شرح الأصول الخمسة

عبد الجبّار بن أحمد الهمداني الأسدآبادي

شرح الأصول الخمسة

المؤلف:

عبد الجبّار بن أحمد الهمداني الأسدآبادي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٧

فكذلك إذا دخل على غيره ، لأن حقيقة اللفظ وفائدته لا تتغير بحسب دخوله في المواضع التي تدخل عليه.

وبعد ، فلو كان الاستثناء لا يخرج من الكلام إلا ما لولاه لصلح دخوله تحته وكان الكلام محتملا له ، لم يمتنع استثناء الأعلام من النكرات ، فكان يصح أن يقول قائل : رأيت رجلا إلا زيدا ، لأن قولنا رجل يحتمل زيدا ويصلح له كما يحتمل وغيره ويصلح له ، وفي علمنا بفساد ذلك دليل على أن من حق الاستثناء ما ادعيناه.

وبعد ، فقد نص أهل اللغة على أن الاستثناء هو إخراج بعض من جملة ، والبعض عندهم هو ما شمله وغيره اسم واحد ، فلو أن هذه القضية التي ذكرناها واجبة في الاستثناء وإلا كان لا يصح ذلك.

فإن قيل : كيف يصح أن يقال : إن قول القائل من دخل داري أكرمته يصح أن يستثنى منه أي عاقل ، ومعلوم أنه لا يصح أن يستثنى منه الملائكة والجن ، فيقول : من دخل داري أكرمته إلا الملائكة والجن ، ولا أن يستثنى منه اللصوص فيقول : إلا اللصوص.

قيل له : أما الملائكة والجن فلا قدرة له على إكرامهم ولا على إهانتهم ، ولهذا لا يحسن منه أن يستثنيهم ، ولهذا فإن القديم تعالى لما قدر على إكرامهم وإهانتهم كما قدر على إكرام غيرهم وإهانتهم ، صح له أن يقول : من أطاعني أكرمته عاجلا وأثبته أجلا ، إلا الملائكة فإني أؤخر إكرامهم وإثابتهم إلى دار السلام ، وكذلك يصح مثله في الشياطين فيقول : من عصاني أهنته عاجلا وعاقبته آجلا إلا الشياطين فإني أؤخر عقوبتهم إلى الآخرة ، وأما اللصوص فإنما لم يحسن منه استثناؤهم لأن المعلوم من حاله أنه لا يكرمهم ولا يبرهم ، فهو في غنية عن التلفظ به ، ولهذا فلو كان ممن يرى اللصوص ويكرمهم ، لكان يصح منه هذا الكلام ويحسن ، ولا يقدح هذا الكلام فيما قلناه.

فإن قيل : إن استدلالكم بجواز الاستثناء من قول القائل : من دخل داري أكرمته وما جرى مجراه على أنه موضوع للعموم ، يوجب عليكم القول بأن اسم الجمع والجنس موضوع للعموم المعلوم الذي لا يشكل أنه يصح فيه الاستثناء فيقول القائل :

رأيت الناس إلا زيدا وعمرا.

قيل له : فلا جرم بأن ما يصح منه الاستثناء من أسماء الجمع موضوع للعموم

٤٤١

والاستغراق ، غير أن الذي يصح ذلك فيه إنما هو اسم الجمع المعرف بالألف واللام ، إذا لم تكن اللام فيه لتعريف العهد دون قوله : رأيت رجالا ، فمعلوم أنه لا يصح فيه الاستثناء ، فلا يقول القائل : رأيت رجالا إلا زيدا ، لما لم يجب أن يكون قوله رجالا شاملا له لا محالة ، اللهم إلا إذا أراد استئناف العقبة ، فيكون استثناؤه من تقدير ، لكن لا يكون حينئذ استثناء حقيقيا.

دليل آخر ، وأحد ما يدل على أن في اللغة لفظة موضوعة للعموم والاستغراق ، هو أن «من» إذا وقعت نكرة في الاستفهام أفادت العموم ، ولهذا نص أهل اللغة على أن قول القائل من عندك بمنزلة قولهم : أزيد عندك ، أبكر ، أخالد ، حتى يأتي على جميع العقلاء ، فلو لا كونه موضوعا للعموم والاستغراق ، وإلا كان لا يقوم هذا المقام على ما ذكرناه. فصح قول أبي هاشم ، إن أهل العربية لما استطاعوا الاستفهام باسم الجمع ، أقاموا قولهم من عندك مقامه حتى لا يحتاجوا إلى تعداد الأسماء.

فهذا وجه يدلك على أن «من» إذا وقعت نكرة في الاستفهام أفادت العموم والاستغراق.

ويدل على ذلك أيضا ، أن للمجيب أن يجيب بذكر جماعة العقلاء ، كما أن له أن يجيب بذكر آحادهم ، فلو لا أن السؤال مشتملا عليهم بأجمعهم ، ومتناولا لهم كلهم ، وإلا كان لا يكون الجواب مطابقا للسؤال إلا إذا أجاب بذكر الجماعة ، ويجري ذلك مجرى أن يجيب بالحمار والفرس في أنه لا يصح ، لما لم يكن السؤال متناولا له ، وفي علمنا بخلافه دليل على صحة ما قلناه.

فإن قيل : هذا الذي ذكرتموه دليل لنا ، ولو لا أن هذه اللفظة من الألفاظ المشتركة التي يحتمل أن يراد بها الخصوص كما يحتمل أن يراد بها العموم ، وإلا لم يكن للمجيب أن يجيب إلا بذكر الجماعة ، فلما كان له أن يجيب بذكر الجماعة مرة وبذكر فريق دون فريق أخرى ، دل ذلك على أنه محتمل للخصوص احتماله للعموم. قالوا : ومما يؤكد هذه الجملة ، أن قول القائل : أكل الناس عندك؟ لما كان مستغرقا عاما ، لم يجز أن يذكر في جوابه الآحاد ، بل وجب أن يجاب إما بذكر الكل أو بنفي الكل ، كذا كان يجب مثله في هذا المكان.

قيل له : إنا لم نستدل إلا بالسؤال ، وقلنا : لو لا شموله للكل ، واشتماله على الجميع ، وإلا كان لا يصح أن يجيب مرة بذكر الآحاد ومرة بذكر الجماعة ، كما أنه

٤٤٢

لما لم يتناول الحمار والفرس تناوله العقلاء لم يصح البتة أن يجاب بذكره ، وذلك واضح.

ومما يوضح هذه الجملة ، أن السائل لما لم يدر من عنده ، وجوز أن يكون واحدا أو جماعة ، احتاج إلى أن يورد لفظة شاملة للآحاد والجموع ، فقال : من عندك ، ثم المجيب يجيب بذكر الحاضرين عنده ، فإن كان الحاضر عنده واحدا أجاب بذكره ، وإن كان من الحاضرين كثرة أجاب بذكرهم ، ففسد ما ظنوه ، وهو قولهم : كان ينبغي أن لا يصح الجواب إلا بذكر الجماعة ، كما في قوله : أكل الناس عندك ، فلا ذلك إلا أن قوله أكل الناس عندك لم يتناول إلا الكل فقط دون كل واحد منهم ، فلذلك لم يجز أن يجيب بذكر واحد منهم ، بل وجب أن يجيب إما بذكر الكل فيقول : نعم كل الناس عندي ، أو لا يجيب بذكر واحد منهم ، ويقول : ليس كل الناس عندي ، فأما أن يجيب بذكر بعضهم دون الباقين فلا. وليس كذلك هاهنا ، فإن قولنا : من عندك ، شمل الكل وكل واحد منهم ، فصلح بالجواب أن يذكر الآحاد كما يصلح أن يذكر الجميع ، فهذا هو الفرق بينهما والله أعلم.

فإن قيل : وأي فائدة في التطويل ولا صورة لما ذكرتموه في كلام الله تعالى بل لا يجوز ذلك عليه لأنه استفهام ، والاستفهام هو الاستعلام ، والاستعلام على العالم لذاته محال.

قلنا : هب أن الأمر في ذلك على ما ذكرته ، أليس يوجد ذلك في كلام الرسول عليه‌السلام وفي كلام الأمة على أن غرضنا لم يكن بإيراد ما أوردناه إلا بيان أن في اللغة صيغة موضوعة للعموم والاستغراق ، وذلك قد سلم وصح. وأيضا فإن العموم معنى قد عقلوه ومست حاجتهم إلى العبارة عنه ، كما مست الحاجة إلى العبارة عن المعاني التي عقلوها ، من نحو الأسد والسيف والخمر ، فيجب كما وضعوا لكل واحد من هذه الأشياء اسما مع اكتفائهم بالاسم الواحد أن يضعوا للعموم أيضا لفظا ، وفي ذلك ما يدلنا على أن في اللغة لفظة موضوعة للعموم ، وهذه طريقة ذكرها شيخنا أبو عبد الله رحمه‌الله تعالى.

وإذ مضى طرف من الكلام في أن في اللفظ لفظة موضوعة للعموم ، فإنا نعود إلى الاستدلال بعمومات الوعد على أن الفاسق يفعل به ما يستحقه من العقوبة لا محالة ، بتوفيق الله تعالى.

٤٤٣

فمن جملة ما يمكن الاستدلال به على ذلك قوله تعالى : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها) [النساء : ١٤] فالله تعالى أخبر أن العصاة يعذبون بالنار ويخلدون فيها ، والعاصي اسم يتناول الفاسق والكافر جميعا فيجب حمله عليهما ، لأنه تعالى لو أراد أحدهما دون الآخر لبينه ، فلما لم يبينه دل على ما ذكرناه.

فإن قيل : إنما أراد الله تعالى بالآية الكافر دون الفاسق ، ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ) وذلك لا يتصور إلا في الكفرة ، وإلا فالفاسق لا يتعدى حدود الله تعالى أجمع.

قيل له : الخطاب شامل لهما جميعا على ما ذكرناه ، فمن حصر فعليه الدليل.

ثم نقول : هذا الذي ذكرتموه باطل لأنه تعالى قال : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) إلى قوله : (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) ومن طلق امرأته لغير العدة وأخرجها من بيتها لا يكون متعديا جميع الحدود ، وعلى أن الآية بالاتفاق في وعيد الفساق من أهل الصلاة ، فقد وردت في قصة المواريث ، ولئن اشتبه الحال في هل يجب قصر الخطاب على سببه أم لا يجب ذلك ، فلا شبهة في أن حمله على سببه واجب لا محالة ، وأما قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ) فذلك اسم جمع مضاف ، وقد ذهب أبو هاشم إلى أنه يحمل على الثلاثة ، فعلى هذا لا كلام في أن الفاسق كالكافر في أنه ربما يتعدى ثلاثة بل أربعة من حدود الله تعالى.

وأما أبو علي ، فإنه وإن كان يحمل ما هذا سبيله على العموم والاستغراق إلا أن في هذا الموضع يقول : لو حملته على الاستغراق لخرج الكلام عن الفائدة البتة ، لأنه لا يوجد في الكفار من تعدى على حدود الله أجمع ، فلا يمكن حمله والحال هذه لا على الكفار ولا على الفساق فحملته على الثلاثة للعرف الحاصل فيه ، فالمتعارف من حال الأمة أنهم يجرون هذا الاسم على الفاسق فيقولون : قد تعدى من حدود الله تعالى وجاز الرسم ، فيسقط هذا السؤال أصلا ، وعلى أن قوله تعالى في سورة الجن : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) [الجن : ٢٣] ليس فيه ذكر التعدي لحدود الله ، فهلا دل على ما قلناه؟

فإن قيل : الآية لا تدل على ذلك ، لأنه ورد في شأن الكفار ، ولهذا قال بعده : (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (٢٤)) [مريم : ٧٥] ولا هذا يكون إلا مع الكفار.

٤٤٤

قيل له : إن قوله : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) كلام مستقل بنفسه غير محتاج إلى ما بعده ، فتخصيص ما بعده لا يمنع من عمومه ، والكلام في أن تخصيص آخر الآية لا يمنع من أن عموم أولها موضوعه أصول الفقه ، غير أنا نذكر له مثالا وهو قوله : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) [البقرة : ٢٢٨] وأورد ذلك على وجه شمل البوائن والرجعيات ثم خص آخر الآية بالرجعيات منهن دون البوائن بقوله : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ) ، ولا يمنع منه مانع فكذلك الحال في ما قلناه.

ومن ذلك ، قوله تعالى : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها) [النساء : ٩٣] الآية. ووجه الاستدلال هو أنه تعالى بيّن أن من قتل مؤمنا عمدا جازاه وعاقبه وغضب عليه ولعنه ، وفي ذلك ما قلناه.

فإن قيل : ليس في الآية إلا الجزاء وهو الاستحقاق ، لأن تقدير الآية : فجزاؤه إن جازاه جهنم ، ونحن لا ننكر الاستحقاق ولا نأباه ، وإنما كلامنا في هل يفعل به ما يستحقه أم لا ، فما دليلكم على محل النزاع؟

قيل له : قولكم إن تقدير الآية (فجزاؤه) إن جازاه تقدير شرط لم ينب عن الظاهر ولا دل عليه دليل ، فكيف يجوز في هذا الشرط أن يكون معتبرا ، ومعلوم أنه لو كان له اعتبار لبينه الله تعالى واعتبره ، فلما لم يعتبره ولا دل عليه علم أنه لا عبرة به.

وبعد ، فإن الجزاء مصدر جزى أو جازى والمصدر لا بد من أن يكون أمرا حادثا أو فعلا قد وقع ، وليس هذه حال الاستحقاق ، فكيف يحمل على قوله : (وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ) ، فحمل الجزاء على الاستحقاق يقتضي أن يكون الفعل معطوفا على الاسم ، والفعل لا يعطف على الاسم وإنما يعطف على الفعل ، أو ما يجري مجرى الفعل ، وذلك لا يقال ، زيد وفعل ، وعمرو ويفعل. فيجب أن يكون تقدير الآية : ومن يقتل مؤمنا متعمدا ، جوزي به ، وغضب الله عليه ، ولعنه ، وفي ذلك صحة ما ادعيناه.

فإن قيل : لا يمكنكم حمل الآية على حقيقتها ولا التعلق بظاهرها ، وإلا كان يجب أن تكون المجازاة عقيب القتل ، فإن الفاء للتعقيب ، وإذا لم يمكن حمله على حقيقته ولا التعلق بظاهره فلستم بأن تحملوه على بعض المجازات أولى من أن نحمله على البعض ، فحملناه على الاستحقاق.

قيل له : إن الكلام متى لم يمكن حمله على ظاهره وحقيقته ، وهناك مجازان

٤٤٥

أحدهما أقرب والآخر أبعد ، فإن الواجب حمله على المجاز الأقرب دون الأبعد ، لأن المجاز الأبعد مع الأقرب كالمجاز مع الحقيقة ، وكما لا يجوز في خطاب الله تعالى أن يحمل على المجاز مع إمكان حمله على الحقيقة ، فكذلك لا يحمل على المجاز الأبعد وهناك ما هو أقرب منه ، وعلى هذا فلو قال الله تعالى ، أو قال رسوله عليه‌السلام : فلان يصلي ، فلا يمكن حمله على الصلاة الشرعية في الحال ، ولن يحمل على أنه يصلي غدا أو بعد غد ، فإنه يحمل عليه ولا يحمل على الدعاء ، لما كان في حمله على الدعاء حملا للكلام على المجاز الأبعد مع إمكان حمله على المجاز الأقرب ، وذلك في الفساد بمنزلة حمل الخطاب على المجاز مع إمكان حمله على الحقيقة.

إذا ثبت هذا ، وأمكن أن يحمل قوله : (فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ) على أنه سيجازى في الآخرة ، لا وجه لحمله على الاستحقاق ، وإلا اقتضى أن يكون قد عدل بكلام الله تعالى عن الحقيقة إلى المجاز ، وذلك مما لا يسوغ أصلا.

ومن جملة ما يمكن الاستدلال به أيضا ، قوله : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (٧٤)) ووجه الاستدلال به ، هو أن المجرم اسم يتناول الكافر والفاسق جميعا ، فيجب أن يكونا مرادين بالآية ، معنيين بالنار ، لأنه تعالى لو أراد أحدهما دون الآخر لبينه ، فلما لم يبينه دل على أنه أرادهما جميعا.

والكلام في أن اسم المجرم يتناول الكافر والفاسق جميعا ظاهر لا شك فيه من جهة اللغة والشرع جميعا.

أما من جهة اللغة ، فلأنهم لا يفرقون بين قولهم مذنب وبين قولهم مجرم ، فكما أن المذنب شامل لهما جميعا فكذلك المجرم.

وأما من جهة الشرع ، فلأن أهل الشرع لا يفرقون بين قولهم مجرم لزناه ، وبين قولهم فاسق لزناه.

فإن قالوا : الآية وردت في شأن الكفار ، وعلى هذا قال تعالى في آخرها : (لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٥)) [الزخرف : ٧٥] وقال بعد ذلك : (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ) [الزخرف : ٨٠] وهذا لا يتأتى إلا في الكفرة.

قيل لهم : إن قوله تعالى : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (٧٤)) [الزخرف : ٧٤] كلام عام مستقل بنفسه ، فدخول التخصيص في آخره لا يمنع من عموم أوله ، وأوردنا

٤٤٦

في مثاله قوله : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) وقوله : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ) وله نظائر أخر في القرآن ومنه قوله : (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١)) بعد قوله : (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) فإحدى الجملتين عامة شاملة للمالكات البالغات وغيرهن ، والأخرى خاصة بالبالغات المالكات لأمر أنفسهن ، إذ العفو لا يصح إلا منهن ، ولم يمنع عموم إحداهما من خصوص الأخرى ، فكذلك الحال هاهنا.

فإن قيل : لا ظاهر لهذه الآية ، لأن في الآية لفظة إن ، وهي لتحقيق الحال ، ولذلك يدخل في خبره اللام فيقتضي أن يكون المرء معاقبا في الحال ، وخلافه معلوم ، فليس إلا أن يعدل عن الظاهر ، فإذا عدلتم عن الظاهر وأخذتم في التأويل فلستم بأولى منا فنحمله على الاستحقاق.

وجوابنا عن ذلك ، ليس الأمر على ما ظننتموه ، لأن «إن» كما يرد يرد لتحقيق الحال فقد يرد لتحقيق الخبر في المستقبل. بل الخبر في المستقبل إلى التحقيق أحوج إليه منه في الحال ، وعلى هذا قوله تعالى : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أورد في الكلام لفظة «إن» وأدخل اللام في خبره ، ولم يقصد به إلا تحقيق الحكم في المستقبل.

وبعد ، فإن في الآية لفظة الخلود ، والخلود لا يتأتى إلا في المستقبل ، فكيف يقال إن ظاهر الآية يوجب أن يكون المجرم معذبا في الحال؟ وبعد ، فإن أكبر ما فيه أن حمله على ظاهره لا يمكن ، أو ليس لا بد من أن يحمل على المجاز الأقرب دون الأبعد ، فقد بينا أنه لا يجوز حمل خطاب الله تعالى على المجاز الأبعد مع إمكان حمله على المجاز الأقرب ، وأن حال المجاز الأبعد مع المجاز الأقرب كحال المجاز مع الحقيقة ، فكما أنه لا يحمل كلام الله تعالى على المجاز مع إمكان حمله على الحقيقة ، كذلك هنا. وإذا كان هذا هكذا ، ومعلوم أن حمله على أن يعذب في مستقبل الأوقات حمل له على المجاز الأقرب ، وليس كذلك الحال في ما إذا حمل على الاستحقاق.

ومما يمكن الاستدلال به من عمومات الوعيد في كتاب الله تعالى كثير ، فإنه يمكن أن يستدل بقوله تعالى : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) الآية ، ويمكن الاستدلال بقوله : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) ويمكن أن يستدل بقوله تعالى : (وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (١٤)) الآية ، وفي ذلك كثرة على ما ذكرناه.

٤٤٧

وطريقة الاستدلال بالكل والاعتراض عليها ، ما نبهنا عليه ، فلا نطول به الكلام.

فإن قيل : ألستم أخرجتم التائب وصاحب الصغيرة عن هذه ، وقلتم : إن الشرط ألا يكون مع العاصي توبة أو طاعة أعظم من معصية ، حتى يدخل تحت هذه العمومات ، فهلا جاز لنا أن نقول : إن الشرط في ذلك أيضا أن لا يسقط الله تعالى عنه العقوبة ولا يغفر ذنبه ، فأما إذا أسقط عنه العقوبة وغفر له ذنبه فإنه لا يدخل تحت هذه العمومات ، ومتى أجبتم إلى ذلك ، ومعلوم أن القديم تعالى يحسن منه التفضل بالعفو والإسقاط ، لم يمكنكم القطع على أن العصاة وأصحاب الكبائر يدخلون تحت هذه العمومات ، وأنهم يعاقبون لا محالة.

قيل له : إن ما اعتبرناه من الشروط شروطا ، اقتضته الدلالة وقامت عليها الحجة ، وليس كذلك الحال فيما ذكرتموه ، فإن ذلك لا ينبئ عنه الظاهر ولا تقتضيه دلالة ، فلا يجوز إثباته بوجه.

وبعد ، فإن فيما ذكرتموه إخلاء كلام الله تعالى عن الفائدة ، وحملا له على ما يقتضيه مجرد العقل ، ومهما أمكن حمله على فائدة مستجدة معلومة بالشرع فذلك هو الواجب.

وبعد ، فإن القديم تعالى إذا توعد العصاة فإنما يتوعدهم بالعقاب الحسن ، ولا يجسن معاقبة التائب وصاحب الصغيرة ، فلهذا أخرجا من عمومات الوعيد ، وليس كذلك الحال في صاحب الكبيرة ، فإنه عقابه يحسن ، وجواز أن يتفضل بالإسقاط لا يخرج العقاب من أن يكون حسنا ، بخلاف التوبة ، وبخلاف ما إذا كانت طاعاته أعظم من معاصيه ، ففارق أحدهما الآخر.

وأيضا فإن ما ذكرته يقتضي أن يكون الشيء مشروطا بنفسه ، لأنك إذا جعلت الشرط في أن يفعل الله العقوبة بالفاسق أن لا يعفو عنه ولا يغفر لذنبه ، ومعلوم أن المرجع بأن لا يعفو عنه إلى فعل العقوبة ، فقد شرطت الشيء بنفسه ، والشيء لا يجوز أن يجعل شرطا في نفسه.

وبعد ، فإن هذا إن أوجب التوقف في وعيد الفساق ، فليوجبن التوقف في وعيد الكفار ، لأن حسن التفضل بالعفو والإسقاط ثابت في حق الكافر ثباته في حق الفاسق ، فيلزمهم أن يتوقفوا في وعيد الكفار ، ومن توقف في ذلك فقد انسلخ عن الدين.

فإن قيل : إنما قطعنا على وعيد الكفار ولم نتوقف فيه لأن ذلك معلوم من دين

٤٤٨

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وليس هكذا وعيد الفساق ، ولهذا كفرتم المتوقف في وعيد الكفار ولم تكفروا المتوقف في وعيد الفساق.

قيل له : إن ذلك مما لا يقدح مما أوردناه ، بل يزيد الإلزام تأكيدا ، فالواجب أن يتركوا المذهب الذي يقتضيه.

ثم يقال لهم : هب أن هذا معلوم من دين النبي عليه‌السلام ضرورة ، فمن أين علمه النبي عليه‌السلام حتى يتدين به.

فإن قالوا : اضطرارا من قصد جبريل نقلنا معهم الكلام إليه ، وإن قالوا : اضطر هو إلى قصد الله قلنا : إن هذا لا يصح ، والدار دار تكليف.

ومتى قالوا : إن جبريل علم ذلك من حيث زاد الله تأكيدا حتى قطع ، لما كان ذلك التأكيد على المراد به.

قلنا : ما من تأكيد إلا وهو معرض للاحتمال ، فكيف يمكن ذلك ، ولا محيص للمرجئة عن هذا الكلام؟

فإن قيل : إنه تعالى كما توعد العصاة بالعقاب فقد وعد المطيعين بالثواب والفاسق يستحق الأمرين جميعا ، فلم يكن بالدخول في عمومات الوعيد أولى من الدخول في عمومات الوعد ، فيتوقف فيه ، إن لم يقطع على أنه بفضله وسعة جوده وكرمه يدخله الجنة.

قيل له : فكيف يصح القول بأن الفاسق مستحق للثواب ، ولو كان كذلك لكان لا يستحق معه العقاب ، وقد دللنا على استحقاقه للعقوبة ، وبينا أن السارق إذا سرق عشرة دراهم من حرز على الشروط المعتبرة في هذا الباب ، وظفر به الإمام وهو مصر على ذلك ، قطع يده بالآية على سبيل الجزاء والنكال ، ولن يكون ذلك كذلك إلا وما كان يستحقه من الثواب بطاعاته قد سقط بارتكابه الكبيرة ، فهذه جملة ما نقوله في هذا الفصل.

فصل

تخليد الفاسق بالنار :

وقد أورد رحمه‌الله بعد هذه الجملة الكلام في أن الفاسق يخلد في النار ويعذب

٤٤٩

فيها أبد الآبدين ودهر الداهرين ، وعطف عليه الكلام في أنه يستحق العقاب على طريق الدوام ، وكان الترتيب الصحيح في ذلك هو أن يذكر أولا أن الفاسق يستحق العقوبة على طريقة الدوام ثم يرتب على ذلك الكلام في أنه يعذب بالنار أبدا ، غير أنا نسلك طريقته ونجري على منهاجه ، فنبدأ بما بدأ به.

والذي يدل على أن الفاسق يخلد في النار ويعذب فيها أبدا ما ذكرناه من عمومات الوعيد ، فإنها كما تدل على أن الفاسق يفعل به ما يستحقه من العقوبة ، تدل على أنه يخلد ، إذ ما من آية من هذه الآيات التي مرت ، إلا وفيها ذكر الخلود والتأبيد أو ما يجري مجراهما.

وهنا طريقة أخرى مركبة من السمع وتحريرها هو أن العاصي لا يخلو حاله من أحد أمرين : إما أن يعفى عنه ، أو لا يعفى عنه ، فإن لم يعف عنه فقد بقي في النار خالدا ، وهو الذي نقوله ، وإن عفي عنه فلا يخلو إما أن يدخل الجنة أولا ، فإن لم يدخل الجنة لم يصح لأنه لا دار بين الجنة والنار ، فإذا لم يكن في النار وجب أن يكون في الجنة لا محالة. وإذا دخل الجنة فلا يخلو ، إما أن يدخلها مثابا أو متفضلا عليه ، لا يجوز أن يدخل الجنة متفضلا عليه لأن الأمة اتفقت على أن المكلف إذا دخل الجنة فلا بد من أن يكون حاله متميزا عن حال الولدان المخلدين وعن حال الأطفال والمجانين ، ولا يجوز أن يدخل الجنة مثابا لأنه غير مستحق ، وإثابة من لا يستحق الثواب قبيح ، والله تعالى لا يفعل القبيح.

فإن قيل : ومن أين أن إثابة من لا يستحق الثواب قبيح؟

قلنا : لأن الثواب إنما يستحق على طريقة التعظيم والإجلال ، وما هذا سبيله لا يحسن دون الاستحقاق ، ولهذا فإنه لا يحسن من الواحد منا أن يعظم أجنبيا على الحد الذي يعظم والده ، وأن يعظم والده على الحد الذي يعظم به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن يعظم النبي على الحد الذي يعظم ربّ العزة.

فهذا هو الكلام في أن الفاسق يعذب بالنار أبد الآبدين.

وأما الكلام في أن العقاب يستحق على طريقة الدوام ، فهو أنه لو لم يستحق على طريقة الدوام لكان لا يحسن من الله تعالى أن يعذب الفساق بالنار ويخلدهم فيها ، وقد دللنا على أن الفاسق يعذبه الله تعالى أبد الآبدين ، فدل على أن استحقاق العقاب على طريقة الدوام.

٤٥٠

ودلالة على أخرى وهو المعتمد في هذا الباب ، وتحريره أن العقاب كالذم يثبتان في الاستحقاق معا ويزولان معا ، حتى لا يجوز أن يثبت أحدهما مع سقوط الآخر ، ومعلوم أن الذم يستحق على طريقة الدوام فكذلك كان يجب مثله في العقاب.

فإن قيل : ولم قلتم إن الذم والعقاب يثبتان معا ، يزولان معا ، حتى لا يجوز أن يثبت أحدهما ويسقط الآخر.

قيل له : لأن المثبت لأحدهما هو المثبت للآخر ، والمسقط لأحدهما هو المسقط للآخر ، ألا ترى أن المثبت للذم والمؤثر في استحقاقه إنما هو الإقدام على المعاصي والإخلال بالواجبات ، وهذا بعينه هو المثبت للعقاب ، وهكذا فإن المسقط للذم إنما هو التوبة أو طاعة هي أعظم من المعصية ، وهذا هو المسقط للعقاب ، فصح أن المؤثر في استحقاقهما واحد ، وإذا كان كذلك وجب إذا استحق أحدهما على طريق الدوام ، وجب أن يستحق الآخر أيضا على سبيل الدوام ، لأنه لا يجوز في شيئين استحقا على وجه واحد ، وكان المؤثر في إثبات أحدهما وإسقاطه هو المؤثر في الآخر ، وإسقاطه أنه يستحق أحدهما دائما والآخر منقطعا ، بل لا بد أن يستحقا منقطعين أو دائمين. فأما أن يستحق أحدهما دائما والآخر منقطعا فمحال ، إذا ثبت هذا ، ومعلوم أن الذم يستحق دائما فكذلك العقاب.

فإن قيل : ومن أين أن الذم يستحق دائما؟ قيل له : إن ذلك مما لا يقع في إشكال ، فمعلوم أن من لطم والده كان مصرا عليه يحسن منه ومن غيره أن يذمه على ذلك الصنيع دائما ، حتى لو قدر أن يميته الله تعالى ثم أحياه لكان يحسن من الوالد ذمه على صنيعه به ، وكذلك يحسن من العقلاء أن يذموه به.

فإن قيل : كيف يصح قولكم إن العقاب يتبع الذم ، وأنهما يثبتان معا ويزولان معا ، ومعلوم أن القديم لو أقدم على قبيح لا يستحق الذم تعالى عن ذلك ، ولا يستحق العقوبة. وجوابنا عن ذلك ، أنا لم ندع أنهما يثبتان معا ويزولان معا على كل وجه ، وأن أحدهما لا ينفصل عن الآخر بحال ، وإنما قلنا : إنهما إن ثبتا واستحقا جميعا ثبتا معا وزالا معا ، فإن الذي يؤثر في استحقاق أحدهما هو المؤثر في استحقاق الآخر ، وما أثر في إسقاط أحدهما هو المؤثر في إسقاط الآخر ، وما هذا حاله فلا بد من أن يكون مستحقا على وجه واحد ، فإما أن يستحقا منقطعين أو دائمين ، وأما أن يكون أحدهما على سبيل الدوام والآخر على سبيل الانقطاع فلا.

٤٥١

فإن قيل : كيف يصح قولكم : إن الذم يستحق على طريق الدوام ، وقياسكم العقاب عليه ، ومعلوم أن المسيء والمساء إليه لو ماتا لسقط الذم ، قيل له : إن سقط بموتهما شيء فإنما يسقط فعل الذم لا الاستحقاق ، وكلامنا في الاستحقاق ، ولا حال ينتهي إليه المسيء إلا ويحسن من المساء إليه ذمه وإن أماتهما الله تعالى مرارا وأحياهما مرارا. وبعد ، فلو لم يستحق العقاب على طريقة الدوام ، لكان لا يفترق الحال في ذلك بين الكافر والفاسق ، فكان لا يحسن من الله تعالى معاقبة الكفار على التأبيد ، وفي علمنا يحسن ذلك منه ، دليل على أن العقاب يستحق منه على طريقة الدوام سواء أكان الكلام في الكافر ، أو الفاسق.

فإن قيل : إن بينهما فرقا ، لأن طاعة الفاسق ترد عقاب معاصيه من الدوام إلى الانقطاع ، وهذا غير ثابت في حق الكافر. قيل له : هذا لا يصح لأنه لا تأثير لطاعات الفاسق في رد العقوبة من الدوام إلى الانقطاع ، ولو لا ذلك وإلا كان يجب أن تنقطع عقوبة الكافر أيضا ، لأن في أفعاله أيضا ما هو طاعة فإن قيل : إن هذا ينبني على أن للكافر طاعة ، ونحن لا نسلم ذلك.

قلنا : إن الطاعة ليست أكثر من أن يفعل ما أراده الله تعالى ، وفي أفعاله ما قد يريده الله تعالى ، نحو رد الوديعة وشكر النعمة وبر الوالدين إلى غير ذلك ، فكان يجب أن يرد عقاب معاصيه من الدوام إلى الانقطاع ، كما في طاعات الفاسق ، وقد عرف خلافه.

فإن قيل : إن الشرط في الطاعة أن يعلم المطيع المطاع ، وليس كذلك حال الكافر.

قلنا : إن في الكفرة من يعرف الله تعالى ويقر به ، نحو اليهود والنصارى ، فكان يجب أن ينقطع عقابهم ، ومعلوم خلاف ذلك.

وبعد ، فقد يقال في الملحد أنه مطيع الشيطان بارتكابه الكبيرة وإقدامه على الفواحش وإن لم يعلمه ولا اعترف به.

وبعد ، فلو ردّت طاعات الفاسق عقاب معاصيه من الدوام إلى الانقطاع لوجب أن تردّ ذمه من الدوام إلى الانقطاع ، وفي علمنا بأنه يستحق الذم دائما وأنه لا تأثير لطاعاته في الذم البتة ، دليل على أن مقارنة الطاعة للمعصية مما لا يرد عقابها من الدوام إلى الانقطاع على ما قاله الخالدي.

٤٥٢

وأما الذي يقوله الخالدي في هذا الباب : فهو أن للطاعة مزية على المعصية من حيث أن ما يستحق على الطاعة يجب فعله ولا يجوز الإخلال به ، وليس كذلك ما يستحق على المعصية ، فإنه يجوز التفضل بإسقاطه وعفوه ، فلهذا صح أن ترد طاعات الفاسق عقاب معاصيه من الدوام إلى الانقطاع.

قيل له : إن هذه المزية التي ذكرتها ثابتة لسائر الطاعات على سائر المعاصي ، ولا فرق بين طاعات الفاسق وطاعات الكافر ، فهلا رد عقاب معاصيه من الدوام إلى الانقطاع؟.

ويقال له أيضا : إن الطاعة إذا كانت لا تؤثر بنفسها ، فالمعلوم أنه لو لم يستحق عليها الثواب لكان لا يكون لها تأثير البتة ، وكذلك الثواب ، فإن الثواب إنما يثبت له تأثير بطريقة الكثرة ، حتى لو كان العقاب أكبر لحبط به الثواب ، ولو تساويا سقطا جميعا ، حتى لا يبقى هاهنا إلا المزية التي أثبتها للطاعة على المعصية ، وهي وجوب أن يفعل به ما يستحق على الطاعة ، وحسن التفضل بإسقاط ما يستحق على المعصية ، وحال هذه المزية مع الطاعة كحالها مع معصية أخرى ، فكان يجب إذا قارنت معصية أخرى أن ترد عقابها من الدوام إلى الانقطاع ، بل كان يجب أن ترد طاعات الغير عقاب معاصيه من الدوام إلى الانقطاع ، لما ذكرناه أن هذه المزية حالها مع طاعاته كحالها مع طاعة الغير ، وقد عرف خلافه.

فإن قيل : أو ليس من مذهبكم أن ثواب طاعاته يؤثر في عقاب معصيته ولا يؤثر ثواب الغير في ذلك ، فهلا جاز مثله في مسألتنا؟ قلنا : إن بينهما فرقا ظاهرا ، لأنه إنما وجب في ثوابه أنه يؤثر في عقابه لا محالة من حيث لا يمكن أن يستحقهما معا لأن الاستحقاق يترتب على صحة الجمع بينهما ، وصحة الجمع بينهما لا يمكن ، لأن أحدهما يستحق على طريق الجزاء والنكال ، والآخر على طريق التعظيم والإجلال وهما متنافيان ، وليس كذلك فيما ذكرته ، فغير ممتنع أن يستحق أحد الشخصين الثواب ، والآخر العقاب ، فسقط ما أورده.

وقد تمسكت المرجئة في ذلك بوجوه ، من جملتها :

أدلة المرجئة :

ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى آله أنه قال : «فخرج من النار قوم بعد ما امتحشوا وصاروا فحما وحمما» وهو يدل على ما اخترناه من المذهب.

٤٥٣

وجوابنا ، أن هذا الخبر لم تثبت صحته ، ولو صح فإنه منقول بطريق الآحاد ، وخبر الواحد مما لا يوجب القطع ، ومسألتنا طريقها العلم فلا يمكن الاحتجاج به.

فإن قيل : كيف يمكن ادعاء أن هذا الخبر منقول بطريق الآحاد ، ومعلوم أن المرجئة على كثرتهم ينقلونه ، ويستدلون به على أن الفاسق لا يخلد في النار أبدا ، ويخرج منها.

قيل له : إن كثرة نقلة الخبر في الطريق الأخير مما لا اعتبار به ، بل لا بد من أن يستوي طرفاه ووسطه ، ففسد هذا الكلام.

ثم إنا نعارضهم بأخبار رويت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذا الباب ، من جملتها قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«لا يدخل الجنة مدمن خمر ولا نمام ولا عاق» وهذا يدفع ما احتجوا به في المسألة ، ومن ذلك ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من تردى من جبل فهو يتردى من جبل في نار جهنم خالدا مخلدا» ومن ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها بطنه في نار جهنم خالدا أبدا» أو قوله أيضا : «من يحتسي سما يحتسي سما في نار جهنم خالدا أبدا» إلى غير ذلك من الأخبار المروية في هذا الباب.

ولئن أمكن ادعاء التواتر في الخبر الذي أورده ليتمكن به في هذه الأخبار فإن الحال فيها أظهر ، ونقلها أكثر.

إنا نتأول هذا الخبر الذي أورده على وجه يوافق الأدلة ، فنقول : إن المراد : يخرج من النار ، أي يخرج من عمل أهل النار قوم ، ونظير ذلك موجود في كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

أما من كتاب الله تعالى ، فقوله تعالى : (وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها) يعني على عمل من استحق ذلك.

وأما من كلام الرسول عليه‌السلام ، فهو أنه مرّ بمؤذن يؤذن ويقول : أشهد أن لا إله إلا الله ، فقال : على الفطرة ، فقال المؤذن : أشهد أن محمدا رسول الله ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : خرج من النار ، أي من عمل أهل النار ، كذلك الحال هاهنا ، ولا يجوز غير ما ذكرناه.

ومما يتعلق به المرجئة قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) [هود : ١٠٦ ـ ١٠٧] وتعلقهم بهذه الآية على بعدها من وجهين : أحدهما هو أنه علق دوام عقاب الأشقياء بدوام

٤٥٤

السماوات والأرض وهما منقطعتان لا محالة ، فيجب على العقاب المعلق دوامه بدوامهما أن يكون منقطعا أيضا ، والثاني هو أنه تعالى قال : (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) فاستثنى وعلق بالمشيئة ، وهذا يدل على أن العقوبات مما لا يدوم وينقطع على الحد الذي نقوله ونذهب إليه.

ومتى قلتم : إن هذا إن أوجب انقطاع عقاب الفساق ، فليوجبن انقطاع عقاب الكفار أيضا فالشقاء يتناولهما جميعا.

قيل لكم : إنا نعلم ضرورة من دين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن عقابهم لا ينقطع بل يدوم ، ولهذا لا يخالفنا فيه الملحد والموحد ، فيجب أن يكون المراد بالآية الفساد دون من عداهم.

وجوابنا عن ذلك ، أن تعليق عقاب الأشقياء بدوام السموات والأرض لو دل على انقطاع عقاب أهل النار ليدلن على انقطاع ثواب أهل الجنة أيضا ، فقد علق الله ثواب السعداء بدوام السموات والأرض ، حيث قال : (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) [هود : ١٠٨] ثم قال من بعده : (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) فاستثنى منه وعلق بالمشيئة كما في الآية التي قبلها ، ومعلوم أن ذلك لا يقتضي انقطاع ثواب السعداء ، وكذلك ما قيل ، فيجب أن لا يدل على انقطاع عقاب الأشقياء ، ثم يقال لهم : إن هذا جهل منكم باللغة وبموضوعها ، لأن المراد بقوله : (ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) التبعيد لا التوقيت ، يدلك على ذلك من كتاب الله تعالى قوله تعالى : (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) فالمعلوم أنه تعالى لم يرد بهذا الكلام إلا التبعيد فقط ، ومن كلام أهل اللسان قولهم : لا أفعل ذلك ما درّ شارق وما لاح كوكب وما ناح قمري وما هتفت حمامة وما لاح عارض وما لبّى الله ملبّ وما دعا الله داع وما بلّ البحر صوفة ، إلى غير ذلك.

ومن شعر الشعراء قول بشر بن أبي حازم :

فرج الخير وانتظري إيابي إذا

ما الفارط الغيرى أبا

وقال آخر :

وأقسم المجد حقا لا يحالفهم

حتى يحالف بطن الراحة الشعر

وقال آخر :

٤٥٥

إذا شاب الغراب أتيت أهلي

وصار القار كاللبن الحليب

وقال أيضا :

إلى أن يئوب الفارطان كلاها

وينشر في القتلى كليب بن وائل

وقد قال شيخنا أبو علي : إن المراد بالسماوات والأرض المذكورة سماوات الآخرة وأرضها وذلك مما يدوم ولا ينقطع ، ولا معنى لاستبعاد هذا الكلام ، فليست السماء بأكثر مما علاك فأظلك ، ولا الأرض إلا ما هو تحتك فأقلك ففسد تعلقهم بالآية والحال ما قلناه.

ومتى سألوا عن الاستثناء وما وجهه وكيف علق بالمشيئة قيل في الجواب : المراد به القدر الذي يحاسبون فيه ، ويقفون للحساب ، فهذا ظاهر ، فهذه جملة الكلام في الجواب عن هذه الآية.

ومن قوى ما يعتمده المرجئة :

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨] وتعلقهم بهذه الآية من وجوه :

أحدها : أنه لا بد من أن يكون التفضل مضمرا في قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) وإلا فمتى تاب الكافر وأسلم وندم على ما كان عليه من الكفر فإنه يجب غفرانه لا محالة ، وإذا ثبت أن التفضل مضمر في هذه الجملة فكذلك في الجملة الثانية أيضا ، لتطابق النفي الإثبات ، ليوافق آخر الكلام أوله ، فيقضي ظاهر الآية أنه تعالى لا يغفر الشرك ويغفر ما دونه تفضلا. والذي يصح غفرانه تفضلا مما دون الشرك ليس إلا الكبيرة ، فإن الصغيرة تقع مغفورة لا محالة وفي ذلك ما أوردناه ، فهذا وجه.

والثاني : هو أنه تعالى علق غفران ما دون الشرك بالمشيئة ، فقال : ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء والمشيئة لا تدخل في غفران الصغائر فإنها مكفرة في جنب ما لصاحبها من الثواب ، فلا بد من أن يكون المراد به الكبائر دون ما عداها من الصغائر ، يزيد ذلك وضوحا ، أنه لا يقال يثيب الله تعالى الملائكة والأنبياء إن شاء ، كما يقال يرزق فلانا مالا وولدا إن شاء ، لا ذلك إلا لأن ما يجب فإنه لا مجال للمشيئة فيه ، إذا ثبت هذا ومعلوم أن الصغيرة واجب غفرانها فالكبيرة تدخل تحت هذه الآية ، وكذلك التائب لا يجوز أن يكون مرادا بالآية فإن غفرانه أيضا مما يجب ، فليس إلا أن يحمل على الكبيرة على الحد الذي نقوله.

٤٥٦

والثالث : أنه تعالى أضاف في الآية الغفران إلى نفسه فقال : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) والذي يتعلق به من المغفرة ليس إلا مغفرة أصحاب الكبائر دون التائب وأصحاب الصغائر ، فإن التائب بتوبته قد أزال ما استحق من العقاب ، وكذلك صاحب الصغيرة باجتنابه الكبائر قد أزال عن نفسه ما استحق من العقوبة ، ولا حاجة بهما إلى من يزيل عنهما العقوبة ، والمغفرة إنما هو إزالة ما يستحق المرء من العقوبة ، ولا يتصور والحال ما قلناه إلا في صاحب الكبيرة دون من سواه.

والرابع : هو أن قوله : (يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ) عام ، يتناول الصغائر والكبائر جميعا ، ألا ترى أن القائل إذا قال : ما في كيسي فهو لفلان عمّ جميع ما فيه وشمل ، حتى أن له أن يستثني أي قدر شاء ، فيجب القضاء بأنه تعالى يغفر ما دون الشرك صغيرا كان أو كبيرا.

والخامس : هو أن لفظة دون لا تستعمل إلا فيما قرب من الشيء دون ما بعد عنه ، ألا ترى أن القائل إذا قال : الألف فما دونه ليس يجوز أن يريد به الألف ، والشعيرة ، وإن كان يجوز أن يريد به الألف وتسع مائة أو ما يجري هذا المجرى.

فهذه هي الوجوه التي أوردوها في هذا الباب ، ونحن نجيب عن فصل من ذلك ، بعد أن نجيب عن الكل بجواب مقنع إن شاء الله تعالى.

اعلم أن مشايخنا رحمهم‌الله قالوا : إن الآية مجملة مفتقرة إلى البيان ، لأنه قال : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) ولم يبين من الذي يغفر له ، فاحتمل أن يكون المراد به أصحاب الصغائر ، واحتمل أن يكون المراد به أصحاب الكبائر ، فسقط احتجاجهم بالآية.

وإذا سئلنا عن بيانه في قوله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) [النساء : ٣١] وعلى هذا قال الحسن البصري لما سئل عن هذه الآية : يا لكع ، أما سمعت بيانه في قوله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) الآية ، فهذا أحد ما نمنعهم به من الاستدلال بهذه الآية.

ووجه آخر ، هو أن أكثر ما في الآية تجويز أن يغفر الله تعالى ما دون الشرك على ما هو مقرر في العقل ، فلو خلينا وقضية العقل لكنا نجوز أن يغفر الله تعالى ما دون الشرك لمن يشاء إذا سمعنا هذه الآية ، غير أن عمومات الوعيد تنقلنا من التجويز إلى القطع على أن أصحاب الكبائر يفعل بهم ما يستحقونه ، وأنه تعالى لا يغفر لهم إلا

٤٥٧

بالتوبة والإنابة.

ومتى قيل : فما تلك العمومات؟ قلنا : قد احتججنا بها في المسألة ، نحو قوله : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) ونحو قوله : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) ونحو قوله : (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨١)) ونحو قوله : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣)) الآية ، إلى غير ذلك مما يكثر عدّه.

ونعود بعد هذه الجملة إلى تفصيل الكلام عليهم في التعلق بهذه الآية ، فنقول : إن ما ذكرتموه أولا ، أن التفضل إذا كان مضمرا في الجملة الأولى يجب أن يكون مضمرا في الجملة الثانية دعوى ، فما دليلكم عليها؟

فإن قالوا : لا إشكال في ذلك ، فمعلوم أن القائل إذا قال لا آكل الفاكهة على الشبع وآكل الحلوى ، كان مراده وآكل الحلوى على الشبع ، وكذلك هاهنا.

قلنا : إن هذا ليس بوزان ، مسألتنا ، فإن الشبع مذكور في الجملة الأولى مظهر فيها ، فلا يمتنع أن يكون مضمرا في الجملة الثانية ، وليس كذلك ما نحن فيه ، فإن التفضل غير مذكور في الجملة الأولى ولا مظهر فيها حتى يجب أن يكون مضمرا في الجملة الثانية ، بل إنما أثبتناه في الجملة الأولى لدلالة دلت عليه ، وحجة قامت به ، ووجه اقتضاه ، ولم يثبت مثل تلك الأدلة فيما دون الشرك ، فبطل احتجاجهم من هذا الوجه. وبعد ، فليس يجب إذا كان الشيء مظهرا في الجملة الأولى من الكلام أن يكون مضمرا في الجملة الثانية لا محالة ، فإن قائلا لو قال : لا أعطي أهل الريّ شيئا وأعطي العلماء ، لم يقتض قوله هذا كون العلماء من الريّ ، بل يجوز أن يكونوا من البصرة أو غيرها من البلدان ، كذلك هاهنا. وبهذه الجملة أجبنا الحنفية عن قولهم : إن قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا لا يقتل مؤمن بكافر» يجب أن يكون محمولا على الحربي لأنه قال بعد ذلك : «ولا ذو عهد في عهده» ، فيكون المراد به ولا ذو عهد في عهده بكافر ، لأن الكافر إذا كان مذكورا في الجملة الأولى فلا بد من أن يكون مضمرا في الجملة الثانية لا محالة ، ولن يكون كذلك إلا والمراد بالكافر المذكور في الخبر الحربي ، فالمعلوم أن الذمي يقتل بالذمي وإنما الذي لا يقتل بالذمي هو الحربي.

وقلنا : إن قوله ألا لا يقتل مؤمن بكافر ، كلام مستقل بنفسه ، وليس يجب إذا كان فيه ذكر الكافر أن يكون ذلك مضمرا في الجملة التي تليه لا محالة.

٤٥٨

وبعد ، فلو كان التفضل مضمرا في الجملتين جميعا على ما ظنوه ، لوجب إذا أظهر في الجملة الثانية ما يخالفه ، فيقول : ويغفر ما دون ذلك لمجتنبي الكبائر أن يتناقض كلامه كما في قوله تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) [الإسراء : ٢٣] فإنه لما اقتضى بظاهره نفي التأفيف وبفحواه نفي الشتم والضرب ، لم يجز أن ينضم إلى ما يخالف فحواه فيقول : فلا تقل لهما أف واضربهما ، لأنه يعد كلامه في المناقضة ، كذلك كان يجب مثله هاهنا ، ولهذا الوجه منعنا من القول بدليل الخطاب ، وقلنا : إن قوله عليه‌السلام : «في سائمة الغنم الزكاة» لو دل على ما لا زكاة فيه ، لكان يجب إذا قال : في سائمة الغنم زكاة وفي المعلوفة أيضا زكاة أن يتناقص كلامه لأن المناقضة هي أن يثبت بآخر الكلام ما نفى بأوله أو ينفي بآخره ما أثبته بأوله ، وعلى زعمهم هذا ، لو قال : في سائمة الغنم زكاة ، كان قد أثبت الزكاة في السوائم بالظاهر ، ونفاه عن المعلوفات بدليل الخطاب ، ومتى قال بعده : في المعلوفة أيضا زكاة ، كان قد أثبت بآخر الكلام ما نفاه بأوله ، وهذا صريح المناقضة على ما ذكرناه. كذلك في هذه المسألة التي نحن بصددها.

وبعد ، فلو كان الأمر على ما ذكرتموه ، لكان يجب أن لا يغفر الله تعالى ما دون الشرك بالتوبة ، لأنه وعد أن يغفره تفضلا ، والمعلوم خلافه ، فهذا هو الكلام على الوجه الأول.

وأما ما ذكروه ثانيا ، من أن الواجب لا يعلق بالمشيئة ، فلا يصح ، لأنه كما يراد التفضل ويعلق بالمشيئة ، فقد يراد الواجب ويعلق بالمشيئة ، وعلى هذا قوله تعالى : (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) فعلق قوله : (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) بالمشيئة ، مع أنه إما أن يراد به قبول التوبة أو اللطف للتوبة ، وأي ذلك كان فهو واجب عليه ، فصح أن تعليق الشيء بالمشيئة لا يقدح في وجوبه ، والغرض بهذا الجنس من الكلام الإبهام على السامع ، وذلك مما لا مانع يمنع منه إذا تعلق به الصلاح ، ونظيره قوله تعالى : (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧)) [الصافات : ١٤٧] أبهم على السامع لما كان الصلاح تعلق بأنهم لا يعلموا كم كانوا.

وأما ما قالوه ثالثا ، من أنه أضاف الغفران إلى نفسه ، فالذي له ولأجله جاز تلك الإضافة ، هو أنه تعالى لما كان هو المعاقب ، وكان هو الذي لا يختار أن يعاقب المكلف العقوبة التي كان يستحقها من قبل ، لم يمتنع أن يضيفه إلى نفسه سواء كان واجبا أو من باب التفضل ، وعلى هذا صح قوله تعالى : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ

٤٥٩

صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (٨٢)) فأضاف الغفران إلى نفسه ، مع أنه واجب عليه فكيف يصح ما قالوه؟

ومتى قيل : إن استعمال الغفران في هذا الموضع مجاز ، قلنا : إن ذلك مما لا وجه يقتضيه ، وكيف يقال إنه مجاز في هذا الموضع ، مع أنه يطرد على هذا اطراده في غير هذا الموضع.

وأما ما قالوه رابعا : من أن «ما» عام ، فإنه وإن كان كذلك ، إلا أنه لا يجوز أن يعم هاهنا لأنه قال في آخره : (لِمَنْ يَشاءُ) فيجب أن يكون المراد به ويغفر لبعض مرتكبي ما دون الشرك ، وجرى في ذلك مجرى قول القائل : لا أعطي الزيدين شيئا ، وأعطي العمرين من أشاء ، فكما أنه يريد به التبعيض دون العموم ، فكذلك هاهنا.

وأما ما قالوه خامسا ، من أن لفظ دون ، إنما تستعمل في ما قرب من الشيء دون ما بعد عنه ، فلا يصح ، لأنه يجوز استعماله في الموضعين جميعا حقيقة ، ولهذا فإن أحدنا إذا قال : السلطان فمن دونه في بلد كذا لما شملهم من القحط في شدة وبلية لم يجب أن يريد به السلطان ووزيره ، بل يريد به من عداه من الأكابر والأصاغر ، وإذا كان هذا هكذا فقد سقط تعلقهم بالآية من هذه الوجوه ، وثبت أن المراد بها التائب وصاحب الصغيرة على ما ذكرناه.

وأحد ما يتعلقون به ، قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) وجوابنا أنه لا تعلق لكم بظاهر الآية ، لأن ظاهرها يقتضي أن يغفر الله تعالى الذنوب كلها سواء كان ذنبا للكفرة أو الفسقة.

ومتى قالوا : إن الكافر مستثنى منه بقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) قلنا : فكذلك الفاسق المرتكب الكبيرة المصرّ على ذلك مستثنى منه بقوله : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) الآية. وعلى ما قالوه إغراء للمكلف بالقبيح ، وذلك لا يحسن من الله تعالى ، فيجب أن يكون المراد به أنه يغفر الذنوب جميعا بالتوبة. وعلى هذا قال عقيبه : (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ) وأكده بقوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) ، فلو لا أن المراد به ، ما ذكرناه ، وإلا كان لا يكون لقوله جل وعز : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ) معنى ، ومتى قالوا : إن المراد بقوله : (وَأَنِيبُوا) الإنابة إلى الإسلام لا الإنابة التي هي التوبة ، بدليل الآيات التي ذكرها الله تعالى بعده ، نحو قوله : (وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ) إلى قوله : (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً

٤٦٠