاذ الذين وقفوا في وجه المحاولات القوية التي كانت تبذل لتمييع الثقافة الإسلامية وإخفاء شخصيتها بالمؤثرات الأجنبية. وإذا كان قد استفاد من الثقافات الأجنبية فإنما كانت هذه الاستفادة بمقدار إذ لم يتخل عن قواعده وأصوله لقد ظل القاضي طول حياته كالطود الراسخ يكافح مع المكافحين من علماء الكلام في منع طغيان هذه التيارات الدخيلة ، وذلك لما كان يحمله من ثقافة إسلامية وعربية ضخمة ، ولما كان يحرص عليه من الاحتكام دوما إلى الفهم الإسلامي لمختلف القضايا الفكرية.

لذا فإننا نراه يرفض بشدة أن تكون الفلسفة اليونانية موجهة للفكر الإسلامي ، أو أن تصبح قواعد منطق أرسطو هي الحاكمة لهذا التفكير. لكن هذا السد المنيع لم يلبث أن أنهار بعد ذلك وأصبح منطق أرسطو أمرا يرتفع فوق الشبهات ، واختلطت الفلسفة

١٢

بعلم الكلام حتى لم يعد بالإمكان أن نميز عند المتأخرين من علماء الكلام كالإيجي والجرجاني مثلا بين الفلسفة والتوحيد.

هذا وحده هو الذي دعانا إلى وضع هذا الكتاب بين أيدي القراء راجين ثواب الله ورضاه ، وخدمة التراث الإسلامي.

والله نسأل أن يجنبنا الخطأ ويهدينا إلى سواء السبيل.

١٣
١٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

والحمد لله وحده. وصلى الله على محمد وآله ، اللهم أعن ويسر يا كريم.

أول الواجبات :

بدأ قاضي القضاة أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد رحمه‌الله في الشرح بسؤال الأصول الخمسة فقال : إن سأل سائل فقال : ما أول ما أوجب الله عليك؟ فقل : النظر المؤدي إلى معرفة الله تعالى لأنه تعالى لا يعرف ضرورة ، ولا بالمشاهدة ، فيجب أن نعرفه بالتفكر والنظر.

الواجب وحده وحقيقته :

ثم ثنى بذكر الواجب ، وحده ، وحقيقته ، لأنه أراد أن ينهي الكلام إلى أن النظر في طريق معرفة الله تعالى أول الواجبات. ولا يحسن أن نتكلم في وصف لشيء أو حكم له ما لم نعلم ذلك الشيء.

معنى الواجب :

فقال : الواجب هو ما إذا لم يفعله القادر عليه استحق الذم على بعض الوجوه. وقوله على بعض الوجوه : احتراز من الواجبات المخيرة التي لها بدل يقوم مقامها ويسد مسدها ، كالكفارات الثلاث ، فإنها أجمع واجبة على التخيير ، ثم إذا أتى بواحدة منها وترك الباقي لا يستحق الذم مع أنه أخل بالواجب ، ولكن يستحق الذم عليه على بعض الوجوه ، وهو أن لا يأتي بواحدة منها ، فلولا هذا الاحتراز لانتقض الحد ، ولا نقض مع اعتباره.

كيف يفسر عمل الملجأ في ضوء تعريف الواجب :

فإن قيل : هلا اعتبرتم في حد الواجب استحقاق المدح بفعله؟

قلنا : إنما يعتبر في الحد ما به يتبين المحدود عن غيره ، والواجب إنما يتبين عما

١٥

ليس بواجب بما ذكرنا ، فيجب الاقتصار عليه.

فإن قيل : إن لم تعتبروا في حد الواجب استحقاق المدح بفعله انتقض بهرب الملجأ ، لأن الملجأ إلى الهرب لو مكث ولم يهرب لاستحق الذم بتركه الهرب مع أن الهرب غير واجب عليه ، إذ الوجوب والتكليف لا يتصور ان مع الإلجاء ، ولو اعتبرتم في الحد استحقاق المدح بفعله لم ينتقض بذلك لأنه ، وإن استحق الذم بترك الهرب ، لم يستحق المدح بفعله.

قيل له : إن من مكث ولم يهرب لا يكون ملجأ إلى العرب ، لأنه لو كان ملجأ إلى الهرب لوقع منه الهرب لأن الملجأ هو من بلغ داعيه حدا لا يقابله داع آخر ، ويقع منه ما ألجئ إليه لا محالة. فإذا لم يكن ملجأ لم يمتنع وجوب الهرب عليه دفعا للضرر عن نفسه ، فلذلك استحق الذم بترك الهرب وأنت أردت أن تصور الكلام في الملجأ فصورته في غيره.

سبب اعتماد هذا التعريف للواجب :

فإن قيل : لم قلتم : إن هذا هو حد الواجب؟

قيل له : لأنه أوضح من قولنا واجب ، وينبئ عن فائدته ويحصر معناه ، وهذا هو الغرض بالتحديد.

وإن شئت قلت في حد الواجب : هو ما للإخلال به مدخل في استحقاق الذم ، أو للإخلال به تأثير في استحقاق الذم ، وهذان الحدان كالأول في الصحة إلا أنهما أوجز وأخصر ، ولهذا لا يرد عليهما من الأسئلة ما يرد على الأول.

مفهوم القبح :

ولما كان الواجب ما به ترك قبيح بين حقيقة القبيح فقال :

القبيح هو ما إذا فعله القادر عليه استحق الذم على بعض الوجوه ، وقوله على بعض الوجوه : احتراز من الصغيرة ، فإنها قبيحة ومع ذلك فإنه لا يستحق الذم عليها بكل وجه ولكن يستحق الذم عليها على بعض الوجوه ، وهو أن لا يكون لفاعلها من الثواب قدر ما يكون عقاب هذه الصغيرة مكفرا في جنبه ، وكذلك فإنه احتراز من القبائح الواقعة من الصبيان والمجانين والبهائم ، فإنها على قبحها لا يستحق الذم عليها بكل وجه ، ولكن يستحق الذم عليها على بعض الوجوه ، وهو أن تقع ممن يعلم قبحها ،

١٦

أو يتمكن من العلم بذلك ، فلولا هذا الاحتراز لانتقض الحد ، ولا نقض مع اعتباره.

القول الذي وضح الواجب وجوده قبيح :

وذكر في الكتاب ، أن كل ترك منع الواجب من وجوده فهو قبيح.

وهذا صحيح لأن أحدنا إذا كان عنده وديعة فجاء صاحبها وطالبه بالرد فإنه يجب عليه الرد ، فلولا أن هذا الرد لا يتم إلا بالقيام واستلقى على قفاه ، كان هذا الاستلقاء قبيحا لأنه ترك منع الواجب من وجوده.

نوعا الواجب : أ ـ موسع مخير ب ـ معين مضيق

واعلم أن الواجبات على ضربين : موسع فيه مخير ، ومعين مضيق ، فالواجب المخير هو ما إذا لم يفعله القادر عليه ، ولا ما يقوم مقامه استحق الذم ، والواجب المضيق هو ما إذا لم يفعله القادر عليه بعينه استحق الذم ، ولسنا نعني بهذا التعيين أن غيره مما لا يخالفه في الصورة لا يقوم مقامه بخلاف المخير ، وإلا فليس في الواجبات علينا ما يتعين حتى لا يقوم غيره مقامه ، وإن وجد فيما يجب على الله تعالى. ولكل واحد منهما مثال في العقل ولا شرع.

مثال الواجب المخير في العقل :

أما مثال الواجب المخير في العقل فهو : كقضاء الدين ، فإن من عليه الدين بالخيار ، إن شاء قضى من هذا الكيس ، وإن شاء قضى من كيس آخر إذا كان النقد واحدا.

مثال الواجب المخير في الشرع

وأما مثاله في الشرع ، فهو : كالصلاة في الوقت فإن المكلف مخير إن شاء صلى وإن شاء عزم ، وكالكفارات الثلاث فإنها أجمع واجبة على التخيير إن شاء أطعم ، وإن شاء كسى ، وإن شاء أعتق.

مثال الواجب المضيق ، في العقل :

وأما مثال الواجب المضيق في العقل فهو ، كرد الوديعة ، إذا جاء صاحبها وطالبه بالرد فإنه يجب عليه ردها بعينها ، ولا يقوم غيرها مقامها من قيمة أو بدل ، وإن كان

١٧

يدخله التخير من وجه آخر ، فإنه مخير إن شاء ردها باليمين ، وإن شاء ردها باليسار.

مثال الواجب المضيق ، في الشرع :

وأما مثاله في الشرع فهو كالصلاة في آخر الوقت ، فإنه يتعين عليه الصلاة ويجب أداؤها ولا يقوم غيرها مقامها من عزم أو غيره ، وإن كان يدخله التخيير من وجه آخر ؛ فإنه مخير إن شاء صلى في هذه البقعة وإن شاء صلى في هذه البقعة ، بشرط استوائها في الطهارة.

معرفة الله من الواجبات المضيقة :

ثم قال رحمه‌الله تعالى : إذا ثبت هذا فاعلم أن معرفة الله سبحانه وتعالى من الواجبات المضيقة التي لا يسع الإخلال بها ، ولا يقوم غيرها مقامها من ظن أو غيره لأنه مما يقبح تركها ، وقد تقرر في العقل وجوب التحرز من القبيح. فإذا كان لا يمكن التحرز من هذا القبيح إلا بالمعرفة ، وجب أن يقضى بوجوبها.

وهذه منه رحمه‌الله إشارة إلى ما يقوله شيخنا أبو علي : من أن وجه وجوب معرفة الله تعالى قبح تركها ، إلا أن ذلك إنما يستقيم أن لو لم يمكن الانفكاك عن القبيح إلا إلى المعرفة ، فحينئذ كان يجب أن يقضي بوجوبها. فأما ومن الممكن أن ينفك المرء عن القبيح لا إلى المعرفة ، بأن لا يفعلها ، ولا يفعل ما يضادها من الجهل وغيره ، فإن ما ذكره لا يستقيم. وأشبه ما يقوله في الصلاة أنه لا يجوز أن يجعل وجه وجوبها قبح تركها من الزنا وغيره ، لأن ذلك إنما كان يجب أن لو لم يمكن الاحتراز من الزنا إلا بالصلاة ، فأما ومن الممكن انفكاك المكلف عن الأمرين جميعا فإن ذلك غير واجب ، كذلك هاهنا.

الرد على الاعتماد على قولهم : الواجب لا يجب بإيجاب موجب

فإن قيل : إذا كان عندكم أن الواجب لا يجب بإيجاب موجب ، فما معنى قوله : ما أول ما أوجب الله عليك؟ قيل له : معناه ما عرفك الله وجوبه. فإذن ، الصحيح في وجه وجوب المعرفة ما يقوله أبو هاشم من أنه ما لطف في أداء الطاعات واجتناب المقبحات العقلية على ما سيأتي شرحه من بعد إن شاء الله تعالى.

١٨

حقيقة النظر ، وأنواعه

ولما ذكر رحمه‌الله في أول الكتاب ما ذكر ، بين حقيقة النظر.

النظر :

والأصل فيه ، أن النظر لفظة مشتركة بين معان كثيرة :

قد يذكر ويراد به تقليب الحدقة الصحيحة نحو المرئي التماسا لرؤية ، تقول العرب : نظرت إلى الهلال فلم أره.

الانتظار :

وقد يذكر ويراد به الانتظار ، قال الله تعالى : (فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) [البقرة : ٢٨٠] أي انتظار ، وقال : (فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) [النمل : ٣٥] أي منتظرة ، وقال المثقب العبدي أو الممزق :

فإن يك صدر هذا اليوم ولى

فإن غدا لناظره قريب

أي لمنتظره.

وقال الفقعسي : فإن غدا للناظرين قريب. أي للمنتظرين.

العطف والرحمة :

وقد يذكر ويراد به العطف والرحمة ، قال الله تعالى : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [آل عمران : ٧٧] أي لا يرحمهم ولا يثيبهم. ويروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من جر إزاره بطرا لا ينظر الله إليه يوم القيامة». أي لا يرحمه.

المقابلة :

وقد يذكر ويراد به المقابلة ، تقول العرب : داري تنظر إلى دار فلان أي تقابلها ، وتقول : إذا أخذت في طريق كذا فنظر إليك الجبل أي قابلك فخذ عن يمينك أو عن شمالك.

التفكر بالقلب :

وقد يذكر ويراد به التفكر بالقلب ، قال الله تعالى : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ

١٩

خُلِقَتْ (١٧)) [الغاشية : ١٧] ، أفلا يفكرون في خلقها.

كيف نميز بين أنواع النظر :

وإنما تتميز هذه الأنظار بعضها من بعض بما يقترن بها من القرائن ، وينضاف إليها من الشواهد.

على أن النظر إذا قيد بالعين لا يحتمل إلا تقليب الحدقة الصحيحة نحو المرئي التماسا لرؤيته ، كما أنه إذا قيد بالقلب لا يحتمل إلا التفكير.

أسماء النظر بالقلب :

ثم إن النظر بالقلب له أسماء ، من جملتها : التفكير ، والبحث ، والتأمل ، والتدبر ، والرؤية ، وغيرها.

أقسام النظر :

وهو على قسمين : أحدهما : النظر في أمور الدنيا ، كالنظر في العلاجات والتجارات ؛ والثاني : النظر في أمور الدين ، وذلك أيضا على قسمين : أحدهما : النظر في الشبه لتحل ، والثاني : النظر في الأدلة ليتوصل بها إلى المعرفة ، وهذا هو النظر المقصود بالباب.

ولما رأى رحمه‌الله تنوع النظر إلى هذه الأنواع ، قيد في أول الكتاب ولم يطلق ، فقال :

أول ما أوجب الله تعالى عليك ، النظر في طريق معرفة الله تعالى.

معنى الفكر :

فإن قيل : وقد فسرتم النظر بالفكر فما الفكر؟ قيل له : الفكر هو المعنى الذي يوجب كون المرء متفكرا والواحد منا يجد هذه الصفة من نفسه ويفصل بين أن يكون متفكرا أو بين أن لا يكون متفكرا وأجلى الأمور ما يجده الإنسان من نفسه.

حقيقة المعرفة :

ثم إنه رحمه‌الله بين حقيقة المعرفة.

٢٠