شرح الأصول الخمسة

عبد الجبّار بن أحمد الهمداني الأسدآبادي

شرح الأصول الخمسة

المؤلف:

عبد الجبّار بن أحمد الهمداني الأسدآبادي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٧

وقدرة وشهوة إلا أنه لا طريق إلى شيء من ذلك ، ومن بلغ إلى هذا الحد فقد تناهى في الجهالة.

فإن قيل : لم قلتم إنه لا طريق إليه؟ قلنا : لأن المعنى إذا لم يعلم ضرورة ، فالطريق إليه إما أن يكون صفة صادرة عنه ، أو حكما أوجبه هو ، وليس هاهنا صفة تصدر عن الكلام الذي أثبتموه ، ولا حكم له يتوصل به إلى إثباته ، فإثباته والحال هذه يؤدي إلى ما ذكرناه.

فإن قيل : إن أحدنا إذا أراد أن يتكلم فإنه قبل الكلام يجد من نفسه شيئا ، ذلك الشيء هو الذي أثبتناه كلاما ، وأجلى الأمور ما يجده الإنسان من نفسه. قيل له : إن ما ذكرتموه يمكن أن يرجع به إلى شيء آخر ، وهو القصد إلى الكلام أو الإرادة له أو العزم عليه أو العلم به أو التفكير في كيفية ترتيبه ، فإذا أمكن أن يرجع به إلى هذه الأمور ، لم يجز أن ينصرف إلى ما ذكرتموه.

وحكى عن بعض متأخريهم وهو ابن فورك الأصفهاني ، أنه ذهب إلى أن المرجع بالكلام إلى الفكر ، وهذا يوجب عليه أن يكون الله تعالى موصوفا بالتكلم ، أو أن يكون متفكرا ، تعالى الله عن ذلك. وهذا دخول منهم في المجوسية ، فهم الذين جوزوا الفكر على الباري تعالى حيث قالوا : إنه تعالى فكر فكرة رديئة فتولد من فكرته الشيطان ، فيكون ذلك أحد وجوه المضاهاة بينهم وبين المجوس.

فإن قيل : أو ليس أهل اللغة يقولون : في نفسي كلام ، فكيف يصح ما ذكرتموه؟ قلنا : إن ما ذكرتموه عكس الواجب ، فإن الأصل أن تثبت المعاني أولا ثم يعبر عنها بعبارات ، وأنتم فقد جعلتم العبارات طريقا إلى إثبات المعاني ووصلة إليها ، وذلك مما لا وجه له ، لأنه لو لم يخلق العرب أو خلقهم خرسا ، لكان لا بد من أن يمكننا معرفة الكلام وماهيته ، وعلى ما قالوه لا يتصور ذلك.

وبعد ، فإن العرب كما تقول : في نفس كلام ، فقد تقول في نفسي : بناء دار ، أو حج بيت الله تعالى ، أو زيارة قبر رسول الله ، فكان يجب أن تكون هذه الأفعال كلها معاني في النفس قائمة بذات فاعلها والمعلوم خلافه.

فإن قيل : إن مرادهم بذلك ، في نفسي العزم على بناء دار ، وعلى حج بيت الله تعالى ، إلى ما شاكل ذلك ، قلنا : فارض بمثل هذا الجواب.

٣٦١

فإن قيل : ما أنكرتم أن هاهنا طريقا إلى إثبات الكلام ، وهو مضادته للخرس والسكوت؟ قلنا : ليس للكلام ضد لا من جنسه ولا من غير جنسه ، وبعد ، فلو كان الخرس والسكوت يضادان الكلام ، لكانا لا يضادان إلا هذا الذي نسمعه نحن وأنتم ولا يعدون ذلك كلاما ، ويقال لهم أيضا : إن المرجع بالخرس إلى فساد يلحق آلة الكلام ، والسكوت هو أن لا يستعمل آلة الكلام فيه حالة قدرته على استعماله ، فلو كان ذلك ضد الكلام لكان لا ينبغي أن يصح من الله تعالى خلق الكلام في لسان الأخرس والساكت ، وإلا فقد اجتمع الضدان ، والمعلوم خلافه ، فبطل كلامهم هذا من كل وجه.

وإذ قد فرغنا من الكلام فيما يتعلق بالمعنى ، فإنا نتبع ما يستعملونه من العبارة ، ونحصل الكلام عليهم فيها فنقول :

قولكم : إن الكلام معنى قائم بذاته القديم تعالى يحتمل أمورا ، لأن القيام قد يذكر ويراد به الانتصاب ، كما يقال : فلان قائم ، أي منتصب ، وقد يذكر ويراد به الدوام ، كقوله : الحي القيوم أي الدائم ، وقد يذكر ويراد به الحفظ ، كما يقال : السقف قائم بالسارية أي محفوظ به على معنى أنه لولاه لسقط ، وقد يذكر ويراد به الحلول ، كما يقال : الكون قائم بالمحل ، وشيء من ذلك لا يتصور في هذه المسألة ، لأن الانتصاب والحلول وغيرهما مما لا يجوز على الله تعالى.

فإن قيل : إنا لا نريد بهذه العبارة شيئا من الأشياء ، وإنما نعني بها أنه موجود به. قلنا : إن هذه العبارة أيضا تستعمل في معنيين :

أحدهما : أنه واقع من جهته وأنه هو الذي فعله ، على ما يقال في السموات والأرض أنها موجودة بالله.

والثاني : أنه لولاه لما وجد ، كما يقال العرض موجود بمحله ، فإن أردتم به الأول ، فهو الذي نقوله ، إلا أنه يقتضي حدوثه ، وإن أردتم به الثاني فلا يصح ، لأنه يوجب أن يكون ذلك المعنى قائما بحياة القديم تعالى وبقدرته لا بذاته ، وقد عرف خلافه.

وقد دل بعد هذه الجملة على أن المتكلم هو فاعل الكلام ، ليفسد به ما ذهبوا إليه في هذا الباب.

٣٦٢

المتكلم هو فاعل الكلام

والذي يدل على صحة ذلك ، هو أن أهل اللغة لما اعتقدوا تعلق الكلام بفاعله سموه متكلما ، ومتى لم يعتقدوا ذلك فيه لم يسموه به. وعلى هذا فإنهم أضافوا كلام المصروع إلى الجني ، فقالوا : إن الجني يتكلم على لسانه ، لما رأوا أن ذلك الكلام لا يتعلق به تعلق الفعل بفاعله ، فلو جاز أن يقال في المتكلم إنه ليس هو فاعل الكلام ، لجاز مثله في الشاتم والضارب والكاسر وغير ذلك ، فالطريقة في الجميع واحدة ، وإن كان البعض أظهر من البعض ، وقد عرف خلافه.

ويدل على ذلك أيضا ، هو أن المتكلم لا يخلو ، إما أن يكون متكلما لأنه فعل الكلام ، أو لأن الكلام أوجب له حالة أو صفة ، أو لأن الكلام حله أو بعضه ، أو لأن الكلام أثر في آلته على معنى أنه نفى الخرس والسكوت عنه ، أو لأنه موجود به ، والأقسام كلها باطلة ، فلم يبق إلا أن يكون المتكلم إنما كان متكلما لأنه فاعل الكلام على ما نقوله.

فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المتكلم متكلما لأن الكلام أوجب له حالة أو صفة؟ قلنا : إنه لا حال للمتكلم بكونه متكلما ، إذ لا طريق إليه ، وإثبات ما لا طريق إليه بفتح باب الجهالات على ما مر.

فإن قيل : إن هاهنا طريقا ، فإن الواحد منا يفصل بين كونه متكلما وبين أن لا يكون متكلما ، وأجلى الأمور ما يجده الإنسان من نفسه.

قلنا إن هذه التفرقة إذا أمكن أن نرجع بها إلى أنه يفعل في إحدى الحالتين الكلام ولا يفعل في الحالة الثانية ، لم يمكن أن نرجع به إلى ما ذكرتموه.

ويدل على ذلك أيضا ، هو أنه لو كان للمتكلم بكونه متكلما حال وصفة ، لكان يجب أن يسبق العلم بتلك الحال قبل العلم بالكلام ، كما في كونه عالما ، فإن العالم لما كان له بكونه عالما حال ، يسبق علمنا بكونه عالما على العلم بما يوجبه وهو العلم. وكذلك في المتحرك ، فإن المتحرك لما كان له بكونه متحركا حالة وصفه ، حصل العلم بكونه متحركا قبل العلم بالحركة ، كذلك يجب مثله في مسألتنا ، فكان يجب أن نعلم كون المرء متكلما وإن لم يخطر ببالنا الكلام ، والمعلوم خلافه ، فإنا ما لم نعلم تعلق الكلام به تعلق الفعل بفاعله لم نعلم كونه متكلما.

فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المتكلم متكلما لأن الكلام حله أو حل بعضه؟

٣٦٣

قلنا : لأنه لو كان كذلك لكان يجب أن يكون اللسان هو المتكلم ، لأن الكلام حله دون غيره ، وأن يكون هو المبعوث بالرسالة ، المؤدي لها ، المستحق المدح والتعظيم عليها ، ولكان يجب أن يكون اللسان هو القاذف المستحق الجلد ، والمعلوم خلافه ، وأيضا ، فكان يجب أن يكون اللسان هو الشاعر ، لأن الشعر إنما يحله ، وذلك يوجب صحة الفعل المحكم وتأتيه ممن ليس بعالم ، وقد عرف خلافه.

وأيضا ، فكان يحب أن لا يوجد في العالم متكلم لأن أقل الكلام حرفان ، وما من حرف إلا وقد اختص بمخرج مخصوص لا يمكن إخراجه من غير مخرجه فلا يجتمعان والحال ما قلناه في محل واحد حتى يكون ذلك المحل متكلما ، وفي ذلك ما قلناه.

إنكار أن يكون متكلما لأنه أثر في آلته

فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المتكلم متكلما لأنه أثر في آلته ، على معنى أنه نفي لخرسه وسكوته؟ قلنا : لما قد مر من أن الخرس والسكوت لا يضادان الكلام ، بل لا ضد للكلام أصلا.

إنكار أن يكون متكلما لأن الكلام يحتاج إليه

فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المتكلم متكلما لأن الكلام يحتاج إليه؟

قلنا : إذا كان المتكلم محتاجا إلى الكلام ، والكلام محتاجا إلى المتكلم ، فقد احتاج كل واحد منهما إلى صاحبه ، ووجه الحاجة واحد ، وذلك في الاستحالة بمنزلة حاجة الشيء إلى نفسه.

فإن قيل : لم لا يجوز أن تكون حاجته حاجة التضمين؟ قلنا : لا يجوز ذلك ، لأن حاجة الشيء إلى نفسه.

فإن قيل : لم لا يجوز أن تكون حاجته حاجة التضمين؟ قلنا : لا يجوز ذلك ، لأن حاجة التضمين هو أن لا يحصل الذات إلا على صفة ، ولا يحصل على تلك الصفة إلا وهو حاصل على صفة أخرى ، ولا يحصل على تلك الصفة إلا بمعنى ، فيقال : إن ذلك الشيء وجوده مضمن به ، كما يقال في الجوهر أنه مضمن بالكون ، على معنى أنه لا يوجد إلا وهو متحيز ، ولا يكون متحيزا وإلا وهو كائن ، ولا يكون كائنا إلا بكون ، وهذا مما لا يتصور في الكلام والمتكلم ، فلا يصح أن يكون بينهما حاجة التضمين.

٣٦٤

إنكار أن يكون متكلما لأن الكلام موجود به أو قديم بذاته

فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المتكلم متكلما لأن الكلام موجود به أو قديم بذاته؟ قلنا : قد أجبنا عن كلتا العبارتين ، ويبينا فسادهما وفساد معانيهما في غير هذا الوضع.

إنكار أن يكون متكلما لأن الكلام كلامه إلا إذا قصد أنه فعله

قيل : لم لا يجوز أن يكون المتكلم متكلما لأن الكلام كلامه أو كلام له؟

قلنا : إن هذا يستعمل على وجهين : أحدهما ، بمعنى الاتصال والاختصاص ، والثاني بمعنى الملك ، وأي ذلك كان منهما فإنه لا يتصور في الكلام والمتكلم.

فإن قيل : إن المراد بقولنا إن الكلام كلامه أو كلام له ، أي أنه فعله ، قلنا : هذا صريح مذهبنا فلا ننازعكم فيه.

إذا ثبتت هذه الجملة فاعلم ، أن الطريق الذي به يعرف أن الكلام كلام المتكلم طريقان : أحدهما ، أن يسمع منه ويعلم وقوفه على دواعيه ، والثاني ، أن يخبرنا منبئ صادق بذلك ، هذا إذا كان الكلام في الشاهد.

فأما في القديم تعالى ، فإنا إنما نعلم أن الكلام كلامه بطريقين : أحدهما أن يكون واقعا على وجه لا يصح وقوعه على ذلك الوجه من القادرين بالقدرة ، كأن يوجد في حصاة أو شجرة أو حجر أو غير ذلك. والثاني ، كأن يخبرنا نبي صادق ، وبهذه الطريقة الأخيرة علمنا أن القرآن كلام الله تعالى ، لأنه لو لم يخبرنا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك ، ولم يعرف من دينه ضرورة ، ولا دل عليه قوله تعالى : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء : ٨٢] وإلا كنا نجوز أن يكون من جهته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنه ليس من ضرورة المعجز أن يكون من جهة الله تعالى ، بل لا يمتنع أن يمكن الله نبيه أو غيره ، فيظهره على المدعي النبوة إذا كان صادقا ، وإنما الذي يجب في المعجز أن يكون ناقصا للعادة خارقا لها.

وقد ذكر رحمه‌الله بعد هذه الجملة ، أن هذا الكلام الذي أثبتوه قائما بذات الباري إما أن يثبتوه حالا في الله تعالى ، فالله تعالى يستحيل أن يكون محلا ، لأن المحل متحيز ، والمتحيز محدث ، وقد ثبت قدمه.

وإما أن يثبتوه موجودا لا في محل ، وذلك أيضا محال ، فإن حكم الكلام مقصور

٣٦٥

على محله ، منه يسمع وعليه يضاد ضده ، فلو وجد لا في محل لانقلب جنسه ، وذلك محال.

وأيضا ، فلو صح وجوده لا في محل وقدرنا فيه التضاد ، لكان لا يخلو حال الكلامين وقد وجدا لا في المحل من أن يتضادا أو لا يتضادا ، فإن لم يتضادا مع أن وجود أحدهما على حد وجود الآخر ، لم يصح ، لأن ذلك يقتضي قلب جنسهما ، وإن تضادا كان يجب أن يكون تضادهما على مجرد الوجود ، وذلك يوجب أن لا يصح وجود كلامين مختلفين في العالم ، وقد عرف خلافه. فصح لك في هذه الجملة أن الكلام لا يصح وجوده لا في محل.

وإما أن يثبتوه موجودا في غيره وذلك يقتضي حدوثه ، لأن القديم لا يحل المحدث ، ومحله إذا وجد فلا بد من أن يكون غير الله تعالى لاستحالة أن يكون الله تعالى محلا لشيء من الأشياء.

ثم لا يجب أن يكون مبنيا بنية مخصوصة على ما يحكي عن أبي علي ، وكان يذهب إليه أبو هاشم أولا ثم رجع عنه وقال : إن حكمه مقصور على محله على ما ذكرنا ، وما هذا سبيله فلا حاجة به إلى أزيد من محله ، اعتبر به بالسواد وغيره من المعاني التي يكون حكمها مقصورا على محلها.

ولهذه الطريقة لم يجب في محله أن يكون متحركا لا محالة ، على ما يحكى عن أبي علي أن به حاجة إلى الحركة.

يبين ما ذكرناه ويوضحه ، أنه لو احتاج إلى الحركة لكان لا وجه له إلا أن الحركة سبب فيه ، وليس كذلك ، فإن سببه على الصحيح من المذهب إنما هو الاعتماد بشرط الصّكة التي يرجع بها إلى تأليف بين جسمين صلبين عقيب حركات متوالية ، أو حركات تقل السكنات بينها ، وإنما كان هكذا لأنه يوجد بحسب الاعتماد الذي وصفناه ، يقل بقلته ويكثر بكثرته ، فلو جاز والحال هذه أن يكون سببه غيره لكان لا يمكننا أن نثبت شيئا من الأسباب.

وبعد ، فإننا إذا ضربنا جوزة على سندانة فإنا نسمع منها صوتا ، فقد وجد الصوت ولا حركه ، ولو كان محتاجا إليها لم نجد ذلك.

ومتى قيل : إن الصوت في السندات إنما تولد من حركة الجوزة ، قلنا : إن الحركة لا جهة لها ، فلو ولدت الصوت لولدته في محلها ، وإلا لم تكن بالتوليد في هذه الجهة

٣٦٦

أولى من التوليد في غيرها ، وذلك يقتضي أن تولده في سائر الجهات ، ومعلوم خلافه.

فإن قيل : قد علما أن من ضرب الطست فإن الصوت الذي يتولد فيه يقف على الحركة ويوجد بحسبها ، فلما ذا وقف طنين الطست على الحركة يثبت بثباتها وينقطع بانقطاعها إن لم يحتج إليها ولم يتولد عنها؟ قلنا : إنه إنما يتولد عن الاعتماد بشرط المصاكة ، وهي عبارة عن تأليف مخصوص واقع عقيب حركات متوالية أو حركات يقل السكون بينها على ما ذكرنا ، فلفقد الشرط ينبغي توليد الاعتماد ، لا لأن الحركة هي المولدة.

فإن قيل : كيف يكون القديم تعالى متكلما بكلام يوجد في غيره ، قلنا : كما يكون منعما بنعمة توجد في غيره ، ورازقا برزق يوجد في غيره ، وهذا لأن المتكلم هو فاعل الكلام ، وليس من شرط الفاعل أن عليه فعله لا محالة. ولصحة هذه الطريقة التي سلكناها في هذه المسائل من أن الكلام حكمه مقصور على محله فلا يحتاج إلا إلى مجرد المحل ، منعنا مما يوجبه شيخنا أبو علي بن خلاد ، وهو أن لا يوجد الكلام إلا في الهواء ، وقلنا : إن الهواء وغير الهواء سواء في صحة وجود الكلام فيه.

وعلى الجملة ، فإن أحدنا إذا كان لا يمكنه أن يتكلم إلا بالفم واللسان ، وإلا إذا كان متمكنا من النفس ، وإلا بسبب هو الاعتماد بشرط الصكة ، فلأنه لما كان قادرا بقدرة لم يستغن عن مثل هذه الآلات لما بين في الكتب ، لا لأن الكلام في نفسه يفتقر إلى شيء من هذه الأشياء نحو التنبه والحركة والهواء ، فهذه جملة ما يحتمله هذا الوضع.

شبه المخالفين في قدم القرآن

وللمخالف في قدم القرآن شبه ، من جملتها :

قولهم : قد ثبت أن القرآن مشتمل على أسماء الله تعالى ، والاسم والمسمى واحد ، فيجب في القرآن أن يكون قديما مثل الله تعالى. قالوا : والذي يدل على أن الاسم والمسمى واحد ، هو أن أحدنا عند الحلف يقول : تالله وو الله ، وهكذا يقول باسم الله ، ولا يكون كذلك إلا والأمر على ما قلناه. وكذلك فقد قال لبيد :

إلى الحول ثم اسم السلام عليكما

ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر

أي السلام عليكما. وهكذا فإن أحدنا إذا قال : طلقت زينب ، كان الطلاق واقعا

٣٦٧

عليها ، فلو لم يكن الاسم والمسمى واحدا لكان لا يكون ذلك كذلك.

وجوابنا أن هذه جهالة منكم مفرطة ، لأن الاسم والمسمى لو كان واحدا لكان يجب إذا سمى أحدكم بعض النجاسات أن ينجس فمه ، وإذا سمى بعض الحلاوات أن يحلو فمه ، وإذا سمى شيئا من المحرقات أن يحترق فمه ، وليس الأمر كذلك ، فما كل من قال نارا أحرقت فمه وعلى هذا قال بعضهم :

لو كان من قال نارا أحرقت فمه

لما تفوه باسم النار مخلوق

وأيضا ، فكيف يتصور أن يكون الاسم والمسمى واحدا ، مع أن الاسم عرض والمسمى جسم.

وأما ما ذكره من الحلف ، فإن أحدنا إذا أراد أن يظهر ذلك من نفسه لم يمكنه إلا بالعبارة عنه ، فكيف يصح ما ذكرتموه؟ ولو كان الأمر على ما زعمتموه لكان يجب في الله تعالى أن يكون محدثا فإن الحلف لا شك في حدوثه.

وأما قولنا : بسم الله الرحمن الرحيم ، فإنا إنما نقرؤه لما لنا فيه من اللطف ، والله قد تعبدنا به.

وقول لبيد : إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ، مجاز ، ونحن لا ننكر استعمال المجازات.

وقولهم : ضرب زيد عمرا وطلقت زينب ، فإن ذلك إنما انصرف إلى المسمى لأن أحدنا أراد أن يصرفه إليه.

فإن قيل : إن كلامنا في الاسم ، وما ذكرتموه كلام في التسمية ، قلنا : لا فرق بين الاسم والتسمية ، ألا ترى أنه لا فرق بين أن يقول القائل : سمى فلان فلانا تسمية حسنة ، وبين أن يقول سماه اسما حسنا ، ولهذا لو أثبت بأحدهما ونفى بالآخر تناقض الكلام.

حكاية أبي الهذيل وبعض الحنابلة

وهاهنا حكاية جرت بين بعضهم مع شيخ من شيوخنا ، هذا موضعها. ويحكى أن بعض الحنابلة ناظر أبا الهذيل في هذه المسألة ، فأخذ لوحا وكتب عليه : الله ، قال : أفتنكر أن يكون هذا هو الله وتدفع المحسوس؟ فأخذ أبو الهذيل اللوح من يده وكتب بجنبه : الله آخر ، فقال للحنبيل أيهما الله إذن؟ فانقطع المدبر.

٣٦٨

تعلق المخالفين بآيات من القرآن

وقد تعلقوا في ذلك بآيات من القرآن ، من جملتها ، قوله تعالى : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) قالوا : إنه تعالى فصل بين الخلق والأمر ، وفي ذلك دلالة على أن الأمر غير مخلوق.

وجوابنا أن هذا باطل ، لأن مجرد الفصل لا يدل على اختلاف الجنسين ، أو لا ترى أنه تعالى فصل بين نبينا وبين غيره من الأنبياء عليهم‌السلام بقوله : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ) [الأحزاب : ٧] ، ثم لا يجب أن لا يكون نبيا من الأنبياء ، وكذلك فإنه فصل بين الفحشاء والمنكر ثم لا يجب أن تكون الفحشاء غير المنكر ، وأيضا فإنه تعالى فصل بين الفاكهة والرمان بقوله : (فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (٦٨)) [الرحمن : ٦٨] ثم لا يجب أن لا يكون الرمان من الفاكهة ، كذلك في مسألتنا.

فإن قيل : فما فائدة الفصل؟ قلنا : قد يفصل للتعظيم والتفخيم كفصله بين جبريل وميكائيل وبين غيرهما من الملائكة ، وكفصله بين نبينا وبين غيره من الأنبياء.

فإن قيل : فما فائدة الفصل؟ قلنا : قد يفصل للتعظيم والتفخيم كفصله بين جبريل وميكائيل وبين غيرهما من الملائكة ، وكفصله بين نبينا وبين غيره من الأنبياء.

فإن قيل : كما يفصل للتعظيم فقد يفصل لاختلاف المذكورين ، فلم حملتم هذا الفصل على أنه للتعظيم؟ قلنا : لقيام الدلالة على أن الأمر مخلوق ، ولقوله : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) [الأحزاب : ٣٧].

ومن جملة ما يتعلقون به ، قوله تعالى : (الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسانَ (٣)) [الرحمن : ١ ـ ٣] قالوا : إن هذا يدل على أن القرآن غير مخلوق لأنه وصف الإنسان بالخلق ولم يصف القرآن به.

وجوابنا عن ذلك ، ليس يجب إذا وصف الله تعالى الإنسان بأنه مخلوق أن لا يكون ما عدا الإنسان مخلوقا ، فإن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على ما عداه. وبعد ، فلو استدللنا نحن بهذه الآية لكنا أسعد حالا منكم ، فقد قال : (عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢)) والتعليم لا يتصور إلا في المحدثات ، وكذلك فقد قال : (عَلَّمَهُ الْبَيانَ (٤)) والبيان فالمرجع به إلى الدلالة ، والدليل لا بد من أن يكون محدثا أو في تقدير الحادث.

فإذا ثبتت هذه الجملة ، وصح حدوث القرآن ووقوعه مطابقا للصلاح ، فاعلم أنه لا يمتنع وصفنا بأنه مخلوق.

وفي الناس من أنكر ذلك فخالف.

٣٦٩

وخلافه لا يخلو ، إما أن يكون من جهة المعنى ، وذلك تقدم الكلام فيه ، إما أن يكون خلافا من جهة العبارة ، فيسلم حدوث القرآن ، ويقول : إن تسميته مخلوقا يوهم جواز الموت عليه كما في سائر المخلوقات ، وذلك محال.

والجواب ، أنه ليس يجب في المخلوقات أن تموت كلها ، فإن الجمادات مخلوقة ومع ذلك فإن الموت مستحيل عليها ، وقد ألزمهم شيخنا أبو علي جواز الموت على الموت لأنه مخلوق ، بدليل قوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) [الملك : ٣] فالتزموا ذلك ، وتعلقوا فيه بخبر يروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «يؤتى يوم القيامة بالموت على صورة كبش أملح فينادى بين أهل الجنة وأهل النار ، ويقال يا أهل الجنة ويا أهل النار أتعرفون الموت؟ فيقولون : لا ، فيقال : هذا هو الموت ، ثم يذبح ، وينادى يا أهل الجنة خلود ولا موت ، ويا أهل النار خلود ولا موت» ومن بلغ معه الكلام إلى هذا الحد فإن الواجب أن يضرب عنه ، ويطوى الكشح دونه.

فإن قيل : ما أنكرتم إنما لا يجوز وصف القرآن بأنه مخلوق لأن الخلق هو الكذب ، ولهذا يقال : قصيدة مخلوقة ومختلقة إذا كانت مشتملة على أكاذيب وأباطيل ، كذلك فقد قال تعالى : (إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (١٣٧)) [الشعراء : ١٣٧] وقال : (إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) [ص : ٧].

وجوابنا عن ذلك ، أن هذا لا يصح ، لأن الخلق إنما هو التقدير ، والمخلوق هو الفعل المقدر بالغرض والداعي المطابق له على وجه لا يزيد عليه ولا ينقص عنه ، لهذا نراهم يقولون : خلقت الأديم هل لحى منه مطهرة أم لا ، وقال الحجاج : إني إذا وعدت وفيت ، وإذا خلقت فريت ، أي إذا قدرت قطعت ، وكذلك فقد قال زهير :

ولأنت تفرى ما خلقت

وبعض القوم يخلق ثم لا يفرى

وكذلك فقد قال غيره :

ولا يئط بأيدي الخالقين ولا

أيدي الخوالق إلا جيد الأدم

وهذه الجملة كلها دلالة على أن الخلق إنما هو التقدير على ما نقوله ، وإذ كان هذا هكذا صح وصف القرآن بأنه مخلوق على ما ذكرناه. فأما قولهم قصيدة مخلوقة أو مختلقة ، فليس الغرض به أنها كذلك في نفسها ، بل المراد به أنها منسوبة إلى غير قائلها ، وهذا كما يقال : قصيدة منحولة ومصنوعة ، أي منسوبة إلى غير قائلها ، كذلك هاهنا. ولهذا فلو قدرنا أن تكون القصيدة مشتملة على الأوامر والنواهي ، لكان يصح

٣٧٠

وصفها بأنها مخلوقة ومختلقة ، كما يصح وصفها بأنها مصنوعة ومنحولة مع أنه لا يتصور فيه الكذب والصدق ، لأن الكذب والصدق لا يدخلان في الأوامر والنواهي وإنما يثبتان في الأخبار وأما قوله تعالى : (إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (١٣٧)) [الشعراء : ١٣٧] فليس المراد به الكذب على ما قالوه ، وإنما هو قول منكري البعث والنشور ، الذين قالوا : هل نحن إلا كالأولين ممن مضى.

وأما قوله تعالى : (إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) [ص : ٧] فإنه وإن أراد به الكذب مجازا ، فليس يجب أن لا يكون حقيقته ما قد بيناه ، وأن لا يوصف به القرآن على المعنى الذي يصح ويسلم.

فإن قيل : ما أنكرتم أن الخلق إنما هو إيقاع الفعل على وجه الاختراع على ما يقوله شيوخكم البغداديون ويحكى عن عباد بن سليمان الصيمري؟ قلنا : لما قد تقدم من أنهم كانوا يصفون الفعل المقدر بالغرض والداعي مقدرا مخلوقا ، ولهذا كان الحجاج يتمدح : بأني إذا وعدت وفيت ، وإذا خلفت فريت.

وأيضا ، فلو كان كما ذكروه لم يصح وصف غير القديم تعالى بذلك ، وكان لا يصح قوله تعالى : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٤] وقد أنكر عباد حين سمع هذه الآية أن يكون المراد به الجمع ، وقال : إن الياء والنون زائدتان ، وذلك جهل منه باللغة وبمواضع الكلام.

الكلام في الخلق والمخلوق

ولولوع الناس بالكلام في الخلق والمخلوق ، تكلم فيه شيوخنا أيضا.

فذهب شيخنا أبو علي إلى أن الخلق إنما هو التقدير ، والمخلوق هو الفعل المقدر بالغرض والداعي المطابق له على وجه لا يزيد عليه ولا ينقص عنه ، على ما اخترناه ، وهو الصحيح من المذهب.

وأما شيخنا أبو هاشم ، وأبو عبد الله البصري ، فقد ذهبا إلى أن المخلوق مخلوق يخلق ، ثم اختلفا :

فذهب أبو هاشم إلى أن الخلق إنما هو الإرادة.

وقال أبو عبد الله البصري : بل هو الفكر ، وقال : لو لا ورود السمع والأذن بإطلاق هذه اللفظة على الله تعالى ، وإلا ما كنا نجوز إطلاقها عليه تعالى عقلا.

٣٧١

وحجته في هذا الباب قول زهير :

ولأنت تفرى ما خلقت

وبعض القوم يخلق ثم لا يفرى

قالا : أثبت الخلق ونفى الفرى ، فدل على أن الخلق معنى على ما نقوله.

والأصل في الجواب عن ذلك ، أن هذا غير جائز على مذهبهما ، لأن أبا هاشم لا يجوز أن يحصل الخلق ولا يحصل المخلوق ، وهكذا فإن أبا عبد الله لا يجوز حصول الفكر ثم لا يحصل الفعل. فإذا إن دل ما أوردوه على فساد ما اخترناه ، ليدلن على فساد ما ذكروه ، على أنا قد بينا أن مراد زهير بذلك ، أنك تقطع ما تقدر وفي الناس من هو بخلاف ذلك ، فلا مطعن على كلامنا.

ونعود بعد هذه الجملة إلى تمام الأدلة الدالة على أن كلام الله تعالى لا يجوز أن يكون قديما.

فمن جملة ما يدل على ذلك ، هو أنه لو كان كلام الله تعالى قديما لوجب أن يكون مثلا لله تعالى لأن القدم صفة من صفات النفس ، والاشتراك في صفة من صفات النفس يوجب التماثل ، ولا مثل لله تعالى.

وأيضا ، فلو كان قديما ، لوجب أن يكون عالما لذاته ، قادرا لذاته ، كالقديم تعالى سواء ، لما قد ذكرناه فيما قبل أن الاشتراك في صفة من صفات النفس يوجب الاشتراك في سائر صفات النفس ، ومعلوم خلافه.

وأيا ، فإن العدم مستحيل على القديم تعالى ، فلو كان الكلام قديما لما جاز أن يعدم ، ومعلوم أنه لا يمكن وقوعه على حد يعاد به ، إلا إذا وجد حرف عند عدم حرف ، يبين ما ذكرناه ويوضحه ، أن أحدنا إذا قال : الحمد لله فإنه لا بد من أن يقوم حال وجود اللام الهمزة ، وحال وجود الحاء اللام ، وحال وجود الميم والدال اللام والحاء ، حتى لا يلتبس الحمد بالمدح ، والمدح بالدمح ، ومعلوم أن ما هذا سبيله لا يجوز أن يكون قديما.

وأيضا ، فإن كلامه عزوجل لا يخلو ، إما أن يكون مثلا لكلامنا ، أولا. فإن كان مثلا لكلامنا ، فلا يجوز أن يكون قديما ، لأن المثلين لا يجوز افتراقهما في قدم ولا حدوث. وإذا كان مخالفا لكلامنا فلا يعقل ، لأن الكلام هو هذا الذي نسمعه ، فلو جاز أن يكون في الغائب كلام مخالف لا نسمعه فيما بيننا ، لجاز أن يكون هناك لون آخر مخالف لهذه الألوان ، ولجاز أن يكون هناك معان آخر قديمة مخالفة لهذه

٣٧٢

المعاني ، وذلك محال.

وأيضا ، فإنه تعالى قد منّ على رسوله موسى عليه‌السلام بقوله : (إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي) [الأعراف : ١٤٤] فالامتنان لا يقع إلا بالمحدث دون القديم.

وأيضا ، فإنا نقول لهم : ما تقولون فيما نتلوه ونسمعه في المحاريب ونكتبه في المصاحف؟ أفتقولون : إنه كلام الله تعالى؟ فإن قالوا : لا فقد انسلخوا عن الدين وخلعوا ربقة الإسلام عن أعناقهم ، وأخرجوا كلام الله تعالى من أن يصح الرجوع إلى في الأحكام وتمييز الحلال من الحرام ، وردوا على الله قوله : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) [التوبة : ٦] وعلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قوله : «إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا من بعدي أبدا كتاب الله وعترتي أهل بيتي» فإن هذا هو المتروك فيما بيننا دون ما هو قائم بذات الباري. فإن قالوا : نعم ، ولا بد لهم من ذلك ، فلا شك في حدوثه.

فإن قالوا : إن تحصيل مذهبنا في ذلك هو أن هذا حكاية كلام الله تعالى.

قلنا : إن هذا بخلاف ما عليه الأمة ، وعلى أنه كان يجب أن يكون محدثا ، لأن الحكاية يجب أن تكون من جنس المحكى ، والجنس الواحد لا يجوز أن يشتمل على القديم والمحدث.

فإن قالوا : إن هذا عبارة كلام الله تعالى ، قلنا لهم : إن العبارة أيضا يجب أن تكون من جنس المعبر عنه ، خاصة إذا كانا كلامين ، وذلك يقتضي حدوثه على ما نقوله ، فهذه جملة الكلام في أنه تعالى لا يجوز أن يكون متكلما بكلام قديم.

وإذ قد عرفت ذلك ، فاعلم أن في الناس من ذهب إلى أنه تعالى متكلم لذاته ، وهو محمد بن عيسى الملقب بالبرغوث ، والذي يدل على فساد مذهبه في هذا الباب ، أن المتكلم بما بيناه إذا كان فاعل الكلام لا أن له بكونه كذلك حالا ، فمن أثبت الله تعالى متكلما لذاته فقد أخرجه عن كونه متكلما أصلا ، وصار الحال فيه كالحال فيما إذا قلنا إنه تعالى قادر لذاته عالم لذاته ، فكما أن ذلك يقتضي نفي القدرة والعلم عن الله تعالى ، وإن كان لا يفيد خروجه عن كونه عالما قادرا ، لما كان للعالم بكونه عالما حال ، وللقادر بكونه قادرا حال ، كذلك في مسألتنا.

ويدل على ذلك أيضا ، هو أنه لو كان متكلما لذاته لوجب أن يكون متكلما بسائر ضروب الكلام وأجناسه ، لأن ضروب الكلام وأجناسه غير مقصورة على بعض

٣٧٣

المتكلمين دون بعض ، كما في كونه عالما ، فإنه لما كان عالما لذاته ، وكانت المعلومات غير مقصورة ، وجب أن يكون عالما بسائر المعلومات ، فكان يجب أن يكون متكلما بالحسنى والرفث والكذب ، وأن يكون شاتما لنفسه ومثنيا على نفسه سوء الثناء ، تعالى الله عن ذلك ، ولوجب أن يكون مخبرا عن كل ما يصح الأخبار عنه ، والمعلوم خلافه ، فإنه تعالى قال : (مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) [غافر : ٧٨].

وأيضا ، فلو كان القديم تعالى متكلما لذاته لوجب أن يكون مكلما لذاته ، لأن المكلم إنما يكون مكلما بما به يكون متكلما ، وذلك يوجب أن يكون الله تعالى قد كلم المخلوقين أجمع جهرة ، وذلك محال ، وما أدى إليه ويقتضيه يجب أن يكون محالا.

فإن قيل : أليس أنه تعالى قادر لذاته عالم لذاته ، ثم لا يجب أن يكون معلما لذاته مقدرا لذاته ، فهلا جاز أن يكون متكلما لذاته ولا يكون مكلما لذاته. وجوابنا عن ذلك ، أن هذا لا يصح ، لأنا قد احترزنا عن ذلك بقولنا : إنه إنما يكون مكلما بما به يكون متكلما ، وليس كذلك هاهنا ، لأن المقدر إنما يكون مقدرا بخلق القدرة ، والمعلم إنما يكون معلما بخلق العلم ، ولم يثبت أنه خالق العلم والقدرة لذاته ، ففسد قياس أحدهما على الآخر.

فإن قيل : إنما يجوز في المتكلم أن يكون كاذبا إذا لم يثبت كونه صادقا لذاته ، وقد ثبت كون القديم تعالى صادقا لذاته فاستحال عليه الكذب ، وصار الحال فيه كالحال فيما نقوله في كونه حيا أنه يصحح كونه جاهلا وإنما يصحح ذلك بشرط أن لا يكون عالما لذاته ، كذلك هاهنا. وجوابنا عن ذلك ، أن الدليل قد دلنا على أنه تعالى عالم لذاته فاستحال كونه جاهلا ، ولم يثبت ذلك في كونه صادقا ، فصح قولنا أنه تعالى لو كان متكلما لذاته لم يكن بأن يكون صادقا لذاته أولى من أن يكون كاذبا لذاته.

فإن قيل : إنه بأن يكون صادقا لذاته أولى ، لأنه أخبر عن أشياء وكان كما أخبر ، قلنا : وما تلك الأشياء؟ قالوا : خلقه السموات والأرضين ، فقد قال تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [ق : ٣٨] وكان كما أخبر ، قلنا : أليس قد قال ذلك فيما لم يزل ولم يخلق السموات والأرضين ، فهلا حكمتم عليه بالكذب.

وأيضا فما أنكرتم أن يكون غرضه بقوله : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [ق : ٣٨] سماوات وأرضين لم يخلقها بعد ، فيكون كاذبا على ما قلناه ، تعالى الله عن ذلك

٣٧٤

علوا كبيرا.

وبعد ، فلو كان الله تعالى متكلما لذاته ، لكان يجب أن يكون قائلا فيما لم يزل : (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) [نوح : ١] وإن لم يكن قد أرسل ، وأهلك عادا وثمودا وإن لم يكن قد أهلك.

فإن قيل : ما أنكرتم أن المواد بقوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) أي سنرسل ، وأنه (أَهْلَكَ عاداً) [النجم : ٥٠] أي سنهلك عادا ، جريا على طريقة أهل اللغة ، فإنهم يذكرون لفظ الماضي ويريدون به الاستقبال نحو قوله تعالى : (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ) [الأعراف : ٤٤]. وجوابنا عن ذلك ، أن الإرادة والكراهة إنما يؤثران في صفات الأفعال ، فأما في صفات الذات فلا ، وعندكم أن كونه متكلما من صفات الذات ، فكيف يصير كونه مخبرا عما مضى كونه مخبرا عما يستقبل بالإرادة؟ وبعد ، فلو كان المراد بقوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً) أي سنرسل ، لكان يجب أن لا تتغير فائدته الآن ، حتى يكون غرضه ، وأنه أرسل نوحا وأهلك عادا ، أنه سيرسله ويهلكهم ، وذلك يقتضي كونه كاذبا تعالى الله عن ذلك.

فإن قيل : ألستم تقولون : إن العلم بأن الشيء سيوجد علم بوجوده متى وجد ، فهلا جاز أن يكون الإخبار بأن الشيء سيكون ، خبرا عن كونه إذا كان. وجوابنا أنه لا يصح قياس أحدهما على الآخر ، لأن الدلالة قد دلت على أن العلم بأن الشيء سيوجد ، علم بوجوده ، متى وجد ، وأن المعلوم يتغير لا العلم ، ولم يقم مثل تلك الدلالة هاهنا ، بل قد علمنا أن الخبر الموضوع للدلالة على الماضي غير الخبر الموضوع للدلالة على الاستقبال ، كما أن صيغة الخبر في الجملة ، مخالفة لصيغة الأمر ، فافترقا.

ومن خالف في هذا الباب فقد تعلق بأن قال : لو لم يكن القديم تعالى متكلما فيما لم يزل ، لكان يجب أن يكون أخرس أو ساكتا ، كما في الشاهد فإن أحدنا إذا لم يكن متكلما يجب أن يكون على أحد هذين الوجهين.

وربما يوردون هذا على وجه آخر ، فيقولون : قد ثبت أنه تعالى حي ، فيجب أن لا يخرج عن كونه متكلما إلا إلى ضد هذه الصفة ، وضد الكلام هو الخرس والسكوت ، فيجب أن يكون أخرس أو ساكتا ، وفي علمنا باستحالة أن يكون الله تعالى موصوفا بالخرس والسكوت دليل على أنه لا بد من أن يكون متكلما لذاته على ما

٣٧٥

قلناه. يبين ذلك أن الحي لا يخلو عن الصفة. وضدها لأن خلوه عن الصفتين كحصوله عليهما ، فكما لا يجوز أن يحصل على حالتين ضدين ، كذلك لا يجوز أن يخلو عنهما جميعا. وإنما جمعنا بين الخلو والاجتماع ، لأن بعد أحدهما في العقل كبعد الآخر.

وربما أكدوا ذلك بالمحل واستحالة خلوه من الأكوان.

وجوابنا عن ذلك ، ما تريدون بقولكم أنه تعالى لو لم يكن متكلما فيما لم يزل لوجب أن يكون أخرس أو ساكتا؟ أتريدون به أنه لو لم يكن متكلما ، مع صحة أن يكون متكلما أو مع استحالة أن يكون ذلك فيه؟ فإن أردتم به مع الاستحالة فلا يصح ، وإلا كان يجب أن تكون الجمادات كلها ساكتين خرسا ، والمعلوم خلافه.

وإن أردتم به مع الصحة ، فمن أين ثبت لكم صحة هذه الصفة على الله تعالى فيما لم يزل ، وكيف يصح أن يكون متكلما فيما لم يزل ، مع أن المتكلم ليس إلا فاعل الكلام ، فإن قالوا : لأنه حاصل على هذه الصفة فيما لا يزال ، ولو لا صحتها فيما لم يزل ، وإلا كان لا يحصل عليها الآن ، كما في كونه عالما ، فإنه لما كان عالما الآن وجب صحة أن يكون عالما فيما لم يزل.

قلنا لهم : ولم جمعتم بينهما ، ولم صار كونه متكلما بأن يكون مردودا إلى كونه عالما ، أولى من أن يرد إلى كونه فاعلا؟

فإن قالوا : لأن كل واحدة من الصفتين مستحقة للذات.

قلنا : وفي هذا خولفتم ، وفيه وقع النزاع ، فكيف يصح هذا الاستدلال؟ ثم يقال لهم : إن أحدنا إذا لم يكن متكلما ، فإنما يجب أن يكون أخرس أو ساكتا لأنه متكلم بآلة ، ومتى لم يستعمل تلك الآلة في الكلام كان ساكتا ومتى لحقته ، آفة من رطوبة مفرطة أو جفاف مفرط كان أخرس ، والقديم تعالى متكلم لا بآلة ، فلا يصح قياس أحدهما على الآخر ، هذا هو الجواب عن الأول.

وأما الجواب عن الثاني ، فإنا نقول لهم : قولكم إن الحي لا يخلو عن الشيء وعن ضده ليس يصح ، لأنا قد ذكرنا أن الواحد منا مع صحة كونه عالما بتصرفات الناس في الأسواق قد لا يريدها ولا يكرهها ، فقد خلا عن الصفة وضدها ، وأما ما قالوه من أن خلوه عن الصفتين كحصوله عليهما ، فإن ذلك جمع بين أمرين من غير علة جامعة ، وأما قياسهم ذلك على الجوهر والكون ، فلا وجه له ، لأن ذلك إنما وجب في الجوهر والكون عندنا ، لأن وجود أحدهما مضمن بوجود الآخر ، وليس كذلك في

٣٧٦

مسألتنا.

على أن هذه الجملة تنبني على أن الخرس والسكوت ضدان للكلام ، وليس كذلك ، فإن الكلام لا ضد له من جنسه ولا من غير جنسه ، أما من جنسه فلأن الذي يشتبه الحال فيه ليس إلا أن يقال ، إن الراء مضاد للزاي لاستحالة اجتماعهما ويمكن أن يجعل الوجه في استحالة اجتماعهما شيء آخر سوى تضادهما ، وهو أن كل حرف من الحروف لا يخرج إلا من مخرج مخصوص ، فإذا أمكن أن يرجع باستحالة اجتماعهما إلى ما ذكرناه ، لم يمكن الدلالة بهذه الطريقة على تضادهما.

يبين ذلك ، أن استحالة اجتماع الشيئين إنما يدل على تضادهما إذا كان لا يكون لتلك الاستحالة وجه سوى التضاد ، فأما إذا كان هناك وجه آخر فلا ، وعلى هذا فإنك تعلم استحالة حصول الجوهرين في جهة واحدة على تماثلهما ، وأما من غير جنسه ، فلا شك أن الذي يشتبه فيه الحال ليس إلا الخرس والسكوت ، وذلك لا يجوز أن يكون ضدا للكلام ، لأن المرجع بالخرس إلى فساد يلحق آلة الكلام من رطوبة مفرطة أو جفاف مفرط ، والرطوبة واليبس مما لا يضادان الكلام ، ولهذا يصح في الكلام أن يجامع الرطوبة مرة واليبس أخرى ، والمرجع بالسكوت إلى تسكين آلة الكلام حال القدرة عليه ، والسكون ضد الحركة والحركة مخالفة للكلام ، فلا يجوز أن يكون ضدا للكلام ، لأن الشيء الواحد لا يجوز أن يكون ضدا لشيئين مختلفين ليسا بضدين ، وأيضا ، فلو كان الخرس والسكوت يضادان الكلام ، لكان يجب استحالة أن يوجد الله الكلام في لسان الأخرس والساكت ، وقد عرف خلافه.

وربما قال هؤلاء الأشعرية الذين أثبتوا كلام الله تعالى معنى قديما قائما بذاته ، لو لم يكن متكلما بكلام قديم لكان لا بد من أن يكون متكلما بكلام محدث ، وذلك الكلام المحدث لا يخلو إما أن يكون حالا فيه أو في غيره ، أو لا في محل ، والأقسام كلها باطلة ، فلم يبق إلا أن يكون متكلما بكلام قديم على ما نقوله.

وجوابنا ، أن من حق القسمة أن تكون مشتملة على مذهب الخصم ، وليست هذه القسمة كذلك ، فإن هاهنا قسمة قد أخللت بها ، وهو أنه لا يجوز أن يكون متكلما لذاته فلا يصح.

فإن قالوا : تلك القسمة لا إشكال في فسادها ، فلو كان متكلما لذاته لكان يجب أن يكون متكلما بسائر ضروب الكلام وأجناسه ، وذلك محال. قلنا : ولم وجب ذلك؟

٣٧٧

أو لست قد أثبته متكلما بكلام قديم ، ولم يكن يلزمك أن يكون متكلما بسائر ضروب الكلام وأجناسه ، فهلا جاز أن يكون متكلما لذاته وإن لم يجب ذلك فيه ، وأيضا ، فلم لا يجوز أن يكون متكلما بسائر ضروب الكلام وأجناسه ، وأكثر ما فيه أن يكون كاذبا شاتما لنفسه مثنيا عليه بسوء الثناء ، تعالى الله عن ذلك ، وهذا كله مما يجوزونه.

ثم يقال لهم : لم لا يجوز أن يكون متكلما بكلام محدث حال فيه؟

فإن قالوا : لأنه لو صح حلول الكلام المحدث فيه لصح حلول غيره من المعاني فيه ، وذلك مستحيل. قلنا لهم : أو ليس أنه يجوز عندكم أن تحله القدرة والعلم والحياة وليس يوجب ذلك صحة أن تحلة سائر المعاني ، فهل جاز مثله في مسألتنا؟

ومتى قالوا : إنا لا نقول بحلول القدرة القديمة والعلم فيه وإنما نجعله قائما به ، قلنا : فجوزوا في الكلام المحدث مثله.

ويقال لهم : لم لا يجوز أن يكون متكلما بكلام موجود لا في محل؟ فإن قالوا : لأن المحدث لا يصح حلوله إلا في محل ، قلنا : إن هذا باطل بالجواهر فقد وجدت لا في محل مع حدوثها.

فإن قالوا : كلامه من صفته ، والصفة لا تقوم إلا بموصوف قلنا : لم قلتم ذلك؟ ولا يجدون إلى تصحيح ذلك سبيلا.

ويقال لهم : لم لا يجوز أن يكون متكلما بكلام محدث موجود في غيره؟ فإن قالوا : لأن ذلك يوجب أن يكون ذلك الغير المتكلم به دونه ، قيل له : ولم يجب ذلك؟ فإن قالوا : لأن المعنى إذا حصل في محل فلا بد من أن يشتق لمحله منه اسم ، قلنا : هذا باطل بالرائحة والصوت ، وعلى أن المتكلم ليس باسم مشتق لمحل الكلام ، وإنما هو اسم لفاعل الكلام ، بخلاف الأسود والأبيض ، فهلا جوزتم ما ذكرناه ، ولا بد لكم من تجويزه.

ثم نقلب عليهم هذه القصة في الكلام القديم فيقال لهم : ما هو قولكم فيه؟ أتقولون إنه حال فيه تعالى ، أو في غيره ، أو لا في محل؟ وأي ذلك اختاروه فهو اختيارنا في الكلام المحدث ، وهذا من طريق الجدل ، وإن كان المذهب في هذا الباب ما قد أوضحناه فيما تقدم.

ومما يذكرونه في هذا الباب قوله تعالى : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ

٣٧٨

فَيَكُونُ (٨٢)) [يس : ٨٢] ، ويقولون : لو لم يكن هذا «الكن» قديما لوجب أن يكون محدثا ، فكان لا يحدث إلا بكن آخر ، والكلام في ذلك الكن كالكلام فيه فيتسلسل إلى ما لا نهاية له.

وجوابنا : ما هذا الذي توجبون قدمه؟ أهو هذا المركب من الكاف والنون ، أو غيره ، فإن قالوا : هو الذي يركب من هذين الحرفين ، فقد أحالوا ، ولا شك في حدوثه ، فكيف يلتبس الحال في ذلك وأحدهما يتقدم على الآخر ويعدم عند وجوده ، ويمكننا الإتيان بمثله ، وكل هذه الوجوه مما يقدح في قدمه ويدل على حدوثه.

فإن قالوا : لا بل الذي أوجبنا فيه القدم هو المعنى القائم بذاته. قلنا : ليس في الآية ما يدل على ذلك المعنى فضلا عن ما يدل على حدوثه أو قدمه ، فسقط تعلقهم به.

ثم يقال لهم : إن «كن» لا يؤثر في كينونة شيء أصلا ، إذ لو أثر لكان مؤثرا سواء كان من جهتنا أو من جهة الله تعالى ، فإن المؤثرات لا تختلف بحسب اختلاف الفاعلين. ألا ترى أن الحركة لما كانت مؤثرة في كون الجسم متحركا لم تختلف بحسب اختلاف الفاعلين ، كذلك كان يجب هاهنا ، ومعلوم أنا وإن أكثرنا من قول «كن» لم نحصل به شيئا.

وبعد ، فلو استدللنا بهذه الآية لكنا أسعد حالا منكم ، لأن في الآية لفظة «أن» ، وهذه اللفظة إذا دخلت على الفعل المضارع أفادت الاستقبال ، وذلك يقتضي حدوثه ، وكما أن في الآية دليل على حدوث «كن» ، ففيها دليل على حدوث الإرادة ، لأن لفظة «إذا» ، إذا دخلت على الفعل في الماضي أفادته الاستقبال. وبعد ، فإنه تعالى عقب «كن» بالمكون ، وما يعقبه المحدث لا يجوز أن يكون قديما ، لأن من حق القديم أن يتقدم على ما ليس بقديم بما لو قدر تقدير الأوقات لكانت بلا حصر ، ففسد تعلقهم بهذه الآية من سائر الوجود.

ثم الغرض بهذه الآية وما يجري مجراها إنما هو الدلالة على سرعة استجابة الأشياء له من غير امتناع ، ونظيرها من كتاب الله تعالى قوله تعالى : (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) [فصلت : ١١] ومن كلامهم ، قول الشاعر :

وقالت له العينان سمعا وطاعة

وحدرتا كالدر لما يثقب

فإن الغرض ليس إلا سرعة استجابة الدمع له.

واعلم أن من مذهب شيخنا أبي الهذيل أنه تعالى إذا أراد الإحداث ، فإنه إنما

٣٧٩

يحدثه بقوله كن ، وهذه طريقته في الإعادة والإفناء ، لكنه ليس يلزمه ما يقوله هؤلاء المجبرة بأنه كان يجب أن لا يمكنه إحداث كن إلا بكن آخر ثم كذلك فلا ينقطع ، لأن غرضه بذلك أنه تعالى إذا أراد فعلا من الأفعال فإنما يفعله بأن يقول له هذا القول لا أنه لا يقدر على إحداثه إلا بهذه الطريقة ، وصار الحال فيه كالحال في أحدنا إذا قال : عطيتي لمن زارني درهم ، فكما أنه لا يقتضي ذلك أن يعطي كل من زاره ، وإنما يقتضي أنه إن أعطى فإنما يعطي هذا القدر ، كذلك في مسألتنا. وكذلك فلو قال : تعظيمي لمن دخل عليّ القيام ، فكما أن ذلك لا يقتضي أن يقوم لكل من دخل عليه ، وإنما يقتضي أنه إن عظم فإنما يعظم بهذه القدر ، كذلك في مسألتنا.

ما قاله رحمه‌الله فهذا هو العذر فيما ذكره ، غير أن طريقته هذه غير مرضية ، فلو كان ل «كن» أثر في الأحداث ، لكان لا يتغير بحسب اختلاف الفاعلين له ، بل كان يجب أن يؤثر ، سواء فعلناه أو فعله الله تعالى ، ومعلوم خلافه ، فصح لك أن هذه الطريقة غير مستقيمة ، وأن الصحيح في هذا الباب هو أنه تعالى إنما يحدث ما يحدثه بكونه قادرا على ما نقوله ، فهذه جملة ما يجب أن يحصل في هذا الباب.

الكلام في النبوات

ووجه اتصاله بباب العدل ، هو أنه كلام في أنه تعالى إذا علم أن صلاحنا يتعلق بهذه الشرعيات ، فلا بد من أن يعرفناها لكي لا يكون مخلا بما هو واجب عليه. ومن العدل أن لا يخل بما هو واجب عليه.

وقد بدأ رحمه‌الله ، بالدلالة على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى آله وسلم لما كان هو المقصود بالباب. وقبل الشروع في ذلك نذكر الخلاف فيه ، ونمهد قاعدة تكون توطئة للباب ، وجوابا للمخالف.

البراهمة

واعلم ، أن المخالف في هذا الباب جماعة من البراهمة الذين يثبتون الصانع بتوحيده وعدله وينكرون النبوات ، ويقولون : إن ما أتى به الأنبياء ، نحو أفعال الصلاة من القيام والقعود والركوع والسجود ، وأعمال الحج نحو التلبية والهرولة ورمي الجمار والطواف ، كلها مستقبحة من جهة العقل منكرة ، لأن كل عاقل يستقبح بكمال عقله ذلك وينكره ، فيجب أن ترد ولا تقبل.

٣٨٠