شرح الأصول الخمسة

عبد الجبّار بن أحمد الهمداني الأسدآبادي

شرح الأصول الخمسة

المؤلف:

عبد الجبّار بن أحمد الهمداني الأسدآبادي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٧

وربما قالوا : إن ما أتى به الأنبياء لا يخلو ، إما أن يكون موافقا للعقل ففي العقل غنية عنه وكفاية ، أو مخالفا له ، وذلك ما يوجب أن يرد عليهم وأن لا يقبل منهم.

وربما قالوا : إنه تعالى إذا بعث إلينا رسولا فلا بد من أن يظهر عليه علما معجزا دالا على نبوته ليكون فرقا بينه وبين المتنبي ، ولا يمكننا أن نميز بين المعجز والحيلة بوجه ، لأنه ما من معجز إلا ويجوز أن يكون من باب الشعوذة وخفة اليد وما جرى مجراها ، فيجب أن لا يقبل قولهم ويعتمد على العقول.

والأصل في هذا الباب أن نقول : إنه قد تقرر في عقل كل عاقل وجوب دفع الضرر عن النفس ، وثبت أيضا أن ما يدعو إلى الواجب ويصرف عن القبيح فإنه واجب لا محالة ، وما يصرف عن الواجب ويدعو إلى القبيح فهو قبيح لا محالة ، إذا صح هذا ، وكنا نجوز أن يكون في الأفعال ما إذا فعلناه كنا عند ذلك أقرب إلى أداء الواجبات واجتناب المقبحات ، وفيها ما إذا فعلناه كنا بالعكس من ذلك ، ولم يكن في قوة العقل ما يعرف به ذلك ويفصل بين ما هو مصلحة ولطف وبين ما لا يكون كذلك ، فلا بد من أن يعرفنا الله تعالى حال هذه الأفعال كي لا يكون عائدا بالنقص على غرضه بالتكيف. وإذا كان لا يمكن تعريفنا ذلك إلا بأن يبعث إلينا رسولا مؤيدا بعلم معجز دال على صدقه فلا بد من أن يفعل ذلك ، ولا يجوز له الإخلال به ، ولهذه الجملة قال مشايخنا : إن البعثة متى حسنت وجبت على معنى أنها متى لم تجب قبحت لا محالة ، وأنها كالثواب في هذا الباب ، فهو أيضا مما لا ينفصل حسنه عن الوجوب ، فهذا فصل.

فصل آخر

وهو أن تعلم أن الأفعال ما من شيء منها إلا ويجوز أن يقع على وجه فيحسن ، وعلى خلاف ذلك الوجه فيقبح ، وأما أن نحكم على فعل من الأفعال بالقبح والحسن بمجرده ، فلا. إذا أثبت هذان الأصلان بطل قول من قال : إن هؤلاء الرسل إن أتوا بما في العقل ففي العقل كفاية عنهم ، وإن أتوا بخلافه فيجب أن يكون قولهم مردودا عليهم غير مقبول منهم ، لأن ما تأتي به الرسل والحال ما قلناه ، لا يكون إلا تفصيل ما تقرر جملته في العقل ، فقد ذكرنا أن وجوب المصلحة وقبح المفسدة متقرران في العقل ، إلا أنا لما لم يمكنا أن نعلم عقلا أن هذا الفعل مصلحة وذلك مفسدة ، بعث الله تعالى

٣٨١

إلينا الرسل ليعرفونا ذلك من حال هذه الأفعال ، فيكونوا قد جاءوا بتقرير ما قد ركبه الله تعالى في عقولنا ، وتفصيل ما قد تقرر فيها ، وصار الحال في ذلك كالحال في الأطباء إذا قالوا إن هذا البقل ينفع وذلك يضر وكنا قد علمنا قبل ذلك أن دفع الضرر عن النفس واجب ، وجر النفع إلى النفس حسن ، فكما لا يكون والحال ما قلناه قد أتوا بشيء مخالف للعقل ، فكذلك حال هؤلاء الرسل.

يبين ما ذكرناه ، أن اختلاف الطريق لا يقدح في حصول ما يكون طريقا إليه ، فسواء علمنا عقلا أن هذا الفعل مصلحة وذلك مفسدة ، أو علمناه سمعا ، فإنا في الحالين جميعا نعلم وجوب هذا وقبح ذلك.

يزيد ما ذكرناه وضوحا ، أنه إذا كان تقرر في عقولنا وجوب دفع الضرر عن النفس معلوما كان أو مظلوما ، ثم أخبرنا مخبر بأن في الطريق سبعا ، فإنا نعلم وجوب الاجتناب من سلوك ذلك الطريق ، ثم لا يقال أنه إذ أتي بما في العقل ففي العقل كفاية عنه ، وإن أتي بخلافه فيجب الرد عليه ، فكذلك الحال في ما أتى به الرسل ، فبطل ما قالوه أولا.

وأما ما ذكروه ثانيا ، من أن هذه الأفاعيل كلها قبيحة في العقل فأبعد ، لأنا قد ذكرنا أن مجرد الفعل لا يمكن أن يحكم عليه بالقبح والحسن ، حتى لو سألنا سائل عن القيام هل يقبح أم لا ، فإنه مما لا يمكننا إطلاق القول في الجواب عن ذلك ، والواجب أن نقيد فنقول : إن حصل فيه غرض وتعرى عن سائر وجوه القبح حسن ، وإلا كان قبيحا هذا وإذا كان ، هكذا وكنا قد علمنا بقول الرسول المصدق بالمعجز أن لنا في هذه الأفعال مصالح وألطافا فكيف يجوز أن يحكم فيها بالقبح ، يبين ذلك ويوضحه ، أنا نستحسن القيام في كثير من الحالات نحو أن يكون تعظيما لصديق أو يتضمن غرضا من الأغراض ، وكذلك القعود إذا تضمن انتظار الرفيق ، وكذلك الركوع والسجود والمشي والكلام والطواف وغير ذلك ، فما من شيء من هذه الأفاعيل إلا ولها وجه في الحسن إذا تعلق به أدنى غرض ، فإذا كان يحسن منا الطواف حول البيت لننظر هل اشترم أم لا ، وهذا غرض حقير ، فكيف لا يحسن الطواف حول بيت الله تعالى وقد تضمن من المصلحة واللطف ما قد قامت به الدلالة ، وهكذا فإذا كنا نرمي صيدا مع أن النفع فيه يسير ، ثم تستحسن الهرولة إليه كيلا ينفلت فكيف لا تستحسن في أعمال الحج؟ وقد علم الله فيها من المصالح ما قد أظهره على لسان رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فدل على أن ما قالوه في هذا الباب مما لا وجه له. وليس لأحد أن يقول : كان

٣٨٢

يجب أن لا يتغير الحال في هذه الأعمال ، أن لو كانت ألطافا ومصالح ، وأن تكون مستحسنة أبدا غير مستقبحة في شيء من الحالات ، كما في رد الوديعة وشكر النعمة ، وقضاء الدين ، وكما في الظلم والكذب ، وما جرى مجراهما ، وفي علمنا بخلاف ذلك دلالة على فساد ما ظننتموه ، لأن قياس هذه الأفعال على رد الوديعة وغير ذلك مما لا وجه له ، لأن هذه الأفعال لا تفارقها وجوه الحسن والقبح بخلاف ما نحن فيه ، ففارق الحال في أحدهما الحال في الآخر.

ثم إنه رحمه‌الله بين حقيقة الرسول والنبي ، ولا بد من ذلك.

اعلم أن الرسول ، من الألفاظ المتعدية أي لا بد من أن يكون هناك مرسل ومرسل إليه ، وإذا أطلق فلا ينصرف إلا إلى المبعوث من جهة الله تعالى دون غيره ، حتى إذا أردت غير ذلك فلا بد من أن تقيد.

وأما النبي ، فقد يكون مهموزا ومشددا ، وإذا كام مهموزا فهو من الإنباء ، وهو الإخبار ، وإذا وصف به الرسول ، فالمراد به أنه المبعوث من جهة الله تعالى ، وإذا كان مشددا فإنه يكون من النباوة وهو الرفعة والجلالة ، وإذا وصف به المبعوث فالمراد به أنه المعظم الذي رفعه الله تعالى وعظمه. وفي الخبر أن بعضهم قال للرسول عليه‌السلام يا نبيء الله مهموزا فقال له الرسول : لست نبيء الله وإنما أنا نبيّ الله.

وإذ قد عرفت ذلك فاعلم أنه لا فرق في الاصطلاح بين الرسول والنبي ، وقد خالف في ذلك بعضهم ، واستدل بقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍ) [الحج : ٥٢] قالوا : فصل القديم تعالى بين الرسول والنبي ، فيجب أن يكون أحدهما غير الآخر ، والذي يدل على اتفاق الكلمتين في المعنى هو أنهما يثبتان معا ويزولان معا في الاستعمال ، حتى لو أثبت أحدهما ونفى الآخر لتناقض الكلام ، وهذا هو أمارة إثبات كلتي اللفظين المتفقتين في الفائدة ، وأما قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍ) فإنه لا يدل على ما ذكروه ، لأن مجرد الفعل لا يدل على اختلاف الجنسين ، ألا ترى أنه تعالى فصل بين نبينا وغيره من الأنبياء ثم لا يدل على أن نبينا ليس من الأنبياء ، وكذلك فإنه تعالى فصل بين الفاكهة وبين النخل والرمان ، ولم يدل على أن النخل والرمان ليسا من الفاكهة ، كذلك هاهنا.

٣٨٣

حقيقة المعجز لغة واصطلاحا

وقد ذكر رحمه‌الله بعد هذه الجملة ، أنه تعالى إذا بعث إلينا رسولا ليعرفنا المصالح ، فلا بد من أن يدعي النبوة ، ويظهر عليه العلم المعجز الدال على صدقه عقيب دعواه للنبوة ، وذلك يقتضي أن نبين حقيقة المعجز أولا.

اعلم أن المعجز هو من يعجز الغير ، كما أن المقدر هو من يقدر الغير ، هذا في اللغة.

وأما في المصطلح عليه ، فهو الفعل الذي يدل على صدق المدعي للنبوة ، وشبهه بأصل اللغة ، هو أن البشر يعجزون عن الإتيان بما هذا سبيله فصار كأنه أعجزهم.

شرائط المعجز

إذا ثبت هذا ، فالفعل لا يدل على صدق المدعي للنبوة ، إلا إذا كان على أوصاف وشرائط :

أحدها : أن يكون من جهة الله تعالى أو في الحكم كأنه من جهته جل وعز ، وإنما قلنا هذا هكذا ، لأن المعجز ينقسم إلى ما لا يدخل جنسه تحت مقدور القدر ، كإحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، وقلب العصا حية ، وما شاكل ، وإلى ما يدخل جنسه تحت مقدور القدر وذلك نحو قلب المدن ونقل الجبال إلى أشباهه وحنين الجذع وما جرى مجراه ، والقرآن من هذا القبيل ، فإن جنسه وهو الصوت داخل تحت مقدور القدر ، ولهذا فإنا لو خلينا وقضيه العقل كنا نجوز أن يكون من جهة الرسول عليه‌السلام ، أعطاه الله تعالى زيادة علم أمكنه معه الإتيان به ، فصح أن المعجز ليس من شأنه كونه من جهة الله تعالى ، بل إذا جرى في الحكم كأنه من جهته تعالى كفى ، وعلى كل حال ، فلا بد من أن يكون جاريا في الحكم مجرى فعل الله ليصح كونه دلالة دالة على صدق من ظهر عليه ، وإلا ، فلو لم يجر هذا المجرى لم يكن نسبته إلى صدق من ظهر عليه ، إلا كنسبته إلى كذبه.

والثاني : أن يكون واقعا عقيب دعوى المدعي للنبوة ، لأنه لو تقدم الدعوى لم تتعلق به ، فلا يكون بالدلالة على صدقه أحق منه بالدلالة على صدق غيره ، وبهذه الطريقة منعنا من تقديم المعجز على ما جوزه شيخنا أبو القاسم ، وكذلك فلو تراخى عنه لم يتعلق به ، فلا يكون بالدلالة على صدقه أحق منه بالدلالة على صدق غيره ، إلا أنه إذا ثبت صدق المدعي للنبوة بمعجز وتراخى عن دعواه معجز آخر جاز ، وعلى

٣٨٤

هذا ، فإن إخبار النبي عن الغيوب ، نحو إخباره عليا عليه‌السلام : «إنك تقابل الناكثين والمارقين والقاسطين» ، وقوله لعمار : «ستقتلك الفئة الباغية ، وآخر زادكم ضياح من لبن» كلها أعلام معجزة دالة على صدقه مع تأخرها عن دعواه ، جاز ذلك لثبوت صدقه بدلالة أخرى غير هذه الدلالة ، فهذه الطريقة التي أوجبناها ، من أن يكون المعجز واقعا عقيب دعوى المدعي للنبوة ، وإنما أوجبناها إذا لم يكن المعجز نفس المدعي للدعوى فأما إذا كان كذلك ، نحو كلام عيسى عليه‌السلام في المهد ، فادعاؤه النبوة ، فلا. وإن كان من الناس من ذهب إلى أن ذلك معجزا لزكريا عليه‌السلام.

والثالث : أن يكون مطابقا لدعواه فإنه لو يكن كذلك وكان بالعكس ، لم يكن يتعلق بدعواه فلا يدل على صدقه.

يبين ذلك ، أن قائلا لو قال بحضرة جماعة : إني سول فلان إليكم ، وعلامته أن يحرك رأسه إذا بلغه كلامي هذا ، فإنه إذا بلغه ولم يحرك ، وسكن رأسه ، لم يدل على صدقه ، إن لم يدل على كذبه.

وفي أصحابنا من ذهب إلى أن المعجز إذا لم يكن مطابقا وكان بالعكس فإنه يدل على التكذيب ، وحكى أن مسيلمة لما ادعى بحضرة الناس : إني رسول الله إليكم ، ومعجزتي أني إذا بزقت في هذه البئر فار ماؤها ، والله تعالى أمر حتى غاض ماء ذلك البئر وصار تكذيبا له ، وذلك مما لا أصل له عندنا. وما هذا حاله فإنه لا يجوز على الله تعالى ، لأنه إذا أراد تكذيب شخص كان يمكنه ذلك بأن لا يظهر عليه المعجز عقب دعواه ، فإحداث شيء آخر والحال ما قلناه يكون عبثا لا فائدة فيه.

والرابع : أن يكون ناقضا لعادة من بين ظهرانيه ، لأنه لو لم يكن كذلك لم يكن ليدل على صدق من ظهر عليه أصلا ، ألا ترى أن أحدنا إذا ادعى النبوة ، وجعل معجزته طلوع الشمس من مشرقها وغروبها في مغربها لم تصح له دعواه ، ولم يدل ذلك على صدقه ، وبالعكس من ذلك فلو ادعى النبوة وجعل معجزته طلوع الشمس من المغرب وغروبها في المشرق ، فإنه يدل على صدقه لما انتقض في أحدهما ولم ينتقض في الآخر.

أن يكون المعجز من حكيم

وكما لا بد من اعتبار هذه الشرائط في المعجز حتى يدل على صدق من ظهر

٣٨٥

عليه ، فلا بد من اعتبار أن يكون من جهة فاعل عدل حكيم أو في الحكم كأنه من جهته على ما سبق ، فإنه لو لم يكن كذلك لم يكن في المعجز دلالة على صدق أحد. وإنما قلنا ذلك لأن دلالة المعجز على ما يدل عليه بطريقة التصديق ، ألا ترى أن من ادعى بحضرة ملك أنه رسوله إلى الرعية ، وجعل الدلالة على صدقه أنه متى أراد وضع التاج على رأسه فعل ، فإنه متى فعل ذلك كان بمنزلة أن يقول له صدقت في دعواك ، وإذا كان هذا هكذا ، فلو جوزنا أن يكون هذا المعجز من جهة من يصدق الكاذب لا يمكننا أن نعلم صدق من ظهر عليه. ولهذا قلنا : إن هؤلاء المجبرة لا يمكنهم أن يعرفوا النبوات لتجويزهم القبائح على الله تعالى.

فمتى حصل المعجز على هذه الأوصاف والشرائط التي راعيناها كان دالا على صدق المدعي للنبوة ، وإذ قد عرفت ذلك من حال المعجز ، فقد ظهر لك الفرق بينه وبين الشعوذة وما يتوصل إليه بالحيلة ، لما قد ذكرنا من أن المعجز لا بد أن يكون من جهة الله تعالى أو في الحكم كأنه من جهته جل وعلا ، وليس كذلك الحيلة. وكذلك فإن المعجز لا بد أن يكون ناقضا للعادة خارقا لها ، وليس هكذا سبيل ما يتوصل إليه بالحيلة وخفة اليد. وكذلك فإن الحيلة مما يمكن أن تتعلم وتعلم ، وهذا غير ثابت في المعجز. وكذلك فإن الحيل مما يقع فيها الاشتراك ، وليس كذلك المعجز. وكذلك فإن الحيلة تفتقر إلى آلات وأدوات لو فقدت واحدة منها لم تنفذ ، وليس كذلك المعجز.

وأقوى ما يذكر هاهنا ، أن المشعوذ والمحتال إنما ينفذ حيلته على من لم يكن من أهل صناعته ولا يكون له بها دراية ومعرفة ، وليس هذا حال المعجزة ، فقد جعل الله سبحانه وتعالى معجزة كل نبي مما يتعاطاه أهل زمانه ، حتى جعل معجزة موسى عليه‌السلام قلب العصا حية ، لما كان الغالب على أهل ذلك الزمان السحر ، وجعل معجزة عيسى عليه‌السلام إبراء الأكمه والأبرص ، لما كان الغالب على أهل زمانه الطب ، وجعل معجزة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم القرآن وجعله في أعلى طبقات الفصاحة ، لما كان الغلبة للفصاحة والفصحاء في ذلك الزمان ، وبها كان يفاخر أهله ويتباهى. فقد وضح لك بهذه الوجوه الفرق بين المعجز والحيلة.

البعثة لطف للمكلفين

ثم إنه رحمه‌الله ، ذكر أن البعثة لا بد من أن تكون لطفا للمكلفين ، وأن يكون مفعولا على أبلغ الوجوه وذكر الصفات التي يكون المبعوث عليها.

٣٨٦

صفات الرسول

وجملة ذلك ، أن الرسول لا بد من أن يكون منزها عن المنفرات جملة كبيرة أو صغيرة. لأن الغرض بالبعثة ليس إلا لطف العباد ومصالحهم ، وما هذا سبيله فلا بد من أن يكون مفعولا بالمكلف على أبلغ الوجوه ، ومن ذلك ما ذكرنا من أنه تعالى لا بد من أن يجنب رسوله عليه‌السلام ما ينفر عن القبول منه لأنه لو لم يجنبه عما هذه حاله لم يقع القبول منه ، ولأن المكلف لا يكون أقرب إلى ذلك إلا على ما قلناه ، فيجب أن يجنبهم الله تعالى عن سائر ما له حظ في التنفير.

ولذلك جنب الله تعالى رسوله عليه‌السلام عن الغلظة والفظاظة ، وذكر علته فقال : (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران : ١٥٩].

وإذا قد صح لك ما قلناه ، فقد ثبت أنه لا يجوز على الأنبياء الكبيرة لا قبل البعثة ولا بعدها ، خلافا لما يقوله أهل الحشو ويجري في كلام أبي علي في مواضع ، فإن كلامه في مواضع يقتضي أنه يجوز على الأنبياء الكبيرة قبل البعثة ، وإن كان لا يجوز بعدها.

فأما الحشوية ، فقد جوزوا ذلك عليهم في الحالين ، ويتمسكون في ذلك بأباطيل لا أصل لها ، نحو قولهم : إن داود هم بامرأة أوريا وعشقها ، ويوسف هم بامرأة العزيز كما همت هي به إلى غير ذلك. وفساد ذلك ، قد دخل أثناء الكلام الذي قدمناه ، فقد ذكرنا أن الرسول لا بد من أن يكون منزها عما ينفر عن القبول عنه ، والكبائر كلها منفرة ، فيجب أن يجنب الله تعالى رسوله عنها. يبين ذلك أن النفوس مطبوعة على القبول ممن لم يتدنس بالمعاصي ولا ارتكب شيئا من كبائرها ، كما هي مطبوعة على أن لا تقبل ، ممن يتعاطاها. فمعلوم أن الناس إلى قبول قول الحسن ولم يتدنس عندهم بمعصية قط ، أقرب منهم إلى قبول قول الحجاج وكان يرتكب من الفواحش ما كان يرتكبه.

فإن قيل : إن هذا يوجب عليكم تجويز الكبائر على الأنبياء قبل البعثة ، فالمعلوم أن الناس إلى قبول قول الحجاج وقد تاب وأناب ورجع وأقلع يكونون أقرب منهم إلى قبول قول الحسن ولم ير قط إلا على الصلاح. وجوابنا ، أنا لا نسلم ذلك ، فإن الطباع على ما ذكرناه قبل ، وكيف يمكن ذلك ، ولو ادعى ضرورة أن الناس يكونون إلى القبول ممن صفته ما ذكرنا أقرب من القبول ممن كان يتعاطى الكبائر ويرتكبها أمكن أن الناس

٣٨٧

ربما يسمعون كلام الحجاج لكن لا على حد استماعهم كلام غيره ، فقد جعلت الطباع على الإصغاء إلى كلام الرئيس دون المرءوس ، فإنك تعلم أن محفلا من المحافل لو اشتمل على الرأس والذنب ، وتكلم كل منهم بكلام ، فإن إصغاء أهل المحفل إلى كلام الرئيس فأما القبول فلا ، ففسد ما ظنوه.

قالوا : جوزوا الكبيرة على الرسول سرا وبحيث لا يطلع عليه أحد ، فإنه والحال هذه مما لا ينفر عنه. قيل : إن الرسول لا بد من أن يرسل الله تعالى إليه رسولا آخر ، فمتى جوز عليه الكبيرة قياسا على نفسه ، لم يكن أقرب إلى القبول منه. وعلى أنا إذا جوزنا الكبيرة على الأنبياء نفرنا ذلك عن القبول منهم كما لو قطعنا على ذلك فصح أن الكبيرة غير جائزة على الأنبياء لا قبل البعثة ولا بعدها ، وكما لا يصح عليهم الكبيرة فكذلك لا يصح عليهم شيء في المنفرات على ما سبق ، نحو الكذب والسرقة ونحو دمامة الخلقة وقبح المنظر ، بحيث ينفر ، وليس يمتنع فيما ينفر في زمان ألا ينفر في زمان آخر ، فإن للأزمنة والعادات تأثير في ذلك.

فأما الصغائر التي لاحظ لها إلا في تقليل الثواب دون التنفير ، فإنها مجوزة على الأنبياء ، ولا مانع يمنع منه ، لأن قلة الثواب مما لا يقدح في صدق الرسل ولا في القبول منهم.

وقد ذكر بعد هذا ، أن البعثة لا بد من أن تكون لطفا لنا ، وكما تكون لطفا فلا بد أن تكون لطفا للمبعوث ، لأنه لا يجوز من الحكيم تعالى أن يحمل المكلف مشقة لنفع مكلف آخر فقط ، وذلك صحيح على ما تقدم. وذكر أنه تعالى إذا علم أن صلاحنا في بعثة شخص واحد بعينه وجب أن يبعثه بعينه ولا يعدل عنه إلى الغير ، وإذا علم أن صلاحنا في بعثة شخصين وجب بعثتهما لا محالة ، ولا يجوز له الإخلال بها ، وكذلك إذا علم أن صلاحنا في بعثة جماعة وجب أن يبعث الكل فأما إذا علم أن الصلاح معلق ببعثة كل واحد من الجماعة على انفراد ، فإنه يكون بالخيار ، إن شاء اختار هذا ، وإن شاء اختار غيره ، وليس يلزمه بعثة الأفضل إذا كان هو والمفضول سواء في المصلحة ، هذا قبل البعثة ، فأما بعدها فإن المبعوث يصير أفضل لا محالة بتحمله الرسالة. وقد اتفقت الأمة على أن المبعوث يكون أفضل من غير المبعوث لا محالة.

وقد أورد رحمه‌الله بعد هذا الجملة ، الكلام في نسخ الشرائع.

٣٨٨

نسخ الشرائع

والسبب الداعي إليه ، هو أن اليهود لما أنكروا نبوة المسيح والمصطفى عليهما‌السلام افترقوا.

فمنهم من قال : إنما أنكرنا نبوتهما لأنهما أتيا بنسخ شريعة موسى ، وذلك يقتضي أن يصير الحق باطلا والباطل حقا ، وذلك محال.

وربما قالوا : إن النسخ يقتضي البدء ، وهو أن يكون قد ظهر الله تعالى من حال تلك الشريعة ما كان خافيا ، وذلك يخرجه عن كونه عالما لذاته.

ومنهم من قال : إن نسخ الشريعة جائز من جهة العقل إلا أن السمع منع من ذلك ، وقد قال موسى عليه‌السلام : شريعتي لن تنسخ أبدا ، فلهذا الوجه أنكرنا نبوة من جاء بعده.

ومنهم من قال إن نسخ الشرائع جائز من جهة العقل والشرع جميعا ، إلا أنا إنما أنكرنا نبوتهما لأنهما عدما المعجز الدال على صدقهما.

وفي اليهود من ذهب إلى أن محمدا عليه‌السلام كان مبعوثا ، إلا أنه إنما بعث إلى العرب دون غيرهم.

ونحن نذكر جملة تدلك على جواز النسخ ، ثم نتتبع كلام هؤلاء الفرق الثلاثة بعون الله تعالى وحسن توفيقه ، فنقول ، إن الشرائع ألطاف ومصالح ، وما هذا سبيله فإنه يختلف بحسب اختلاف الأزمان والأعيان ، فلا يمتنع أن يعلم القديم تعالى أن صلاح المكلفين في زمان في شريعة ، وفي زمان آخر في شريعة أخرى ، وهذا ظاهر فيما بيّنا ، فإن من يدبر أمر ولده ربما يعلم أن صلاحه في الرفق مرة وفي العنف أخرى ، وذلك في الأولاد الكثيرة أظهر ، وصار الحال في ذلك كالحال في المرض والشفاء والحياة والموت ، فكما أنه تعالى يمرضنا مرة ويشفينا أخرى لما تعلق صلاحنا بالمرض مرة وبالشفاء أخرى ، كذلك هاهنا لا يمتنع أن يعلم أن صلاحنا بالمرض في أن يتعبدنا بشريعة مرة ، وفي ألا يتعبدنا بها بل يتعبدنا بغيرها أخرى ، فصح بذلك ما قلناه في جواز نسخ الشرائع.

الكلام على من منع نسخ الشرائع

ونعود بعد ذلك إلى الكلام على هؤلاء الفرق ، فنقول للفرق الذين قالوا إن نسخ

٣٨٩

الشرائع يقتضي أن يصير الحق باطلا والباطل حقا إن النسخ لم يتناول عين ما كان حقا حتى يجب انقلاب الحق باطلا والباطل حقا ، وإنما يتناول مثل ما كان حقا ، ولا يمتنع في المثلين أن يكون أحدهما حقا والآخر باطلا ، فإن دخول الدار قد يكون حقا حسنا بأن يكون عن إذن صاحب الدار ، وقد يكون باطلا قبيحا بأن يكون لا عن إذن ، مع أن الدخولين مثلان.

بل يمكن ذلك في الفعل ، فإن الدخلة الواحدة يجوز أن تقع فتكون حسنة بأن تكون عن إذن ، وتقع فتكون قبيحة بأن لا تكون عن إذن.

وكذلك فإن السجدتين مع أنهما مثلان ، ربما تكون إحداهما حسنة بأن تكون سجدة للرحمن ، والأخرى بأن تكون سجدة للشيطان.

بل يمكن تصوير ما قلناه في السجدة الواحدة ، فإنها إذا قصد بها عبادة الرحمن كانت حسنة ، وإن قصد بها عبادة الشيطان كانت قبيحة.

ثم يقال لهم : أليس كان لا يلزمنا اعتقاد نبوة موسى عليه‌السلام قبل أن يبعث ، ثم لزمنا ذلك بعد البعثة ، ولم يقتض أن يكون الحق قد صار باطلا والباطل قد صار حقا ، فهلا جاز مثله في مسألتنا.

فإن قالوا : إن أحد الاعتقادين غير الآخر ، وأكثر ما فيه أنهما مثلان ، والمثلان لا يمتنع أن يكون أحدهما حسنا والآخر قبيحا. قلنا : فهلا قنعتم بمثله في مسألتنا.

وإن قالوا : إن هذا ليس من النسخ في شيء فلا تصح لكم هذه المعارضة. قلنا : إنه وإن كان لا يسمى نسخا ، إلا أن معناه معنى النسخ ، فقد لزمنا اعتقاد لدلالة ما كان يلزمنا ذلك الاعتقاد لو لا تلك الدلالة ، وهذه صورة النسخ من طريق المعنى والمعتبر إنما هو بالمعنى لا بالتسمية.

وعلى نحو هذه الطريقة يجري الكلام مع الذين أنكروا النسخ لاقتضائه البدء.

غير أنا نورد فصلا نبين فيه الفصل بين النسخ والبدء وما يختص به كل واحد من الشروط والأوصاف ، إن شاء الله وبه الثقة.

ويقال لهم أيضا : ما قولكم في شريعة موسى ، هل نسخت ما قبلها من الشرائع أم لا؟ فإن قالوا : لا ، بل لم يأت موسى إلا بما كان قد أتى به الأنبياء قبله ـ وهو مذهب بعضهم ـ قلنا : كيف يمكنكم ذلك وقد علمتم أن آدم عليه‌السلام زوج بناته من

٣٩٠

بنيه وقد حظره موسى ، وكذلك بعدها اختتن إبراهيم عليه‌السلام في الكبر وأوجبه موسى في الصغر ، وجاز الجمع بين أختين في شرع يعقوب ولم يجوز في شرع موسى. وعلى أن فيما ذكرتموه ما يقتضي ألا تضيفوا هذه الشريعة إلى موسى ولا تنسبوها إليه ، وفي ذلك خروج عن اليهودية ، والمعلوم من حالكم أنكم تضيفون هذا الشرع إلى موسى عليه‌السلام ، وتقولون : لا يجوز أن تكون نسبته إلى موسى كنسبته إلى يوشع.

فإن قالوا : نعم ، قد أتى موسى بنسخ شرائع من قبله من الأنبياء ، ولا بد لهم من ذلك ـ وهو مذهب جماعة منهم ـ قلنا : فهلا اقتضى انقلاب الحق باطلا والباطل حقا ، وهلا اقتضى أن يكون قد بدا لله وظهر له من حال تلك الشرائع ما كان خافيا عليه تعالى الله عن ذلك.

وأما الكلام على الفرقة الثانية ، الذين قالوا إن نسخ الشريعة جائز من جهة العقل غير أن السمع منع منه ، وهو قول موسى : «شريعتي لا تنسخ أبدا» فهو أن نطالبهم بتصحيح هذا الخبر عن موسى عليه‌السلام ، ولا يجدون إلى ذلك سبيلا. ومتى قالوا : إن هذا من الأخبار المتواترة فلا معنى لإنكاره ، قلنا : لو كان كذلك لعرفناه نحن على طوال اختلاطنا بكم ومناظرتنا إياكم ، ونحن لا نعرفه ، فكيف يمكنكم ادعاء التواتر فيها.

وقد أنكره العنانية من أصحابكم ، وقالوا : إن نسخ الشريعة جائز من جهتي العقل والشرع ، وأن من جاء بعد موسى من الأنبياء فإنما أنكرنا نبوتهم لما عدموا الأعلام المعجزة لا غير ، ولو كان متواترا لعلموه.

ثم يقال لهم : لا يخلو حال هذا الخبر من أحد وجهين ، فإما إن يكون المراد به أن شريعتي لا تنسخ على يدي من معه معجز ، أو على يدي من لا معجز معه. فإن أردتم به أن شريعتي لا تنسخ على يدي من لا معجز معه فإنا نوافقكم ، وإن أردتم به أنها لا تنسخ على يدي من معه معجز ، فإن ذلك مما لا يجوز أن يكون قد أراده موسى عليه‌السلام ، لأن ذلك مما لا يجوز أن يكون قد أراده موسى عليه‌السلام ، لأن ذلك يقدح في نبوته ، ويكون لأمته أن يقولوا : فلم وجب اعتقاد نبوتك والانقياد لك ، وقد جوزنا أن يكون هاهنا صاحب معجزة ، لا يلزمنا متابعته والاعتقاد لنبوته والانقياد له.

وإذا كان الأمر بهذه الصفة فلا وجه للأخذ بظاهر الخبر لو ثبت صحته ، سيما وقد ثبتت نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالأدلة القاطعة فيجب أن يتأول ، لأن كلام الأنبياء لا يجوز

٣٩١

أن يتناقض.

وتأويله ، هو أن شريعتي لا تنسخ على يدي من لا معجز معه ، وعلى أن يوشع كان نبيا في زمن موسى عليه‌السلام وبقي بعده ، وقد نسخ شريعته بشريعة موسى ، ولا يمكن ادعاء أنه لم يكن معه شريعة أصلا ، وإلا كان لا يثبت في بعثته والحال هذه فائدة ، فقد ذكرنا أن البعثة إنما تجب إذا علم الله أن صلاحنا تتعلق بشريعة لا نعرفها نحن ، فيبعث الرسول ليعرفنا ، فأما إذا عريت عن هذه الفائدة ، فإنها تكون عبثا.

وبعد ، فإن هذا الخبر ليس هو من كلام موسى ، فإن المعلوم أنه كان لا يتكلم بلغة العرب وإنما كان يتكلم باللغة العبرانية ، فلا يمكن الاحتجاج بظاهره ، سيما ومن المجوز أن يكون المترجم قد أخل بقرينة كانت معه ، فلم يفسرها.

ومتى قالوا : إن المترجم والناقل ما يألو جهدا في ترجمة كلام الأنبياء ، قلنا : إن حسن الظن به يمنعنا من تجويز ما جوزناه ، فلا يستقيم لكم الاحتجاج بلفظ الخبر بوجه من الوجوه.

فإن قالوا : لو أمكن أن يقال في كلام موسى عليه‌السلام «شريعتي لا تنسخ» ما ذكرتموه ، ليمكن أيضا مثله في قول نبيكم محمد «لا نبي بعدي» فما الفصل بيننا وبينكم في ذلك؟ قلنا : أول ما في هذا أنه لا يمكن إنكار أن هذا من كلام محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخلاف ما أوردتموه. على أنا لم ندع أنه خاتم الأنبياء لمكان هذا الخبر ، فإنا نعلم من دينه ضرورة أنه آخر الرسل وخاتم الأنبياء ، ولهذا شاركتمونا في العلم بذلك مع إنكاركم نبوته ، وشككم في صدقه.

ومتى قالوا : وكذلك نحن نعلم من دين موسى ضرورة أنه خاتم الأنبياء ، قلنا : إن هذا مما لا سبيل لكم إليه ، فلو كان كذلك لشاركناكم في العلم به على طول مخالطتنا لكم ومناظرتنا إياكم ، ونحن لا نعلم ذلك من دين موسى ضرورة ، فكيف يصح لكم ذلك ، ومعلوم أن يوشع كان نبيا بعده كما كان نبيا في زمانه ، وأيضا فقد بشر عليه‌السلام بمجيء كثير من الأنبياء بعده ، فكيف يقال : إن المعلوم من دينه ضرورة أنه لا نبي بعده.

فإن قالوا : هب أنكم علمتم من دين نبيكم ضرورة أنه آخر الرسل فبأي طريق علم ذلك نبيكم ، فلا بد لكم أن ترجعوا إلى مثل ما احتججنا به عليكم. قلنا : إنما علم ذلك نبينا عليه‌السلام بالاضطرار إلى قصد جبريل ومتى سألوا عن ذلك في جبريل عليه

٣٩٢

السلام ، قلنا : إنه إنما علم ذلك من جهة الله تعالى بأن يبين له أن صلاح أمة محمد لا يتغير عما هو عليه ، ولا يمكنكم ادعاء هذه الطريقة في كلام موسى عليه‌السلام ، فبان الفصل بين الموضعين.

فإن قالوا : إن شريعة موسى تشتمل على الأوامر والنواهي ، والأمر بمطلقه يقتضي التكرار ، وما هذا سبيله لا يصح ورود النسخ عليه. قلنا : أول ما في ذلك أن الأمر يقتضي التكرار بمطلقه عندنا ، وإنما يفيد الفعل مرة واحدة ، لأنه يتنزل منزلة قول القائل : أريد منك أن تفعل كذا ، ومعلوم أن ذلك مما لا يقتضي الفعل إلا مرة واحدة ، فكذلك الأمر فإنه في مثل حاله.

وبعد ، فلو ثبت أن الأمر بمطلقه يقتضي التكرار والدوام ، فإنه لا يمنع من ورود النسخ عليه ، بل يصح أن ينسخ كما يصح أن ينسخ غيره ، لأجل أن دلالة الأمر على ما يدل عليه ، كما هو مشروط بزوال العجز والمرض وما جانس ذلك ، فلا بد أن يكون مشروطا بألا يتغير الصلاح ، فأما إذا تغير فلا ، وفي ذلك صحة ما قلناه من أن ما هذا سبيله يصح ورود النسخ عليه. وتفصيل الكلام في ذلك موضوعه أصول الفقه.

فصح لك بهذه الجملة قول هؤلاء اليهود ، الذين قالوا : إن نسخ الشرائع جائز من جهة العقل ، غير أن الشرع منع من ذلك.

وأما الكلام على الفرقة الذين قالوا : إن نسخ الشريعة جاء من جهتي الشرع والعقل ، إلا أنا أنكرنا نبوة محمد نبيكم حيث عدم المعجز ، فهو أن نبين لهم في فصل عقيب هذا الكلام ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يعدم العلم المعجز الدال على صدقه ، وأن الله تعالى أيده بالأعلام الباهرة.

وأما الذين قالوا : إن محمدا كان مبعوثا إلى العرب من دون سواهم ، فإن الكلام عليهم هو أن نقول لهم : إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا ادعى أنه مبعوث إلى الكافة ثم صدقه الله تعالى بالأعلام المعجزة ، فإنه لا بد من أن يكون مبعوثا إلى الأحمر والأسود.

فصل

الفرق بين النسخ والبداء وحقيقتهما

إن قال قائل : ما الفصل بين النسخ والبداء وما حقيقتهما ، فإن أكثر كلامكم المتقدم مبني عليه ويتعلق به. قيل له :

٣٩٣

النسخ

أما ، النسخ فهو في الأصل الإزالة أو النقل ، على ما اختلف فيه أصحابنا ، فأما في الشرع ، فهو إزالة مثل الحكم الثابت بدلالة شرعية بدليل آخر شرعي ، على وجه لولاه لثبت ولم يزل مع تراخيه عنه ، فاعتبرنا أن يكون إزالة مثل الحكم الثابت ، لأنه لو زال عين ما كان ثابتا من قبل ، لم يكن نسخا بل كان نقضا. واعتبرنا أن تكون الدلالتان شرعيتين ، لأنهما لو كانا عقليتين أو إحداهما عقلية والأخرى شرعية لم يعد نسخا ، ألا ترى أن من لزمه رد الوديعة مثلا ، ثم لم يلزمه بعد ذلك لعجز طرأ عليه أو لمرض اعتراه ، لم نقل : إنه قد نسخ عنه رد الوديعة.

وكذلك فإن من لزمه الصلاة والصيام ثم عرض ما يمنعه من ذلك من جنون أو غيره حتى لا يلزمه ، لا يقال : إنهما قد نسخا عنه ، فلا بد إذن مما اعتبرناه ، واعتبرنا أن يكون ذلك على وجه لولاه لم يزل وكان ثابتا ، لينفصل حال النسخ عن حال تعليق الحكم بغاية لحركات في اللفظ ، نحو قوله تعالى : (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) [البقرة : ١٨٨] وما جرى مجراه ، فإن ذلك لا يكون من النسخ في شيء ، وأن لا ينفصل عنه إلا بما ذكرناه ، واعتبرنا أن يكون متراخيا عنه ضربا من التراخي لأنه لو لم يعتبر ذلك لالتبس الناسخ بالمخصص ، والمنسوخ بالعام ، وبينهما من الفرق ما لا يخفى ، فلا بد إذن في اعتبار هذه الشرائط ، حتى لو انخرم شرط منها لكان لا يكون نسخا ، فهذه جملة ما يجب اعتباره في النسخ حتى يكون نسخا.

وأما البداء ، فإنه لا يكون بداء إلا عند اعتبار أمور ، نحو أن يكون المكلف واحدا والفعل واحدا والوقت واحدا والوجه واحدا ، ثم يرد الأمر بعد النهي أو النهي بعد الأمر ، ومثاله أن يقول أحدنا لغلامه : إذا زالت الشمس ودخلت السوق فاشتر اللحم ، ثم يقول له : إذا زالت الشمس ودخلت السوق فلا تشتر اللحم ، وإنما يسمى بداء لأنه يقتضي أنه قد ظهر له من حال اشتراء اللحم ما كان خافيا عليه من قبل.

البداء

والبداء ، هو الظهور في اللغة ، ولا بد من اعتبار هذه الأمور الأربعة التي ذكرناها ، حتى لو تغاير واحد من هذه الأمور الأربعة خرج البداء عن أن يكون بداء ، ألا ترى أنه لو تغاير المكلف فقال لأحد الغلامين مثل ما قلناه أولا ، وللغلام الثاني مثل ما قلناه ثانيا ، لم يكن من البداء في شيء ، وهكذا لو تغاير الفعل أو الوقت أو

٣٩٤

الوجه ، فمعلوم أنه لو قال له : إذا زالت الشمس فاشتر اللحم ، ثم قال بعده : ولا تشتر السمن والإقط ، أو قال : إذا زالت الشمس فافعل الفعل الفلاني ، ثم قال بعده : إذا أصبحت فلا تفعل الفعل ، فإنه لا يكون بداء البتة لتغاير أحد هذه الوجوه الأربعة.

وإذ قد تقرر هذا لديك وأحطت به علما ، فقد استبان لك الفرق بين النسخ والبداء ، وعلمت أن النسخ لا يتناول عين ما كانت ثابتا ، ولا المكلف الذي كان مكلفا بذلك الفعل في أغلب الأحوال ، فهذه جملة الكلام في هذا الفصل.

فصل

معجزات الرسول

فإن قيل : ما دليلكم على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهذا كان مقصودكم بكل ما قدمتموه؟ قيل له : الدليل على نبوته أنه قد ادعى النبوة وظهر عليه المعجز عقيب دعواه ، وقد بينا أن المعجز يدل على صدق ما ظهر عليه إذا كان الحال ما ذكرناه.

فإن قيل : وما المعجز الذي ظهر على محمد؟ قلنا : معجزات كثيرة ، من جملتها القرآن.

وجه الإعجاز في القرآن

فإن قيل : وما وجه الإعجاز في القرآن؟ قلنا : هو أنه تحدى بمعارضة العرب مع أنهم كانوا هم الغاية في الفصاحة ، والمشار إليهم في الطلاقة والذلاقة ، وقرعهم بالعجز عن الإتيان بمثله فلم يعارضوه وعدلوا عنه ، لا لوجه سوى عجزهم عن الإتيان بمثله.

ولا يمكنك أن تعرف صحة هذه الجملة إلا إذ عرفت وجود محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنه قد ادعى النبوة ، وظهر عليه القرآن ، وسمع منه ولم يسمع من غيره ، وأنه تحدى العرب بمعارضته وقرعهم بالعجز عن الإتيان بمثله فلم يأتوا به ، لا لوجه سوى عجزهم وقصورهم عن الإتيان بمثله ، فمتى عرفت هذه الوجوه كلها كنت عارفا بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

أما وجوده ، وادعاء النبوة ، وأن القرآن معجز ظهر عليه وسمع منه ولم يسمع من غيره فمعلوم ضرورة ، ولا مانع يمنع من حصول العلم بهذه الأشياء وما جانسها اضطرارا ، فإن العلم بالملوك والبلدان وبكون المصنفات منسوبة إلى مصنفها ضرورة.

٣٩٥

وأما تحديه العرب بمعارضته القرآن ، وتقريعه إياهم بالعجز عن ذلك ، ففي أصحابنا من جعل العلم به ضروريا ، ومن جعله مكتسبا. ومن جعله مكتسبا قال : ليس المرجع بالتحدي إلا أن يعتقد أن له مزية على غيره بسبب ما معه ، وهذا كان حال النبي عليه‌السلام مع القوم ، فكان يعتقد أنه خير الناس لمكان ما جاء به من القرآن ، فكيف يمكن إنكار أنه لم يتحداهم بمعارضته ولم يقرعهم بالعجز عن الإتيان بمثله؟

تحدي العرب بالقرآن

وأيضا ، فكتاب الله تعالى مشحون بآيات التحدي ، نحو قوله عزوجل : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ) [الإسراء : ٨٨] الآية. وقوله : (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ) [هود : ١٣] وقوله : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) [يونس : ١٠] إلى غير ذلك من الآيات التي معناها معنى هذه الآيات.

فإن قيل : ما أنكرتم أن هذه الآيات التي هي آيات التحدي زيدت في القرآن. وجوابنا ، لو أمكن أن يقال في هذه الآيات إنها مزيدة لأمكن أن يقال في قوله : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) [البقرة : ٤٣] وقوله : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) [المائدة : ٦] وغيرهما من الآيات ، حتى يجوز ذلك في سائر القرآن ، ومعلوم فساده.

وأيضا ، فإن هذه الآيات مسموعة الآن والتحدي قائم على وجه الدهر ، وفي الفصحاء كثرة في هذه الأزمان فيجب أن يأتوا بمثله ، ومتى قالوا : إن الفصاحة تناقصت الآن كالشعر ، قلنا : إن أمكن أن يقال ذلك في الشعر فلا يمكن في الفصاحة ، ففي خطباء هذه الأزمنة من لا يداني كلامه كلام أفصح فصيح في ذلك الزمان. فهذا واصل بن عطاء ربما تفي خطبة من خطبه بكثير من كلام فصحاء أولئك العرب ، وهذا أبو عثمان عمرو بن عبيد ، ففصل من كلامه ربما يزيد على كلام أبينهم كلاما وأجزلهم لفظا وأفصحهم كلاما ، فكيف يصح ما ذكرتموه.

ترك العرب معارضة القرآن

وأما ترك العرب معارضة القرآن ، وعدولهم عنه إلى المقاتلة فظاهر أيضا ، فإنهم حين أحسوا من أنفسهم العجز عن الإتيان بمثل القرآن ، تركوه إلى المقاتلة ، وذلك يؤذن بعجزهم عن ذلك ، وإلا فالعاقل إذا أمكنه دفع خصمه بأيسر الأمرين لا يعدل عنه

٣٩٦

إلى أصعبهما.

فإن قيل : ومن أين أنهم تركوا المعارضة ولم يعارضوه البتة؟ قيل له : إنهم لو عارضوه لكان يجب أن ينقل إلينا معارضتهم ، فإنه لا يجوز في حادثتين عظيمتين تحدثان معا ، وكان الداعي إلى نقل أحدهما كالداعي إلى نقل الأخرى أن تخص إحداهما بالنقل ، بل الواجب أن ينقلا جميعا أو لا ينقلا ، فأما أن ينقل أحدهما دون الأخرى ، فلا.

يبين ذلك ، أن من البعيد أن يسقط الخطيب من المنبر ويقع على بعض الحاضرين فيقتله ، ثم ينقل إلينا سقوط الخطيب ولا ينقل قتله ، ولا وجه لذلك إلا أن الحادثين وقعا معا ، وكان الداعي إلى نقل أحدهما هو كالداعي إلى نقل الآخر ، وكذلك كان يجب مثله في المعارضة لو كانت أن تنقل إلينا كما نقل القرآن ، فلما لم تنقل دل على أنها لم تكن أصلا.

ولا يمكن إنكارا ما قلناه من أن الداعي إلى نقل أحدهما كالداعي إلى نقل الآخر ، بل لو قيل : إن الداعي إلى نقل المعارضة أقوى لكان أولى ، إذ المعارضة مما ينقلها المخالف والموافق ، المخالف ينقله ليرى الناس أن فيه إبطال حجة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والموافق ينقله ليتكلم عليه ويبين أن ذلك ليس من المعارضة في شيء.

يزيد ما ذكرناه وضوحا ، هو أن المعلوم أنهم قد نقلوا من المعارضات الركيكة كمعارضة مسيلمة وغيره عليه لعنة الله ، فلو لا أن دواعيهم كانت متوفرة إلى ذلك وإلا كان لا ينقل إلينا هذه المعارضة على ركتها ، كما لم ينقل ما هو أقوى منها.

وبعد ، فإن المعارضة لو كانت لكانت هي الحجة ولكان القرآن هو الشبهة ، والله تعالى لا يجوز أن يسلط علينا الشبهة على وجه لا سبيل لنا إلى حلها ، ويمكن من إخفاء الحجة على حد لا يمكن الظفر بها ، بل كان يجب أن يقوي الدواعي إلى نقل المعارضة إن لو وقعت ، فلما لم يفعل ، دلنا ذلك على أنها لم تقع البتة ، وأن ذلك تمن.

فإن قيل : إنما ذكرتموه فينبني على أن العرب كانوا أهل حرص على إبطال أمره وتوهين شأنه ، ولم يمكنهم ذلك إلا بالمعارضة ، ونحن لا نسلم ذلك. قيل له : إن ذلك معلوم بالاضطرار ، فمعلوم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ادعى منزلة رفيعة عليهم وهم كانوا في غاية الأنفة والحمية والإباء ، فكيف لم يحرصوا والحال ما ذكرناه على إبطال أمره ورفع

٣٩٧

حجته إن لو قدروا.

فإن قيل ، لم يقع النزاع في ذلك ، فمعلوم أنهم كانوا في غاية الحرص على دفعه بما أمكن ، وإنما الكلام في أن ذلك لم يمكنهم إلا بالمعارضة وذلك مما لا وجه ، فإن القوم لم يعلموا طريقة المعارضة والحجاج ، ولو علموا ذلك تقديرا ، فلم يعلموا أن أمره يبطل بالمعارضة.

قيل له : أما الأول ، فلا يصح ، لأن المعارضة كانت عادتهم ، ولهذا لم يأت شاعر بقصيدة فيما بينهم إلا وشاعر آخر يعارضه أو رام معارضته ، وهذا معلوم من حال شعرائهم ، نحو امرئ القيس وعلقمة وأشباههما ، وأما الثاني ، فباطل أيضا ، لأن كل أحد يعلم أن خصمه إذا أتاه بأمر وادعى لمكانه منزلة عظيمة عليه ، وتحداه بمعارضته ، فإنه متى عارضه فقد أبطل دعواه ، وهذا مما لا يخفى على الصبيان فكيف على دهاة العرب ، فإن صبيا لو تحدى صبيا آخر ، وقال : إني أطفر هذا الجدول أو أشيل هذا الحجر وأنت لا تقدر عليه ، فإن الصبي الآخر يعلم أن دعواه تبطل بطفره ذلك الجدول أو بإشالته ذلك الحجر ، فكيف يصح ما ذكره.

فإن قيل : إنهم أرادوا استئصاله فلهذا عدلوا عن المعارضة إلى المقاتلة ، لا لأنهم عجزوا عن ذلك ولم يقدروا عليه. قلنا : لو لا عجزهم عن الإتيان بمعارضة القرآن ، وإلا كانوا لا يريدون استئصاله ، فلما أرادوا ذلك واشتغلوا به ، دلنا على عجزهم عن المعارضة على ما ذكرناه.

يبين ذلك ويوضحه ، أن هؤلاء الذين طولبوا بالمعارضة ، لو قدروا عليها لكان تكون المعارضة عليهم أسهل من استئصال محمد عليه‌السلام ومكانه في العرب المكان الذي كان ، ولا يليق بالعاقل البالغ الكامل العقل العدول عن الأمر السهل إلى الأمر الصعب إلا إذا لم يرتفع غرضه بالأمر السهل ، فحينئذ يعذر في العدول عنه إلى ما هو أصعب منه ، إلا فكيف اختاروا المقاتلة وهو صعب جدا ، على المعارضة التي كانت أسهل عليهم من كل شيء؟ فلما اشتغلوا بالمقاتلة وأبوا إلا المحاربة التي كانت من المجوز أن لا يرتفع غرضهم بها بأن تكون الدائرة عليهم وتركوا المعارضة التي كانت عندهم بزعمهم بمنزلة الأكل والشرب والقيام والقعود ، تبيّنا عجزهم وقصورهم عن المعارضة على ما ذكرنا.

فإن قيل : الغرض بالمقاتلة إنما كان إبطال دعواه وحسم مادته ، والقوم فقد علموا

٣٩٨

أن مادته لا تنقطع بالمعارضة وأمره لا ينتهي بها ، وأن الخلاف يبقى ولا يزول ، والناس يكونون بعد المعارضة بين رجلين : رجل له ، ورجل عليه ، فهذا يقول : المعارضة أفصح ، وذا يقول : القرآن أفصح ، فتطول المنازعة ولا تنقطع ، فلهذا لم يشتغلوا بالمعارضة ، وعدلوا عنها إلى المحاربة.

قيل لهم : إن هذه الطريقة ، إن صرفت عن معارضة القرآن ، فلتصرفن عن سائر المعارضات لشمولها أجمع ، وذلك يوجب أن لا يوجد في كلامهم معارضة ، والمعلوم من عاداتهم خلافه ، فلم يقل علقمة : إذا اشتغلت بمعارضة امرئ القيس كان الناس بين متعصب لي ومتعصب عليّ ، فيكون حالي وقد عارضت كلامه كحالي ولم أعارض كلامه ، وهكذا الحال في غيرهما من الشعراء الذين قد اشتغلوا بهذه الطريقة.

فإن قيل : لا يخلو حال المعارضة ، إما أن تكون مثل القرآن ، أو فوقه ، أو دونه ، وإذا كانت مثله كان للخصم أن يقول : هذه حكاية القرآن وليس من المعارضة بسبيل ، وإن كانت فوقه أو دونه كان للخصم أن يشغب فيها ويقول : لا بل الفوقية ثابتة للقرآن لا لها ، فكيف تجعل ذلك معارضة ، فلا ينقطع التشاجر والمنازعة ، ولا بد في آخر الأمر من الرجوع إلى ما بدأ به من المحاربة والإضراب عن المعارضة.

قيل : ليس يجب في المعارضة أن تكون مثل ما تحصل المعارضة معارضة له ، ولا أن تكون فوقه ، بل إذا قاربه وداناه بحيث يلتبس الحال فيه كفى ، وبعد معارضته اعتبر ذلك بسائر المعارضات ، فكيف يصح ما ذكرتموه؟ وعلى أن هذه الطريقة تسد باب المعارضات أصلا ، وذلك كما لا وجه له.

فإن قيل : فإذا تركوا المعارضة مع إمكانها أو عدلوا إلى المحاربة ، فليس إلا أن يحكم بأنهم أخطوا في العدول عن عبادة الله تعالى إلى عبادة الأصنام ، فلا يكون فيما ذكرتموه دلالة على أنهم إنما تركوا معارضة القرآن للعجز لا غير.

قيل له : ليس هذا من الباب الذي قستم عليه بسبيل ، فإن ذلك أمر يستدرك بطريقة الاستدلال والاستنباط ، وليس كذلك حال المعارضة فإنه ضروري لا يتصور فيه الخطأ ، ففسد ما ظننتموه.

فإن قيل : إنما تركوا معارضة القرآن لأنه كان مشتملا على أقاصيص لم يعرفوها ولا عرفوا أمثالها حتى يجعلوها معارضة للقرآن على السبيل الذي ذكرتموه ، فلذلك امتنعوا عن المعارضة ، لا لأجل العجز.

٣٩٩

قيل له : إن القرآن لا يختص بذكر القصص دون ما سواها بل كان مشتملا على كثير من أنواع الكلام ، فلو كانت المعارضة ممكنة لهم لأتوا بسائر أنواع الكلام وجعلوها معارضة للقرآن ، ولم يأخذهم في الأول باعتقاد تلك الأقاصيص وأنها كانت كما ذكر ، بل ورضى من جهتهم بأن يضعوا من عندهم قصصا ويكسونها من العبارات الجيدة العظيمة الجزلة ما يقارب القرآن في الفصاحة ويدانيه ، وليلتبس الحال فيه ، فلا معنى لما ذكرتموه.

وأيضا ، فلا إشكال أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يتحدى اليهود بذلك ، وفيهم العلماء بالأخبار والعارفون بالأقاصيص ، حتى أن كل قصة مجهولة تقص في عالم الله تعالى تنسب إليهم وتؤخذ منهم.

وبعد ، فإن العرب قد بعثوا إلى الفرس يطلبون منهم القصص ، نحو قصة رستم واسفنديل ، وجمعوا من ذلك شيئا كثيرا ، ثم عجزوا في الآخرة أن يجعلوه معارضة القرآن ، فصح سقوط ما أوردوه.

فإن قيل : أكبر ما في هذه الجملة التي أوردتموها ، أن القرآن قد بلغ في الفصاحة حدا لا يتمكن العرب من معارضته ، وذلك لا يوجب كونه معجزا دالا على نبوته ، فإن من الجائز والحال ما ذكرتموه أن يكون القرآن من جهته صلى‌الله‌عليه‌وسلم لتقدم له في معرفة الفصاحة ، ولهذا قال : «أنا أفصح العرب». وما الحال فيما أتى به صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كالحال فيما يأتي به بعض من تميز في صناعة من الصناعات ، فكما أنه لا يستحق بهذا القدر النبوة ولا يدل على أنه مبعوث من جهة الله جل وعز ، فكذلك الحال فيما نحن فيه.

قيل له : ليس الأمر على ما ظننته ، فإنه يستحيل فيمن نشأ بين جماعة يتعاطون البلاغة ويتباهون بالفصاحة أن يتعلمها ويأخذها منهم ، ثم يبلغ فيها حدا لا يوجد في كلام واحد منهم بل في كلام جماعته فصل يساوي كلامه في الفصاحة ، أو يدانيه أو يقرب منه أو يشتبه الحال فيه ، وهذا الحال حال القرآن مع سائر كلامهم ، فلا بد من أن تكون قد انتقضت فيه عاداتهم ، ولن يكون كذلك إلا ويتضمن الدلالة على صدق من ظهر عليه ، سواء كان من جهة الله تعالى أو من جهته على ما مضى ، وقد ذكرنا أنه ليس من قضية المعجزات أن تكون من جهة الله تعالى على كل حال ، وهكذا الحال في سائر الصناعات عندنا ، فلو نشأ غلام فيما بين جماعة من الصناع وتعلم منهم الصناعة ، ثم بلغ في العلم بالصناعة مبلغا لا يوجد في أعمالهم عمل يساوي عمله ولا يقاربه ولا يدانيه ، ثم ادعى هو لأجله النبوة ، فإنه لا بد من أن يصدق ، لمكان ما آتاه الله تعالى

٤٠٠