شرح الأصول الخمسة

عبد الجبّار بن أحمد الهمداني الأسدآبادي

شرح الأصول الخمسة

المؤلف:

عبد الجبّار بن أحمد الهمداني الأسدآبادي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٧

اعلم أن الكفر في أصل اللغة إنما هو الستر والتغطية ، ومنه سمي الليل كافرا لما ستر ضوء الشمس عنا وقال الشاعر :

حتى إذا ألقت ذكاء يمينها في كافر وقال آخر :

حتى إذا ألقت يدا في كافر

وأجن عورات الثغور ظلامها

ومنه سمي الزراع كافرا لستره البذر في الأرض ، قال الله تعالى : (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) [التوبة : ١٢٠] أي الزراع ، هذا في اللغة.

وأما في الشرع فإنه جعل الكافر اسما لمن يستحق العقاب العظيم ، ويختص بأحكام مخصوصة نحو المنع من المناكحة والموارثة والدفن في مقابر المسلمين ، وله شبه بالأصل ، فإن من هذه حالة صار كأنه جحد نعم الله تعالى عليه وأنكرها ورام سترها.

إذا ثبت هذا ، ومعلوم أن صاحب الكبيرة ممن لا يستحق العقاب العظيم ، ولا تجري عليه هذه الأحكام ، فلم يجز أن يسمى كافرا.

الكلام على الخوارج :

والأصل في الكلام على الخوارج أن نحقق عليهم الخلاف ، فنقول : إن هذا الخلاف إما أن يكون خلافا من جهة اللفظ ، أو من طريق المعنى.

فإن خالفتمونا من حيث اللفظ ، وقلتم : إن صاحب الكبيرة يسمى كافرا فلا يصح ، لأنا قد ذكرنا أن الكافر اسم لمن يستحق العقاب العظيم ويستحق أن تجري عليه هذه الأحكام المخصوصة ، وليس كذلك الفاسق.

وإن خالفتمونا من جهة المعنى ، وقلتم : إنه يستحق العقاب العظيم ويستحق إجراء هذه الأحكام عليه كالكافر سواء ، قلنا : إن هذا خلاف ما عليه الصحابة والتابعون ، فإنهم اتفقوا على أن صاحب الكبيرة لا يحرم الميراث ولا يمنع من المناكحة والدفن في مقابر المسلمين.

هذا على الجملة ، وإذا أردت تفصيل ذلك فعليك بسيرة أمير المؤمنين عليه‌السلام في أهل البغي ، ومعلوم أنه لم يبدأ بقتالهم ولم يتبع مدبريهم ، وكذلك فلم يسمهم

٤٨١

كفرة ، ولهذا فإنه لما سئل عليه‌السلام عنهم أكفار هم؟ قال : من الكفر فرّوا. فقالوا : أمسلمين هم؟ قال : لو كانوا مسلمين ما قاتلناهم ، كانوا إخواننا بالأمس بغوا علينا ، فلم يسمهم كفارا ولا مسلمين ، وإنما سماهم بغاة ، وقوله عليه‌السلام حجة ، غير أن الاحتجاج به على الخوارج غير ممكن ، فإنهم ربما يكفرونه ، وربما يتوقفون في إسلامه.

وأحد ما يدل على أن صاحب الكبيرة لا يجوز أن يسمى كافرا آية اللعان ، فإن اللعان إنما ثبتت بين الزوجين ، فلو كان القذف كفرا ، لكان لا بد من أن يخرج أحد الزوجين بفسقه عن الإسلام فتنقطع بينهما عصمة الزوجية ، فلا يحتاج إلى اللعان ، فإنه لم يشرع بين الأجنبيّين ، وإنما يجري بين الزوجين ، فصح بهذه الجملة أن صاحب الكبيرة لا يجوز أن يسمى كافرا ، ولا يجوز أن يجري عليه أحكام الكفرة.

وكما لا يجوز أن يسمى بذلك ، فإنه لا يجوز أن يجري عليه ما يفيد كفرا مخصوصا ، فلا يسمى يهوديا ولا نصرانيا ولا متمجسا لأن هذه الأسماء تقتضي اختصاصه بأحكام مخصوصة ، وليس يستحق الفاسق شيئا من تلك الأحكام.

وكما لا تجري عليه هذه الأسماء فكذلك لا يجوز أن يسمى كافرا نعم الله تعالى ، خلاف ما يحكى عن الناصر وجماعة من الخوارج ، لأن هذا اللفظ في نقيض قولنا : شاكر نعم الله ، ومعنى قولنا شاكر نعم الله تعالى أنه ، معترف بنعم الله ومعظم له ، فنقيضه هو أنه لا يعترف بنعم الله تعالى ولا يعظمه عليها ، ولا شك في كفر من هذا حاله ، فكيف يطلق هذا الاسم على الفاسق ، فكما لا يجوز أن يجري عليه شيء من هذه الأسماء والأحكام التي تتبعها ، فكذلك لا يجوز أن يسمى منافقا ، خلافا لما يذهب إليه الحسن والبكرية.

مناظرة بين الحسن وابن عبيد :

والذي يدل على فساد هذا المذهب ، المناظرة التي جرت بين عمرو بن عبيد والحسن ، فإنه قال للحسن : أفتقول إن كل نفاق كفر ، قال : نعم ، قال : أفتقول إن كل فسق نفاق ، قال : نعم. قال : فيجب في كل فسق أن يكون كفرا وذلك مما لم يقل به أحد.

وتحقيق هذه الجملة ، أن المنافق صار بالشرع اسما لمن يستحق العقاب العظيم

٤٨٢

لأنه أبطن الكفر وأظهر الإسلام ، وصاحب الكبيرة ليس هذه حاله فلا يستحق هذا الاسم.

فإن قيل : إن النفاق ليس بأكثر من أن يظهر خلاف ما أسره وأبطنه ، وهذا حال من يرائي ويظهر للناس أنه دين ، وإذا هو بخلافه.

قلنا : إن هذا الذي تقوله إنما يصح من طريق اللغة ، ونحن قد بينّا أن المنافق صار بالشرع اسما لهذا الكافر المخصوص. يبين ذلك أن أهل اللغة لم تفصل بين ما هو أبطنه من الإسلام أو الكفر ، فكان يجب إذا أبطن بعض الناس الإسلام وأظهر الكفر لضرورة ، أن يسمى منافقا ، والمعلوم خلافه.

وقد احتج الحسن لمذهبه بوجهين لا يصح واحد منهما :

الأول : هو أن الفاسق يستحق الذم واللعن كالمنافق سواء ، فلا يمتنع إجراء هذا الاسم عليه.

وجوابنا ، ليس يجب إذا شارك الفاسق المنافق في استحقاق الذم ، أن يشاركه في الاسم ، فمعلوم أنه يشارك الكافر في ذلك ثم لا يسمى كافرا. وبعد ، فإنه لا يستحق الذم والعقاب على الحد الذي يستحقه المنافق ، وأيضا فإن المنافق يستحق إجراء أحكام الكفرة عليه إذا علم نفاقه وليس كذلك صاحب الكبيرة ، فأنى يتساويان والحال ما قلناه.

والثاني : مما يعتمده الحسن في المسألة قوله : إني بارتكاب الفاسق الكبيرة ، علمت أن في اعتقاده خللا ، وأنه إذا أظهر الإسلام فذلك عن ظهر قلبه لا أنه قد انطوى عليه ، قال : يبين ذلك أنه لو كان معتقدا لله تعالى والثواب والعقاب لكان يكون في حكم الممنوع من ارتكابه الكبيرة ، فمعلوم أن أحدنا إذا قال له غيره : إن فعلت هذا أو تركته عاقبتك بهذه النيران المؤججة في هذا البيت ، وهو عالم بقدرته عليه وأنه لا يخلف في وعده ولا وعيده ، فإنه يكون كالمدفوع إلى أن لا يفعل ما يهدده بفعله ولا يترك ما تعلق الوعيد به ، وكذلك هاهنا ، وهذا الوجه ظاهر الفساد لأنه ليس يجب فيمن اعتقد الله تعالى بصفاته وعدله وحكمته واعتقد صدقه في وعده ووعيده أن يكون ممنوعا من ارتكاب الكبيرة ، كيف ولو كان لخرج عن كونه مكلفا ، بل لم يستحق المدح والذم والثواب والعقاب ، وكيف يصح المنع من أن يرتكب المقر بالله تعالى وعدله وحكمته وصدقه في قوله الكبيرة مع أنه يجوز أن يتوب الله تعالى عليه ويلطف له حتى يقلع عن

٤٨٣

ذلك ويندم عليه. وأما ما ذكره في الشاهد ، فإنما ذلك لأنه يصير به ممنوعا ملجأ ، حتى لو لم يصر ملجأ لكان الحال فيه كالحال فيما نحن بصدده.

وربما يحتج بوجه ثالث ، وهو قوله تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) [التوبة : ٦٧] وهذا لا يدل على موضع الخلاف ، فإن أكثر ما فيه أن المنافق فاسق ، فمن أين أن الفاسق منافق وفيه وقع النزاع؟ ومن هاهنا قال بعض أصحابنا : إن ما اخترناه من المذهب مجمع عليه متفق ، فإن الناس على اختلافهم في صاحب الكبيرة وقول بعضهم إنه كافر ، وقول البعض إنه مؤمن ، وقول آخر إنه منافق ، لم يختلفوا في أنه فاسق ، فأخذنا نحن بالإجماع وتركنا لهم الخلاف ، وإلى هذا أشار الصاحب بقوله :

فالكل في تفسيقه موافق

قولي إجماع وخصمي خارق

وقد أعاد رحمه‌الله الكلام في الأسماء الدينية فأعدناها نحن ، ولا نخليها من فائدة جديدة إن شاء الله تعالى.

واعلم أن المكلف إما أن يستحق الثواب أو يستحق العقاب ، فإن استحق الثواب ، فإما أن يستحق الثواب العظيم أو يستحق ثوابا دون ذلك ، فإن استحق الثواب العظيم فلا يخلو ، إما أن يكون من بني آدم ، أو لا. فإن لم يكن من بني آدم سمي ملكا ، ويتبعه قولنا مقرب وما شابهه ، وإن كان من بني آدم سمي نبيا ويتبعه قولنا مختار ومصطفى ومجتبى وما يجري هذا المجرى ، فإن استحق ثوابا دون ذلك فإنه يسمى مؤمنا ، ويتبعه من الأسماء ما يقاربه نحو قولنا برّ تقيّ صالح إلى غير ذلك ، هذا في المستحق للثواب.

فأما المستحق للعقاب فلا يخلو ، إما أن يستحق العقاب العظيم ، أو يستحق عقابا دون ذلك. فإن استحق العقاب العظيم سمي كافرا ، ويتبعه من الأسماء نظائره ، نحو قولنا مشرك زنديق ملحد إلى غير ذلك. وإن استحق عقابا دون ذلك سمي فاسقا ، ويتبعه قولنا متهتك ملعون فاجر ، إلى غير ذلك. والغرض بتحقيق الكلام في هذه الأسماء وتكريرها ، هو أن يعلم أنه لا يجوز إجراؤها إلا على مستحقيها ، فلا يسمى صاحب الكبيرة مؤمنا ولا كافرا. وإذ قد عرفت ذلك من حال هذه الأسماء ، فقد وضح لك أنه لا يجوز إجراؤها إلا على المكلفين الذين يستحقون المدح والذم والثواب والعقاب دون من لا تكليف عليه البتة. وفارق الحال فيها الحال في الأسماء المشتقة ، نحو قولنا ضارب وشاتم وكاسر ، فإنه يجوز إجراؤها على المكلف وغير المكلف ،

٤٨٤

وعلى المستحق الثواب وعلى من لا يستحقه اللهم إلا إذا منع منه مانع ، نحو قولنا ظالم وعاص وزان وسارق ، فإنه لا يجوز أن يجري على المؤمنين المستحقين للثواب وإن كان مبقي على الأصل غير منقول إلى الشرع لمنع ، هو أنه جار بالعرف اسما لمن يستحق الذم ، فكأنه موضوع لهذا المعنى.

ولهذه الجملة التي ذكرناها من أن هذه الأسماء تتضمن استحقاق المدح والذم والثواب والعقاب لم يجز إجراؤها على الله تعالى لأنها من أسماء المكلفين إذا كانوا على أوصاف مخصوصة ، وليس هذا حال الله تعالى.

فإن قالوا : اعتراضا على كلامنا هذا أو ليس أن المؤمن اسم من أسماء الله تعالى ، قلنا : إن هذا اللفظ إذا أطلق على الله تعالى فالمراد به أنه يصدق مصدقيه ورسله ، أو أنه يؤمن عباده من ظلمه وعذابه ، فأما على غير هذين المعنيين ، فلا يستعمل فيه تعالى.

الكلام في الدعاء :

ومما أورده رحمه‌الله بعد هذه الجملة ، وهو من لواحق هذا الباب ، الكلام في الدعاء.

اعلم ، أن الدعاء هو طلب المراد من الغير ، شرط أن يكون المطلوب منه فوق الطالب في الرتبة ، ولا بد من اعتبار الرتبة ليتميز عن السؤال ، وإلا فالسؤال أيضا طلب المراد من الغير.

أقسام الدعاء :

وينقسم إلى ما يكون دعاء للغير ، وإلى ما يكون دعاء عليه.

والدعاء للغير إما أن يكون دعاء له لمنافع دينية ، أو دعاء له لمنافع دنيوية ، فإن كان دعاء بمنافع دينية من المدح والثواب فإنه لا يخلو ، إما أن يكون الداعي قاطعا على استحقاق المدعو له لتلك المنافع ، كأن يكون علم ذلك من حاله بدلالة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله عليه‌السلام على مثل ما نقوله في عليّ عليه‌السلام وغيره أو لا ، فإن قطع على كون المدعو له مستحقا ، جاز له الدعاء من غير اعتبار شرط ، وإن لم يقطع ولكن غلب على ظنه استحقاقه لذلك حسن منه الدعاء له أيضا ، ويكون مشروطا بالاستحقاق وإن لم ينطق به فهو في حكم المنطوق به ، هذا في الدعاء

٤٨٥

بالمنافع الدينية.

أما الدعاء في المنافع الدنيوية فلا يجب اعتبار شيء من هذه الأشياء التي اعتبرناها ، بل يجوز ذلك للمؤمن والفاسق والكافر جميعا ، فهذا الدعاء للغير.

وأما الدعاء على الغير ، فإنه تعول فيه القسمة التي ذكرناها في الدعاء للغير ، فإن الداعي إما أن يقطع على استحقاقه لما يدعو عليه ، فيحسن منه الدعاء عليه فلا يحتاج هاهنا إلى دلالة يقطع لمكانها على أنه مستحق له ، فإن ذلك مما يمكن معرفته بالمشاهدة ، وذلك كأن يشاهده يشرب الخمر أو يزني أو يقذف أو يسرق إلى غير ذلك ، بخلاف الأول ، فإن كون الغير مستحقا للثواب والرحمة لا يعرف بمثل هذه الطريقة ، فمن المجوز أن يكون المرء مع تمسكه بمكارم الأخلاق ، واشتغاله بهذه العبادات غير نقي الجيب ، ولا مأمون العيب ، وإما أن لا يقطع على ذلك بل يجوز استحقاقه للعقاب ويجوز خلافه ، وذلك بأن يكون قد شاهده مرة يشرب الخمر أو يسرق أو يزني أو يقذف إنسانا ، ثم غاب عنه أو لم يدر هل تاب أم لم يتب ، فيحسن أيضا والحال ما ذكرناه لعنه والدعاء عليه ، ويكون مشروطا بالاستحقاق ، ولا يجب النطق بهذه الشريطة ، فهي في الحكم كأنه منطوق بها.

وقد أردف رحمه‌الله هذه الجملة بذكر اللعنة وكان الأليق بهذه الكلمة أن تذكر مع أخواتها من الذم والاستحقاق وما جرى هذا المجرى ، ونحن فقد ذكرنا حقيقة الطرد واستشهدنا له بيتا ، وهو :

ذعرت به القطا ونفيت عنه

مكان الذئب كالرجل اللعين

وفي الجملة ، إنه لا يستعمل في الطرد عن كل خير بل عن خير مخصوص وهو الثواب ، ولهذا لا يقال فيمن حرم مالا وولدا أو لم يرزق أحدا منهما أنه ملعون ، فهو إذن أخص من الذم والذم أعم منه وأوسع ، فإنه يستعمل في كل ضرر سواء كان من مضار الدين أو الدنيا ، فعلى هذا يجري الكلام في ذلك.

شبه الخوارج :

وللخوارج في هذا الباب شبه ، منها ، قولهم : إن الكافر إنما سمي كافرا لأنه ترك الواجبات وأقدم على المقبحات وهذه حال الفاسق ، فيجب أن يسمى كافرا.

وجوابنا ، أنا لا نسلم أن الكافر إنما سمي كافرا لإخلاله بالواجبات وإقدامه على

٤٨٦

المقبحات ، بل الشرع جعله اسما لمن يستحق العقاب العظيم ويجرى عليه أحكام مخصوصة على ما تقدم ، وليس كذلك حال الفاسق فإنه لا يستحق العقاب على هذا الحد ولا يجري عليه هذه الأحكام ، ففارق أحدهما الآخر ، فهذه شبهة عقلية.

ولهم شبه من جهة السمع كثيرة ، ويجري الجواب عنها أو عن أكثرها على نمط واحد. من جملتها : قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) قالوا : بيّن الله تعالى أنه لا يغفر الشرك ويغفر ما دون ذلك ، وقد اتفقنا على أن الكبائر غير مغفورة فيجب أن تكون ممدودة في الشرك ، وفي ذلك ما نقوله.

ومتى قلتم : إن الآية مجملة مفتقرة إلى البيان ، فإننا لا ننازعكم في ذلك بل نقول : إن قد اتفقنا على أن التي تقع مغفورة إنما هي الصغائر دون الكبيرة ، فيجب أن تكون الكبائر ملحقة بالقبيل الذي لا يغفره الله تعالى وهو الشرك.

قيل لهم : إن هذا الذي ذكرتموه إنما وجب إن لو ثبت أنّ الشرك إنما يكون شركا لأنه غير مغفور ، حتى يصح القياس عليه فيقال : والكبيرة أيضا غير مغفورة فيجب أن تكون شركا ، وليس كذلك ، فلا يصح هذا الاستدلال.

وبعد ، فليس تميز الكبيرة عن الصغيرة بكونه غير مغفور ، فإن صغيرة الكفار غير مغفورة ثم لم تكن كبيرة ، فكيف يصح هذا الكلام؟

(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) :

ومن جملتها ، قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) [المائدة : ٤٧] قالوا : وهذا نص صريح في موضع النزاع.

وجوابنا ، لا تعلق لكم بظاهر هذه الآية لأنه يقتضي أن لا يكون في العالم كافر لأن «ما» موضوع أيضا للعموم والاستغراق ، كما أن «من» موضوع أيضا للعموم ، فكأنه قال : ومن لم يحكم بجميع ما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ، فلا بد أن يعدل عن الظاهر ، وإذا عدلتم عن الظاهر ، فلستم بالتأويل أولى فنتأوله على وجه يوافق الأدلة. فنقول : إن المراد به ، ومن لم يحكم بما أنزل الله على وجه الاستحلال فهو كافر ، ولا خلاف فيه.

وبعد ، فإن الآية وردت في شأن اليهود ، ولا شك في كفر اليهود.

٤٨٧

(وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) :

وأحد ما يتلقون به قوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) [آل عمران : ٩٧] قالوا بيّن الله تعالى أن تارك الحج كافر وفي ذلك ما نريده. قلنا : لا تعلق لكم به فإنه لم يقل ولله على الناس حج البيت ومن ترك فهو كافر ، وإذا أخذتم في تفسيره وحمله على ما تذهبون إليه فسرناه على الحد الذي يوافق الأدلة ، فنقول : إن المراد به ومن ترك ذلك على وجه الاستحلال فهو كافر ، ولا شك في كفر من هذا سبيله.

(يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) :

ومن جملتها ، قوله تعالى : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦)) [آل عمران : ١٠٦] قالوا : بيّن أن مسودي الوجوه إنما هم الكفرة ، ولا إشكال في كون الفساق من مسودي الوجوه فيجب أن يكونوا كفرة.

وجوابنا ، أن الآية لا تعم سائر الكفرة ، لأنه تعالى قال : (أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) ، فما قولكم في الكافر الأصلي؟ وكل ما هو اعتذاركم عن ذلك فهو عذرنا هاهنا ، ثم نقول لهم : ليس في تخصيص الله تعالى بعض مسودي الوجوه بالذكر ما يدل على أن لا مسودي الوجوه ، غيره ، فإن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه على ما نسمي مثاله فيما بعد إن شاء الله تعالى.

(فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى) :

ومن جملتها ، قوله تعالى : (فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (١٤) لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٦)) قالوا : بين الله تعالى أن النار لا يدخلها إلا كافر ، وبالاتفاق إن صاحب الكبيرة من أهل النار فيجب أن يسمى كافرا.

وجوابنا ، لا تعلق : لكم بظاهر الآية لأنه قال : (لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٦)) وليس هذا حال الفاسق ، فإذا لو كنا مستدلين بها عليكم لكان أولى. وبعد ، فأكثر ما فيه أن جهنم نارا لا يصلاها إلا الأشقياء الذين ذكرهم الله تعالى ، فمن أين أنه ليس هناك نيران أخر يصلاها غير الموصوفين بهذه الصفة ، فقد ذكرنا أن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه.

٤٨٨

(فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) :

ومن جملتها قوله تعالى : (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (٨) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) [الواقعة : ٨ ، ٩] قالوا : قسم الله تعالى المكلفين إلى هذين القسمين ، ومعلوم أن صاحب الكبيرة ليس هو من القسم الأول ، فيجب أن يكون من القسم الثاني ، وفي ذلك ما نقوله. وجوابنا ، إن أكثر ما في الآية أن صاحب الكبيرة من أصحاب المشأمة ، فمن أين أنه يجب أن يسمى كافرا وفيه وقع الخلاف ، فإن جعلوا الدلالة على ذلك قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩)) فذلك لا يدلهم على أن غير الكفرة لا يجوز أن يكونوا من أصحاب المشأمة ، وفيه تنازعنا.

(وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) :

ومن جملة ذلك ، قوله تعالى : (وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) [سبأ : ١٧] قالوا لا شك أن صاحب الكبيرة مجازي فيجب أن يكون من الكفرة.

وجوابنا أن هذه الآية لا تدل على ما يريدونه ، فإن الأنبياء عليهم‌السلام من المجازين أيضا ، ومتى قلتم إن المراد وهل يجازى بالنار إلا الكفور! كان في ذلك عدول عن الظاهر وترك له ، فلم يكونوا والحال هذه بالتأويل أولى منا ، فنقول : إن المراد وهل يجازى بعذاب الاستئصال إلا الكفور!

(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) :

ومن جملة ما يتعلقون به قوله تعالى : ٠٤٦. (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (٨) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (١٠) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (١١)) الآية. ولا متعلق لهم بهذه الآية أصلا ، فلسنا نمنع من دخول صاحب الكبيرة النار ولا تقتضي الآية أكثر من ذلك.

ومما يتعلقون به ، قوله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (١٩)) وقوله : (إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ (٣٣)) قالوا : إنه تعالى قسم المكلفين قسمين ، ولقد اتفقنا على أن الفاسق ليس هو من القسم الأول ، فيجب أن يكون من القسم الثاني في ذلك ما قلناه.

وجوابنا ، أنا كما اتفقنا على أن الفاسق ليس من القسم الأول ، فكذلك اتفقنا على أنه ليس من الذين لا يؤمنون بالله العظيم ، فكيف يصح هذا الاحتجاج ، ثم نقول :

٤٨٩

إن أكثر ما في ذلك هو أنه قسم الكلام قسمين فمن أين أنه لا ثالث لهما ، وقد ذكرنا أن إثبات صنفين لا يدل على نفي ثالث.

بيانه ، قال الله تعالى في قسمة الحيوانات : (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ) [النور : ٤٥] ثم لا يدل على أن المشاة لا يخرجون عن هذه الأقسام ، كذلك فيما أورده.

(وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) :

ومن جملتها قوله تعالى : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) [العنكبوت : ٥٤] بيّن القديم تعالى أن الذين تحيط بهم النار إنما هم الكفرة ، ولا شك أن الفاسق ممن تحيط به النار فيجب أن يكون كافرا.

والجواب ، أن الآية تدل على أن النار محيطة بالكفرة ، فمن أين أنها لا تحيط بالفسقة مع الكفرة؟ وفيه وقع الخلاف. يبين ذلك ، أن القائل إذا قال : الدار محيطة بالعلماء ليس يجب أن لا يكون في الدار إلا العلماء ، بل يجوز ألا يكون فيها العلماء وغير العلماء ، كذلك هاهنا.

(فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) :

وأحد ما يتعلقون به قوله تعالى : (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) ، (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) الآية إلى قوله : (أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٠٥)) [المؤمنون : ١٠٥] قالوا : بين الله تعالى أن من خفت موازينه فهو كافر ، والمعلوم أن موازين أهل الكبائر قد خفت فيجب أن يكونوا كفرة.

وجوابنا ، أن الذي يقتضيه ظاهر الآية ، ليس إلا أن من خفت موازينه فهو خاسر ، ونحن نقول : إن صاحب الكبيرة خاسر ، ومتى قالوا : إن الآية وردت في شأن الكفار ، فقد قال تعالى بعدها : (أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٠٥)) كان الجواب ، أن هذه الآية مستقلة بنفسها منفصلة عما قبلها فكيف يصح ما ذكرتموه؟

وبعد ، فلا خلاف بيننا وبينكم أن صاحب الكبيرة ليس من المكذبين بآيات الله تعالى ، فكيف يمكن هذا الاستدلال.

ومن جملة ما يذكرونه ، قوله تعالى : (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) قالوا : يبين الله تعالى أنه لا ييأس من رحمة الله إلا

٤٩٠

الكافرون ومعلوم أن صاحب الكبيرة آيس من رحمة الله تعالى ، فيجب أن يكون كافرا.

وجوابنا أنا لا نسلم أنه آيس من روح الله ، فكيف يكون كذلك مع أنه على رجاء أن يتوب الله تعالى ويلطف له فيه فينجو من عذابه ، ويستحق ثوابه.

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ) :

وأحد ما يستدلون به ، قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) قالوا : إن الله تعالى صنف المكلفين هذين الصنفين ، وصاحب الكبيرة لا بد أن يكون من أحد الصنفين ، وقد ثبت أنه ليس بمؤمن ، فيجب أن يكون كافرا.

وجوابنا ، أنا قد ذكرنا غير مرة ، أن إثبات صنفين لا يدل على نفي ثالث ، وبعد ، فإن لفظة «من» في قوله : (فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) للتبعيض ، فكأنه قال : هو الذي خلقكم فبعضكم كفر وبعضكم آمن ، وليس فيه أنه لا ثالث لهذين القسمين.

فهذه جملة ما يتعلق به الخوارج.

شبه المرجئة :

وأما المرجئة فقد تعلقت في أن صاحب الكبيرة مؤمن بشبه : من جملتها ، لو كانت الصلاة من الإيمان ، لوجب فيمن ترك صلاة واحدة أن يوصف بأنه تارك للإيمان ، وقد عرف خلافه.

وجوابنا : أن هذا إنما يلزم أن لو قلنا : إن الإيمان هو الصلاة فقط ، وأن الصلاة بمجردها هي الإيمان ، فأما إذا قلنا إن الصلاة من الإيمان وجزء من أجزائه ، فإن الذي يجب في تاركه أن يكون تاركا لجزء من أجزاء الإيمان ، وخصلة من خصال الإيمان ، ومتى امتنعنا من إطلاق هذا اللفظ على من أدى الواجبات واجتنب المقبحات ، فلأن ذلك يوهم الخطأ ويقتضي استحقاقه للذم وإن كان إذا أريد به هذا المعنى كان صحيحا ، وغير ممتنع في الكلمة إذا كان لها معنيان يصح أحدهما ولا يصح الآخر ، أن لا يجوز من الواحد منا استعمالها ، كقولنا عاص ، فإن العصيان في الحقيقة يتناول الصغيرة والكبيرة جميعا ، غير أنه لا يجوز لنا أن نطلقه على الأنبياء عليهم‌السلام ، وإن أردنا به المعنى الصحيح لإيهامه الخطأ ، والقديم تعالى لما ثبتت حكمته ولم يثبت في حقه هذا المانع ، جاز منه إطلاق ما هذا سبيله ولهذا قال : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى).

ويزيد ما ذكرناه وضوحا ، أن الخشبة والزجاجة حجتان من حجج الله تعالى ، ثم

٤٩١

ليس يجب إذا انكسرتا أو انكسرت إحداهما أن يقال : قد انكسرت حجة من حجج الله تعالى ، كذلك هاهنا. ثم إنا نقلب عليهم هذا في البر والتقوى ، فنقول : أليس أن الصلاة من البر والتقوى ، ثم ليس يجب فيمن ترك الصلاة أن يكون تاركا للبر والتقوى ، فهلا كان كذلك هاهنا؟

وأحد ما يتعلقون به ، قولهم : لو كانت الصلاة من الإيمان لوجب في من فسدت صلاته أن يكون قد فسد إيمانه ، ومعلوم خلاف ذلك. والجواب عن هذا مثل الجواب عما تقدم.

وأحد ما يذكرونه في هذا الباب ، قولهم : لو كان المرجح بالإيمان إلى الإيمان بالواجبات والاجتناب عن المقبحات ، لكان يجب إذا أتى القديم تعالى بهذه الأشياء التي تعدونها إيمانا أن يسمى مؤمنا ، وقد عرف خلاف ذلك.

قلنا : قد ذكرنا أن المؤمن اسم لمن يستحق المدح والثواب لإتيانه بالواجبات واجتنابه عن المقبحات ، والقديم تعالى ليس هو من هذا القبيل فلا يلزم.

قالوا : لو كان الإيمان هو أداء الواجبات وترك المحرمات ، لوجب أن لا يجوز من الواحد منا أن يقول أنا مؤمن على الإطلاق ، لأنه لا يعلم هل أدى ما يجب أم لا ، فكان يجب أن يقيد فيقول : أنا مؤمن إن شاء الله ، وذلك يوجب الشك ، والمرء لا بد أن يقطع على أنه ليس من الكفرة. وجوابنا ، أن هذا مجاب إليه فإنا نقول : لا يجوز أن يقول أحدنا لنفسه أنا مؤمن قطعا ، إذ لا يعلم ذلك من حاله ، فأما تقييده بإن شاء الله ، فليس يقتضي الشك ، لأن هذه اللفظة موضوعة في العرف لقطع الكلام عن النفاذ ، فهذه جملة ما يتعلقون به من جهة العقل.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) :

وأحد ما يتعلقون به من جهة السمع ، قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) قالوا فلو كان الإيمان منقولا من اللغة إلى الشرع على الحد الذي يدعونه ، لكان لا يثبت لهذا العطف معنى ، وليتنزل منزلة قوله : إن الذين آمنوا وآمنوا ، وعملوا الصالحات وعملوا الصالحات ، وذلك مما لا وجه له ، فليس إلا أن الإيمان مبقى على أصل الوضع.

وجوابنا ، أنا لم ندع أن كل لفظة اشتقت من الإيمان فإنها لا تستعمل إلا في

٤٩٢

المعنى الذي قلناه وأنه لا يجوز استعمالها في ما وضعت له في الأصل ، وإنما قلنا : إن قولنا مؤمن صار بالشرع اسما لمن يستحق المدح والتعظيم والثواب من جهة الله تعالى ، وإذا كان كذلك ، فلا مانع يمنع من أن تكون هذه اللفظة التي ذكرها في هذه الآيات مبقاة على أصل الوضع ، فلا يقدح في كلامنا ، وعلى أنه ليس ببعيد أن يكون الغرض بذكر ذلك وعطف ما عطف عليه ، وإن كان معناه أو طريقه التفخيم ، وصار ذلك كعطفه تعالى جبريل وميكائيل على سائر الملائكة ، حيث قال : (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) وكعطفه الصلاة الوسطى على الصلوات ، في قوله : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) [البقرة : ٢٣٨] وكقوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ) [الأحزاب : ٧] فهذه جملة الكلام في هذا الفصل.

فصل

في عذاب القبر :

وجملة ذلك أنه لا خلاف فيه بين الأمة ، إلا شيء يحكى عن ضرار بن عمرو وكان من أصحاب المعتزلة ثم التحق بالمجبرة ، ولهذا ترى ابن الراوندي يشنع علينا ، ويقول : إن المعتزلة ينكرون عذاب القبر ولا يقرون به.

والكلام فيه يقع في أربعة مواضع :

أحدهما : في ثبوته.

والثاني : في كيفية ثبوته.

والثالث : في الوقت الذي يقع فيه.

والرابع : في فائدته.

ثبوت العذاب :

أما ثبوته ، فالذي يدل عليه قوله تعالى : (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا) فالفاء للتعقيب من غير مهلة ، وإدخال النار لا وجه له إلا التعذيب ، ويدل عليه أيضا قوله تعالى : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) الآية ، ووجه دلالته على عذاب القبر ظاهر غير أنه يختص بآل فرعون ولا يعم جميع المكلفين.

والدلالة التي تعم ، قوله تعالى : (رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) ولا تكون

٤٩٣

الإماتة والإحياء مرتين إلا وفي إحدى المرتين إما التعذيب في القبر أو التبشير على ما نقوله.

ومتى قالوا : إن إحدى الإماتتين إنما هو خلق الله تعالى الخلق من نطفة هي موات ، قلنا : إن الإماتة في الحقيقة إنما هو إبطال الحياة وإزالتها وتفريق البنية التي تحتاج هي في الوجود إليها ، وذلك لا يتصور في النطفة التي لم تكن حية أصلا. وبعد فقد أثبت الله تعالى الإماتة مرتين ، وعلى هذا الذي ذكرتموه يقتضي أن يكون ذلك مرارا ، ولقد قال الله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢)) الآية ، ولم يصر حيا بعد ذلك بل صار علقة ، على ما قال تعالى : (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً) الآية.

ومما يدل على ذلك ما روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مر بقبرين فقال : «إنهما ليعذبان وما يعذبان من كبير كان أحدهما يمشي بالنميمة والآخر كان لا يستنزه من البول» وروي لا يستتر.

فإن قالوا : كيف يصح الاستدلال بهذا الخبر مع أنه يقتضي تعذيب عبده على الصغائر التي من شأنها أن تقع مغفورة؟ قلنا : المراد بقوله وما يعذبان من كبير عندهما ، لأن المعصية في نفسها غير كبيرة ، فهذا هو الكلام في ثبوت عذاب القبر.

كيفية ثبوته :

وأما الكلام في كيفية ثبوته ، فاعلم أنه تعالى إذا أراد تعذيبهم ، فإنه لا بد من أن يحييهم لأن تعذيب الجماد محال لا يتصور ، ولا يعترض ذلك ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الميت أنه يسمع خفق النعال ، وأنه ليعذب على بكاء أهله عليه ، لأن الإدراك يترتب على الحياة ، وتعذيب القبر بذنب الغير ظلم ، والله تعالى لا يفعل ذلك ، وتفسير قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أن الميت ليعذب على بكاء أهله ، أي على الوصية بذلك ، فكان من عادة القوم الوصية بالبكاء والنوح عليهم.

وكما لا بد من الإحياء ليصح التعذيب ، فلا بد من أن يخلق الله فيهم العقل ليحسن التعذيب ، وإلا اعتقد المعاقب المعذب أنه مظلوم ، ولهذا المعنى قلنا : إن أهل النار لا بد من أن يكونوا عقلاء ، هذا هو الذي نعلمه من جهة العقل.

فأما الكلام في أن ذلك كيف يكون ، وأنه تعالى يبعث إليه ملكين يقال لأحدهما

٤٩٤

منكر وللآخر نكير فيسألانه ثم يعذبانه أو يبشرانه حسب ما وردت به الأخبار ، فإن ذلك مما لا يهتدى إليه من جهة العقل ، وإنما الطريق إليه السمع.

وأما الوقت الذي يثبت فيه التعذيب ، وتعيين ذلك ، فما لا طريق إليه.

ومن الجائز أن يكون بين النفختين على ما قال الله تعالى : (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (١٠١)) والبرزخ في اللغة إنما هو الأمر الهائل العظيم ، ولا معنى له إلا العذاب.

فائدته :

وأما فائدة عذاب القبر وكونه مصلحة للمكلفين ، فإنهم متى علموا أنهم إن أقدموا على المقبحات وأخلوا بالواجبات عذبوا في القبر ثم بعد ذلك في نار جهنم ، كان ذلك صارفا لهم عن القبائح داعيا إلى الواجبات ، وما هذا سبيله وكان في مقدور الله تعالى فلا بد من أن يفعله ، وكما يكون العلم باستحقاق ذلك داعيا ولطفا للمعذب ، فإن تعذيبه يكون لطفا للملك الموكل إليه ذلك ، فهذه فائدته.

وأما القوم الذين دفعوا عذاب القبر وأنكروه ، فقالوا : لو كان له أصل لكان يجب في النّباش أن يرى العقوبة أو المثوبة للمعاقب والمثاب ، فكان يشاهد عليه أثر الضرب وغيره ، وفي علمنا بخلافه دليل على أن ذلك مما لا أصل له. قالوا : ومما يؤكد هذا الكلام أنه لو كان كذلك لكان يجب في المصلوب والميت الذي لم يدفن أن يسمع أنينه وأن يشاهد اضطرابه كل واحد ، والمعلوم أنه لا يرى مضطربا اضطراب المعاقب ، ولا يسمع له أنين البتة ، فكيف يكون معذبا والحال ما قلناه؟.

والجواب ، أن أكثر ما في هذا أن النّباش وغيره لا يرون أثر العقوبة على الميت ، ومن المجوز أن لا يعذبه الله تعالى في هذه الحالات التي يطلع عليها النباش أو غيره ، أو يعذبه على وجه يستتر عنهم لوجه من المصلحة يرى في ذلك ، وعلى أنا قد ذكرنا أن القوى في هذا الباب أنه تعالى يؤخر ذلك إلى ما بين النفختين على ما دل عليه كلامه تعالى.

ومما يذكرونه في هذا الباب ، أن فيما تدعونه من أنه تعالى يبعث ملكين أحدهما منكر والآخر نكير حتى يسألا صاحب القبر ثم يعذبانه أو يبشرانه تسمية ملائكة الله تعالى بما لا يليق بهم وبما يقتضي استحقاق الذم ، وذلك مما لا وجه له.

٤٩٥

وجوابنا ، أن ما قدمناه من الدلالة يدل على العذاب ولا بد له من معذب ، ثم إن المعذب يجوز أن يكون هو الله تعالى ويجوز أن يكون غيره ، هذا في العقل.

غير أن السمع ورد بأنه يكل ذلك إلى ملكين : يسمى أحدهما منكرا والآخر نكيرا ، ولا شيء في ذلك مما يدعونه علينا ، لأن هذا بمنزلة غيره من الألقاب التي لا حظ لها في إفادة المدح والذم والثواب والعقاب ، وهو جار على طريق العرب وتسميتهم أبنائهم وأعزتهم بالصخر والكلب والذئب وغير ذلك من غير أن يفيدوا به مدحا ولا ذما ، بل لكي يقوم مقام الإشارة على ما هو موضوع التلقيب. وعلى أنا لو جعلنا هذا الاسم من الأسماء المفيدة ، فإنه ليس يفيد قولنا منكر أكثر من أن الغير لا يعرفه ، وبأن لا يعرف شخص من الأشخاص ملكا من الملائكة لم يدخل الملك في استحقاق الذم ، وهكذا في قولنا نكير ، فإنه فعيل بمعنى مفعل ، وفعيل بمعنى مفعل شائع ، قال الشاعر :

* وقصيدة تأتي الملوك حكيمة *

أي محكمة ، فهذه طريقة القول في هذا الفصل.

فصل

أحوال القيامة :

وقد اتصل بهذه الجملة الكلام في أحوال القيامة ، وما يجري هناك من وضع الموازين والمسألة والمحاسبة وإنطاق الجوارح ونشر الصحف ، وما جرى هذا المجرى.

وجملة ذلك أن كل هذه الأمور حق يجب اعتقاده والإقرار به.

أما وضع الموازين ، فقد صرح الله تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) [الأنبياء : ٤٧]. وقوله : (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ) [المؤمنون : ١٠٢] الآية ، إلى غير ذلك من الآيات التي تتضمن هذا المعنى ، ولم يرد الله تعالى بالميزان إلا المعقول منه المتعارف فيما بيننا دون العدل وغيره على ما يقوله بعض الناس ، لأن الميزان وإن ورد بمعنى العدل في قوله : (وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ) ، فذلك على طريق التوسع والمجاز ، وكلام الله تعالى مهما أمكن حمله على الحقيقة لا يجوز أن يعدل به عنه إلى المجاز.

٤٩٦

يبين ذلك ويوضحه ، أنه لو كان الميزان إنما هو العدل ، لكان لا يثبت للثقل والخفة فيه معنى ، فدل على أن المراد به الميزان المعروف الذي يشتمل على ما تشمل عليه الموازين فيما بيننا.

فإن قالوا : وأي فائدة في وضع الموازين التي أثبتموها ، ومعلوم أنه إنما يوضع ليوزن به الشيء ، ولا شيء هناك يخذله الوزن ويتأتى فيه ، فإن أعمال العباد طاعاتهم ومعاصيهم أعراض لا يتصور فيها الوزن.

قيل له : ليس يمتنع أن يجعل الله تعالى النور علما للطاعة والظلم أمارة للمعصية ، ثم يجعل النور في إحدى الكفتين والظلم في الكفة الأخرى ، فإن ترجحت كفة النور حكم لصاحبه بالثواب ، وإن ترجحت الأخرى حكم له بالأخرى ، وكما لا يمتنع ذلك فكذلك لا يمتنع أن يجعل الطاعات في الصحائف ثم توضع صحائف الطاعات في كفة وصحائف المعاصي في كفة ، فأيهما ترجحت حكم لصاحبه به ، هذا هو كيفية ذلك.

فائدة عذاب القبر :

وأما فائدته ، فهو تعجيل مسرة المؤمن وغم الكافر ، هذا في القيامة.

وفيه فائدة أخرى تتعلق بالتكليف ، وهي أن المرء مع علمه أن أعماله توزن على الملأ كان عند ذلك أقرب إلى أداء الواجبات واجتناب المقبحات ، وهذه فائدة عظيمة.

وأما الحساب فمما لا يجوز إنكاره فقد قال تعالى : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً) غير أن محاسبة الله تعالى إيانا لا تجري على حد ما تجري المحاسبة بين الشريكين والمتعاملين فإن ذلك فيما بيننا إنما يكون بعقد الأصابع أو ما يجري مجراه ، وليس هكذا محاسبة الله تعالى عبارة ، فإن ذلك يكون بخلق العلم الضروري في قلبه أنه يستحق من الثواب كذا ومن العقوبة كذا ، فيسقط الأقل بالأكثر ، وعلى هذا صح ذلك بسرعة على ما دل عليه قوله تعالى : (اللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) ومن هاهنا استدل بعض مشايخنا بهذه الآية على أنه تعالى لا يجوز أن يكون جسما ، وإلا كان لا يتأتى منه محاسبة الخلائق بسرعة ولا يمكنه خلق العلم فيهم ، فكان يتعثر عليه ولا يمكنه إلا بمدة مديدة وزمان طويل ، وفي علمنا بأنه تعالى سريع الحساب دليل على أنه تعالى ليس من قبيل هذه الأجسام ، والفائدة في المحاسبة نحو الفائدة ووضع الموازين.

٤٩٧

وأما المسألة ، فمما يجب اعتقاده أيضا ، فقد قال تعالى : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢)) وقال : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) وقال : (لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ) [الأحزاب : ٨] إلى غير ذلك.

والفائدة في ذلك كالفائدة في نظائره ، مما تقدم.

وأما نشر الصحف ، فقد نطق به القرآن قال الله تعالى : (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠)) [التكوير : ١٠].

نطق الجوارح :

وأما نطق الجوارح فقد دل عليه قوله تعالى : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤)) [النور : ٧٤] وقوله : (أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) [فصلت : ٢٢] وذلك يكون على وجهين : إما أن يتولى الله تعالى خلق الكلام في جوارحه فتشهد عليه ، وإما أن يجعل كل عضو من أعضائه حيا بانفراده فيشهد عليه ، وإن كان شيخنا أبو هاشم قد استبعد هذا الوجه ومال إلى الوجه الأول ، وقال : إن الذي تقتضيه هذه الآية ليس إلا شهادة جوارحه عليه ، ولو صار كل عضو من أعضائه حيا بانفراده لم يكن سمعه ولا بصره ، اللهم إلا أن يقال أراد بقوله يشهد عليهم سمعهم ، أي ما كان سمعا لهم من قبل ، وذلك على الأحوال كلها عدول عن ظاهر كلام الله تعالى ، فلا وجه له مع إمكان أن يجري على ظاهره.

الصراط :

ومن جملة ما يجب الإقرار به واعتقاده ، الصراط ، وهو طريق بين الجنة والنار يتسع على أهل الجنة ويضيق على أهل النار إذا راموا المرور عليه ، وقد دل عليه القرآن ، قال الله تعالى : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦)). فلسنا نقول في الصراط ما يقوله الحشوية ، من أن ذلك أدق من الشعر وأحد من السيف ، وأن المكلفين يكلفون اجتيازه والمرور به ، فمن اجتازه فهو من أهل الجنة ، ومن لم يمكنه ذلك فهو من أهل النار ، فإن تلك الدار ليست هي بدار تكليف ، حتى يصح إيلام المؤمن وتكليفه المرور على ما هذا سبيله في الدقة والحدة ، وأيضا فقد ذكرنا أن الصراط هو الطريق ، وما وصفوه ليس من الطريق بسبيل ، ففسد كلامهم فيه.

وقد حكي في الكتاب عن كثير من مشايخنا أن الصراط إنما هو الأدلة الدالة على

٤٩٨

هذه الطاعات التي من تمسك بها نجا وأفضى إلى الجنة ، والأدلة الدالة على المعاصي التي من ركبها هلك واستحق من الله تعالى النار.

وذلك مما لا وجه له ، لأن فيه حملا لكلام الله تعالى على ما ليس يقتضيه ظاهره ، وقد كررنا القول في أن كلام الله تعالى مهما أمكن حمله على حقيقته ، فذلك هو الواجب دون أن يصرف عنه إلى المجاز.

وعلى أنا لا نعرف من الأصحاب من ذكر ذلك إلا شيئا يحكى عن عباد ، أن الصراط إنما هو الأدلة الدالة على وجوب هذه الواجبات والتمسك بها ، وقبح هذه المقبحات والاجتناب منها ، والفائدة في أن جعل الله تعالى إلى دار الجنة طريقا حاله ما ذكرنا ، هو لكي يتعجل به للمؤمن مسرة وللكافر غما ، وليضمنه اللطف في المصلحة على ما سبق في نظائره.

وأحوال القيامة وكيفية الإعادة ، أكبر من أن يحتمله هذا الموضع ، فنقتصر منها على هذا المقدار ، ونسأل الله السلامة عن عذابه والفوز بثوابه إن سائله لا يخيب ، وهو قريب مجيب.

٤٩٩
٥٠٠