شرح الأصول الخمسة

عبد الجبّار بن أحمد الهمداني الأسدآبادي

شرح الأصول الخمسة

المؤلف:

عبد الجبّار بن أحمد الهمداني الأسدآبادي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٧

من العلم بتلك الصناعة.

فإن قيل : هب أن القرآن معجزة ، وأن العرب علموا إعجازه لعلمهم بأنه قد تناهى في الفصاحة حدا ، وأنتم فبأي طريق علمتم معناه فيه يا معشر العجم.

كيف يعلم غير العرب إعجاز القرآن.

قلنا : إن العلم بذلك على وجهين : أحدهما علم تفصيل ، والآخر علم جملة ، والعرب علموا ذلك على سبيل التفصيل ، ونحن فقد علمناه على سبيل الجملة.

وطريقته ، هو أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحدى العرب بمعارضته فلم يمكنهم الإتيان بمثله ، فلو لا كونه معجزا دالا على نبوته ، وإلا لما كانت ذلك كذلك.

وإذ قد ثبت إعجاز القرآن ، فاعلم أن للمصطفى عليه‌السلام معجزات أخر سواه ، غير أنا بدأنا بالقرآن الذي لا يبلى على وجه الدهر ولا يندرس على مرور الأيام ، لما كان أظهر من سائر ما نورده في هذا الباب ، ولا يمكن المخالف إنكاره بوجه.

بقية معجزات الرسول

وجملة ما له من المعجزات سوى القرآن ينقسم إلى : ما يعلم ضرورة ، وإلى ما يكون الطريق إليه الاستدلال.

ولا يمكن أن يقال : لو كان في معجزاته ما يعلم ضرورة لاشترك فيه المخالف والموافق ولعلمه كل عاقل ، فإن هذا هو الواجب في الضروريات ، لأن العلوم الضرورية تنقسم إلى : ما يكون من بداية العقول فيجب اشتراك العقل فيه ، وإلى ما يكون مستندا إلى طريقة نحو العلم بمخبر الأخبار ، ونحو العلم بالمدركات وغيرهما ، فإن ما هذا سبيله إنما يجب الاشتراك فيها عند الاشتراك في طريقه ، ولهذا الذي ذكرناه جاز في أصحاب الحديث أن يعلموا تقدم بعض غزوات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على البعض ضرورة ، وإن كان لا يجب أن يعلمه كل واحد ، وهذا ظاهر لا إشكال فيه. إذا ثبت هذا ، فمن معجزاته التي تعد من الضرب الأول : إشباعه العدد الكبير والجم الغفير من الطعام اليسير ، وإشباع جماعة من الطعام لا يمكن إلا بزيادة أجزاء الطعام ، وذلك مما لا يمكن من القادرين بالقدرة ، بلا بد من أن يكون من جهة الله تعالى ، أظهره عليه ليدل على صدقه عليه‌السلام.

فإن قيل : ما أنكرتم أن الهواء استحال طعاما ، لا أنه كثرت أجزاؤه.

٤٠١

وجوابنا ، أول ما في هذا ، أن الهواء لو استحال طعاما على يديه لكان لا بد من أن يكون معجزا له فلا يقدح ذلك فيما قلناه.

وبعد فإن الهواء شيء لطيف ، فكيف يستحيل إلى ما يشبع منه العدد الكبير.

وأيضا ، فلو استحال الهواء هناك حطاما لكان يجب أن يستحيل طعاما في سائر المواضع ، ومعلوم خلافه.

ومن الضرب الأول أيضا ، إجابة الشجرة له حين دعاها ، وعودها إلى مكانهما ، ولا شك في كون ما هذا حاله معجزا دالا على صدق من ظهر عليه.

فإن قالوا : ما أنكرتم أنه كان معه جاذب؟

قلنا : فبأي طريق عادت إلى مكانها؟

فإن قالوا : وكان معه دافع أيضا؟

قلنا : لو كان كذلك ، لكان يجب أن يرى الناس ذلك مع شدة حرصهم على التفحيص عن حاله.

وبعد ، فإن الجاذب والدافع إذا اجتمعا كان يجب أن تقف الشجرة ولا تتحرك من مكانها.

ومن الضرب الأول أيضا ، حنين الجذع ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يخطب على جذع قبل أن ينصب له المنبر ، فلما أن نصب له المنبر تحول إلى المنبر ، فحن الجذع حنين الناقة إلى ولدها ، ولم يسكنها حتى احتضنه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسكن.

فإن قالوا : ما أنكرتم أنه كان في الجذع خروق تتخرق الريح فيه ، فيسمع منه ذلك الصوت شبيها بالحنين؟

قلنا : لو كان كذلك لكان يجب أن يسمع قبل ذلك أو بعده ، ومعلوم أن ذلك لم يكن يسمع إلا في الحال الذي قلناه.

ومن الضرب الأول ، تسبيح الحصى في يده ، فإن ذلك غير مقدور للقادرين بالقدرة. وفي معجزاته عليه‌السلام كثرة لو تكلمنا على جميعها لطال الكلام.

وقد ذكر رحمه‌الله بعد هذه الجملة ، أنه تعالى كما جعل القرآن معجزا دالا على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقد جعله دليلا لنا على الأحكام ، وأوجب علينا الرجوع إليه في

٤٠٢

الحلال والحرام ، فيجب الرجوع إليه والأخذ بما يوجبه ويقتضيه والإيمان به كله ، مجمله ومفصله ، ومحكمه ومتشابهه ، ووعده ووعيده ، وأمره ونهيه.

وذلك كما ذكر ، لأن القرآن إما أن يكون من باب الأقاصيص ، أو الأوامر والنواهي ، أو الوعد والوعيد ، وأي ذلك كله وجب الإيمان به على ما ذكرناه.

أما الأقاصيص ، فلا بد من أن يعتقد صدقه فيها ، سيما وقد علمنا بدلالة العدل أنه لا يجوز عليه الكذب بوجه من الوجوه.

وأما الأوامر والنواهي ، فكذلك إذا علمنا عدله تعالى ، علمنا أنه لا يأمرنا إلا بما هو مصلحة ، ولا ينهانا إلا عما هو مفسدة ، فلزمنا الامتثال بأوامره والانتهاء عن نواهيه.

وكذلك الوعد والوعيد ، فإنا إذا كنا كما نعلم أنه تعالى عدل حكيم لا يلغز ولا يعمى ، ولا يخلف في وعده ووعيده ، فلا بد من أن نعتقد أن ما وعد به المؤمنين من الثواب واصل إليهم لا محالة ، وما توعد به العصاة نازل بهم ، وأنه لا شرط هاهنا ولا استثناء ، إذ لو كان لبيّنه ، فلا يجوز وهو حكيم ، أن يخاطب بخطاب يفيد ظاهره من الأمور ولا يريده به ثم لا يدل عليه ، فهذه جملة ما ذكره في هذا الموضع ولاستقصاء الكلام فيه موضع يخصه.

فصل

شبه الملحدة

وإذا قد عرفت إعجاز القرآن وما يتصل به ، فاعلم أن الملحدة يوردون وجوها من المطاعن فيه.

ومن جملتها ، قدحهم في إعجازه ، وقولهم : إن كل من عرف شيئا من اللغة لا يعجز عن الإتيان بسورة من مثله أو بعشر سور مثله.

وقد تقدم الكلام في ذلك ، فقد بينا أن العرب مع معرفتهم بالفصاحة ، وحرصهم على إبطال أمره ، عجزوا عن الإتيان بمثله ، فلو لا كونه معجزا ، وإلا لما وجب ذلك.

ومنها ، ادعاؤهم أن القرآن يناقض بعضه بعضا ويدافعه ، وقولهم : إن المناقضة ليست بأكثر من أن يثبت بأول الكلام ما ينفي بآخره ، وهذا حال القرآن ، فإن قوله :

٤٠٣

(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (١)) [الإخلاص : ١] يناقض قوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] وهذا يوجب نفي الصانع الحكيم.

ونحن فقد ذكرنا غير مرة أنا لا نكالم الملحدة في مسائل العدل وما يتصل به ، بل ننقل الكلام معهم إلى إثبات الصانع. وعلى أن المناقضة لا تثبت في العبارة المجردة ، وإنما تثبت في العبارة والمعنى جميعا ، ألا ترى أن قائلا لو قال : زيد في الدار وليس زيد في الدار ، فإنه لا يتناقض كلامه ، إذا أراد بأحد الزيدين زيد ابن عبد الله ، وبالزيد الآخر زيد بن خالد ، وهكذا إذا أردنا بأحد الدارين غير ما أراده أولا ، وهكذا لو أراد كونه فيها في وقت وأن لا يكون فيها في وقت آخر.

ثم يقال لهم : لو كان في القرآن التناقض الذي ذكرتموه لكان لا بد من أن تعرفه العرب ، والقوم كانوا أعرف بوجوه المناقضات منكم ، وأن يجعلوا ذلك حجة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودفعا لما أتى به ، سيما وكان يتكرر عليهم قوله تعالى : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء : ٨٢] قالوا : المناقضة في القرآن ظاهرة ، لأن قوله : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (١)) [الإخلاص : ١] يناقض قوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] قيل له ليس الأمر على ما ظننتموه ، فالآيتان تشتركان في الدلالة على تبرئة الله تعالى عن المثل والند ، غير أن الكاف في أحدهما مزيدة ، وكثير ما يوجد ذلك في كلامهم كقول الشاعر : وصاليات ككما يؤثفين.

المحكم من المتشابه

ومنها ، سؤالهم عن وجه الحكمة في أن جعل الله القرآن بعضه محكما ، وبعضه متشابها.

وجوابنا عن ذلك ، أنا نقول لهم : إنا إذا علمنا عدل الله تعالى وحكمته بالدلالة القاطعة التي لا تحتمل ، نعلم أنه لا يفعل ما يفعله إلا وله وجه من الحكمة في أفعاله تعالى ، وقد ذكر أصحابنا في وجه ذلك وجوها لا مزيد عليها.

أحد الوجوه : أنه تعالى لما أن كلفنا النظر وحثنا عليه ، ونهانا عن التقليد ومنعنا منه ، جعل القرآن بعضه محكما وبعضه متشابها ، ليكون ذلك داعيا لنا إلى البحث والنظر ، وصارفا عن الجهل والتقليد.

والثاني : أنه جعل القرآن على هذا الوجه ، ليكون تكليفنا به أشق ، ويكون في

٤٠٤

باب الثواب أدخل ، وذلك شائع ، فإن القديم تعالى إذا كان غرضه بالتكليف أن يعرضنا به إلى درجة لا تنال إلا بالتكليف ، فكل ما كان أدخل في معناه كان أحسن لا محالة.

والثالث : أنه تعالى أراد أن يكون القرآن في أعلى طبقات الفصاحة ليكون علما دالا على صدق النبي عليه‌السلام ، وعلم أن ذلك لا يتم بالحقائق المجردة ، وأنه لا بد من سلوك طريقة التجوز والاستعادة ، فسلك تلك الطريقة ليكون أشبه بطريقة العرب ، وأدخل في الإعجاز.

وهذه الوجوه كلها في غاية الحسن ، ويكفيك الجواب الأول في دفع سؤال الملحدة ، فإن الأصل أن لا نكالمه في مسائل العدل وفي أفعال الله المحتملة ، وهو ينازعك في حدوث الأجسام وإثبات الصانع.

حقيقة المحكم والمتشابه

ونذكر بعد ذلك حقيقة المحكم والمتشابه ، فالمحكم ما أحكم المراد بظاهره ، والمتشابه ما لم يحكم المراد بظاهره بل يحتاج في ذلك إلى قرينة ، والقرينة إما عقلية أو سمعية ، والسمعية إما أن تكون في هذه الآية ، إما في أولها أو آخرها ، أو في آية أخرى من هذه السورة أو من سورة أخرى ، أو في سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى آله وسلم من قول أو فعل ، أو في إجماع من الأمة ، فهذه حال القرينة التي نعرف بها المراد بالمتشابه ونحمله على المحكم. ومشايخنا رحمهم‌الله ، قد بذلوا الجهد في إحكام هذه الأصول بما يضيق عنه هذا الموضع ، فلهذا اقتصرنا على هذا المقدار والله ولي التوفيق.

الرد على الإمامية فيما خالفوا فيه حول القرآن

ونتبع هذه الجملة بخلاف من خالفنا في القرآن ، ففيه أنواع من الخلاف.

منها خلاف جماعة من الإمامية الروافض ، الذين جوزوا في القرآن الزيادة والنقصان وقالوا : إنه كان على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أضعاف ما هو موجود فيما بيننا ، وحتى قالوا : إن سورة الأحزاب كانت بحمل جمل ، وأنه قد زيد فيه ونقص وغير وحرف. وما أتوا في ذلك إلا من جهة الملحدة الذين أخرجوهم من الدين من حيث لا يعلمون.

والذي يدل على فساد مقالتهم هذه ، أن القرآن لو كان يجوز عليه الزيادة

٤٠٥

والنقصان على هذا الحد الذي جوزوه ، لكان لا يكون معجزا دالا على صدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولكان لا يقع لنا الثقة بشيء يتضمنه من الشرائع والأحكام ، لتجويز أن يكون قد تعبدنا بصلاة سادسة ، وبصوم شهر آخر ، وبحج بيت بخراسان ، وكان ما يدل عليها هو الذي لم ينقل إلينا من القرآن. بل كان يجب أن لا نثق بشيء من الأحكام ، لتجويز أن تكون هذه الأحكام كلها منسوخة ، وقد نقل إلينا المنسوخ. وهكذا الكلام إذا جوزنا الزيادة فيه ، فكنا نجوز أن لا يكون غسل الأيدي من واجبات الوضوء ، لتجويز أن يكون قوله : (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) [المائدة : ٦] مزيدة ، وفي ذلك من الفساد ما لا خفاء به.

وبعد ، فلم يخل زمان من الأزمان من لدن الرسول إلى يومنا هذا من جماعة يحفظون القرآن ويدرسونه ويعلمونه الناس ، فكيف يصح مع ذلك الزيادة فيه والنقصان بحيث لا يشعر به الحفظة ومعلوم أنه لو زيد في هذه الكتب التي يتداولها الناس فصل ، أو نقص منها فصل ، لعرفه من كان من أهلها لا محالة وأنكره في الحال.

ومتى قالوا : كيف يصح ما ذكرتموه ، ومعلوم أن عثمان هو الذي تلقف القرآن من الصحابة آية آية ثم تولى جمعه ، وأنه كان متفرقا في الصحابة لا يدري عدد سوره ولا آياته.

قلنا : لم يكن الأمر على ما ذكرتموه فقد كان في الصحابة جماعة يحفظون القرآن ، نحو أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وأبيّ بن كعب ، ولهذا يروى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ على أبيّ القرآن ، وكذلك فقد روى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأبيّ : أي سورة تقرأ في الصلاة؟ فقال : فاتحة الكتاب ، فقال : هو السبع المثاني. ولو كان الأمر على ما ظنوه لكان لا تصح هذه الجملة. وأيضا ، فروي أن الصحابة كانوا يختمون القرآن في التراويح على عهد عمر ، فلو لا أنه كان فيهم من يحفظه وإلا كان لا يتهيأ لهم ختمه ، وكذلك فقد روي أنه لما نزلت سورة التوبة قال النبي : أثبتوها آخر سورة الأنفال ، فكيف يصح والحال هذه أن يدعي أن المتولي لجمع القرآن إنما هو عثمان ، وأنه قد تلقفه آية من هذا وآية من ذاك؟ وهل هذا إلا دعوى لا تقوم بصحته حجة.

ومن الخلاف في القرآن ، خلاف من يقول إنه مما لا يمكن معرفة المراد بظاهره البتة ، وإنما تعبدنا بتلاوته لما لنا في ذلك من النفع.

٤٠٦

الرد على من يدعي أنه لا يعرف المراد بظاهر القرآن :

وذلك مما لا إشكال في فساده ، فالغرض بالكلام إنما هو الإفهام ، وما عداه من الأغراض يتبعه ، فإذا لم يتعلق به هذا الغرض كان معدودا في العبث. على أن المعلوم من دين الأمة ضرورة خلافه ، وأنهم كانوا يرجعون إلى ظواهر القرآن في معرفة الأحكام من الحلال والحرام ، فلو لا أنه مما يمكنهم معرفة المراد بظاهره وإلا كان لا يكون في رجوعهم إليه معنى.

وأيضا ، فمعلوم من دين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليه أنا متعبدون بمعرفة الأحكام ، وأن كتاب الله هو الأصل المرجوع إليه في معرفتها. فلو لم يمكن معرفة المراد به البتة ، لكان يكون التكليف بذلك تكليفا لما لا يطاق ، وذلك قبيح لا يليق بالقديم جل وعز.

وبعد ، فلا بد في الرسول من أن يكون قد عرف المراد به ، فلا يخلو ، إما أن يكون قد عرفه ضرورة ، والاضطرار إلى قصد الله تعالى مع أن ذاته معلوم بالاستدلال محال ، فليس إلا أن يكون قد عرفه بظاهر ، لعلمه باللغة وما يحتاج إليه ، وهذا يوجب في غيره أن يشاركه في العلم بما يراد في القرآن ، إذا شاركه في العلم العربية وما يجوز على الله تعالى وما لا يجوز ، فلا وجه لتطويل الكلام في هذا الفصل فقد بلغ في الوضوح النهاية.

ولعل شبهة هؤلاء الذين أنكروا أن يعرف بظاهر القرآن شيء قوله تعالى : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) [آل عمران : ٧] وظنهم أن قوله تعالى : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) مبتدأ غير معطوف على الأول ، وذلك مما لا وجه له ، لأن قوله تعالى : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) ، معطوف على الله تعالى ، فتكون الآية بأن تكون دلالة لنا أولى.

وفرقة أخرى قالت : إن القرآن مما لا يمكن معرفة المراد به ، فإن الألفاظ محتملة ، فما من لفظ من الألفاظ إلا ويجوز أن يراد به الخصوص كما يجوز أن يراد به العموم ، وإذا كان هذا هكذا فلا بد من أن نتوقف ، وننتظر القرينة المميزة للعام من الخاص ، والخاص من العام ، وهؤلاء يسمون أصحاب الوقف.

والذي يدل على فساد مقالتهم ، ما ذكرناه من أن الصحابة كانوا يرجعون إلى ظواهر الكتاب ولا ينتظرون إلى ما ذكروه. وأيضا ، فإن هذا القول يخرج القرآن من أن يكون موصوفا بشيء مما وصفه الله تعالى ، نحو كونه هدى وبيانا وشفاء نورا. وكذلك ففي قولهم هذا تكذيب لله تعالى ، لأن الله تعالى يقول : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ)

٤٠٧

[الأنعام : ٣٨] ولا تفريط أعظم من الإتيان بما لا يمكن معرفة المراد به البتة ، بل لا بد من انتظار القرينة ، ويقال لهم أيضا : إن القرينة لا بد من أن تكون من قبيل الكلام ، فبأي شيء يعرف المراد به؟ فلا بد من أن يقولوا : بظاهرة أو بقرينة أخرى ، فإن جوزوا أن يعرف المراد بظاهره فهلا قالوا بذلك في القرآن حتى لا يحتاجوا إلى القرينة ، وإن قالوا بقرينة أخرى أعدنا عليهم السؤال في تلك القرينة.

خلاف المرجئة :

ومما يذكر هاهنا أيضا ، خلاف المرجئة الذين أنكروا أن يكون للعموم لفظة موضوعة له. وقالوا : ليس يجوز في عمومات الوعيد أن تحمل على الشمول والاستغراق ، فلا لفظة موضوعة لهذا المعنى.

والكلام في ذلك يختص باب الوعد والوعيد ، غير أنا نشير هاهنا إليه ، فنقول : إن القائل إذا قال : من دخل داري أكرمته صح له أن يستثني أي رجل شاء ، حتى إن شاء استثنى منه زيدا ، وإن شاء عمرا ، وإن شاء بكرا ، أو خالدا ، فلو لا أن هذه اللفظة موضوعة للعموم وإلا كان فيه الاستثناء على الحد الذي ذكرناه ، لأن من حق الاستثناء أن يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله تحته.

والقوم ، فقد أنكروا ألفاظ العموم وقالوا : لو كانت هذه الألفاظ موضوعة للعموم لم يصح استعمالها في الخصوص الذي هو نقيضه ، فلما جاز ذلك دل على أنها غير موضوعة له البتة.

وجوابنا ، إن قدح هذا في أن يكون هذا اللفظ موضوعا للعموم ليقدحن أيضا في أن تكون العشرة موضوعة لهذا العدد المخصوص ، فإن لك أن تقول : عليّ لفلان عشرة إلا درهما ، فتكون قد أردت التسعة دون العشرة.

ومتى قيل : فما وجه التأكيد فيه أن لو كان موضوعا للعموم؟ قلنا : إن التأكيد لا يقدح في عمومه ، إذ لو قدح فيه ليقدحن أيضا في الخصوص ، ومعلوم أن القائل كما يقول لقيت القوم أجمعين؟ فقد يقول أيضا : جاءني زيد نفسه ، فليس إلا أن يعتمد ما قلناه.

ومما يذكر في هذه الجملة أيضا ، خلاف المرجئة إذا قالوا : ليس يجب أن تحمل عمومات الوعيد على عمومها ، فمن الجائز أن يكون هاهنا شرط أو استثناء لم يبينه الله

٤٠٨

تعالى.

وذلك مما لا وجه له أيضا عندنا ، فإنه تعالى لا يجوز أن يخاطبنا بخطاب يريد به غير ما يقتضيه ظاهره ثم لا يدل عليه ، لأن ذلك يقدح في حكمته ويصير ملغزا معميا.

ويقال لهم أيضا : لو جاز أن يكون في عمومات الوعيد شرط أو استثناء لم يبينه الله تعالى ، لجاز مثله في عمومات الوعد ، بل كان يجوز مثله في الأوامر والنواهي ، والمعلوم خلافه.

فإن قالوا : لا تكليف علينا في عمومات الوعيد ، وليس كذلك الحال في الأوامر والنواهي ، قلنا : ليس الحال على ما ظننته في عمومات الوعيد تكليفا ، وهو أن نعتقد أنه تعالى لا يخلف في وعده ولا في وعيده ولا يغير قوله ولا يبدله ، كما أخبر به حيث يقول : (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩)).

فصل

وقد أورد رحمه‌الله بعد هذه الجملة فصلا ، وجملة ما يجب أن يحصل فيه الكلام في الصفة التي يجب أن يكون عليها المفسر لكتاب الله عزوجل.

شروط المفسر لكتاب الله :

اعلم أنه لا يكفي في المفسر أن يكون عالما باللغة العربية ، ما لم يعلم معها النحو والرواية ، والفقه الذي هو العلم بأحكام الشرع وأسبابها ، ولن يكون المرء فقيها عالما بأحكام الشرع وأسبابها إلا وهو عالم بأصول الفقه ، التي هي أدلة الفقه والكتاب والسنة والإجماع والقياس والأخبار وما يتصل بذلك. ولن يكون عالما بهذه الأحوال إلا وهو عالم بتوحيد الله تعالى وعدله ، وما يجب له من الصفات وما يصح وما يستحيل ، وما يحسن منه فعله وما لا يحسن بل يقبح ، فمن اجتمع فيه هذه الأوصاف وكان عالما بتوحيد الله وعدله وبأدلة الفقه وأحكام الشرع ، وكان بحيث يمكنه حمل المتشابه على المحكم والفصل بينهما ، جاز له أن يشتغل بتفسير كتاب الله تعالى ، ومن عدم شيئا من هذه العلوم فلن يحل له التعرض الكتاب الله جل وعز ، اعتمادا على اللغة المجردة ، أو النحو المجرد ، أو الرواية فقط.

يبين ما ذكرناه ويوضحه ، أن المفسر لا بد من أن يكون بحيث يمكنه حمل قوله

٤٠٩

تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) على قوله : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (١)) وقوله : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) إلى قوله : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦)) وهكذا الحال في غيرهما من الآيات المتشابهة والمحكمة.

فهذا هو الذي يجب أن يكون عليه المفسر من الأوصاف.

وأما من عداه من المكلفين ، فالذي يلزمه في القرآن أن يعتقد أنه كلام رب العزة على ما قاله جل وعز : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) وأن محكمه يوافق متشابهه ، وأنه لا تناقض فيه ولا كذب ، وأنه محروس عن المطاعن ، لا زيادة فيه ولا نقصان ، وأن يؤمن به على الجملة.

إن سأل سائل فقال : أليس من مذهبكم أن القرآن مما يعرف المراد بظاهره ، فكيف احتاج والحال ما قلتموه إلى التفسير وهلا دلكم ذلك على ما قاله أصحاب الوقف والروافض ، الذين يقولون : إنه مما لا يعلم تأويله ولا المراد بظاهره.

قيل له : إن احتياج القرآن إلى مفسر بلفظ أوضح منه مما لا يخرجه عن إمكان أن يعرف المراد بظاهره ، لو لا ذلك وإلا كان لا يمكن المفسر أن يفسره وكان لا يكون التفسير تفسيرا له ، فما ذكرتموه غير قادح فيما قلناه. وإنما احتيج إلى تفسير القرآن ، لأن دعوة النبي عليه‌السلام انتشرت في عالم الله تعالى وبلغت العالم ولم تقتصر على العرب ، فلم يكن بد من أن نفسر لهم ذلك حتى يمكنهم معرفته ، كما أنا إذا أردنا أن نفهم العرب ما نقوله بلساننا فلا يمكننا ذلك إلا بأن نفسره لهم ، كذلك هاهنا.

فهذه جملة الكلام في الأصل الثاني.

٤١٠

الأصل الثالث

الوعد والوعيد

٤١١
٤١٢

الأصل الثالث من الأصول الخمس وهو الكلام في الوعد والوعيد

كان يجب أن نذكر حقيقة الوعد والوعيد على العادة ، غير أنا قد ذكرناه فيما تقدم فلا نعيده ، ونشتغل بما يختص هذا الموضع.

وجملة الكلام في هذا الباب يقع في ثلاثة مواضع :

أحدها : الكلام في المستحق بالأفعال.

والثاني : الكلام في الشروط التي معها تستحق.

والثالث : الكلام في كيفية الاستحقاق ، أهو على طريق الدوام ، أم على طريق الانقطاع.

المستحق بالأفعال :

أما المستحق بالأفعال ، فهو المدح والذم وما يتبعهما في الثواب والعقاب ، ولكل واحد في هذه الألفاظ معنى.

أما الذم ، فهو قول ينبئ عن اتضاع حال الغير ، وهو على ضربين :

الذم وضرباه :

ضرب يتبعه العقاب من جهة الله تعالى ، وذلك لا يستحق إلا على المعصية ، وحقيقة المعصية فعل ما يكرهه الغير مع نوع من الرتبة. وهو أن يكون العاصي دون المعصى ، ولهذا لا يقال عصى الأمير فلانا كما يقال عصى فلان الأمير ، ولا يفهم من إطلاق هذه الكلمة غير معصية الله تعالى ، حتى أنك لو أردت غيرها لقيدت فقلت : عصى فلان أباه أو جده أو الأمير ، إلى غير ذلك.

وضرب لا يتبعه العقاب من جهة الله تعالى.

٤١٣

المدح :

وأما المدح فمعناه ، قول ينبئ عن عظم حال الغير ، وينقسم أيضا إلى :

ما يتبعه الثواب من جهة الله تعالى ، وما لا يتبعه الثواب.

وما يتبعه الثواب من جهة الله تعالى فإنه لا يستحق إلا على الطاعة ، وحقيقة الطاعة قد مر في غير هذا الموضع.

وأما ما لا يتبعه الثواب ، فهو المدح المقابل للنعمة ، المستحق ، فهذا فهو حقيقة هذه الألفاظ.

الشروط التي تستحق بها الأحكام :

وأما الكلام في الشروط التي معها تستحق هذه الأحكام ، فاعلم : أنا قد ذكرنا أن الذم ينقسم إلى ما يتبعه العقاب من جهة الله ، وإلى ما لا يتبعه العقاب.

ما يتبعه العقاب فالشرط في استحقاقه شرطان : أحدهما يرجع إلى الفعل ، والآخر يرجع إلى الفاعل. ما يرجع إلى الفعل فهو أن يكون قبيحا ، وما يرجع إلى الفاعل ، فهو أن يعلم قبحه أو يتمكن من العلم بذلك ، ولهذا قلنا : إن الصبي لا يستحق على فعل القبيح الذم لما لم يكن عالما بقبحه ، ولا متمكنا من العلم بذلك.

وقلنا : إن الخارجي يستحق الذم على قتل المسلم وإن كان قد اعتقد أنه حسن ، لما كان متمكنا من العلم بقبحه ، هذا في الذم الذي يتبعه العقوبة في جهة الله تعالى.

وما لا يتبعه العقوبة من جهة الله تعالى فإن الشرط في استحقاقه أيضا شرطان : أحدهما يرجع إلى الفعل ، وهو أن يكون إساءة ، والآخر يرجع إلى الفاعل وهو أن يكون قد قصد بفعلها الإساءة إليه.

وكما ذكرنا : إن الذم قسمان على ما ذكرنا : فقسم منه يتبعه العقاب ، وقسم منه لا يتبعه ذلك. فكذلك المدح أيضا قسمان على ما ذكرنا ، فقسم يتبعه الثواب من جهة الله تعالى ، والشرط في استحقاقه شرطان : أحدهما ، يرجع إلى الفعل وهو أن تكون له منفعة زائدة على حسنه ، والآخر يرجع إلى الفاعل وهو أن يكون عالما بأن له صفة زائدة على حسنه ، فلا بد من اعتبارهما معا كما في الذم ، ولهذا قلنا : إلى الصبيان لا يستحقون على أفعالهم المدح ، لما لم يعلموا أن لها صفة زائدة على الحسن.

وأما ما لا يتبعه الثواب من جهة الله تعالى ، فالشرط فيه أيضا شرطان : أحدهما ،

٤١٤

يرجع إلى الفعل ، والآخر يرجع إلى الفاعل. والراجع إلى الفعل فهو أن يكون إحسانا ، والراجع إلى الفاعل هو أن يكون قاصدا به وجه الإحسان إليه.

وهذه هي الشروط التي معها يستحق المدح والذم على الأفعال.

وأما الشروط في استحقاق الثواب والعقاب على الأفعال فكالشروط في استحقاق المدح والذم عليهما ، غير أنه لا بد في اعتبار شرط آخر فيهما ، وهو أن يكون الفاعل ممن يصح أن يثاب ويعاقب ، وإن شئت قلت الشرط : هو أن يكون الفاعل ممن يفعل ما يفعله لشهوة أو شبهة ، ولذلك قلنا : إن الهنود يستحقون على إحراقهم أنفسهم العقوبة من جهة الله تعالى وإن كانوا لا يفعلون ما يفعلونه لشهوة بل لشبهة اعترضتهم ، وهو أنهم يتخلصون بذلك من عالم الظلمة إلى عالم النور ، وإنما لم يكن بد من اعتبار هذا الشرط ، لأنه لو لم يعتبر للزم استحقاق القديم تعالى العقوبة ، ومعلوم أنه لو قدر وقوع القبيح من جهته لم يستحق العقوبة ، وإن استحق الذم ، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.

فهذه جملة الشروط التي يجب اعتبارها في ذلك.

فإن قيل : هذه الشروط المعتبرة في استحقاق المدح والذم والثواب والعقاب ، فما المؤثر في ذلك؟ قيل له : فعله القبيح هو المؤثر ، وما عداه شرط.

وإنما قلنا : إن هذا هكذا ، لأنه لا يجوز في علمه بقبح القبيح أو تمكينه من ذلك أن يكون مؤثرا في استحقاق العقاب ، فإن ذلك مما يكون من قبل الله تعالى ، وفعل الله تعالى لا يجوز أن يستحق عليه العقوبة ، وإنما يستحق العقاب على ما يفعله لا غير ، هذا في الذم والعقاب.

المؤثر في استحقاق المدح والثواب :

وأما المؤثر في استحقاق المدح والثواب ، فهو فعله للواجب ، واجتنابه للقبيح وما يجري هذا الجري ، وما عداه شرط فيه.

وإذ قد عرفت هذه الجملة ، فاعلم أنه تعالى إذا كلفنا الأفعال الشاقة فلا بد من أن يكون في مقابلها من الثواب ما يقابله ، بل لا يكفي هذا القدر حتى يبلغ في الكثرة حدا لا يجوز الابتداء بمثله ولا التفضل به ، وإلا كان لا يحسن التكليف لأجله.

وإنما قلنا : إن هذا هكذا ، لأنه لو لم يكن في مقابلة هذه الأفعال الشاقة ما

٤١٥

ذكرناه ، كان يكون القديم تعالى ظالما عابثا على ما تقدم عند الكلام في الآلام والأعواض.

فإن قيل : هلّا كفى أن يستحق المكلف في مقابله هذه الأفعال الشاقة المدح؟ قيل له : لا ، لأن المدح لا يقع به الاعتداد متى تجرد عن نفع يتبعه.

وأيضا ، فإن المدح لا يستحق من الله تعالى على الخصوص ، بل القديم وغير القديم سواء في استحقاق المدح من جهته ، وما يستحق في مقابلة التكليف فلا بد من أن يكون من فعل الله تعالى.

ومتى قالوا : هلّا كفى المدح من جهة الله تعالى؟ قلنا : لا يقع الاعتداد به أيضا على ما ذكرناه.

فإن قيل : كيف يصح قولكم هذا ومعلوم أن أحدنا يبذل جهده حتى يحمد السلطان أمره ويمدحه ولا يبالي بما يتحمله من المشاق في ذلك؟ قيل له : إنما يرغب في ذلك لما يرجو في الجاه والحشمة حتى لو تجرد المدح فإنه لا يرضى به ولا يختاره.

فإن قيل : أو ليس العرب بذلوا مهجهم وأموالهم طلبا للمدح والذكر ، حتى عدوا الذكر عمرا ثانيا؟ قلنا لهم : إن ذلك أحد جهالاتهم التي يوصفون بها ، وعلى كل حال فلا بد أن يكونوا اعتقدوا في ذلك نفعا يزيد على ما يلحقهم من المشاق ، وصار ذلك كإيصائهم بعقر بعير وحبس فرس أو جمل على قبورهم ، وبنصب الرماح ووضع السيوف ، عليها ، كل ذلك لما يعتقدون فيه في النفع العظيم.

وبعد ، فلو لم يكن في هذه الأفعال مشقة ، وكنا نأتي بالواجبات ونتجنب القبائح لاستحققنا المدح ، وإذا اعتراك في الواحد منا شك فلا شبهة في أنه تعالى يستحق المدح على فعل الواجب وترك القبيح ، وإن كان لا تلحقه مشقة ، فلا بد إذا من أن يكون بإزاء هذه المشقة ما يقابلها وهو الثواب على ما نقوله.

وبعد ، فإن المدح مما يمكن إيصاله إلى مستحقه من دون الإعادة ، فكان لا يثبت للإحياء بعد الإماتة وجه ، وفي علمنا بأنه تعالى يعيد الإحياء بعد الإماتة قطعا دليل على أنه لا بد من استحقاق الثواب ، الذي لا يمكن إيصاله إليهم إلا بالإعادة ، وهذا أيضا وجه.

٤١٦

وعلى هذا يجري الجواب على قولهم : هلا جاز في المستحق على هذه الأفعال الشاقة أن يكون من جنس السرور ، لأن السرور متى تجرد عن نفع ، لا يعتد به على ما ذكرناه.

فإن قيل : كيف يصح قولكم : إن الثواب إنما يستحق على الأفعال الشاقة ، ومعلوم أن أحدنا يستحق الثواب على ما لا مشقة فيه ، نحو معرفة الله تعالى وغير ذلك ، وكذلك فإن التقى الصالح ربما لا تلحقه بهذه الطاعات كثير مشقة ، لما قد تعوده وألفه ، ثم لم يخرج بذلك عن استحقاق الثواب عندكم.

قيل له : إنا لم نوجب أن يكون في نفس الفعل مشقة ، بل يجوز أن يكون فيه أو في سببه ، أو في مقدمته ، أو فيما يتبعه ويتصل به ، ولا شبهة في أن معرفة الله تعالى بهذه المنزلة فإنها وإن لم يثبت فيها مشقة ففي سببها وهو الفكر من المشقة ما لا يخفى ، وأيضا فإن المحافظة عليها وتوطين النفس على حل الشبهة ودفع الخصوم مشاق عظيمة ، بل لو قيل : بأن ما تتضمنه معرفة الله تعالى من المشقة ، لا يتضمنه غيرها في الأفعال لكان ممكنا ، فكيف يصح ما ذكروه.

وقولهم : إن البر التقي ربما لا يلحقه مشقة في أداء هذه الطاعات واجتناب المعاصي فكيف استحق عليه الثواب بما لا معنى له ، فإن هذه الأفعال مما لا تعرى عن مشقة فيها أو فيما يتصل بها على ذكرنا ، غير أنه من حيث راض نفسه على ذلك بأن وضع بين عينيه ما يستحقه على الاشتغال بخلافها من العقاب ، وما يستحقه على الإتيان بها من الثواب ، سهل ذلك عليه ، وصار كالتاجر الذي جعل ما يناله من الربح في تلك التجارة نصب عينيه ، فإنه والحال هذه يسهل عليه ما يناله من مشاق السفر وغيره ، كذلك هاهنا ، وعلى هذا المعنى قال الله تعالى : (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ).

وعلى هذه الطريقة يجري الجواب عن قولهم : ألستم قد رويتم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أن أحدنا يؤجر على قضاء وطره من الحلال ، ومعلوم أنه لا مشقة في ذلك ، فإنا نقول : ليس يجب أن تكون المشقة في ذلك نفسه ، بل يكفي أن تتعلق بتوطين النفس على الاقتصار عليها وأن لا يتجاوزها إلى من هي أشهى إليه منها ، فعلى هذا يجري الكلام عندنا في استحقاق الثواب من جهة الله تعالى.

مخالفة أبي القاسم :

وأما شيخنا أبو القاسم ، فقد خالف في هذه الجملة ، وقال : إن القديم تعالى إنما

٤١٧

كلفنا هذه الأفعال الشاقة لما له علينا من النعم العظيمة فإن ذلك غير ممتنع ، فمعلوم أن من أخذ غيره من قارعة الطريق فرباه وأحسن تربيته وخوله وموله وأنعم عليه بضروب من النعم ، جاز له أن يكلفه فعلا يلحقه بذلك مشقة ، نحو أن يقول : ناوليني هذا الكوز ، أو تمم لي هذا السطر ، ولا يجب أن يغرم في مقابل ذلك شيئا آخر ، كذلك في القديم تعالى فنعمه عندنا لا تحصى وأياديه لدينا لا تحصر ولما ذهب في ذلك إلى ما ذكرناه قال : إنه إنما يثبت المطيعين لا لأنهم استحقوا ذلك ، بل للجود.

والأصل في الجواب عليه أن يقال : إن القديم تعالى إذا جعل هذه الأفعال الشاقة علينا وكان يمكنه ألا يجعلها كذلك ، فلا بد من أن يكون في ذلك من الثواب ما ذكرناه. واستشهاده بالواحد منا ، وأنه إذا أنعم على الغير بضروب من النعم فإنه يحسن منه أن يكلفه ما يلحق به مشقة نحو أن يقول له : ناولني هذا الكوز أو ما يجري هذا المجرى فلا يصح ، لأنه إنما يحسن منه ذلك في الموضع الذي لا يتبين للإنسان فيه كبير مشقة ، وليس كذلك سبيل ما كلفنا الله تعالى ، ففي ذلك ما يتضمن الجود بالنفس ، والمخاطرة بالروح فلا يقاس بما أورده ، ولهذا فلو كلف المنعم الذي وصفه المنعم عليه بما يتضمن المشقة العظيمة ، نحو المواظبة على خدمته والقيام بين يديه آناء الليل والنهار وما شاء كل ذلك ، لم يحسن إليه ، بل كان يكون للمنعم عليه أن يقول : كان من حقك ألا تتفضل عليّ بالأول حتى لا تأخذني بهذه التكاليف من بعد.

أما قوله في الثواب ، وأنه يجب إيصاله إلى المطيعين من حيث الجود ، فظاهر التناقض ، لأن الجود هو التفضل ، والتفضل هو ما يجوز لفاعله أن يفعله وأن لا يفعله ، والواجب هو ما لا يجوز له أن لا يفعله ، فكيف يقال : إن هذا يجب من حيث الجود ، وهل هذا إلا بمنزلة أن يقال : يجب أن يفعل ولا يجب أن يفعل ، وذلك محال.

وإذ قد بينت هذه الجملة ، فالذي نعلمه من حال الثواب المستحق من جهة الله تعالى ، أنه لا بد من أن يكون من جنس الملاذ ، فأما أن يكون بالمآكل والمشارب والمناكح ، فإن طريقة السمع ، ويمكن أن نعلمه أيضا بترغيب الله تعالى فيه ، فيقال : لو لم يكن من قبيل ما قد اشتهيناه في الدنيا لكان لا يصح فيه الترغيب ، فهذا هو الذي نقوله في استحقاق الثواب.

استحقاق العقاب :

وأما استحقاق العقاب ، فالذي يدل عليه العقل والسمع أيضا.

٤١٨

أما الدلالة العقلية في ذلك ، فدلالتان :

إحداهما : أن القديم تعالى أوجب علينا الواجبات والاجتناب عن المقبحات ، وعرفنا وجوب ما يجب وقبح ما يقبح ، فلا بد من أن يكون لهذا التعريف والإيجاب وجه ، ولا وجه له إلا أنا إذا أخللنا به أو أقدمنا على خلافه من قبيح ونحوه استحققنا من جهته ضررا عظيما.

فإن قيل : ولم لا يجوز أن يكون الوجه في ذلك ، أنا إذا أخللنا به وأقدمنا على خلافه استحققنا الذم من الله تعالى ومن جهة العقلاء.

قيل له : إن الذم إذا تعرى عن ضرر يتبعه لم يحتفل به ، ولهذا لا نبالي بذم هؤلاء المخالفين لنا لما لم يتبعه مضرة.

فإن قيل : هلا جاز أن يكون الوجه في الإيجاب هو لكي يستحق من جهته الثواب.

قيل له : لا ، لأن الثواب نفع وطلب النفع لا يجب ، فالإيجاب لأجله لا يحسن ، لو لا ذلك وإلا كان يحسن منه إيجاب النوافل ، فإن بها أيضا يستحق الثواب ، ومعلوم خلافه.

فإن قيل : هلا حسن منه هذا الإيجاب لوجوب هذه الواجبات؟ قيل له : إن وجوب الشيء في نفسه لا يكفي في حسن الإيجاب ، ولهذا فإن من خوفه السلطان بقطع عضو من أعضائه إن لم يشاطره على ماله ، فإنه يجب عليه أن يشاطره على ما له وإن كان لا يحسن من السلطان ذلك الإيجاب.

فإن قيل : يلزم على هذا تجويز أن يوجب الله تعالى القبائح ، ويقبح الواجبات ، ومتى امتنعتم من ذلك فلا ذلك : إلا لأن الإيجاب إنما يجوز ويحسن لوجوب الشيء في نفسه. قيل له : إن ما ذكرته مما لا يلزمنا ، لأنا قلنا ، لا يكفي وجوب الشيء في حسن الإيجاب ، بل لا بد من اعتبار أمر آخر وهو استحقاق الضرر إن أخللنا به ، وإنما كان يلزم ذلك ، أن لو قلنا : لا يجب فيما أوجبه الله تعالى أن يكون واجبا أصلا ، وذلك مما لم نقله ، فهذه دلالة.

والدلالة الثانية : ما قاله الشيخ أبو هاشم ، وتحريرها ، أن القديم تعالى خلق فينا شهوة القبيح ونفرة الحسن ، فلا بد من أن يكون في مقابلته من العقوبة ما يزجرنا عن

٤١٩

الإقدام على المقبحات ، ويرغبنا في الإتيان بالواجبات ، وإلا كان يكون المكلف مغرى بالقبح والإغراء بالقبيح لا يجوز على الله تعالى.

فإن قيل : إن بالذم يزول الإغراء ويثبت الخوف ، قيل له : قد مضى ما هو جواب عن ذلك ، فقد ذكرنا أن الذم المجرد مما لا يقع به الاعتداد.

فإن قيل : إن ظن العقاب والخوف منه يزيل الإغراء ، فمن أين قطعتم على استحقاق العقوبة من جهة الله تعالى؟ قيل إن ظن العقاب إنما يؤثر في زوال الإغراء متى كان استحقاق العقاب معلوما ثم ظن أنه يفعل به ما يستحقه ، فحينئذ يؤثر في زوال الإغراء ، فأما على خلاف هذه الطريقة فلا. وعلى هذا فإن أحدنا لو أخبر بأن في الطريق سبعا ، فإنه يخاف سلوك ذلك الطرق متى علم مضرة السبع قطعا ، وأنه من الأجناس المضرة المؤذية ، ثم يظن أنه إن سلك تلك الطريق ربما يناله ضرر ، فحينئذ يصرفه ذلك عن سلوك تلك الطريق ، فأما ذلك إذا لم يكن الحيوان من الأجناس المؤذية ، ولا يكون هناك مضرة معلومة ، فإنه مما لا يصرفه من سلوكها ، كذلك هاهنا ، وهذا هو الطريق العقلي.

أما الدلالة السمعية في ذلك ، فهو أنه تعالى وعد المطيعين بالثواب ، وتوعد العصاة بالعقاب ، فلو لم يجب لكان لا يحسن الوعد والوعيد بهما ، وقد اعتمد هذه الطريقة أبو القاسم الموسوي ، وقال : لا يصح الاعتماد على غيرها في ذلك ، ونحن قد ذكرنا أن الدلالة العقلية في هذا الباب كالدلالة السمعية في إمكان الاعتماد عليها.

شبه الملحدة :

وقد تعلقت الملحدة في ذلك بشبه وهي أن قالوا : إن غرض القديم بالتكليف نفع المكلف فإذا لم ينتفع المكلف بتكليف الله تعالى إياه ، فليس يجوز أن يعاقب ، وأكثر ما فيه أنه فوت على نفسه النفع ، فكيف يحسن من الله تعالى أن يعاقبه لذلك ، وصار الحال فيه كالحال في الأجير إذا فوت الأجرة على نفسه بأن ترك العمل ، فكما أنه لا يحسن من المستأجر أن يجرده للسياط لتفويته الأجرة على نفسه ، كذلك هاهنا.

وجوابنا ، أن الله تعالى لا يعاقب المكلف لأجل أنه فوت على نفسه النفع بالتكليف ، وإنما يعاقبه لإقدامه على القبيح وإخلاله بالواجب ، ذلك وجه استحقاق العقاب كما في الذم ، ألا ترى أن العقلاء لا يذمون المخل بالواجب والفاعل للقبيح على تفويت النفع بالواجب على نفسه ، وإنما يذمونه لإخلاله بالواجب وإقدامه على

٤٢٠