شرح الأصول الخمسة

عبد الجبّار بن أحمد الهمداني الأسدآبادي

شرح الأصول الخمسة

المؤلف:

عبد الجبّار بن أحمد الهمداني الأسدآبادي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٧

القبيح ، فكذلك في العقاب ، وقياسهم ذلك على الشاهد لا يصح ، لأن العباد لا يستحق بعضهم من بعض العقاب.

ومما يتعلقون به في ذلك ، أن العقاب ضرر من جهة الله تعالى ، وإيصال الضرر إلى الغير إنما يحسن لتشفي الغيظ ، أو لنفع المعاقب أو المعاقب ، وأي هذه الوجوه كان فهي مفقودة في مسألتنا هذه ، فيجب القضاء بقبح العقاب من جهة الله تعالى.

والجواب ، أن هذه القسمة محتملة للزيادة غير مترددة بين النفي والإثبات ، فلا يصح الاحتجاج بها ، على أن هذه الوجوه التي ذكرتها مما لا تأثير لها في حسن العقاب فإن تشفى الغيظ مما لا يتضمن وجها في حسن الإضرار بالغير ، وهكذا نفع المعاقب ، وبعد ، فقد خلت هذه القسمة عن مذهب الخصم ، فإن من مذهب من خالف في هذه المسألة أنه إنما يحسن من الله تعالى معاقبة المكلف لاستحقاقه له بإقدامه على القبائح وإخلاله بالواجبات ، ولم يدخل هو هذا القسم في القسمة ، التي أوردها ففسد كلامه. ثم تقلب عليهم هذه القسمة في الذم. فيقال : إن الذم أيضا ضرر فيجب أن لا يحسن إلا لتشفي الغيظ أو للنفع على ما ذكرتموه ، ومعلوم خلافه. فإن قالوا : بل للاستحقاق ، قلنا : فارضوا منا بمثله في العقاب ، فثبت بهذه الجملة استحقاق الثواب والعقاب ، وإذا صح ذلك ، فاعلم أن الثواب إنما يستحق على الطاعات والعقاب على المعاصي.

فإن قيل : يجب على هذا أنه لو جمع المكلف بين الطاعات والمعاصي أن يكون مثابا معاقبا في حالة واحدة ، وذلك محال. وجوابنا أن هذا إنما يلزمه لو لم يسقط واحد منهما الآخر ، فأما إذا سقط الأقل بالأكثر فإن ذلك مما لا يجب.

فإن قيل : فما قولكم فيمن استويا في حقه أكان يجب أن يثاب ويعاقب دفعة واحدة؟ قيل له إنهما لا يستويان ، ولا خلاف في ذلك بين أبي علي وبين أبي هاشم ، وإنما الخلاف في أن ذلك يعلم عقلا وسمعا أو لا يعلم إلا سمعا.

فعند أبي علي. أن ذلك يعلم عقلا وسمعا ، وقال أبو هاشم : لا يعلم إلا سمعا ، فإن الأمة أجمعت على أن لا دار غير الجنة والنار ، فلو تساوت طاعات المكلف ومعاصيه لكان لا يخلو حاله من أحد الأمرين : فإما أن يدخل النار وذلك ظلم ، وإما أن يدخل الجنة ثم لا يخلو حاله وقد دخل الجنة ، إما أن يثاب وذلك لا يجوز ، لأن إثابة من لا يستحق الثواب قبيح ، والله تعالى لا يفعل القبيح ، وإما أن يتفضل الله عليه

٤٢١

كما تفضل على الأطفال ، والمجانين وذلك مما لا يصح أيضا وقد اتفقت الأمة على المكلف إذا دخل الجنة فلا بد من أن يميز حاله من حال الولدان المخلدين ، وعن حال الأطفال والمجانين ، فليس إلا أن نقطع أنه لا تتساوى طاعات المكلف ومعاصيه وقد خالف في هذه الجملة الصوفية وبعض السادات وقالوا : إن بين الجنة والنار مواضع يقال لها الأعراف ، وعلى هذا قال تعالى : (وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ) وذلك مما لا وجه له لأنه خرق الإجماع. وأما الأعراف المذكورة في القرآن فإنها مواضع في الجنة مرتفعة سميت بذلك لارتفاعها كما في عرف الديك والدابة وغيرهما.

الإحباط والتكفير :

وإذ قد تقررت هذه الجملة ، فاعلم أن المكلف لا يخلو ، إما تخلص طاعاته ومعاصيه ، أو يكون قد جمع بينهما ، وإذا كان قد جمع بينهما فلا يخلو ، إما أن تتساوى طاعاته ، ومعاصيه ، أو يزيد أحدهما على الآخر فإنه لا بد من أن يسقط الأقل بالأكثر ، وإن شئت أوردت ذلك على وجه آخر ، فقلت : إن المكلف لا يخلو ، إما أن يستحق الثواب أو أن يستحق العقاب من كل واحد منهما قدرا واحدا ، أو يستحق من أحدهما أكثر مما يستحق من الآخر. لا يجوز أن يستحق من كل واحد منهما قدرا واحدا لما قد مر ، وإذا استحق من أحدهما أكثر من الآخر فإن الأقل لا بد من أن يسقط بالأكثر ويزول ، وهذا هو القول بالإحباط والتكفير على ما قاله المشايخ.

المخالفون في الإحباط والتكفير :

وقد خالفنا في ذلك كثير من المرجئة ، وعباد بن سليمان الصيمري ، فإن مذهبه أن العقوبة لا تزول إلا بالتوبة ، فأما كثرة الطاعات فمما لا تأثير لها في ذلك ، غير أنه يثبت مزية لمن خلط الطاعات بالمعاصي لا يثبتها لمن خلصت معاصيه ، وتلك المزية والتفرقة إذا لم يرجع بهما إلى ما ذكرناه من الإحباط والتكفير لا يعقل ولا يثبت لهما معنى.

وجملة القول في ذلك ، هو أنا قد ذكرنا أن المكلف إما أن تخلص طاعاته أو معاصيه ، أو يجمع بينهما ويخلطه ، فإذا جمع بينهما فلا سبيل إلى التساوي على ما تقدم ، فليس إلا أن يكون أحدهما أكثر من الآخر والآخر أقل منه ، فيسقط الأقل بالأكثر ، وهذا هو الذي نعنيه بالإحباط والتكفير.

٤٢٢

فإن قيل : هذا الذي ذكرتموه بيان المذهب ومعنى القول بالإحباط والتكفير ، فما الدلالة على ذلك؟ قيل له : الدليل عليه ، هو ما قد ثبت أن الثواب والعقاب يستحقان على طريق الدوام ، فلا يخلو المكلف إما أن يستحق الثواب فيثاب ، أو يستحق العقاب فيعاقب ، أو لا يستحق الثواب ولا العقاب فلا يثاب ولا يعاقب ، أو يستحق الثواب والعقاب فيثاب ويعاقب دفعة واحدة ، أو يؤثر الأكثر في الأقل على ما نقوله. لا يجوز أن لا يستحق الثواب ولا العقاب فإن ذلك خلاف ما اتفقت عليه الأمة ، وأيضا فقد أدللنا على استحقاق المكلف الثواب والعقاب فلا وجه لذلك ، ولا يصح أيضا أن يستحق الثواب والعقاب معا فيكون مثابا معاقبا دفعة واحدة لأن ذلك مستحيل ، والمستحيل مما لا يستحق ، لأن الاستحقاق يترتب على صحته أن يفعل وإمكانه ، إذ المرجع به إلى حسن فعل أو وجوبه لأمر متقدم على وجه لولاه لما حسن أو لما وجب ، وهذا كما ترى مبني على الصحة ، فلا يصح إلا ما ذكرناه من أن الأقل يسقط بالأكثر.

وهذا هو الذي يقوله الشيخان أبو علي وأبو هاشم ولا يختلفان فيه ، وإنما الخلاف بينهما في كيفية ذلك على ما سيجيء من بعد إن شاء الله وحده.

فإن قيل هلّا كان الحال في الثواب والعقاب عندكم في أن لا يقع بينهما الإحباط والتكفير كالحال في العوض مع العقاب؟ قيل له : إن كان المذهب ما اختاره أبو علي فلا سؤال ، لأنه سوى بينهما أو يجري على القياس ، وإن كان المذهب ما يقوله أبو هاشم ، فالفرق ظاهر ، لأن الذي له ولأجله قال بأن الثواب يحبط بالعقاب ، هو أنهما يستحقان على طريق الدوام ، وأن أحدهما يستحق على سبيل التعظيم والإجلال ، والآخر على سبيل الاستحقاق والنكال ، ولا يمكن الجمع بينهما ، وهذا غير ثابت في العوض مع العقاب ، فلا معنى لقياس أحدهما على الآخر.

يبين ذلك ، أن العوض لا يستحق دائما ، ولا هو مستحق على سبيل التعظيم والإجلال حتى يثبت بينه وبين العقاب منافاة ، وإذا كان هذا هكذا سقط ما قالوه ، وصح أن من يستحق العوض على الله والعقاب منه ، فإنه إن شاء وفر عليه ما يستحق من العوض في الدنيا ، وإن شاء في عرصات القيامة ، وإن شاء جعله تخفيفا من عقابه ، لا لأن العوض يستحق على هذا الوجه ، لكن لأن إيصاله إليه على الوجه المستحق لا يمكن.

وأول هذه الوجوه أوضح ، والثالث جيد ، فأما الثاني ففيه كلام ، لأن الأمة

٤٢٣

اتفقت على أن من فارق الدنيا مستحقا للعقوبة ، لم ينله بعد ذلك. روح ولا راحة ، ومتى قيل على الوجه الغالب أن هذا يقتضي الفرار إلى ما فررتم منه ، وهو القول بوقوع الإحباط في العوض والعقاب ، كان الجواب أن يقال : ولا كذلك ، فإنه لو استحق مثلا عشرة أجزاء من العوض لا يسقط بهذا القدر من العقاب إلا وقتا واحدا ، خلاف ما لو كان الكلام في الثواب والعقاب فلا يصح ما توهمه.

فهذا هو الجواب عما أورده من السؤال علي أبي هاشم.

وأما أبو علي ، فقد حكينا عنه التسوية بين العوض والثواب في هذا الباب ، ولعله إنما يسوى بينهما من حيث كان يقول : إن العوض يستحق على طريقة الدوام كالثواب ، فأما بعد رجوعه عن ذلك فلا يبقى للشبهة في هذه المسألة موقع.

اختلاف أبي علي وأبي هاشم :

فإن قيل : إذا كان الشيخان لا يختلفان في وقوع الإحباط والتكفير ، ففي أي موضع اختلفا في هذه المسألة قلنا في موضعين : أحدهما ، أن الإحباط والتكفير إذا وقعا في الطاعة والمعصية أم في الثواب والعقاب ، فقال أبو علي : إنهما يقعان في الطاعة والمعصية لأنهما اللذان يصح أن يؤثر أحدهما في الآخر ، دون الثواب والعقاب اللذين لا يوجدان معا حتى يصح تأثير أحدهما في الآخر. وقال أبو هاشم : لا بل يقعان في الثواب والعقاب ، قال : وذلك لأن الذي أوجب القول في الإحباط والتكفير هو امتناع الجمع بينهما للمنافاة ، والذي امتنع الجمع بينهما إنما هو الثواب والعقاب ، حيث كان أحدهما مستحقا على سبيل التعظيم والإجلال ، والآخر على سبيل الاستحقاق والنكال دون الطاعة والمعصية ، فمعلوم أن الجمع بينهما ممكن غير متعذر ، فيجب أن لا يقع الإحباط والتكفير إلا في المستحقين على ما ذكرته.

وقال أيضا : إن الطاعة والمعصية متى خرجتا عن أن يستحق عليهما الثواب والعقاب ، كأن تقعا من صبي أو مجنون لم يقع فيهما الإحباط والتفكير ، فمتى وقعا على الحد الذي يستحق عليه الثواب والعقاب وقع فيهما الإحباط والتكفير فيجب أن لا يجب إلا في المستحقين ، وذلك ظاهر.

وقال أيضا : إنا لا نعني بالإحباط والتكفير إلا أنه لا يحسن من الله تعالى فعل ما كان قبيحا منه ، أو يقبح منه فعل ما كان حسنا ، فلا بد من أن يقعا فيما يتغير حاله من حسن إلى قبح ومن قبح إلى حسن ، دون الطاعة والمعصية فإنهما إذا وقعا لم يتغير

٤٢٤

حالهما بعد ذلك.

وبهذه الطريقة نجيب عن قول أبي علي ، أي كيف يقع الإحباط والتفكير بين المستحقين ، وهما معدومان لا يصح أن يؤثر أحدهما في الآخر؟ فنقول : إنا إذا قلنا إن الأقل يسقط بالأكثر ، فإن الأكثر يؤثر فيه ، فلسنا نعنى به إلا أنه لا يحسن من الله تعالى فعله بالمكلفين بعد ما ما كان حسنا ، لا أن هناك تأثير مثل تأثير العلة في المعلول ، أو السبب في المسبب ، فيسقط ما تعلق به ، ويسلم ما اختاره أبو هاشم.

الخلاف بين الشيخين في الموازنة :

وهنا موضع آخر وقع فيه الخلاف بينهما ، وهو الكلام في الموازنة ، فإن أبا علي ينكره ، وأبا هاشم يثبته ويقول به ، وصورته أن يأتي المكلف بطاعة استحق عليها عشرة أجزاء من الثواب ، وبمعصية استحق عليها عشرين جزءا من العقاب ، فمن مذهب أبي علي أنه يحسن من الله تعالى أن يفعل به في كل وقت عشرين جزءا من العقاب ، ولا يثبت لما كان قد استحقه على الطاعة التي أتى بها تأثير ، بعد ما ازداد عقابه عليه. وقال أبو هاشم : لا ، بل يقبح من الله تعالى ذلك ولا يحسن منه أن يفعل به من العقاب إلا عشرة أجزاء ، فأما العشرة الأخرى فإنها تسقط بالثواب الذي قد استحقه على ما أتي به من الطاعة ، وهذا هو الصحيح من المذهب ، ولعمري إنه القول اللائق بالله تعالى دون ما يقول أبو علي ، والذي يدل على صحته هو أن المكلف أتى بالطاعات على الحد الذي أمر به ، وعلى الحد الذي لو أتى بها منفردا عن المعصية لكان يستحق عليها الثواب ، فيجب أن يستحق عليها الثواب وإن دنسها بالمعصية ، إلا أنه لا يمكن والحالة هذه أن يوفر عليه على الحد الذي يستحقه لاستحالته ، فلا بد من أن يزول من العقاب بمقداره ، لأن دفع المضرة كالنفع في أنه مما يعد في المنافع ، وعلى هذا يصح قوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨)).

فأما على مذهب أبي علي ، يلزم أن لا يكون قد رأى صاحب الكبيرة شيئا مما أتى به من الطاعات ، وقد نص الله تعالى على خلافه. ومتى قيل : فكيف لم يثبه أن لو كان الأمر على ما يظنونه ، قلنا : لما قد ذكرنا من أن إثابته غير ممكن ولا متصور.

وأما شيخنا أبو علي ، فقد تعلق في ذلك بوجوه : أحدها ، هو أن الفاسق بإقدامه على المعاصي وارتكابه الكبائر قد جنى على نفسه. وأخرجها من أن تستحق الثواب

٤٢٥

البتة ، وعلى هذا المعنى قال تعالى : (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) وصار حاله كحال من خاط لغيره ثوبا ثم فتقه قبل أن يسلمه إلى صاحبه ، فإنه لا يستحق على الخياطة الأجرة لما قد أفسدها على نفسه بالفتق ، كذلك هاهنا. وربما استدل على ذلك بقوله تعالى : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ) الآية. ويقول : لو لا أن الأمر في ذلك على ما ذكرته وإلا كان لا يصح ما ذكره الله تعالى في أعمال الكفار والمرتكبين للكبائر ، وربما يقول : إن الثواب إذا سقط فإنما يسقط إما بالندم على ما أتى به من الطاعة ، أو بعقاب أعظم منه ، ثم سقط بالندم الكل ، فكذلك إذا سقط بالعقاب الذي هو أعظم منه وجب أن يسقط الكل ، فلا فرق بينهما في قضية العقل.

والأصل في الجواب عن ذلك.

أما ما ذكره أولا ، وهو أن الفاسق لإقدامه على المعاصي وارتكابه الكبائر أخرج نفسه من أن يستحق الثواب فلا يصح ، لأن الفاسق أتى بالطاعة على الوجه الذي كلف وأمر به ، وعلى حد لو تفرد عن الكبيرة لكان يستحق عليها الثواب ، وارتكابه الكبيرة بعد ذلك لا يخرجه من أن يكون مستحقا للثواب ، ففسد ما ظنه.

وأما ما أورده في مثال ذلك فلا يصح أيضا ، لأن الخياط لم يستحق الأجرة من حيث أنه إنما يستحق الأجرة على تسليم العمل ، ولم يسلمه ، بل فتقه قبل التسليم ، حتى لو قدرنا أن فتق بعد التسليم لكان يسلك في ذلك طريقة الموازنة على ما نقوله ، وقوله تعالى : (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ) فإنا لا ننكره فهو كلام الله تعالى ووحيه وتنزيله ، إلا أنه لا يقتضي إلا الإحباط على الحد الذي نقوله دون ما ذهب إليه ، فذلك محض الظلم والله تعالى منزه عنه ، وأما قوله تعالى : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا) الآية. فإنه لا تعلق له بظاهره لأن الهباء إنما يستعمل في أجسام رقيقة ، وأفعال العباد أعراض ، فكيف تجعل أجساما ، وهل ذلك إلا قلب الأجناس؟ ومتى عدل عن الظاهر واشتغل بالتأويل لم يكن هو به أحق منا فنتأوله على وجه يوافق دلالة العقل والشرع ، فنقول : إن المراد أن الفاسق لا يستحق بأعماله الثواب على الحد الذي كان يستحقه لو لم يدنسه بالمعصية الكبيرة ، فلا ينفع به كما لا ينفع بالهباء المنثور.

وأما ما ذكره من أن الثواب إنما يسقط بالندم أو بعقاب أعظم منه ، ثم إذا سقط بالندم سقط كله ، وكذلك إذا سقط بالعقاب وجب أن يسقط كله ، فجمع بين أمرين من غير علة جامعة فلا يصح ، ثم يقال : إن الندم إنما أثر في سقوط الثواب بأجمعه ، لأنه بذل المجهود في تلافي ما وقع منه حتى يصير في الحكم كأنه لم يفعل ما قد فعل ،

٤٢٦

وهذا غير ثابت في العقاب ، وتأثيره في الثواب فإنه إنما يؤثر في إزالته بطريقة المقابلة على الحد الذي كشفناه ، فهذه جملة ما ذكروه في هذه المسألة.

فصل

واتصل بهذه الجملة الكلام في الصغيرة والكبيرة ، وما يتعلق بهما لأننا إذا قلنا : إن ما يستحقه المرء على الكبيرة من العقاب يحبط ثواب طاعاته ، وما يستحقه على الصغيرة مكفر في جنب ماله من الثواب لم يكن بد من بيان معنى الكبيرة والصغيرة.

وجملة ذلك ، أن الكبيرة في عرف الشرع هو ما يكون عقاب فاعله أكثر من ثوابه إما محققا وإما مقدرا. وقد يستعمل ذلك على وجهين آخرين لا نذكرهما هاهنا ، فليس المقصود هاهنا إلا ما ذكرناه.

وأما الصغيرة ، فهو ما يكون ثواب فاعله أكثر من عقابه ، إما محققا وإما مقدرا ، واحترزنا في الموضعين بقولنا : إما محققا وإما مقدرا عن الكافر ومن لم يطع البتة ، فإنه قد وقع في أفعاله الصغيرة والكبيرة ، على معنى أنه لو كان له ثواب لكان يكون محبطا بما ارتكبه من المعصية ، أو يكون عقاب ما أتى به من الصغيرة مكفرا في جنب ما يستحقه من الثواب.

وقد أنكرت الخوارج أن يكون في المعاصي صغيرة ، وحكمت بأن الكل كبيرة.

الخلاف بين أبي علي وأبي هاشم حول العلم باشتمال المعاصي على صغير وكبير :

ولا خلاف في ذلك بين شيخنا أبي علي وأبي هاشم ، وإنما الخلاف بينهما في هل يعلم عقلا اشتمال المعاصي على صغير وكبير أولا يعلم ذلك إلا شرعا.

فذهب أبو علي إلى أن ذلك لا يعلم إلا شرعا ، وقال : لو خلينا وقضية العقل لكنا نحكم بأن المعاصي كلها كبائر ، فمعلوم أن أقل قليل المعاصي يستحق عليها جزءان من العقاب ، وأقل قليل الطاعات يستحق عليها جزءا واحدا من الثواب ذلك لما للقديم تعالى علينا من النعم ، ويجعل ذلك أحد الوجوه التي تعظم المعصية لأجلها ، ويشبه ذلك بإساءة الولد إلى الوالد الشفيق البار ، قال : فكما أن ذلك أعظم من الإساءة إلى الأجنبي ، كذلك الحال هاهنا ،

فإن قيل : وما تلك الدلالة الشرعية التي دلتكم على أن في المعاصي ما هو كبير

٤٢٧

وفيها ما هو صغير ، أفي كتاب الله تعالى ذلك ، أم في سنة رسوله عليه‌السلام ، أم في اتفاق الأمة؟

قيل له : أما اتفاق الأمة فظاهر على أن أفعال العباد تشتمل على الصغير والكبير غير أنا نتبرك به ونتلو آيات فيها ذكر الصغير والكبير وما في معناه ، قال الله سبحانه وتعالى : (ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) [الكهف : ٤٩] وو قال تعالى : (وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (٥٣)) [القمر : ٥٣] وقال : (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ) [الحجرات : ٧] فرتب المعاصي هذا الترتيب ، بدأ بالكفر الذي هو أعظم المعاصي وثناه بالفسق وختم بالعصيان ، فلا بد من أن يكون قد أراد به الصغائر ، وقد صرح بذكر الكفر والفسق قبله. وقال أيضا : (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) [النجم : ٣٢] فلا بد من أن يكون المراد باللمم الصغائر ، وإلا كان لا يكون للاستثناء معنى وفائدة ، إذ المستثنى لا بد أن يكون غير المستثنى منه. وقال أيضا : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨] وأراد به الصغيرة على ما شرحه المفسرون لكتاب الله تعالى في تفاسيرهم. فبهذه الوجوه التي ذكرناها علم أن في المعاصي صغيرا كما أن فيها كبيرا ، وإلا فلو خلينا وقضية العقل لكنا نقطع على أن الكل كبير على ما ذكرناه ، وأبو هاشم كان يقول : كنا نعلم عقلا أن سرقة درهم لا تكون كسرقة عشر دراهم ، وأن أحدهما كبير والآخر خلافه ، وذلك مما لا يصح لما قد تقدم.

خلاف جعفر ابن حرب :

ومما يذكر هاهنا ، خلاف جعفر بن حرب : أن كل عمد كبير ، وأظن أن ذلك مذهبا لبعض السلف من أصحابنا ، والذي يدل على أن ذلك مما لا يصح ، هو أن الكبير الصغير كما بينا إذا كان كلاما في مقادير الثواب والعقاب فلا بد من أن يكون الطريق إليه دلالة شرعية ، ولا دلالة تدلنا على أن كلها عمد كبير فيجب التوقف فيه ، ويجوز أن يكون كبيرا ، ويجوز أن يكون صغيرا.

وبعد ، فإن الكفر يكون كفرا وإن لم يكن هناك عمد ، وكذلك الكبير لا يمتنع أن يكون كبيرا ، وإن لم يكن هنا عمد ، فلا يثبت والحال هذه للعمد تأثير ، فكان يجب متى وقع الفعل الذي لا يمكن القطع بكونه كبيرا ولا عمد هناك إلا بقطع بكونه كبيرا وإن كان هناك عمد ، لأن العمد مما لا تأثير له في كون الفعل كبيرا أو صغيرا.

٤٢٨

لا يجوز أن يعرفنا الله بأعيان الصغائر :

ومما يدخل في هذه الجملة ، أن الله تعالى لا يجوز أن يعرفنا الصغائر بأعيانها ، والذي يدل على ذلك أن الصغائر إغراء بالقبيح ، والإغراء بالقبيح مما لا يجوز على الله تعالى.

فإن قيل : ولم قلتم أن تعريف الصغائر من الله تعالى إغراء بالقبيح؟ قلنا : إن المكلف إذ علمها صغيرة وأنهما مما لا يجوز أن يستحق بفعلها العقاب بل يكون عقابها مكفرا في جنب ما له من الثواب ، كان في الحكم كالمبعوث عليها ، ومغرى بها. يبين ذلك ، أنه إذا علم أن له فيه نفعا في الحال ، ولا مضرة لا في الحال ولا في المآل ، كان في الحكم كمن قيل له : لم لا تفعله ولا تبعه عليك فهذا إغراء على ما قلناه وليس لأحد أن يقول : إن مع العلم بقبحه لا يثبت الإغراء ، لأنه إذا انتفع به في الحال ولا مضرة له في الحال ولا في المستقبل كان مغرى بفعله.

فإن قيل : إنه إذا علم أنما يستحق على الصغيرة من العقاب يسقط جملة من ثوابه على قولكم بالموازنة ، لا يكون مغرى بفعله ولا مبعوثا عليه.

قيل له : أما على مذهب أبي علي فلا كلام فإنه لا يقول بالموازنة ، وأما على مذهب أبي هاشم ، فالجواب ، إن المكلف إذا علم انتفاعه بالصغيرة في الحال ، وعلم أنه لا يشتهي شيئا في الآخرة إلا وصل إليه ما يشتهيه ، فإنه لا يبالي بسقوط ما سقط من ثوابه.

فإن قيل : فيجب على هذا أن لا يحسن من الله تعالى التكليف بالنوافل والترغيب وفيما يستحق عليها من الثواب ، فإن المكلف إذا علم أنه يصل إلى ما يشتهيه في الآخرة متى فعل الواجبات واجتنب المقبحات لم يعتد بما يستحق على النوافل من الثواب. يزيد ذلك وضوحا ، أنه كما يمكن أن يقال : إنه لا يعتد بما يسقط من ثوابه بالصغيرة إذا علم أنه لا يشتهي شيئا إلا وصل إليه مع أنه كالحاصل له بالاستحقاق ، فبأن لا يعتد بما يستحقه على النوافل من الثواب أولى وأحق ، لأنه لم يحصل بعد.

قيل له : فرق بينهما ، فإن القديم إنما كلفنا النوافل وحسن منه ذلك لما كانت مسهلة للفرائض داعية إليها. لا لمجرد الثواب ، حتى إن لم يقع به اعتداد وجب أن لا يحسن ، وليس ذلك الحال في الصغيرة على ما ذكرنا.

فإن قيل : أليس أنه الله تعالى عرف الأنبياء الصغائر بأعيانها ، فكيف منعتم من

٤٢٩

ذلك؟ قيل له : إنهم إنما يعلمون ذلك بعد الوقوع ، ونحن لا ننكر أن يعلموا ذلك بعد الوقوع.

فإن قيل : إذا علم بعد الوقوع أنها صغيرة قاس عليها مثلها فيكون مغرى على فعلها ، قلنا : إن ذلك لا يمكن ، لأن مثل الصغيرة يجوز أن يكون كبيرا ، على أن النبي إذا علم أن بعض ما قد استحقه من الثواب سقط وسيسقط بصغيرة أخرى بقدرها ، كان ذلك أقوى الصوارف له إلى أن يختار أمثاله ، فصح لك بهذه الجملة أن تعريف الصغائر مما لا يجوز على الله تعالى.

فإن قيل : لم جوزتم على الله تعالى ما هو شر من هذا ، وهو تعريف بعض المكلفين أنه يبقى مدة من الدهر ، وبشارة للبعض بالجنة ، وذلك نحو إخبار الله تعالى عليا عليه‌السلام على لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه يبقى إلى أن يقابل الناكثين والقاسطين والمارقين ، ونحو بشارته بالخير.

قيل له : إن الفرق بين المسألتين ظاهر ، فإن تعريف الصغائر موضوع للإغراء على ما وصفناه ، وليس هكذا الحال في تعريف البقاء والبشارة بالجنة لأنهما ليس بموضوعين للإغراء ، بل الحال في تعريف البقاء والبشارة بالجنة لأنهما ليس بموضوعين للإغراء ، بل الحال فيه يختلف بحسب اختلاف الأشخاص ، ففي الناس من يكون ذلك داعيا له إلى التكثير في العبادات وصارفا عن ارتكاب الفواحش ، ومنهم من يكون حاله بخلافه ، والله تعالى إنما يعرف ذلك من المعلوم من حاله أنه لا يدعو إلى قبيح بل يصرفه عنه إلى ما ذكرناه.

فإن قيل : كيف يمكن ادعاء أن ذلك ليس بموضوع للإغراء ، مع أنه ما من مكلف إلا ومتى علم أنه يبقى مائة سنة كان ذلك داعيا له إلى أن لا يتجنب المحارم رجاء أن يتوب في آخر عمره ويدخل الجنة.

قيل له : علمه بأنه يبقى إنما يدعوه إلى الاشتغال بالمناكير متى قطع على أنه لا يستفد بها البتة بل يثوب في آخر عمره لا محالة ، فأما ومن المجوز أن لا يتوب بأن يعرض عارض فيمنعه من التوبة ويحول بينه وبينها ، لم يكن ، بدعوة الداعي إلى شيء مما يستضر به في المستقبل على ما ظننتموه.

وأما البشارة بالجنة ، فإنه لا بد من أن يقطع على أنه إنما يكون من أهل الجنة

٤٣٠

متى اجتنب الفواحش ، وأدى الفرائض ، فكيف يدعوه الداعي والحال ما قلنا إلى الفساد.

فصل

قد ذكرنا أن المدح والذم والثواب والعقاب يستحقان على الطاعة والمعصية ، والذي نذكره هاهنا أن المدح والثواب كما يستحقان على الطاعة فقد يستحقان على أنه لا يفعل القبيح ، وأن الذم والعقاب كما يستحق على فعل المعصية فقد يستحق على الإخلال بالواجبات ، وهذه مسألة خلاف بين شيخنا أبي علي وأبي هاشم ..

هل يستحق الثواب والعقاب على الفعل وعدمه :

فعند أبي علي ، أن الثواب والعقاب لا يستحق إلا على الفعل ، فأما على أنه لا يفعل فلأننا على قوله إن القادر بالقدرة لا يخلو من الأخذ والترك.

وأما عند أبي هاشم ، فإن لا يفعل كالفعل في أنه جهة الاستحقاق وهو الصحيح من المذهب.

والذي يدل على صحة هذا أنا متى علمنا إخلاله بالواجبات علمنا استحقاقه للذم وإن لم نعلم أمرا آخر ، كما أنا متى عرفنا كونه عارفا فاعلا للقبيح علمنا أنه يستحق الذم وإن لم نعلم شيئا آخر ، فيجب أن يكون كل واحد من الأمرين مؤثرا في استحقاق الذم على ما نقوله.

يبين ذلك ويوضحه ، أن من كان عنده وديعة وطولب بالرد فاستلقى على قفاه وتثاقل ولم يرد استحق الذم ، كما لو ظلمه وغصب قطعة من ماله ، وليس هاهنا ما يصرف إليه استحقاقه الذم سوى إخلاله بما هو واجب عليه ، فيجب أن يكون الإخلال بالواجب كفعل القبيح في استحقاق الذم عليه.

وأيضا ، فإنه تعالى لو لم يثبت ما استحق الثواب أو لم يلطف ، مع أن له في المعلوم لطفا بعد التكليف لاستحق الذم تعالى عن ذلك ، وإنما استحق لإخلاله بالواجب. وليس هاهنا ما يلتبس الحال فيه فيقال : إنما الذم عليه لا على الإخلال بالواجب ، ولكن استحق الذم لهذا الوجه ، ولئن أمكن الشيخ أبا علي أن يقول في الواحد منا أنه لا يخلو عن الأخذ والترك ، فلا يمكن ذلك في الله تعالى ، فليس هو من القادرين بالقدرة.

٤٣١

يزيد هذه الجملة وضوحا ، أن العقلاء يستحسنون ذم من لم يرد الوديعة مع الإمكان وزوال الأعذار ، إذا علموا ذلك من حاله ، وإن لم يخطر ببالهم شيء آخر ، فلو لا أن الإخلال بالواجب جهة في استحقاق الذم ، وإلا كان لا يجوز ذلك ، لأن العلم بحسن ذمه يتفرع على العلم بما يستحق عليه الذم وهم لا يعلمون شيئا آخر سوى إخلاله بما وجب عليه من إزاحة العلة والتمكين ، صح ما اخترناه من المذهب.

وأما أبو علي فقد بينا مذهبه ذلك على أصل قد حكيناه عنه غير مرة ، وهو استحالة خلو القادر بالقدرة عن الأخذ والترك ، وذلك أصل قد ثبت عندنا فساده ، وأشرنا إلى طريقة القول في إفساده.

حيث بينا أن أحدنا مع علمه بتصرفات الناس في الأسواق قد لا يريدها ولا يكرهها ، فقد خلا من الأمرين جميعا ، ففسد أصله هذا ، وفساد الأصل يؤذن بفساد ما بنى عليه ، لأن فساد الأصل يؤذن بفساد الفرع لا محالة.

كيف يكون الحال لو لم يثب الله من استحق الثواب :

وكذلك فقد ذكرنا أن القديم تعالى إن لم يثب من استحق الثواب ، كيف يكون الحال.

ومن خالف في ذلك فقد تعلق بوجوه :

منها ، هو أن مذهبكم هذا يضارع مذهب جهم ، حيث جوّز أن يعاقب العبد على ما لا يتعلق به أصلا ، بل حالكم أسوأ من حاله لأن أكثر ما جوّزه أن يعاقب العبد على ما لا يتعلق به ، فأما أن لا يكون هناك فعل ينصرف إليه استحقاق الذم والعقاب فلا ، وأنتم قد جوزتم أن يذم ويعاقب وإن لم يكن هناك فعل ولا كف ولا أخذ ولا ترك ولا صغيرة ولا كبيرة ، وذلك أدخل في الجهالة من قول جهم.

وجوابنا ، أنك إن أردت بما أوردته أنا نجوز ذم من يستحق الذم أصلا فليس كذلك ، إن إخلاله بالواجب جهة استحقاق الذم معقوله على ما بيناه ، وإن أردت به أنا جوزنا أن يذم المرء ويعاقب لا على فعل فذلك مجاب إليه وهو الذي اتخذناه مذهبا فما الذي يبطله ، وهل هذه الطريقة إلا الطريقة التشنيع الذي لا يعجز عنه عاجز؟

ثم الفرق بيننا وبينه هو أنه جوز أن يعاقب المرء على ما لا يتعلق به ، ولا بدواعيه البتة ، بل على ما لا يقدر عليه ولا يطيقه أصلا ، وليس كذلك حالنا ، فإنا إنما

٤٣٢

جوزنا ذمه ومعاقبته على إخلاله بما وجب عليه بعد ما أعطى القدرة على ذلك ، وخلي بين فعله وأن لا يفعل ، وأزيحت علته ، فكيف يشبه أحد المذهبين الآخر ، وهل هذا إلا من قلة التمييز والتحصيل.

ومن ذلك قولهم : إنكم إذا جوزتم أن يعاقب المكلف على أن لا يفعل ما وجب عليه ، فكأنكم جوزتم أن يعاقب على العدم وذلك محال ، لأن هذا الفعل كان معدوما ولم يستحق عليه ذما ولا عقابا ، وأيضا ، فإن العدم لا يقع فيه اختصاص ، فكان يجب إذا أخل أحد بالواجب أن يستحق جميع من في العالم الذم ومعلوم خلافه.

والجواب عنه كالجواب عما سبق ، وهو أنه لم يستحق الذم والعقاب على العدم ، حتى يلزم ما ظنوه وإنما استحق ذلك على إخلاله بالواجب مع التمكين وإزاحة العلة.

ومنها : ما يقولونه في ذلك : أن المكلف لو استحق الذم والعقاب على الإخلال بما وجب عليه ، لوجب أن يستحق المدح والثواب على أن لا يفعل ما هو قبيح منه ، وهذا يوجب في المكلف إذا جمع بين هذين الأمرين أن يكون مستحقا للثواب والعقاب وذلك محال ، ما أدى إليه ويقتضيه وجب أن يكون محالا ، وليس ذلك إلا القول بأن لا يفعل ليس حجة في استحقاق المدح والذم والثواب والعقاب.

وجوابنا ، إنما كان يلزم ما ذكرتموه إن لو لم يقل بالإحباط والتكفير فأما ومن قولنا أنه إذا جمع بين هذين الأمرين كان الحكم للأغلب منهما ، على ما نقوله فيما لو جمع بين الفعلين استحق على أحدهما الثواب وعلى الآخر العقاب. فإن هذا الكلام ساقط. ومتى قالوا : أن لا يفعل نفي ، والنفي لا يقع فيه التزايد فكيف يكون أحدهما أغلب من الآخر ، وكيف يثبت لأحدهما حكم لا يثبت مثله في الآخر؟

كان الجواب ، إن التزايد والحال ما ذكرتموه إنما يقع في الثواب المستحق على أن لا يفعل القبيح المستحق على الإخلال بالواجب ، على مذهبنا أن الإحباط والتكفير إنما يقعان بين المستحقين ، لا على ما يقوله أبو علي أنهما إنما يقعان بين الفعلين أو بين الفعل وأحد المستحقين ، فقد هذا السؤال أصلا.

ومما يورده أصحاب أبو علي في هذا الباب ، عبارات لا متعلق لهم بها ، نحو قولهم : إن من لم يرد الوديعة أو أخل بغيره من الواجبات ، يسمى ظالما وغاصبا ومتعديا إلى غير ذلك من الألفاظ ، وهذه الألفاظ والأسامي ، إنما تشق عن الأفعال ،

٤٣٣

فلو لا أن هناك أفعالا أخذت منها هذه الأشياء واشتقت منها ، وإلا كان لا يصح هذه التسمية.

والجواب ، أن هذا توصل منكم بالعبارات إلى إفساد ما قد ركبه الله تعالى في العقول ، وذلك مما لا سبيل إليه ، يبين ذلك ويوضحه أنهم يسمون من لم يرد الوديعة ظالما وإن لم يعلموا هناك فعل البتة ، فكيف يصح ما ذكرتموه؟ فهذه جملة ما نذكره نحن في هذه المسألة ، ولاستقصاء الكلام فيها واستيعاب الأسئلة والأجوبة مكان آخر هو أخص به من هذا المكان.

فصل

قد ذكرنا أن المدح والثواب والذم والعقاب ، كما يستحقه الواحد منا على فعل الطاعة والمعصية فقد يستحقه على أن لا يفعل ، وذكرنا الوجه من ذلك حسب ما يتحمله الموضع ، والذي نذكره هاهنا ما يؤثر في إسقاط الثواب والعقاب.

سقوط الثواب والعقاب :

اعلم أن الثواب يسقط بوجهين : أحدهما ، بالندم ، على ما أتى به من الطاعات ، والثاني بمعصية هي أعظم منه.

وإنما قلنا : إن الثواب يسقط بالندم على الطاعة ، لأن الحال في ذلك كالحال فيمن أحسن إلى غيره ، ثم ندم على ما فعله من الإحسان ، فإن ندمه على ذلك يسقط ما كان يستحقه ، كذلك هاهنا.

وأما سقوطه بمعصية هي أعظم من ذلك ، فظاهر أيضا ، لأن ذلك بمنزلة أن يحسن إلى غيره قدرا من الإحسان ثم يسيء إليه إساءة هي أعظم من ذلك بكثير ، ومعلوم أنه والحال هذه لا يستحقه مدحا ولا شكرا كما كان يستحق من قبل الإساءة كذلك الحال في مسألتنا.

هذا هو الكلام فيما يسقط به الثواب المستحق ولا ثالث لهذين الوجهين ، إذ لا يسقط الثواب بإسقاط الله تعالى البتة.

وأما العقاب المستحق من جهة الله تعالى فإنه يسقط بالندم على ما فعله من المعصية ، أو بطاعة هي أعظم منه.

٤٣٤

والوجه فيه كالوجه في الثواب ، لأن نظير الندم في الشاهد الاعتذار.

ومعلوم أن أحدنا إذا أساء إلى غيره ثم اعتذر إليه اعتذارا صحيحا ، فإنه يسقط ما كان يستحقه من الذم حتى لا يحسن من المساء إليه أن يذمه بعد ذلك ، فكذلك الحال في التوبة مع العقاب ، هذا في الندم ..

وأما الطاعة التي هي أعظم منه ، فإنما تؤثر في إسقاط العقوبة المستحقة ،

لأن الحال في ذلك كالحال في من أساء إلى غيره بأن كسر له رأس قلم ، ثم أعطاه في مقابلته من الأموال السنية ما لا تسمح نفس بها ، ولا ترخص في بذلها ، فإنه والحال هذه لا يستحق من قبله الذم على تلك الإساءة الكبيرة لمكان هذه العطية الجزيلة فكذلك في مسألتنا هذه. فهذان وجهان يؤثران في إسقاط العقاب كما في الثواب ، غير أن كثرة الطاعة إنما تؤثر في سقوط ما يستحق من العقوبة إذا كان الكلام في الصغائر ، فأما الكبائر فإن عقابها لا يزول بكثرة الطاعات المفعولة في مثل هذه الأعمال على ما سيجيء من بعد إن شاء الله تعالى.

وهاهنا وجه آخر يؤثر في سقوط العقاب المستحق من جهة الله تعالى ، وهو إسقاط الله تعالى وعفوه عن المعاصي وهذا الوجه لا يثبت في الثواب على ما مر.

فإن قيل : أو يحسن من الله تعالى أن يسقط ما يستحقه الكافر والفاسق من العقوبة ، أم كيف القول فيه ، قلنا : قد اختلف العلماء في ذلك.

فمن مذهبنا ، أنه يحسن من الله تعالى أن يعفو عن العصاة وأن لا يعاقبهم ، غير أنه أخبرنا أنه يفعل بهم ما يستحقونه ، وقال البغداديون : إن ذلك لا يحسن من الله تعالى إسقاطه ، بل يجب عليه أن يعاقب المستحق للعقوبة لا محالة على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.

فصل

اعلم أن البغدادية من أصحابنا ، أوجبت على الله تعالى أن يفعل بالعصاة ما يستحقونه لا محالة ، وقالت : لا يجوز أن يعفو عنهم ، فصار العقاب عندهم أعلى حالا في الوجوب من الثواب ، فإن الثواب عندهم لا يجب إلا من حيث الجود ، وليس هذا قولهم في العقاب ، فإنه يجب فعله بكل حال.

والذي يدل على فساد مذهبهم هذا وصحة ما أخذناه ، هو أن العقاب حق الله

٤٣٥

تعالى على الخصوص ، وليس في إسقاطه إسقاط حق ليس من توابعه وإليه استبقاؤه ، فله إسقاطه كالدين ، فإنه لما كان حقا لصاحب الدين خالصا ، ولم يتضمن إسقاط حق ليس من توابعه ، وكان إليه استبقاؤه ، كان له أن يسقطه كما أن له أن يستوفيه ، كذلك في مسألتنا.

وقولنا : ليس في إسقاطه إسقاط حق ليس من توابعه احتراز عن الذم ، فإنه من حيث يسقط بسقوط العقاب سقط ، لأنه كان من توابعه ، كالأجل مع الدين.

فإن قيل : الحق هو ما لصاحبه أن ينتفع به ، والنفع يستحيل على الله تعالى ، فكيف يصح قولكم إن العقاب حق الله تعالى؟ قيل له : إن غرضنا بذلك أن الدلالة تدل على أن لله تعالى أن يعفو عن العصاة كما أن له أن يعاقبهم ، خلافا لما يقوله البغداديون.

فإن قيل : أليس أن الذم حق المساء إليه ثم لا يكون له إسقاطه ، فهلا جاز في العقاب أن يكون حقا لله تعالى ، وإن لم يكن له إسقاطه؟ قيل له : إن فيما ذكرناه ما يسقط هذا السؤال فقد قلنا : إن العقاب حق الله تعالى على الخصوص ، وليس هكذا سبيل الذم ، فإنه كما هو حق المساء إليه فهو حتى للمسيء أيضا ولجميع العقلاء ، فإنهم متى تيقنوا أنهم يذمون على الإساءة لا يقدمون عليها ، أو يكونون أقرب أن لا يقدموا عليها.

وهكذا الجواب إذا قالوا : إن الشكر حق للمنعم ثم ليس له إسقاطه ، وكذلك العقاب ، لأن الشكر كما أنه حق للمنعم فهو حق للمنعم عليه ، ولهذا يستحق به ثواب الله تعالى والمدح من العقلاء ، فكيف يدعى أنه حق المنعم.

فإن قيل : أليس أن الثواب حق للعبد كما أن العقاب حق الله تعالى ، ثم لا يكون للعبد إسقاط ما يستحقه من الثواب ، فهلا جاز مثله في العقاب؟ قيل له : إن الحق إنما كان يصح من استحقه إسقاطه متى كان استيفاؤه إليه ولم يكن في الحكم كالمحجور عليه ، فلهذا فإن الصبي لا يقدر على إسقاط حقه وإن كان الحق له ، لما لم يكن من أهل الاستيفاء ، إذا ثبت هذا ، فحال الواحد منا مع الثواب كحال الطفل مع ما له من الحقوق ، فكما أنه ليس له إسقاط شيء من حقوقه ، لما لم يكن إليه استيفاؤها وكان محجورا عليه ، كذلك هاهنا. يزيد ذلك وضوحا أن العبد يكون في حكم الملجأ إلى أن لا يسقط ما يستحقه من الثواب ، فسقط هذا السؤال أصلا ،

٤٣٦

شبه البغداديين :

وأما شبه البغداديين في هذا الباب فهو أن قالوا : إن العقاب لطف من جهة الله تعالى ، واللطف يجب أن يكون مفعولا بالمكلف على أبلغ الوجوه ، ولن يكون كذلك إلا والعقاب واجب على الله تعالى ، فمعلوم أن المكلف متى علم أنه يفعل به ما يستحقه من العقوبة على كل وجه ، كان أقرب إلى أداء الواجبات واجتناب الكبائر.

وربما يؤكدون ذلك بقولهم : إن العقاب إذا كان لطفا للمكلف فلا بد من أن يعرفه الله تعالى أنه يفعله به ، وإلا كان مخلا بما وجب عليه.

والأصل في الجواب عن ذلك ، هو أن يقال لهم : إن اللطف يجب أن يفعل بالمكلف على أبلغ الوجوه على ما ذكرتموه ، ولكن إذا كان ممكنا ، وهاهنا لا يمكن ، لأنه لا حالة إلا والفاسق يجوز أن يتوب إلى الله تعالى ، ويندم على ما أتى به ويقلع عنه ، فكيف يمكن تعريفه أنه يفعل به العقوبة لا محالة. لو لا صحة هذه الجملة ، وإلا كان يجب أن يعرف أن توبته لا تقبل إذا أقدم على الكبيرة وإن بالغ في الإنابة وبذل الجهد في تلافي ما وقع منه ، فمعلوم أن هذا في باب اللطف أقوى ، ومتى قيل : إن ذلك غير ممكن فلا يجوز ، قلنا : فهلا رضيتم منا بمثله.

وبعد ، فإن اللطف هو ما ثبت له حظ الدعاء والصرف ، ولاحظ للعقاب في ذلك ، وإنما الذي يثبت له هذا الحظ هو العلم باستحقاق العقاب ، فكيف يصح ما ادعوه.

فصل

استحقاق الفاسق للعقوبة :

وقد ذكر رحمه‌الله بعد هذه الجملة أن الفاسق يفعل به ما يستحقه من العقوبة ، وعطف على ذلك القول في أنه يستحق العقوبة.

والترتيب الصحيح في ذلك ، هو أن نذكر أولا أنه يستحق العقوبة ، ثم ترتب عليه الكلام في أنه يفعل به ما يستحقه.

والذي يدل على أن الفاسق يستحق العقوبة قوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) [المائدة : ٣٨] الآية ، ووجه الاستدلال به ، هو أنه تعالى أمر بقطع يد السارق عند حصول الشرائط المعتبرة في هذا الباب عن طريق الجزاء والنكال ، فيجب

٤٣٧

أن يكون مستحقا للعقوبة ، وكذلك فقد قال تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ) [النور : ٢] وهذا يدل على أن الزاني مستحق للعقوبة ، وكذلك فقد قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ) الآية ، واللعن هو الطرد والتبعيد من الرحمة والثواب ، بدليل قول الشاعر :

دعوت به القطا ونفيت عنه

مكان الذئب كالرجل اللعين

ولن يكون ذلك كذلك ، إلا وهو مستحق للعقوبة من جهة الله عزوجل وهكذا فقد قال تعالى : (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) وهذا يدل على ما ذكرناه أيضا.

فإن قيل : كيف يمكن الاستدلال بإقامة الحد على كون المحدود مستحقا للعقاب ، مع أن الحدود كما تقام على الفاسق فقد تقام على التائب ، وعلى هذا يروى أن ما عزا رجم بعد التوبة ، وكذلك لعامرية مع أنها تابت توبة نصوحا رجمت.

قيل له : أول ما في ذلك ، أن هذه مسألة خلاف :

فمن مذهب بعض الفقهاء أن التائب لا يقام عليه الحد ، اللهم إلا إذا كان من حقوق الآدميين نحو القصاص وما جرى مجراه ، هذا أحد قولي الشافعي. فعلى هذا لا كلام.

وإذا قلنا بأنه يقام عليه الحد كما يقام على الفاسق ، كان الجواب عنه : إنا لم نستدل بمجرد الحد على استحقاقه للعقوبة ، بل قلنا : إنه يحد على طريق الجزاء والنكال ، ولن يكون كذلك إلا وهو مستحق للعقوبة ، وليس هذا حال التائب ، فمعلوم أنه لا يحد بالآية جزاء ونكالا ، وإنما يقام عليه الحد تطهيرا على طريق الابتلاء والامتحان ، فيكون سبيل هذه الآلام النازلة به سبيل الأمراض التي ينزلها الله تعالى بالصالحين من عباده ابتلاء وامتحانا.

وأما حديث ماعز والعامرية ، فإن من خالف في إقامة الحد على التائب قال : إن ماعز لم يتب على الحقيقة ، ولهذا لما أخذه حر الحجارة قال : غرني قومي وفر حتى قتله بعضهم بعظم رماه به ، وليس هذا من كلام التائب في شيء ، ويذكر شيئا شبيها بهذا في توبة العامرية ، فالأولى أن نسلك في الجواب على ذلك ما ذكرناه ، وهو أنهما إنما حدا تطهيرا على طريق الابتلاء والامتحان ، لا على سبيل الجزاء والنكال ، فقد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حق العامرية : أنها تابت توبة لو تابها من بين الأخشبين لقبل

٤٣٨

منهم.

فهذا هو الكلام في أن الفاسق يستحق العقوبة من الله تعالى وأنه لا ينفعه ثواب إيمانه بالله تعالى وبرسوله بعد ارتكابه الكبيرة إلا إذا تاب.

الفاسق يفعل به ما يستحقه :

وأما الكلام في أنه يفعل به ما يستحقه ، فالخلاف فيه مع مقاتل بن سليمان وجماعة من الخراسانية والكرامية ، فإنهم يذهبون إلى أن الفاسق لا يعاقب بل لا يعاقب أيضا المشرك ، ويقولون : إن الشرك مما لا معنى له ، غير أنهم لا يظهرون هذا المذهب لكل أحد بل يسرونه.

والذي يدل على فساد مذهبهم هذا ، العقل والشرع.

أما العقل ، فهو أن الفاسق إذا علم أنه لا يعاقب وإن ارتكب الكبيرة كان يكون مغرى على القبيح ، ويكون في الحكم كأن قيل له : افعل فلا بأس عليك.

وأما الشرع ، فهو أن الأمة اتفقت على أن المشرك يعذب بين أطباق النيران ، ويعاقب أبد الآبدين ودهر الداهرين ، فكيف يصح إطلاق القول بأنه لا يعاقب؟

وكما يقع الخلاف في هذه المسألة مع هؤلاء فقد يقع مع طائفة أخرى يقولون : إن الله تعالى يجوز أن يعفو عن الفاسق ، ويجوز أن يعاقب ، ولا ، يعلم حقيقة ذلك وهو الذي تقوله المرجئة الأول.

والذي يدل على فساد هذا المذهب ، طريقان اثنان : أحدهما طريقة مركبة من العقل والسمع ، والأخرى طريقة سمعية.

أما المركبة ، فهي أن الفاسق لا يخلو ، إما أن يدخل الجنة أو النار ، إذ لا دار بينهما. فإن دخل النار فهو الذي نقوله ، وإن دخل الجنة فلا يخلو ، إما أن يكون مثابا أو متفضلا عليه ، لا يجوز أن يكون مثابا لأن إثابة من لا يستحق الثواب يقبح ، ولا يجوز أن يدخل الجنة متفضلا عليه لأن الأمة قد اتفقت على أن المكلف إذا دخل الجنة ، يجب أن يكون حاله متميزا عن حال الولدان المخلدين ، فيجب أن يكون معاقبا على ما نقوله.

وأما السمعية في هذا الباب ، فهو أن يستدل بعمومات الوعيد على ذلك. وإذا

٤٣٩

أردت الاستدلال بها فلا بد أن تبنى ذلك على أصلين : أحدهما ، هو أنه تعالى لا يجوز أن يخاطبنا بخطاب لا يريد به ظاهره ثم لا يدل عليه ولا يبين المراد به ، لأن ذلك يكون إلغازا وتعمية وتورية ، والألغاز والتعمية والتورية مما لا يجوز على الله تعالى ، وذلك ظاهر لا إشكال فيه.

والثاني ، أن في اللغة لفظة موضوعة للعموم ، وذلك فقد اختلف الناس فيه اختلافا شديدا ليس هذا موضع ذكره ، وإنما الذي نذكره هاهنا ، الدلالة على ما اخترناه من المذهب ، وهو أن فيه لفظة موضوعة له.

وتحرير الدلالة على ذلك ، هو أن «ما» و «من» إذا وقعتا نكرتين في المجازات أفادتا العموم والاستغراق ، لأن أهل اللغة أطبقوا على أن قول القائل من دخل داري أكرمته ، بمنزلة قوله : إن دخل داري زيد أكرمته وإن دخل عمر داري أكرمته ، حتى يأتي على جميع العقلاء ، ولن يكون كذلك إلا وهو موضوع للعموم والاستغراق على ما نقوله.

وأيضا ، فإن له أن يستثني من هذا الكلام من شاء من العقلاء ، فيقول : من دخل داري أكرمته إلا فلانا وإلا فلانا ، ولو لا شمول هذه اللفظة للعقلاء واستغراقها لهم ، وإلا كان لا يجوز ذلك ، لأن من حق الاستثناء أن يخرج ما لولاه لوجب دخوله تحته.

وهذا منا استدلال ببعض كلامهم على البعض.

ونظيره ، استدلالنا باستعمالهم لفظة أجسم من الجسم ، على أنه الطويل العريض العميق.

مناقشة حول الاستثناء والعموم والخصوص :

فإن قيل : إن ما ذكرتموه ينبني على أن من حد الاستثناء أن يخرج من الكلام ما لولاه لاحتمله ولصلح له ، لا ما ذكرتموه.

قيل لهم : الذي يدل على صحة ما ادعيناه في الاستثناء ، هو أنه إذا دخل على أسماء الأعداد وأخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله تحته. ألا ترى أن القائل إذا قال : لفلان علي عشرة إلا درهما ، فإنه يكون قد أخرج باستثنائه هذا ما لولاه لشمله ودخل تحته لا محالة ، حتى لو لا هذا الاستثناء لكان يكون مقرا بالعشرة كمّلا ، والآن لم يلزمه بإقراره إلا التسعة ، إذا صح ذلك في الاستثناء وقد دخل على أسماء الأعداد ،

٤٤٠