شرح الأصول الخمسة

عبد الجبّار بن أحمد الهمداني الأسدآبادي

شرح الأصول الخمسة

المؤلف:

عبد الجبّار بن أحمد الهمداني الأسدآبادي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٧

لِلْمُتَكَبِّرِينَ) قيل لهم : إن الإنابة تحتمل أن تكون إنابة إلى الإسلام ، وتحتمل أن تكون الرجوع عن المعصية ، فمن خصصه بالرجوع إلى أحد الوجهين دون الثاني ، فقد خصصه بغير دلالة. ومتى قيل : ليس هذا من ألفاظ في العموم ، حتى يقال : إنكم قد خصصتم من دون دلالة ، وإنما هو من باب ما يقال : إن العبارة الواحدة أريد بها معنيان مختلفان ، فكيف يصح لكم ذلك؟ قيل له : الإنابة إذا كان يراد بها الرجوع ، وذلك يحتمل أن يراد به الرجوع إلى الإسلام ، وأن يراد به الرجوع عن المعصية ، فإن كل واحد منهما رجوع إلى الله تعالى ، لم يكن لتخصيص أحد الوجهين دون الثاني وجه.

وأحد ما يتعلقون به قوله تعالى : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) [الرعد : ٦] قالوا : بيّن أنه يغفر للظلمة في حال ظلمهم ، وفي ذلك ما نريده.

وجوابنا عن ذلك ، أن الأخذ بظاهر الآية مما لا يجوز بالاتفاق ، لأنه يقتضي الإغراء على الظلم ، وذلك مما لا يجوز على الله تعالى فلا بد من أن يؤوّل ، وتأويله هو أنه يغفر للظالم على ظلمه إذا تاب.

فإن قيل : إن هذا الذي ذكرتموه ينبني على أن لفظة «الناس» المذكورة في الآية تقتضي العموم ، ونحن لا نسلم ذلك.

قيل له : قد بينا أن اللام إذا دخل على اسم جنس ولم يكن هناك معهود ينصرف إليه ، فلا بد من أن يفيد استغراق الجنس فيقتضي الإغراء على ما ذكرناه ، فليس إلا أن يقال في تأويله ما بيناه.

ومتى قالوا : ليس يجوز أن يسمى التائب ظلما ، والآية تقتضي جواز ذلك ففسد تأويلكم.

قلنا : ليس يمتنع أن يسمى التائب ظالما ، فإن من رمى مسلما وتاب قبل الإصابة يسمى ظالما على توبته ، فكيف يصح ما ذكرتموه؟ يزيد ذلك وضوحا ، أن الظالم اسم مشتق غير منقول من اللغة إلى الشرع ، فيجوز أن يسمى به التائب وغير التائب ، وعلى هذا قال آدم عليه‌السلام : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) الآية ، فسمى نفسه ظالما وإن كان قد تاب. وقال موسى عليه‌السلام : (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي) [القصص : ١٦] فغفر له على توبته.

غير أنا لا نطلق هذا اللفظ على التائب لأنه يوهم الخطأ ، ويقتضي استحقاقه للذم

٤٦١

وهو غير مستحق للذم ، وإذا كان الذي له ولأجله لم يجز للواحد أن يصف التائب بأنه ظالم هو ما ذكرنا من إيهامه الخطأ ، وذلك مرفوع عن كلام الله جل ذكره ، لما قد ثبت عدله وحكمته ، لم يمتنع أن يصفه الله تعالى به ، إذ لا يريد به إلا المعنى الصحيح ، وجرى ذلك مجرى قوله تعالى : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) فكما أنه جاز له إجراء لفظ العاصي على آدم لثبوت حكمته جل وعز ، لأنه لم يرد به إلا المعنى الصحيح دون الفاسد ، ولم يجز لنا ذلك لما لم تثبت حكمتنا ، كذلك هاهنا ، فهذا تمام القول في هذه الآية.

وأجد ما يتعلقون به قوله تعالى : (فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (١٤) لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٦)) والفاسق لم يكذب ولم يتول ، فيجب أن لا يعذب على الحد الذي نقول. وجوابنا عن ذلك ، لا تعلق لكم بظاهر هذه الآية ، لأن ظاهر الآية يقتضي أن لا يعذب بالنار قطعا وأنتم لا تقطعون بذلك ، وعلى أن في الكفر ما لا يكون تكذيبا نحو الزنا بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ونحو الاستخفاف به بالشتم أو الضرب أو غير ذلك ، فيجب في الكافر الذي هذا سبيله أن لا يصلى النار ، وقد عرف خلافه.

وأيضا ، فإن قوله تعالى : (فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (١٤)) نكرة ، فأكثر ما فيه أن لا يصلى تلك النار إلا الأشقياء الذين يكذبون ، فمن أين أنه لا يجوز أن يصلى الفاسق بغيرها من النيران ، فبطل ما ذكرتموه ، وعلى أن ظاهر الآية يقتضي الإغراء ، لأن الفاسق متى اعتقد وعلم أنه وإن أتى بكل فاحشة وبلغ في الفسق كل مبلغ لا يصلى بالنار ، كان مغرى على القبيح ومحرضا عليه ، وذلك لا يجوز على الله تعالى.

فإن قيل : إن الإغراء يزول بالخوف من أن يعاقبه في الموقف بالتعطيش وغيره من أنواع العقوبات ، قلنا : إن هذا خرق الإجماع ، لأن الأمة اتفقت على أن من استحق العقوبة إذا لم يعاقبه الله تعالى بالنار في دار الآخرة لا يعاقبه خارج النار.

وعلى أن شيخنا أبا الهذيل ، ذكر أن الآية تتناول الكافر والفاسق جميعا ، لأن قوله : (تَوَلَّى) يجوز أن يكون المراد به الفاسق ، غير أن هذا الكلام يضعف من طريق العربية.

ومما يتمسكون به قوله تعالى : (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) قالوا : إن الآية تدل على أن الذي يجب أن يكون آيسا من روح الله إنما هو الكافر دون الفاسق.

٤٦٢

وجوابنا ، إن اليأس المذكور في الآية ، إنما هو إنكار الجنة والنار ، فأكثر ما تتضمنه الآية أن الفاسق لا ينكره ، ونحن لا نقول إنه ينكره ، فلا يصح التعلق به.

فإن قيل : إن هذا تخصيص من دون دلالة ، قيل له : إنا خصصناه بذلك للأدلة الدالة عليه ، وهي عمومات الوعيد.

فإن قيل : إن هذه الآية ليس بأن تحمل على عمومات الوعيد أولى من أن تحمل عمومات الوعيد على هذه الآية ، فيجب أن يتوقف فيهما ، فقد وقف القولان موقفا واحدا. قيل لهم : إن الدلالة قد دلت على أن الفاسق ييأس من رحمة الله يوم القيامة لا محالة ، فلم يكن بد من أن يحمل اليأس المذكور في الآية على إنكار الجنة والنار ، ففسد ما قالوه.

وقد قالت المرجئة : لو أمكن الاستدلال بعمومات الوعيد والأخذ بظاهرها لأمكن مثله في قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) فلو أخذتم بذلك ، وأجبتم إلى هذا الكلام لزمكم القول بأن من لم يحكم بما أنزل الله فهو كافر ، وذلك دخول في مذهب الخوارج ، وأنتم لا تقولونه ولا ترضونه مذهبا. قيل له : إنما خصصنا هذه الآية لدلالة دلت عليه وحجة قامت به ، ولم تقم مثل الدلالة في عمومات الوعيد ، وليس يجب إذا خصصنا عاما لدلالة اقتضته ووجه أوجبه ، أن نخص كل عام في كتاب الله تعالى ، وإن لم تقتضيه دلالة.

وبعد ، فإن قوله (بِما أَنْزَلَ اللهُ) عام ، كما أن قوله : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ) عام ، فيقتضي ظاهر الآية أن كل من لم يحكم بجميع ما أنزل الله فهو كافر ، ونحن هكذا نقول ، فعلى هذه الطريقة يجري الكلام في هذا الباب.

فصل في الشفاعة

ووجه اتصاله بباب الوعيد ، هو أن هذا أحد شبه المرجئة الذين يوردون علينا طعنا في القول بدوام عقاب الفساق. وجملة القول في ذلك ، هو أنه لا خلاف بين الأمة في أن شفاعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثابتة للأمة ، وإنما الخلاف في أنها ثبتت لمن؟

فعندنا أن الشفاعة للتائبين من المؤمنين ، وعند المرجئة أنها للفساق من أهل الصلاة.

ونحن قبل الاشتغال بالدلالة على صحة ما اخترناه من المذهب ، نذكر الشفاعة.

٤٦٣

اعلم أن الشفاعة في أصل اللغة مأخوذة من الشفع الذي هو نقيض الوتر ، فكأن صاحب الحاجة بالشفيع صار شفعا.

وأما في الاصطلاح ، فهو مسألة الغير أن ينفع غيره أو أن يدفع عنه مضرة ، ولا بد من شافع ومشفوع له ، ومشفوع فيه ومشفوع إليه. وقد سأل رحمه‌الله نفسه ، إن المشفوع إليه إذا أجاب الشفيع هل يكون مكرما له أم لا؟ والأصل فيه ، أنه يكون مكرما له ، لأنه لا بد من أن يكون قد قصد بالإجابة إكرامه ، وإلا لم يكن إيصاله تلك المنفعة إلى الغير ودفعه ذلك الضرر بشفاعته.

إذا ثبت هذا ، فالذي يدل على ما ذكرناه ، هو أن شفاعة الفساق الذين ماتوا على الفسوق ولم يتوبوا يتنزل منزلة الشفاعة لمن قتل ولد الغير وترصد للآخر حتى يقتله ، فكما أن ذلك يقبح فكذلك هاهنا هذا ، الذي ذكره قاضي القضاة.

والذي يذهب إليه أبو هاشم ، هو أنه تحسن الشفاعة مع إصرار المذنب على الذنب كما في العفو ، ولعل الصحيح في هذا الباب ما اختاره قاضي القضاة.

وأحد ما يدل على ذلك أيضا ، أن الرسول إذا شفع لصاحب الكبيرة فلا يخلو ، إما أن يشفع أو لا ، فإن لم يشفع لم يجز لأنه يقدح بإكرامه ، وإن شفع فيه لم يجز أيضا لأنا قد دللنا على أن إثابة من لا يستحق الثواب قبيح ، وأن المكلف لا يدخل الجنة تفضلا.

وأيضا فقد دلت الدلالة على أن العقوبة تستحق على طريق الدوام ، فكيف يخرج الفاسق من النار بشفاعة النبي عليه‌السلام والحال ما تقدم ، ومما يدل على ذلك قوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) الآية ، وقوله تعالى : (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) فالله تعالى نفى أن يكون للظالمين شفيع البتة ، فلو كان النبي شفيعا للظلمة لكان لا أجل وأعظم منه.

ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى : (أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) وقوله : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى).

فائدة الشفاعة وموضوعها

وقد أورد رحمه‌الله بعد هذه الجملة الكلام في فائدة الشفاعة وموضوعها.

٤٦٤

وجملة ذلك أن فائدة الشفاعة رفع مرتبة الشفيع ، والدلالة على منزلته من المشفوع.

وأما موضوعها فقد اختلف الناس فيه ، فعندنا أن موضوع الشفاعة هو لكي يصل المشفوع له إلى حاجته ، ثم أن حاجته ، إما أن تكون نفعا يناله من مال وحشمة وتمييز وخلعة ، أو ضرر يدفع عنه.

وقد خالف في ذلك المرجئة ، وقالت : إن موضوعها إنما هو لدفع الضرر عن المشفوع له لا غير ، وذلك ظاهر الفساد ، فإن الوزير مثلا كما يشفع إلى السلطان ليزيل عن حاجب من حجابه الضرر ، فقد يشفع ليخلع عليه ويميزه من الحجاب ، ففسد ما ظنوه.

ومتى قيل : إن الشفاعة التي هذه سبيلها ترجع إلى ما ذكرناه ، فإن الحاجب لو لم يستضر بانحطاط رتبته لكان لا يكون للشفاعة في رفع مرتبته وتميزه عن غيره معنى.

قلنا : إن هذا تعسف ولا وجه له ، بل لو جعل الأصل في هذا الباب النفع ، ويرجع بدفع الضرر إليه ، لكان أولى وأوجب.

فحصل لك بهذه الجملة العلم بأن الشفاعة ثابتة للمؤمنين دون الفساق من أهل الصلاة ، خلاف ما تقوله المرجئة.

وقد تعلقوا في ذلك بما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» وقالوا : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد نص على صريح ما ذهبنا إليه.

والجواب : أن هذا الخبر لم تثبت صحته أولا ، ولو صح فإنه منقول بطريق الآحاد عن النبي ، ومسألتنا طريقها العلم ، فلا يصح الاحتجاج به.

ثم إنه معارض بأخبار رويت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في باب الوعيد ، نحو قوله : «لا يدخل الجنة نمام ولا مدمن خمر ولا عاق» وقوله : «من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها بطنه يوم القيامة في نار جهنم خالدا مخلدا» إلى غير ذلك ، فليس بأن يوجد بما أوردوه أولى من أن يوجد بما رويناه ، فيجب اطراحهما جميعا ، أو حمل أحدهما على الآخر ، فنحمله على ما يقتضيه كتاب الله وسنة رسوله ، ونقول : المراد به شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي إذا تابوا. ومتى قالوا : إن التائب في غنى عن الشفاعة ولا فائدة فيها ، قلنا ليس كذلك ، فإن ما استحق التائب من الثواب قد انحبط بارتكابه الكبيرة ،

٤٦٥

ولا ثوب إلا مقدار ما قد استحقه بالتوبة ، فيه حاجة إلى نفع التفضل عليه. فإن قالوا : إن ذلك شيء قد وعده الله به حيث يقول : (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) فلا يثبت للشفاعة والحال ما ذكرتموه تأثير.

قلنا : إنه تعالى لم يذكر أنه يزيدهم من فضله دون شفاعة النبي ص ، فلا يمتنع تجويز أن يكون التفضل هو هذا الذي قد وعد به ، بل لا يمنع أن يتفضل عليهم نوعا آخر من التفضل ، ففضله أوسع مما يظنونه. وقد قال أبو الهذيل : إن الشفاعة إنما ثبتت لأصحاب الصغائر وذلك لا يصح ، لأن الصغائر تقع مكفرة في جنب الطاعات.

فإن قيل : إن النبي ص يشفع ليعاد ما قد انحبط بصغيرته من الثواب.

قيل له : إن ذلك قد انحبط وبطل وخرج من أن يستحق ، فكيف يصح عوده بالشفاعة؟ ثم يقال لهؤلاء المرجئة : أليس أن الأمة اتفقت على قولهم : اللهم اجعلنا من أهل الشفاعة ، فلو كان الأمر على ما ذكرتموه لكان يجب أن يكون هذا الدعاء دعاء لأن يجعلهم الله تعالى من الفساق وذلك خلف.

فإن قالوا : أليس أن الأمة قد اتفقت على هذا فقد اتفقت على قولهم : اللهم اجعلنا من التوابين ومن أهل التوبة ، ثم لم يلزم أن يكون هذا الدعاء لأن يجعلهم فساقا ملعونين ، فهلا جاز مثله هاهنا؟

قلنا : إن بين الموضعين فرقا عندكم أن الشفاعة لا تصح ولا يثبت لها معنى إلا للفساق ، فسؤال الله تعالى ودعاؤه حتى يجعله من أهل الشفاعة دعاء له حتى يجعله من أهل الفسوق ، وليس كذلك الحال في قولنا اللهم اجعلنا من التوابين ومن أهل التوبة ، لأن هذا القول يحسن من أصحاب الصغائر والكبائر جميعا ، حتى يحسن من الأنبياء.

وأيضا ، فما من شيء نفعله من المباحات إلا ويجوز أن يقع فيها ما هو معصية ، وإذا كان ذلك مجوزا ، حسن منا الدعاء بهذه الدعوة ، ولم يتضمن الدعاء بأن يجعلنا الله تعالى من المتعاطين للأفعال القبيحة والمخلين بالواجبات ، فقد ذكرنا أن التوبة قد تحسن عما لا يقبح أصلا ، وليس هكذا حال الشفاعة عندكم ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا بد من أن يعلم أنه إن لم يشفع له ، عاقبه الله تعالى بما ارتكبه من الكبائر.

على أن غرض الأمة بهذه الدعوة لو ثبت اتفاقهم عليها ، أن يسهل الله لهم السبيل إلى التوبة بالألطاف أو ما يجري مجراها لما هو غرضهم بتلك الدعوة ، ولا يمكنهم أن يكيلوا علينا بهذا الكيل ، فالمرء ما لم يكن من أهل الكبيرة لا تحسن

٤٦٦

شفاعته على موضوع مقالتهم ، ويقال لهم أيضا : ما قولكم فيمن حلف بطلاق امرأته ، أنه ليفعل ما يستحق به الشفاعة؟ أليس يلزمه أن يرتكب الكبيرة ، ويصير من أهل الفسوق والعصيان ولا بد من بلاء ، وحسبك من مذهب هذه حاله فسادا. فعلى هذه الطريقة يجري الكلام في هذا الباب.

٤٦٧
٤٦٨

الأصل الرابع

المنزلة بين المنزلتين

٤٦٩
٤٧٠

الأصل الرابع

وهو الكلام في المنزلة بين المنزلين

فصل

لم سمى بالأسماء والأحكام :

اعلم أن هذا الفصل كلام في الأسماء والأحكام ويلقب بالمنزلة بين المنزلتين.

ومعنى قولنا : إنه كلام في الأسماء والأحكام ، هو أنه كلام في أن صاحب الكبيرة له اسم بين الاسمين وحكم بين الحكمين ، لا يكون اسمه اسم الكافر ، ولا اسمه اسم المؤمن ، وإنما يسمى فاسقا. وكذلك فلا يكون حكمه حكم الكافر ، ولا حكم المؤمن ، بل يفرد له حكم ثالث ، وهذا الحكم الذي ذكرناه هو سبب تلقيب المسألة بالمنزلة بين المنزلتين ، فإن صاحب الكبيرة له منزلة تتجاذبها هاتان المنزلتان ، فليست منزلته منزلة الكافر ولا منزلة المؤمن ، بل له منزلة بينهما.

إذا ثبت هذا ، فاعلم ، أن المكلف لا يخلو حاله من أحد أمرين : فإما أن يكون مستحقا للثواب ، أو يكون مستحقا للعقاب ، فإن كان مستحقا للثواب فهو من أولياء الله ، وإن كان مستحقا للعقاب فهو من أعداء الله تعالى.

ثم إنه إن كان مستحقا للثواب فلا يخلو : إما أن يستحق الثواب العظيم ، أو يستحق ثوابا دون ذلك ، فإن استحق الثواب العظيم فلا يخلو : إما أن يكون من بني آدم ، أو لا يكون. فإن لم يكن من بني آدم فإنه يسمى ملكا ومقربا. وما يجري هذا المجرى ، وإن كان من بني آدم ، سمي نبيا ومصطفى ومختارا ، إلى غير ذلك.

وإذا استحق ثوابا دون ذلك ، فإنه يسمى مؤمنا برا تقيا صالحا ، سواء كان من الجن أو من الإنس.

وإن كان من أعداء الله تعالى ، فلا يخلو : إما أن يكون مستحقا للعقاب العظيم ، أو لعقاب دون ذلك.

فإن كان مستحقا للعقاب العظيم ، فإنه يسمى كافرا ، والكفر أنواع : من ذلك النفاق ، وهو أن يسر صاحبه خلاف ما يظهره ، ومنه الارتداد ، وهو أن يكون كان مؤمنا

٤٧١

ثم خرج عنه إلى الكفر ، ومنه التهود والتنصر والتمجس ، وتعداد ذلك وشرحه يطول.

وإن استحق عقابا دون ذلك سمي فاسقا.

ولما اقتضت هذه الجملة التي تقدمت أن يذكر حقيقة المدح والذم ، والتعظيم والتبجيل ، والاستخفاف والإهانة ، والثواب والعقاب ، والموالاة والمعاداة ، أخذ رحمه‌الله يتكلم عليها وأكثرها قد تقدم ، غير أنا نجمعها هاهنا ، فنقول :

المدح :

إن المدح هو كل قول ينبئ عن عظم حال الغير ، فهو إذن قول وقع على وجه دون وجه ، وكل وجه وقع على وجه دون وجه فلا بد أن يقصد كما في كون الكلام خبرا ، فإنه لما جاز أن يقع خبرا وجاز أن يقع ولا يكون خبرا ، لم يكن بد من قصد له ولمكانه صار خبرا.

ثم إن المدح على ضربين : أحدهما ، ضرب مدح يستحق بالطريق الذي يستحق به الثواب ، وذلك نحو المدح المستحق على أداء الواجبات واجتناب المقبحات ، والثاني ، مدح لا يستحق بهذه الطريقة وعلى هذا الوجه ، وذلك كالمدح على استواء الأعضاء وحسن الوجه والقد والقامة وغير ذلك.

الذم :

وأما الذم ، فهو قول ينبئ عن اتضاع حال الغير ، ويعتبر فيه القصد كما في المدح.

وهو أيضا على وجهين : أحدهما ، يستحق على الطريقة التي يستحق بها العقاب ، وذلك كالذم المستحق على الإخلال بالواجبات والإقدام على المقبحات ، والثاني ، لا يستحق على هذه الطريقة ، وذلك نحو الذم على دمامة الخلقة والشكل والعرج وما شاكل ذلك.

وأما التعظيم والاستخفاف فهما كالمدح والذم سواء ، غير أنهما إنما يستعملان في القول ، والفعل جميعا ، والمدح والذم لا يستعملان إلا في الأقوال.

وأما التعجيل ، فهو رفع منزلة الغير ، فهو إذن يخالف المدح والتعظيم ، ولهذا لا يقال : فلان يبجل الله تعالى كما يقال يعظمه ويمدحه ، لما كان المرجع به إلى رفع

٤٧٢

منزلة الغير وذلك في الله غير متصور ، وليس كذلك المدح والتعظيم ، فإنه ليس بأكثر من قول أو فعل ينبئ عن عظم حال الغير ، فيتأتّى في الله تعالى وفي غيره.

الثواب :

وأما الثواب ، فهو كل نفع مستحق على طريق التعظيم والإجلال ، ولا بد من اعتبار هذه الشرائط ، ولو لم يكن منفعة وكان مضرة لم يكون ثوابا ، ولو لم يكن مستحقا لم ينفصل عن التفضل ، وكذلك فلو لم يكن مستحقا على سبيل التعظيم والإجلال لم ينفصل عن العوض ، وإذا حصل هذه الشرائط كلها فهو ثواب.

العقاب :

وأما العقاب ، فهو كل ضرر محض يستحق على طريق الاستخفاف والنكال. فلا بد من أن يكون ضررا ، لأنه لو كان منفعة لم يكن عقابا ، وكذلك فلو لم يكن مستحقا لم ينفصل عن الظلم ، وهكذا فلو لم يستحق على سبيل الاستخفاف والنكال ، لم ينفصل عن الحدود التي تقام على التائب وعن هذه الآلام والمصائب النازلة من جهة الله تعالى.

الموالاة :

وأما الموالاة فهي مفاعلة من الولاية ، والولاية قد تذكر ويراد بها النصرة ، كما قال الله تعالى : (لا مَوْلى لَهُمْ) [محمد : ١١] أي لا ناصر لهم ، وقد تذكر ويراد بها الأولى ، قال الله تعالى : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ) [المائدة : ٥٥] الآية ، أي الأولى بكم إنما هو الله ورسوله والمؤمنون بهذا الوصف ، وقد تذكر ويراد بها المحبة ، وهو إرادة نفع الغير ، يقال : فلان ولى فلان ، أي يريد خيره ، ولذلك لا تستعمل في القديم تعالى لأن النفع والضرر مستحيلان عليه ، وإذا استعمل فقيل : فلان من أولياء الله ، فذلك على طريق التوسع ، والمراد به أنه يريد نصرة أولياء الله أو يريد خيرهم. وإذا قيل : إن الله ولي عبده ، فالمراد به أنه يريد إثابته والتفضل عليه.

المعاداة :

وأما المعاداة فمفاعلة من العداوة أيضا ، ومعناه إرادة نزول الضرر بالغير ، وإذا قيل : فلان يعادي الله تعالى ، فالمراد به أنه يريد نزول الضرر بأوليائه ، وإذا قيل في الله

٤٧٣

تعالى أنه عدوه ، فالمراد به أنه يريد معاقبته.

فصل

في المقصود من الباب :

وإذ قد فرغنا عن حقيقة هذه الألفاظ وما يتصل بها ، عدنا إلى المقصود بالباب.

وجملة القول في ذلك أن الغرض بهذا الباب هو أن صاحب الكبيرة لا يسمى مؤمنا ولا كافرا ، وإنما يسمى فاسقا.

فصلان

١ ـ الفاسق لا يسمى مؤمنا خلافا للمرجئة :

٢ ـ ولا يسمى كافرا خلافا للخوارج :

وقد جعل رحمه‌الله الكلام في ذلك في فصلين : أحدهما ، في أنه لا يسمى مؤمنا خلاف ما يقوله المرجئة. والثاني ، في أنه لا يسمى كافرا على ما يقوله الخوارج.

والذي يدل على الفصل الأول ، وهو الكلام في أن صاحب الكبيرة لا يسمى مؤمنا ، هو ما قد ثبت أنه يستحق بارتكاب الكبيرة الذم واللعن والاستخفاف والإهانة ، وثبت أن اسم المؤمن صار بالشرع اسما لمن يستحق المدح والتعظيم والموالاة ، فإذا قد ثبت هذان الأصلان ، فلا إشكال في أن صاحب الكبيرة لا يجوز أن يسمى مؤمنا.

ونحن وإن منعنا من إطلاق هذا الاسم على صاحب الكبيرة ، فلا نمنع من إطلاقه عليه مقيدا ، فيجوز وصفه بأنه مؤمن بالله ورسوله لأنه لا يمنع أن يفيد هذا الاسم بإطلاقه ما لا يفيده إذا قيد ، فإنك تعلم أن الرب إذا أطلق لا ينصرف إلا إلى القديم تعالى ، وإذا قيد يجوز أن يراد به غير الله تعالى ، فيقال : رب الدار ورب البيت.

وقد خالفنا بذلك أبو القاسم ، وقال : إن هذا الاسم يفيد مقيده ما يفيد مطلقه ، واستدل على ذلك بقوله : (وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) ، وذلك مما لا وجه له ، فإن المعلوم أن المراد بالآية ، أن الجنة التي ذكرها الله تعالى إنما أعدها للذين آمنوا بالله ورسله بشرط أداء الواجبات واجتناب المحرمات ، وإنما اقتصر على هذا القدر في الآية لما قد بينه في آية أخرى ، وركب

٤٧٤

أصله في العقل.

وهذه الجملة تنبنى على أن المؤمن صار بالشرع اسما لمن يستحق المدح والتعظيم ، وأنه غير مبقى على موضوع اللغة ، وأما الذي يدل على أنه صار بالشرع اسما لمن يستحق المدح والتعظيم ، هو أنه تعالى لم يذكر اسم المؤمن إلا وقد قرن إليه المدح والتعظيم ، ألا ترى إلى قوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١)) وقوله : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) وقوله : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) إلى غير ذلك من الآيات ، وأما الذي يدل أنه غير مبقي على الأصل ، هو أنه لو كان مبقي على ما كان عليه في اللغة ، لكان يجب إذا صدق المرء غيره أو أمنه من الخوف أن يسمى مؤمنا وإن كان كافرا ، ولكان يجب أن لا يسمى الأخرس مؤمنا ، لأنه لم يصدر من جهة التصديق ، ولكان يجب أن لا يزول بالندم ولا يرتفع به ، لأن الأسماء المشتقة هذه سبيلها ، ألا ترى أن الضارب لما كان اسما مشتقا من الضرب ، ووقع من أحدنا الضرب لم يزل عنه هذا الاسم بالندم وغيره؟ وكذلك الشاتم والكاتب.

ومتى قيل : أليس أن الظالم مع أنه اسم مشتق من الظلم ، لم يجز إجراؤه على التائب وزال بالتوبة والندم ، فقد أجبنا عن ذلك ، وبينا أنه إنما لم يجز إجراؤه على التائب لا لأمر يرجع إلى موضوع اللغة ، بل لأنه يوهم الخطأ ، ولهذا يجوز من الله تعالى أن يسمي التائب ظالما لم لم يثبت في حقه هذا المعنى.

وأيضا ، فكان يجب ألا يسمى المرء مؤمنا إلا حال اشتغاله بالإيمان ، فإن هذا هو الواجب في الأسماء المشتقة من الأفعال ، ألا ترى أنه لا يسمى الضارب ضاربا وإلا وهو مشتغل بالضرب ، والمصلي مصليا إلا وهو في الصلاة ، فأما الضرب المتقدم والصلاة التي قد أتى الفراغ عليها ، فإنه لا يشتق له منها اسم ، فكان يجب فيمن آمن بالأمس أن لا يسمى اليوم مؤمنا ، بل يقال كان مؤمنا ، وقريب من هذا الكلام ما يحكى أن بعض مشايخنا ألزم ابن فورك في كلام جرى بينهما ، أن يؤذن المؤذن ويقول : أشهد أن محمدا كان رسول الله ، فارتكب المدبر ذلك وافتضح ، فأمر به محمود حتى نكل وجر برجله.

وأحد ما يدل على ذلك أيضا ، هو أنه لو كان مبقي على الأصل ، لكان يجب أن لا يقع الفصل بين مطلق هذا الاسم ومقيده ، ومعلوم خلاف ذلك.

٤٧٥

واعلم أن هاهنا أسماء أخر غير الإيمان ، نقلت من الاسم إلى الشرع ، والكلام في ذلك إنما يتضح إذا بينا جواز نقل الأسماء من اللغة إلى الشرع ، وأن ما هو جائز فهو ثابت.

أما الذي يدل على أن نقل الأسماء جائز ، هو ما قد ثبت أن أهل الشرع عقلوا معان لم يعقلها أهل اللغة ولا وضعوا لها أسماء ، فلا يمتنع أن ينتزع أهل الشرع من اللغة أسامي لما قد عرفوه بالشرع ، بل الحكمة تقتضي ذلك. وصار الحال فيه كالحال فيمن استحدث صناعة من الصناعات ولها آلات مختلفة ليس لها في اللغة أسماء تعرف بها ويقع التمييز بينها وبين غيرها ، فكما أن له أن يضع لكل واحد منها اسما ، بل الحكمة تقتضي ذلك ، كذلك هاهنا.

وأما الذي يدل على أن ما هو جائز فهو موجود ثابت فظاهر ، لأن الصلاة كان في الأصل عبارة عن الدعاء ، والآن صارت بالشرع اسما لهذه العبادة مشتملا على هذه الأركان المخصوصة ، وكذلك الصوم فقد كان في الأصل عبارة عن الإمساك ، والآن صار بالشرع اسما لإمساك مخصوص في وقت مخصوص ، وكذلك الزكاة كان في الأصل عبارة عن الزيادة والنماء والآن صار بالشرع اسما لإخراج قطعة من المال مخصوصة.

إذا ثبت هذا ، فإن قولنا مؤمن ، من الأسماء التي نقلت من اللغة إلى الشرع وصار بالشرع اسما لمن يستحق المدح والتعظيم.

وكما أن قولنا مؤمن ، جعل بالشرع اسما لمن يستحق التعظيم والإجلال ، فكذلك قولنا مسلم ، جعل بالشرع اسما لمن يستحق المدح والتعظيم حتى لا فرق بينهما إلا من جهة اللفظ.

والكلام في ذلك يقع في موضعين : أحدهما ، أن قولنا مسلم غير مبقي على ما كان عليه في الأصل ، والثاني ، أن الشرع جعله اسما لمن يستحق المدح والتعظيم.

أما الذي يدل على أنه غير مبقي على الأصل هو أنه لو كان مبقي على الأصل لكان يجوز إجراؤه على الكافر إذا انقاد للغير ، ومعلوم خلافه ، ولكان يجب أن لا يجري على النائم والساهي لأن الانقياد غير مقصود منهما ، ولكان يجب أن لا يسمى الآن بهذا الاسم إلا المشتغل به دون من سبق منه الإسلام.

ومتى قيل كذا ، نقول : قلنا : يلزم على هذا أن لا نسمي أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الآن

٤٧٦

مسلمين حقيقة وقد عرف خلاف ذلك ، ولكان يجب أيضا أن لا يزول هذا الاسم بالندم وغيره وقد عرف خلافه.

ومما يدل على ذلك قوله تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ) الآية ، سمى هذه الجمل دينا ، ثم بين في آية أخرى أن الدين عند الله الإسلام ، ولو كان مبقي على أصل اللغة لم يصح ذلك لأنه في الأصل غير مستعمل في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، وهذا كما يدل على أنه غير مبقي على الأصل فإنه يدل على أنه لا يجوز إجراؤه إلا على من يستحق المدح والتعظيم كالمؤمن سواء.

ومما يدل على أن الدين والإسلام واحد ، قوله تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) والمعلوم أنه لو اتخذ الإيمان دينا لقبل منه.

ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى : (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٦)) فلو لم يكن أحدهما هو الآخر ، لكان لا يصح الاستثناء على هذا الوجه.

ومما يدل على ذلك ، أخبار رويت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من جملتها قوله : «بني الإسلام على خمس ، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج بيت الله» وفي بعض الروايات ، والعمرة. ومن ذلك قوله : «الإسلام بضع وسبعون بابا أعلاه شهادة أن لا إله إلا الله ، وأدناه إماطة الأذى عن الطريق» والذي يدل على أن اسم المسلم صار بالشرع اسما لمن يستحق المدح والتعظيم كالمؤمن ، هو أنه لم يذكره إلا وقد قرن إليه من يدل على أنه مستحق للمدح ، قال الله تعالى : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ) وقال تعالى : (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ).

وقد خالفنا في ذلك بعض الناس ، وفرق بين المؤمن والمسلم ، واستدل على ذلك بقوله تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) فالله تعالى فصل بين الإيمان والإسلام ، فلو كانا جميعا بمعنى واحد لم يكن للفصل بينهما وجه.

وجوابنا عن ذلك ، أكثر ما فيه أنه تعالى استعمل الإسلام في هذا الموضع على الحد الذي يستعمله أهل اللغة مجازا ، ونحن لا نمنع من وجود المجاز في كتاب الله تعالى ، فصار الحال فيه كالحال في المؤمن فقد استعمله الله كثيرا في كتابه وأراد به ما وضع له في الأصل ، نحو قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) إلى غير ذلك

٤٧٧

من الآيات.

وقد اتصل بهذه الجملة الكلام في حقيقة الإيمان.

وجملة ذلك ، أن الإيمان عند أبي علي وأبي هاشم عبارة عن أداء الطاعات ، الفرائض دون النوافل واجتناب المقبحات ، وعند أبي الهذيل عبارة عن أداء الطاعات ، الفرائض منها والنوافل واجتناب المقبحات ، وهو الصحيح من المذهب الذي اختاره قاضي القضاة.

والذي يدل على صحته هو أن الأمة اتفقت على أن ركعتي الفجر من الدين ، وإذا ثبت أنه من الدين ثبت أنه من الإيمان ، لأن الدين والإيمان واحد. وقد احتج أبو علي وأبو هاشم لما ذهبا إليه بأن قالا : لو كانت النوافل من الإيمان لكان يجب إذا ترك المرء نافلة وأخل لها أن يكون تاركا لبعض الإيمان ويصير بذلك ناقص الإيمان غير كامله ، وقد عرف خلافه.

وجوابنا عن ذلك أن هذا لا يصح ، لأنه إنما لم يجب أن يجري عليه هذا الاسم ويقال تارك للإيمان أو أنه غير تارك الإيمان أو أنه غير كامل الإيمان ، لأنه يوهم الخطأ ويقتضي أن يكون مستحقا للذم ، حتى أنه لو لم يقتض ذلك جاز أن يوصف به تارك النوافل ، فسقط ما قالاه. يبيّن ذلك ويوضحه ، أن البر والتقوى يقعان على الطاعات جملة الفرائض منها والنوافل ، ثم ليس يجب إذا أخل المرء بالنافلة أو تركها أن يقال إنه غير كامل التقوى وأنه ناقص البر ، لا لوجه سوى ما أشرنا إليه من أن ذلك يوهم استحقاقه للذم واللعن ، كذلك هاهنا ، فهذا هو حقيقة الإيمان عندنا.

أقوال المرجئة وغيرهم :

وقد ذكر رحمه‌الله بعد ذلك ما يقوله المرجئة وغيرهم في حقيقة الإيمان.

وجملة ذلك ، أن كلام المخالفين في حقيقة الإيمان مختلف :

فعند النجارية وجهم ، أن الإيمان هو المعرفة بالقلب وذلك مما لا يصح ، لأنه لو كان كذلك لكان يجب في من علم الله تعالى وجحده أو لم يجحده ولم يأت بشيء من الفرائض ، وتعدى حدود الله تعالى أن يكون مؤمنا ، وقد عرف خلاف ذلك.

وعند الكرامية أن الإيمان إنما هو الإقرار باللسان. وهذا يوجب عليهم أن يكون المنافق الذي يظهر الإسلام بلسانه ويقر به مؤمنا ، ومعلوم من دين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودين الأمة

٤٧٨

خلافه ضرورة.

وقد ذهب الأشعرية إلى أن الإيمان هو التصديق بالقلب ، وهذا كما أنه فاسد من حيث الاعتقاد فهو خطأ من طريق العربية لأن التصديق هو قول القائل لغيره صدقت ، وهذا إنما يتصور باللسان دون القلب. وبعد ، فلو كان كذلك لوجب فيمن لا يقر بالله تعالى وبرسوله ولا عمل بالجوارح أن يكون مؤمنا بأن يكون قد صدق بقلبه ، وذلك خلف من القول. وإنما بنى القوم كلامهم ، هذا على مذهبهم في الكلام أنه معنى قائم بذات المتكلم ، وأنه ليس يرجع به إلى ما نعقله من الحروف المنظومة والأصوات المقطعة ، وقد أفسدنا مقالتهم هذه وصححنا ما اخترناه في ذلك عند الكلام في الكلام فلا نعيده هاهنا.

أقسام الأسماء :

وقد تكلم رحمه‌الله بعد هذه الجملة في تقسيم الأسماء.

وجملة ذلك ، أن الأسماء تنقسم إلى شرعي وإلى عرفي وإلى لغوي.

فاللغوي نحو تسميتهم هذه الجارحة المخصوصة يدا ، والجارحة الأخرى رجلا.

والعرفي نحو تسميتهم هذه الحيوان المخصوصة دابة ، مع أن هذا الاسم في الأصل كان اسما لكل ما يدب على وجه الأرض ، وتسميتهم هذه الآنية المخصوصة قارورة ، مع أنها كانت في الأصل عبارة عما يستقر فيه الشيء.

والشرعي ينقسم إلى ما يكون من الأسماء الدينية ، وذلك نحو الأسماء التي تجري على الفاعلين ، نحو قولنا مؤمن وفاسق وكافر ، وإلى ما لا يكون كذلك نحو الصلاة ، وقد كانت في الأصل عبارة عن الدعاء ، ثم صارت في الشرع اسما لهذه العبادة المخصوصة ، والزكاة فقد كانت في الأصل عبارة عن النماء والطهارة ، ثم صارت بالشرع اسما لإخراج طائفة من المال ، إلى غيرهما من الأسماء نحو الصوم والحج وما شاكلهما.

قسمة أخرى للأسماء :

وتنقسم الأسماء قسمة أخرى : إلى ما يفيد المدح والتعظيم ، وإلى ما يفيد الذم والاستخفاف ، وإلى ما لا يفيد واحدا منهما.

٤٧٩

فالأول ، ينقسم إلى ما لا يفيد المدح بمجرده ، وذلك نحو قولنا مؤمن برّ تقي ، وإلى ما يفيده بواسطة وقرينة ، وذلك نحو قولنا : مصلي ومطيع ، فإن دلالته على استحقاق صاحبه المدح والتعظيم مشروطة باجتنابه الكبائر وما يجري مجراها.

والثاني ينقسم ، إلى ما يفيد الذم بمجرده ، وذلك نحو قولنا فاسق ومتهتك وملعون وما يجري هذا المجرى ، وإلى ما يفيده بواسطة وقرينة ، وذلك نحو قولنا ظالم وعاصي ، فإن دلالته على استحقاق الذم مشروطة بأن لا يكون معه طاعة أعظم من تلك المعصية ، ولذلك صح من الأنبياء أن يصفوا أنفسهم بالظلم على علم منهم بأنهم لا يرتكبون الكبائر ولا يستحقون ذما ولا لعنا. فإن قالوا : إذا لم يفد هذا الاسم الذي بمجرده فهلا أطلقوه على التائب وغيره من المؤمنين؟

قلنا : إنه لو لم يوهم الخطأ جاز ، غير أنه موهم له على ما ذكرناه في مواضع.

وأما ما لا يفيد واحدا منهما ، فنحو قولك آكل وشارب وماش وساع وداخل وخارج وقائم وقاعد ، فإن هذه الأسماء مما لاحظ لها في إفادة المدح والذم ، ويجوز إجراؤه على المؤمن والفاسق جميعا.

وإذ قد عرفت من حال الأسماء هذه الجملة التي عرفنا اسمها ، فاعلم أن ما يفيد المدح بمجرده لا يجوز إجراؤه إلا على من يستحق المدح والتعظيم ، وكذا ما يفيد الذم بمجرده لا يجوز إجراؤه إلا على من يستحق الذم ، فأما ما لا يفيد المدح والذم بمجرده وإنما يقتضيه بقرينة. فإنه يصح إجراؤه على القبيلين إلا إذا منع منه مانع.

وإذا قد فرغنا من الكلام من أن صاحب الكبيرة لا يجوز أن يسمى مؤمنا وما يتصل به ، فإنا نذكر بعده الكلام في أنه لا يسمى كافرا على ما سبق الوعد به إن شاء الله.

فصل

صاحب الكبيرة لا يسمى كافرا :

والغرض به الكلام في أن صاحب الكبيرة لا يسمى كافرا.

حقيقة الكفر في اللغة والشرع :

والخلاف فيه مع الخوارج على ما تقدم ، ونحن نذكر أولا حقيقة الكفر.

٤٨٠