شرح الأصول الخمسة

عبد الجبّار بن أحمد الهمداني الأسدآبادي

شرح الأصول الخمسة

المؤلف:

عبد الجبّار بن أحمد الهمداني الأسدآبادي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٧

وإذ جنى بعضهم على بعض أخذ الأرش من مال الجاني وضمه إلى مال المجني عليه ، وكذلك القديم تعالى.

واعلم أنه تعالى لا يجوز أن يمكن أحدا من إيصال الألم إلى غيره ، إلا إذا كان في المعلوم عوض يستحقه ، إما على الله تعالى أو غيره.

لأنه إذا كان لا بد من الانتصاف فليس يتصور إلا على الطريقة التي ذكرناها ، وهو أن يأخذ العوض من المؤلم ويوفره على المؤلم ، فيكون قد سلك مع الحيوانات كلها طريقة الانتصاف على ما ضمنه ، فقد روي على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه تعالى ينتصف يوم القيامة للمظلوم من الظالم ، حتى الجماء من القرناء.

ومتى قيل : هلا جاز أن يمكن أحد من الإيلام وإن لم يكن له في المعلوم عوض يستحقه ، ثم إذا وافى عرصات يوم القيامة تفضل الله عليه بالقدر الذي يلزمه توفيره على ذلك المؤلم ، ثم يأخذه منه ويضعه في المؤلم ، كان الجواب : إن ذلك ليس من الانتصاف في شيء ، إذ الانتصاف هو أن تأخذ للمظلوم من الظالم حقه ، لا أن يتفضل الله على الظالم ليأخذ منه المظلوم ، وعلى هذا فإن قاضي بلدة إذا سارع إليه خصمان فأراد القاضي الانتصاف منهما فإنه يأخذ الحق من المستحق عليه ويضعه في المستحق ، فأما أن يوفر ذلك من كيسه على المستحق دون أن يتعرض للمستحق عليه فإنه لا يكون منتصفا.

فصل

ثم إنه رحمه‌الله أورد شبهة متصلة بباب الآلام تتعلق بها الملحدة ، وهي أن قالوا : لو كان لهذا العالم صانع حكيم لكان لا يحسن منه خلق هذه السباع الضارية الخبيثة نحو الذئب والأسد والنمر ، والحيوانات المؤذية القتالة ، والصور القبيحة المستنكرة مثل الحيات والعقارب ، وفي علمنا بوجود هذه الأشياء ، دليل على أن لا صانع لها هاهنا.

وهذا كما تتعلق به الملحدة فقد يتعلق بها المجبرة ، فإنهم يقولون : إن هذه الصور مع أنها قبيحة حسن من الله تعالى خلقها ، فيجب أن تحسن منه سائر القبائح.

وجوابنا عن ذلك ، هو أن نقول : إن هذه الصور وإن استقبحها بعض الناس لم يستقبحها البعض ، فلو كانت قبيحة من جهة العقل والحكمة لم يختلف في استقباحها العقل ، كما في الظلم والكذب ، فأما الاستحلاء وعدم الاستحلاء فمما لا يؤثر في قبح

٣٤١

شيء من الأشياء ، لأنك تستحلي كثيرا من الأشياء وهو قبيح في نفسه ، وتستقبح أيضا كثيرا منها وهو حسن ، على ما مر في أول الكتاب.

يبين ذلك أن هذه الصور وإن كانت قبيحة من جهة المرأى والمنظر ، فإن فيه أغراضا حكمية لا يعلمها إلا من أنصف نفسه ، وأدى الفكر حقه.

فإن قيل : وما تلك الأغراض؟ قلنا : نفع هذه الحيوانات أولا ، ثم نفع العباد ، فإن خلق هذه الحيوانات كما تضمن التفضل عليها بالإحياء والإقدار ، وخلق الشهوة والمشتهي ، والتمكين من الانتفاع به ، فقد تعلق بها منافع الغير الدينية والدنيوية.

فأما المنافع الدنيوية فإنك تعلم أن هذه المعاجين الكبار إنما تتخذ من الحيات والعقارب ، ألا ترى أن الترياق مع أنه أصل في دفع هذه المسمومات ، إنما يتخذ من بعض الحيات والعقارب ، وهكذا الحال في واحد واحد من هذه الحيوانات ، فما من شيء منها إلا وتتعلق به منفعة على حد لا تتعلق تلك المنفعة بغيرها. هذا هو الكلام في المنافع الدنيوية.

وأما المنافع الدينية ، فهو أنا إذا شاهدنا هذه الصور المنكرة ، والحيوانات المؤذية الكريهة المنظر ، كنا إلى الاحتراز من عذاب الله تعالى المشتمل على أضر من هذه الحيوانات كلها أقرب ، وعن الوقوع فيما يوجبه علينا ويجره إلينا أبعد ، بل كان لا يتصور من الله تعالى تخويفنا بما لديه من العقوبات المعدة لمستحقيها إلا بهذه الطرق ، فإنا ما لم نشاهد هذا الجنس فيما بيننا ، لا ننزجر عما توعدنا عليه كل الانزجار.

فإن قيل : ليس هذه الحيوانات إلا الضر المحض ، فإنها مضرة مؤذية ، فيجب أن يقبح منه تعالى خلقها.

فجوابنا على ذلك ، أن ضرر هذه الحيوانات ليس بأكثر من ضرر الناس ، فلو كان قبح من الله تعالى خلقها لهذا الوجه ، كان يجب أن يقبح منه خلق أكثر الناس ، يوضح ذلك ، أن ضرر أكثر هذه الحيوانات لا يفي بضرر الحجّاج وشبهه من الظلمة أبادهم الله تعالى ، ثم لم يحكم بقبح خلق الناس. فقد بطل ما قلتموه.

فصل

وقد أورد رحمه‌الله سؤالا على نفسه يوشك أن يكون شبهة للمجبرة.

٣٤٢

هل يجوز أن لا يبين الله للمكلف صفة ما كلفه

وهو أن قال : أتجوزون على الله تعالى أن يكلف عبده ، ثم لا يبين له صفة ما كلفه؟

والأصل في ذلك ، أنا لا نجوز على الله تعالى أن يكلف عبده ثم لا يبين له صفة ما قد كلفه ، بل نقول : إنه تعالى إذا كلف عبده فلا بد من أن يبين له صفة ما قد كلفه وإلا لم يمكنه الإتيان بما كلفه على الحد الذي كلفه ، حتى لو لم يبين ذلك لكان تكليفه إياه عبثا لا فائدة فيه.

والذي يدل على صحة ما نقوله ، هو أن الله تعالى إذا كلفنا أمرا من الأمور ، فإن تكليفه إيانا بذلك الفعل لا يتعلق بعينه وذاته ، وإنما المبتغى إيقاعه على وجه دون وجه ، فمتى لم يبين له الوجه الذي يريد أن يوقعه عليه كان عابثا من حيث أمره بما لا يمكنه الانتفاع به والاهتداء إليه ، ويكون ظالما أيضا لأن تكليفه بالفعل والحال ما ذكرناه كتكليفه به وهو لا يطيقه.

يزيد ما ذكرناه وضوحا ، أنه لا يحسن من أحدنا أن يقول لعبده افعل شيئا ، ولا يبين له صفة ما يفعله ، حتى لو كلفه على هذا الوجه لسخر منه وهزئ ، وإذا ثبت هذا في الشاهد فكذلك في الغائب ، فمن العجب أن جل المجبرة مع تجويزهم سائر القبائح على الله تعالى لا يجوزون هذا لظهور الحال فيه ، إلا شرذمة قليلون فإنهم جرءوا على القياس ، وقالوا : إن هذا ليس بأقبح من تكليف ما لا يطاق ، ولقد أصابوا في خطئهم هذا ، فإن تكليف ما لا يطاق إن لم يزد في القبح على هذا لا ينقص عنه ، وقد جوزوا ذلك على الله تعالى.

والجواب عن ذلك ، ما تعنون بالجواز؟ فإن أردتم به الحسن ، فذلك غير مسلم ، وإن أردتم به الوقوع ، فلسنا نقول إن وقوعه مستحيل على الإطلاق. وإنما نقول إن وقوعه من الله تعالى يستحيل ، وإنما يستحيل منه ذلك لأنه عدل حكيم لا يختار القبح أصلا ، ولم يثبت كون الواحد منا عدلا حكيما حتى يقاس أحدهما على الآخر. وإنما يورد على كلامنا هذا ، أنه تعالى إذا جاز أن يكلف العاجز والمعدوم فهلا جاز أن يكلفه وإن لم يبين له صفة ما قد كلفه ، ولهذا أورد رحمه‌الله هذا الكلام عقب ما تقدم ، وهذا كما يمكن إيراده على هذا الوجه ، فقد يمكن أن يورده المجبرة ابتداء ، ويقولوا : إذا جاز أن يكلف الله تعالى العاجز والمعدوم وهو قبيح ، فهلا جاز أن يفعل

٣٤٣

غيره من القبائح؟

وجوابنا عن الجملة ، هو أن نقول : إنا لا نجوز أن يكلف العاجز والمعدوم ، بل المراد بذلك أن قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) كما هو خطاب لمن كان في ذلك الزمان ، فهو خطاب للموجودين في زماننا هذا ولمن يوجد من بعد ، ولا يحتاج القديم تعالى إلى تجديد الخطاب في كل زمان ، وما هذا حاله فلا شك في جوازه وحسنه ، ولذلك نظائر في الشريعة ، فإنك تعلم أن أحدنا ربما يوصي لأولاده وأولاد أولاده ما تناسلوا وتولدوا ، بشرط أن يكونوا من أهل السداد والصلاح وإن لم يوجدوا بعد. ويكون فائدة ما ذكرناه في القديم تعالى.

فصل : الكلام في التكليف

وقد أورد رحمه‌الله بعد ذلك الكلام في التكليف وثمرته ، ليتهيأ إلى الكلام في من المعلوم من حاله أنه يكفر ، فإن ذلك يشبه أن يكون شبهة لهؤلاء المجبرة شبيهة بما تقدم من الشبهة. وهو وإن عرض في الكلام ، إلا أنا نشير إلى نبذ منه ونختصر القول فيه ، بعد أن نبين حقيقته ، فمن البعيد أن نتكلم في أحكامه إما على الاختصار أو على غير هذه الطريقة ولا نعلم ما هو.

وحقيقته ، إعلام الغير في أن له أن يفعل أو أن لا يفعل نفعا أو دفع ضرر ، مع مشقة تلحقه في ذلك على حد لا يبلغ الحال به حد الإلجاء ، ولا بد من هذه الشرائط ، حتى لو انخرم شرط منها فسد الحد.

والإعلام ، إنما يكون بخلق العلم الضروري ، أو بنصب الأدلة ، وأي ذلك كان لم يصح إلا من الله تعالى ، ولهذا قلنا : إنه لا يكلف على الحقيقة غير الله تعالى ، وإذا استعمل في الواحد منا فإنما يستعمل على طريقة التوسع والمجاز.

فهذا هو حقيقة التكليف.

ثمرة التكليف

وثمرته ، أنه تعالى إذا خلقنا وأحيانا وأقدرنا وأكمل عقولنا وخلق فينا شهوة القبيح ونقرة الحسن فلا بد من أن يكون له فيه غرض ، وغرضه إما أن يكون إغراء له بالقبيح ، والتكليف لا يجوز أن يكون غرضه الإغراء بالقبيح لأن ذلك قبيح ، وقد ثبت أن الله تعالى لا يفعل القبيح. فلم يبق إلا أن يكون غرضه بذلك التكليف ، وأن يعرضنا

٣٤٤

بالتكليف إلى درجة لا تنال إلا به.

واتصل بهذه الجملة الكلام في أن الثواب لا يجوز الابتداء بمثله.

والذي يدل على ذلك ، هو أن الثواب نفع عظيم يستحق على طريق التعظيم ، وما هذا حاله لا يحسن الابتداء بمثله ، ألا ترى أنه لا يحسن من أحدنا أن يعظم أجنبيا على الحد الذي يعظم والده ، ولا أن يعظم والده على الحد الذي يعظم النبي ، وإنما لا يحسن ذلك لعدم الاستحقاق ، وإنما يستحق على هذا الوجه لا يجوز التفضل به ولا الابتداء بمثله فإن قال : لو كان الغرض بالتكليف الوصول إلى الثواب لكان يجب في من المعلوم من حاله أنه لا يصل إلى الثواب أن لا يحسن تكليفه.

تكليف من المعلوم من حاله أنه يكفر

والجواب ، إنا لم نقل إن الغرض بالتكليف إنما هو الوصول إلى الثواب ، وإنما الغرض في ذلك تعريض المكلف إلى درجة لا تنال إلا بالتكليف ، وذلك ثابت في من المعلوم من حاله أنه يصل إلى الثواب ومن المعلوم من حاله أنه لا يصل على سواء ، واتصل بهذه الجملة الكلام في تكليف من المعلوم من حاله أن يكفر.

وللجهل بوجه حسن هذا التكيف وقبحه ضل كثير من الناس ، حتى أن الملحدة تدرجوا بذلك إلى نفي الصانع ، وقالوا : لو كان هاهنا صانع حكيم لما صدر من جهته مثل هذا التكليف.

وجعلت المجبرة هذه المسألة من أعظم شبههم في الجبر وإضافة القبائح إلى الله تعالى ، وقالوا إن هذا التكليف قبيح لا محالة ، وقد حسن من الله تعالى ، وكذلك الحال في سائر القبائح.

والأصل في هذا أن نعلم أن من خالفنا إما أن يكون مقرا بالصانع أو منكرا ، ولا معنى لمكالمة من أنكر الصانع في هذه المسألة كما لا يحسن أن نكالم اليهود في المسح على الخفين مع إنكارهم النبوة ، وإذا كان من المقرين بالصانع ، فالكلام عليه إما أن يكون على الجملة ، أو على التفصيل.

وطريقة الجملة في هذا ، هي أن نقول : إن هذا التكليف صدر من جهة الله تعالى ، وقد ثبت عدله وحكمته وأنه لا يختار القبيح ولا يفعله ، فلا بد أن يكون حسنا ،

٣٤٥

إذ لو كان قبيحا لم يفعله الله تعالى ، وبهذا الوجه نحل شبهة العامي من أصحابنا ، ونجيبهم بهذه الطريقة ، ونقول له : إن هذا القدر كافيك ، ولست تحتاج إلى أن تعلم وجه الحسن في ذلك على طريقة التفصيل ، فهذه طريقة الجملة.

وطريقة التفصيل ، هو أن نقول : قد ثبت حسن تكليف المؤمن ، ولا وجه لحسنه إلا أنه تعالى أقدره على ما كلفه وقوى دواعيه إليه وأزاح علله فيه ، وهذا كله في حق الكافر ثابت ثباته في حق المؤمن ، ولا فرق بينهما إلا من حيث أن المؤمن أحسن الاختيار لنفسه واستعمل عقله فآمن ، ولم يحسن الكافر الاختيار لنفسه لشقاوته فلم يؤمن ، وذلك لا يخرج القديم تعالى من أن يكون متفضلا عليهما جميعا.

وصار الحال في ذلك كالحال في من أدلى حبله إلى غريقين ليتشبثا به ، فتشبث أحدهما به وتخلص ، ولم يتشبث به الآخر فعطب ، وكالحال في من قدم الطعام إلى جائعين قد استولى عليهما الجوع وأشرفا على الهلاك لمكانه ، ثم تناول أحدهما من الطعام فلم يمت ، ولم يتناول الآخر فمات وهلك. فكما أن المقدم للطعام والمدلي للحبل يكون منعما عليهما على سواء ، ولا يقال إنه إنما يكون منعا على الذي قبل دون من لم يقبل ، كذلك هاهنا.

فإن قيل : المؤمن اختار الإيمان ، وهذا غير ثابت في الكافر قلنا : إن اختيار المؤمن الإيمان متأخر عن التكليف فكيف يصير وجها في حسنه ، مع أن المعلوم أن وجه الحسن لا بد من أن يقارن.

وعلى أن ذلك لو مدح في حسن التكليف لوجب مثله في الشاهد ، حتى لا يحسن من أحدنا أن يقدم الطعام إلى من لا يقبل ، ومعلوم خلافه.

فإن قيل : ما أنكرتم أنه إنما قبح تكليف الكافر لأنه تعالى عالم من حاله أنه يكفر؟ وجوابنا على ذلك لو قبح من الله تعالى تكليف الكافر للعلم بأنه يكفر ، لوجب أن يقبح من الواحد منا تقديم الطعام إلى الغير للعلم بأنه لا يتناول ولا ينتفع به ، وكذلك يجب أن يقبح إدلاء الحبل إلى الغريق للعلم بأنه لا يتشبث به.

فإن قال : وكذا أقول ، قلنا : لو قبح مع العلم لقبح مع غلبة الظن ، لأن العلم والظن سيان فيما طريقه المنافع والمضار ، ألا ترى أن أحدنا لو غلب على ظنه أنه يربح في سفره فإنه يحسن منه ذلك السفر كما يحسن مع العلم.

وبالعكس من هذا ، لو غلب على ظنه أنه يخسر ، فإنه لا يحسن منه أن يسافر كما

٣٤٦

لا يحسن مع العلم ، فكان يجب أن يقبح من الواحد منا إدلاء الحبل إلى الفريق إذا غلب على ظنه أنه لا يتشبث به ، وأن يقبح منه تقديم الطعام إلى الجائع إذا غلب على ظنه أنه لا ينتفع به ولا يتناوله ، ومعلوم خلافه.

وبعد ، فلو كان العلم بالقبول شرطا في كون النعمة نعمة ، لوجب إذا قبل هذا الشرط أن تخرج النعمة عن كونها نعمة ، حتى لا يكون الواحد منا منعما على غيره وإن أوصل إليه ما ينتفع به ، بأن لا يعلم أنه هل يقبل أم لا ، وهذا يقتضي أن لا يحسن من الواحد منا تقديم الطعام إلى الجائع وإن بلغ في الجوع الغاية ، ولا إدلاء الحبل إلى الغريق ، بأن لا يكون عالما أنه هل يتناول ذلك الطعام أو يتشبث بذلك الحبل أو لا يتشبث ، ومعلوم خلافه.

وبعد ، فإن العلم تابع للمعلوم غير مؤثر فيه ، لو لا ذلك ، وإلا كان يجب إذ علم أحدنا القديم تعالى بصفاته ، أن يكون كون القديم تعالى مستندا إلى علمه ، حتى إذا زال زال ، وذلك محال. يبين ذلك ، أن العلم إنما يتعلق بالشيء على ما هو به ، وما هذا حاله لا يجوز إلا أن يكون مؤثرا.

فإن قيل : إنه تعالى إذا علم من حال الكافر أنه لا يؤمن فقد أضرّ به بالتكليف. وجوابنا أن الكافر إنما استضر بفعل نفسه حيث أساء الاختيار لنفسه ولم يختر الإيمان ، مع أنه كان يمكنه اختياره على الكفر.

فإن قيل : أليس لو لا التكليف لكان لا يستضر به الكافر؟ قلنا : إنه وإن كان كذلك ، إلا أن القديم تعالى لا يخرج عن أن يكون منعما عليه بتكليفه إياه ، مع أن غرضه تعريضه إلى درجة لا تنال إلا به ، وصار الحال فيه كالحال في من تفضل على غيره بدنانيره فضيعها ذلك الغير واغتم لمكانها ، فكما لا يقال : إن المعطي يخرج بذلك عن كونه منعما متفضلا عليه ، كذلك هاهنا. يبين ذلك ، أن المضيع للدنانير ليس هو المعطي فإنما ضيعها هو بنفسه ، كذلك هاهنا ليس هو الله تعالى ، بل الكافر هو المضر بنفسه حيث اختار الكفر حتى استوجب به العقوبة.

فإن قيل : إنه تعالى إذا علم من حال الكافر أنه لا يؤمن فإن تكليفه له والحال هذه يكون عبثا ، ونحن قبل أن نجيب عن ذلك نبين حقيقة العبث.

٣٤٧

حقيقة العبث

اعلم أن العبث ، كل فعل يفعله الفاعل من دون عوض مثله ، وذلك نحو أن يركب أحدنا الأهوال والأخطار ليربح على درهم درهما ، مع أنه يقدر على تحصيل هذا القدر بسهولة ، ونحو أن يستأجر أجيرا بأجرة تامة ليصب الماء من نهر إلى نهر ، من دون أن يكون له في ذلك غرض.

إذا ثبت هذا ، ومعلوم أن التكليف غير مفعول على هذا الوجه ، فلم يجب أن يكون عبثا.

يبين ذلك ، أن غرض القديم تعالى بالتكليف ليس إلا تعريض المكلف للثواب ، وذلك حاصل في هذا التكليف حصوله في تكليف من المعلوم من حاله أنه يؤمن.

فإن قيل : إدلاء الحبل إلى الفريق مع العلم أنه لا يستمسك به ، ودفع السكين إلى من المعلوم من حاله أنه يقتل به نفسه قبيح ، وهذه صورة تكليف الله تعالى من المعلوم من حاله أنه يفكر ، فيجب أن يكون قبيحا.

قيل له : إن المدلى إليه الحبل ، والمدفوع إليه السكين ينظر في حالهما ، فإن كانا متمكنين من قتل أنفسهما قبل إدلاء الحبل ودفع السكين إليهما ولكن المعلوم من حالهما أنهما لا يقتلان أنفسهما إلا عند إدلاء الحبل ودفع السكين ، فإن إدلاء الحبل ودفع السكين إليهما قبيح ، لأنه يكون مفسدة ، وإن كانا لا يتمكنان من الخنق والقتل إلا بهذا الحبل وهذا السكين ولا يتمكنان من التخلص إلا بهما ، فإنه يحسن إدلاء الحبل ودفع السكين إليهما لأنه يكون مفسدة ، وإن كانا لا يتمكنان من الخنق والقتل إلا بهذا الحبل وهذا السكين ولا يتمكنان من التخلص إلا بهما ، فإنه يحسن إدلاء الحبل ودفع السكين إليهما لأنه يكون تمكينا ، وهذا الأخير هو صورة التكليف ، فلا يجب أن يكون قبيحا. وليس يجوز أن يقال : إن هذا التمكين قبيح لأنه كما هو تمكين من الحسن فهو تمكين من القبيح ، لأنه لو قبح لهذا الوجه للزم أن يقبح كل تمكين في العالم ، إذ التمكين من الحسن لا يتصور إلا وهو تمكين من القبيح ، وهذا لأجل أن القدرة على الشيء قدرة على جنس ضده ، فما من قدرة تمكن من أن يفعل بها الخير إلا ويمكن أن يفعل بها الشر.

فإن قيل : إذا كان يقبح من الله تعالى أن يكلف زيدا إذا علم من حالة عمرو أنه يكفر عند تكليفه إياه ، فلأن يقبح تكليفه مع العلم أنه نفسه يكفر أولى وأحرى.

قيل له : ما ذكرته أولا إنما يقبح لأنه يكون مفسدة ، وليس هذا الثاني من المفسدة في شيء ، بل هو تمكين ، فلا يجب قبحه على ما ظننته.

٣٤٨

فإن قيل : إن القديم تعالى إذا ما كلفنا ، فلا بد من أن يريد منا ما يتعلق به التكليف ليحسن منه تكليفه إيانا ، والإرادة لا تتعلق بما المعلوم من حاله أنه لا يقع ، فكيف يحسن من تكليف من المعلوم من حاله أنه يكفر.

قيل له : إن هذا ينبني على أن الإرادة لا تتعلق بما المعلوم أنه لا يقع ، وليس كذلك ، فإن الإرادة تتعلق بما المعلوم أنه يقع وبما المعلوم أنه لا يقع على سواء. وقولهم : إنما يتعلق بما المعلوم أنه لا يقع تمنّ فقد أبطلناه لما تقدم ، وذكرنا أن التمني من أقسام الكلام وليس كذلك الإرادة. يبين ذلك ويوضحه ، أن الإرادة إذ تعلقت بالشيء ، فإنما تتعلق به لصحة حدوثه ، وما المعلوم أنه لا يقع كما المعلوم أنه يقع في صحة الحدوث ، فكيف لا تتعلق به الإرادة والحال ما قلناه؟

فإن قيل : نحن لا نسلم أن ما المعلوم أنه يقع كما المعلوم أنه يقع في صحة الحدوث ، فإن القدرة على خلاف المعلوم محال عندنا.

وجوابنا عنه ، أنه لو كانت القدرة على خلاف المعلوم محالا ، لكان يصح من القادر على الشيء أن يكون قادرا على الضدين ، لأن المعلوم إنما يكون أحدهما لا محالة ، وفي علمنا بأن القادر قادر على الضدين دليل على فساد ما قالوه.

فإن قيل : ومن أين ثبت لكم أن القدرة تتعلق بالضدين ، وأن القادر على الشيء لا بد أن يكون قادرا عليها؟

قلنا : إن هذه المسألة قد استقصيناها فيما تقدم عند الكلام في الاستطاعة ، ولا معنى لذكرها.

فإن قيل : إذا كان غرض القديم تعالى بالتكليف نفع العباد وأن يصلوا إلى الثواب ، فهلا كلفهم ما إذا أتوا به استحقوا المدح والثواب ، وإذا لم يأتوا به لم يستحقوا الذم والعقاب؟

قيل له : إن ما ذكرته هو النوافل ، ولا يحسن التكليف بها ابتداء ، إذ لا وجه لحسن التكليف بها إلا كونها مسهلة للفرائض داعية إليها ، على أنا قد ذكرنا غير مرة ، أن التكليف ليس الغرض به وصول المكلف إلى الثواب على كل حال ، وإنما الغرض تعريضه إلى درجة لا تنال إلا به ، وهذا حاصل سواء وصل المكلف إلى الثواب أو لم يصل.

٣٤٩

فإن قيل : إنه تعالى إذا كلف الكافر وعلم من حاله أنه لا يؤمن فكأنه أمر بتجهيله ، وذلك فاسد ، وأيضا فقد كلفه ما لا يطيقه ، لأن القدرة على خلاف المعلوم محال. وجوابنا ، أن ما قلته أولا فلا يصح ، لأن التجهيل هو ما يصير الشيء جاهلا ، والإيمان لا حظ له في ذلك ، وأيضا فإن القديم تعالى كما علم من حال الكافر أنه لا يؤمن ، فقد علم من حاله أنه لو اختار الإيمان لقدر عليه ، وهذا هو الذي يحتاج إليه المكلف في اختيار الإيمان ، لا علم الله تعالى به. وأما ما ذكرته ثانيا ، فقد أجبنا عنه ، وبينا أن المعلوم أنه يقع ، كما المعلوم أنه لا يقع في تعلق القدرة به ، ففسد ما ذكرتموه.

وقد أورد رحمه‌الله وجها آخر على وجه الإيناس والتقريب ، فقال : لو لم يكلف الله تعالى إلا من المعلوم من حاله أنه يؤمن كان ذلك إغراء بالقبيح ، والإغراق بالقبيح قبيح. يبين ذلك ويوضحه ، أن المرء إذا علم أنه لا يكلفه الله تعالى إلا وقد علم من حاله أنه يؤمن لا محالة وأنه يصل إلى الثواب كان مغرى بالقبيح ، وذلك فاسد ، وفي فساده دليل على أنه تعالى كما يكلف من المعلوم من حاله أنه يؤمن ، فإنه يكلف من المعلوم من حاله أنه يكفر ، ولا بد من ذلك ليعلم المكلف أن الأمر فيما ينفعه أو يضره موكول إلى اختياره ومفوض إليه ، فإن أحسن الاختيار لنفسه واختار الإيمان تخلص من العقاب وظفر بالثواب ، وإن أساء الاختيار واختيار الكفر استوجب من الله العقوبة.

يحصل من هذه الجملة أن تكليف الكافر كتكليف المؤمن في الحسن ولا خلاف في هذا ، وإنما الخلاف في وجه حسن تكليف الله تعالى من المعلوم أنه يكفر ، فعندنا أنه إنما حسن تكليفه لأن الله تعالى عرضه لدرجة لا تنال إلا بالتكليف وهي درجة الثواب ، وعند شيخنا أبي القاسم أنه إنما حسن تكليفه لأنه أصلح ، وأراد بالأصلح الأنفع ، حتى قال : إنه يحسن من الله تعالى تكليف زيد إذا علم أن عند تكليفه يؤمن جماعة من الناس وإن كان المعلوم من حاله أنه لا يؤمن ، لأن الاعتبار بكثرة النفع ، وذلك فاسد عندنا ، لأن تكليف الغير لنفع الغير يكون ظلما ، وإن بلغ ذلك النفع ، ما بلغ لو لا ذلك وإلا كان لا يكون في العالم ظلم ، فما من شيء إلا وفيه نفع الظالم وأهل بيته ، وفي عددهم كثرة.

٣٥٠

الألطاف

فصل في وجوب الألطاف وذكر الخلاف فيه

وقبل الشروع في المسألة نذكر حقيقة اللطف جريا على العادة المألوفة.

اعلم ، أن اللطف هو كل ما يختار عنده المرء الواجب ويتجنب القبيح ، أو ما يكون عنده أقرب إما إلى اختيار أو إلى ترك القبيح.

أسماء اللطف

والأسامي تختلف عليه فربما يسمى توفيقا ، وربما يسمى عصمة ، إلى غير ذلك. وسنذكر حقيقة هذه الألفاظ في مواضعها اللائقة بها إن شاء الله تعالى.

فاعله

ثم إن ما هذا حاله لا يخلو ، إما أن يكون من فعل الله تعالى ، أو من فعل غير الله.

وإذا كان من فعل غير الله جل جلاله ، فإما أن يكون من فعلنا ، أو من فعل غيرنا.

فإن كان من فعلنا وكان لطفا لنا يجب علينا فعله إذا جرى مجرى التحرز من الضرر ، وقولنا إذا جرى مجرى التحرز من الضرر احترازا عن النوافل ، فإنه ليس يجب أن نغفل ما هو لطف فيها ، لأنها إذا كانت لا يستضر بتركها أصلا ، فلأن لا يستضر بترك ما هو لطف تابع لها أولى. فإذا كان من فعل غيرنا فلا يخلو ، إما أن يكون المعلوم من حاله أنه يفعل ذلك الفعل ، فإنه يحسن من الله تعالى أن يكلفنا التكليف الذي يكون ذلك الفعل لطفا لنا فيه ، وإن كان المعلوم من حاله أنه لا يفعل فإنه لا يحسن بل يقبح ، فهذه جملة ما نقدمه في هذه المسألة. ونعود بعد ذلك إلى ذكر الخلاف فيه.

اعلم ، أن المخالف في هذه المسألة ، هم هؤلاء المجبرة ، وبشر بن المعتمر ، وأصحابه من البغداديين.

وإن كان لا يتحقق الخلاف مع المجبرة في هذه المسألة ، لأن اللطف إذا كان لا يرجع به إلا إلى ما يختار المرء عنده فعلا أو تركا ، أو يكون أقرب عنده إلى اختياره ،

٣٥١

والقوم قد أبطلوا القول بالاختيار رأسا ، فلم يكن للكلام في ذلك معهم وجه ، وأيضا ، فإن اللطف إذا كنا لا نوجبه إلا لأنه زيادة في تمكين المكلف أو إزاحة علته ، والقوم يجوزون على الله تعالى تكليف ما لا يطاق ، لم يكن لمكالمتهم في هذه المسألة وجه.

الخلاف مع بشر بن المعتمر

فإذن لا يتحقق الخلاف معهم ، وإنما يقع الخلاف من بشر بن المعتمر ومن تابعه.

وهم قد ذهبوا إلى أن اللطف لا يجب على الله تعالى ، وجعلوا العلة في ذلك ، أن اللطف لو وجب على الله تعالى لكان لا يوجد في العالم عاص ، لأنه ما من مكلف إلا وفي مقدور الله تعالى من الألطاف ما لو فعل به لاختار الواجب وتجنب القبيح ، فلما وجدنا في المكلفين من عصى الله تعالى ومن أطاعه ، تبيّنا أن ذلك اللطف لا يجب على الله تعالى.

فأما عندنا ، فإن الأمر بخلاف ما يقوله بشر وأصحابه ، إذ ليس يمنع أن يكون في المكلفين من يعلم الله تعالى من حاله أنه إن فعل به بعض الأفعال كان عند ذلك يختار الواجب ويتجنب القبيح أو يكون أقرب إلى ذلك ، وفيهم من هو خلافه ، حتى إن فعل به كل ما فعل لم يختر عنده واجبا ولا اجتنب قبيحا.

وإذ قد علمت هذا ، فاعلم أن شيوخنا المتقدمين كانوا يطلقون القول بوجوب الألطاف إطلاقا ، ولا وجه لذلك ، بل يجب أن يقسم الكلام فيه ويفصل ، فنقول :

إن اللطف إما أن يكون متقدما للتكليف ، أو مقارنا له ، أو متأخرا عنه ، ولا رابع.

فإن كان متقدما فلا شك في أنه لا يجب ، لأنه إذا كان لا يجب إلا لتضمنه إزاحة علة المكلف ، ولا تكليف هناك حتى يجب هذا اللطف لمكانه. وأيضا فإنه إذا جرى مجرى التمكين ، ومعلوم أن التمكين قبل التكليف لا يجب ، فكذلك اللطف.

وإذا كان مقارنا له فلا شبهة أيضا في أنه لا يجب ، لأن أصل التكليف إذا كان لا يجب ، بل القديم تعالى متفضل به مبتدأ ، فلأن لا يجب ما هو تابع له أولى ، فصح أن مراد المشايخ بذلك الإطلاق ما ذكرناه.

ثم لا يفترق الحال بين ما إذا كان لطفا في الواجبات ، وبين ما إذا كان لطفا في

٣٥٢

النوافل ، فإنه تعالى كما كلفنا الواجبات فقد كلفنا النوافل أيضا ، فكان يجب عليه اللطف سواء كان لطفا في فريضة أو في نافلة ، خلاف الواحد منا ، إذا ثبت هذا ، فالذي يدل على صحة ما اخترناه من المذهب ، هو أنه تعالى إذا كلف المكلف وكان غرضه بذلك تعريضه إلى درجة الثواب ، وعلم أن في مقدوره ما لو فعل به لاختار عنده الواجب واجتنب القبيح فلا بد من أن يفعل به ذلك الفعل ، وإلا عاد بالنقض على غرضه ، وصار الحال فيه كالحال في أحدنا إذا أراد من بعض أصدقائه أن يجيبه إلى طعام قد اتخذه ، وعلم من حاله أنه لا يجيبه إلى طعام قد اتخذه ، وعلم من حاله أنه لا يجيبه إلى طعامه إلا إذا بعث إليه بعض أعزته من ولد أو غيره ، فإنه يجب عليه أن يبعث ، حتى إذا لم يفعل عاد بالنقض على غرضه ، كذلك هاهنا.

فإن قيل : إن ذلك إنما وجب في الشاهد لأنه يستضر بإنفاق ما أنفق إن لم يجبه صديقه ، وهذا غير ثابت في القديم جل وعز.

وجوابنا ، إنا نفرض الكلام فيمن لا يبالي بهذا القدر ولا يقع ذلك في عينه ، ونقول : إنه لو استمر به ذلك الداعي ثم لا يفعل ما ذكرناه ، فإنه يكون عائدا بالنقض على غرضه ، كذلك كان مثله في مسألتنا.

فإن قيل : لو كان الأمر على ما ذكرتموه ، لكان يجب في الواحد منا إذا أراد أن يضيف غيره وعلم من حاله أنه لا يجيبه إلا إذا بعث إليه بقبالات أملاكه أن يجب ذلك عليه ، وأيضا فكان يجب إذا قال لعبده : اسقني شربة من ماء أو ناولني هذا الكوز ، وعلم من حاله أنه لا يجيبه إلى ذلك إلا إذا مكنه نفسه أو أعتق رقبته أن يجب ذلك عليه ، ومعلوم خلافه.

وجوابنا عن الأول ، أن أحدنا إنما يفعل ذلك للنفع والذكر الجميل ، أما إذا بلغ الأمر إلى هذا الحد ، فإن داعيه يتغير لا محالة ولا يستمر على ذلك ، لأن ما يلحقه بذلك من الضرر أضعاف ما كان يرجوه منه من النفع والذكر الجميل ، ولا تسمح النفس ببذل الأموال النفيسة في ادخار هذا القدر من الذكر ، ولهذا ، إن كان يريد ضيافة ملك وعلم أن في ضيافته نفعا يوازي ذلك القدر ، فإنه يحسن بل يجب.

وهكذا الجواب عن الثاني ، لأن المولى إذا علم من حاله أنه يموت من العطش إن لم يشرب تلك الشربة ، وعلم أنه لا يسقيها إلا إذا أعتقه ، فإنه يجب عليه ذلك ، وإلا عاد بالنقض على غرضه.

٣٥٣

فإن قيل : لو كان كذلك ، لكان يجب إذا أراد أحدنا استدعاء جماعة من الكفار إلى الإسلام ، وعلم من حالهم أنهم لا يجيبون إلا إذا شاطرهم على ماله أن يجب عليه ، وإلا كان عائدا بالنقض على غرضه على ما ذكرتموه في مسألتنا.

قيل له : إن أحدنا إذا استدعى غيره إلى الإسلام ، فإنما يفعل ذلك لاقتناء الذكر الحسن والرئاسة ، وربما لا تسمح نفسه ببذل نصف ماله في ذلك ، حتى لو قدرنا أن يكون هذا الذي يدعوه إلى الإسلام له أعوان وأتباع يعظم أمر داعيه إلى الإسلام ويفخم شأنه ، لكان يجب عليه أن يشاطره على ماله ، وإلا عاد على غرضه بالنقد على ما تقدم.

يبين ما ذكرناه ويوضحه ، أنه إذا لم يقصد بدعوة الغير إلى الإسلام هذا الذي ذكرناه ، فلا وجه يذكر إلا نفع الغير ، وليس يلزمه تحمل المشقة لنفع الغير لأنه ليس بمكلف ، وإنما الله تعالى هو المكلف الذي لا غرض له في تكليفه إلا نفعه ، ففارق أحدهما الآخر.

ومن خالف في هذه المسألة فقد بنى مذهبه على أصل فاسد ، وهو أنه ما من مكلف إلا وفي مقدور الله تعالى من اللطف ما لو فعله به لاختار عنده الواجب واجتنب القبيح ، فلما وجدنا في المكلفين من أطاع وفيهم من عصى ، تبينا أن الألطاف غير واجبة على الله تعالى. ونحن قد أفسدنا هذا المذهب في أول المسألة ، وبينا أنه لا يمنع أن يعلم الله تعالى من حال بعضهم أنه إن فعل به ما فعل فإنه لا يصير لطفا له.

ولذلك نظير في الشاهد ، فإنه لا يمنع أن يكون لأحدنا ولدان ، علم من حال أحدهما أنه لو سلك معه طريقة الرفق فإنه يختلف إلى المكتب ويقبل على التعليم ويشتغل بما يريده منه ، ويعلم من حال الآخر أنه إن فعل به ما فعل من الرفق والعنف فإنه لا يختار ذلك ، كذلك في مسألتنا ، ولا يمتنع أن يكون حال المكلفين مع الله تعالى هذا الحال.

ومن أسف ما يتعلقون به في الأصل ويذكرونه في نصرة هذا المذهب ، قولهم : إنه تعالى قادر لذاته ، ومن حق القادر لذاته أن يكون قادرا على سائر أجناس المقدورات ، ومن المقدورات الألطاف ، فيجب أن يكون قادرا عليها.

وجوابنا ، أن اللطف ليس من أجناس المقدورات حتى إذا كان الله تعالى قادرا لذاته وجب قدرته عليه ، ففسد ما ظنوه.

يبين ما ذكرناه. أن اللطف هو ما يختار المرء عنده الواجب ويجتنب القبيح ،

٣٥٤

وليس هذا جنسا مخصوصا يجب في القادر للذات أن يكون قادرا عليه لا محال.

ومن ذلك قياسهم المصلحة على المفسدة ، فقالوا : إذا كان الله تعالى قادرا على أن يفعل من المفسدة ما يفسد به كل أحد ، وجب أن يكون قادرا على أن يفعل من المصلحة ما يصلح به كل أحد. وجوابنا ، أنا لو خلينا وقضية العقل لكنا لا نعلم أنه تعالى قادر على ما لو فعله بجميع المكلفين لفسدوا عنده ، غير أن السمع ورد بذلك ، وهو قوله : (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (٧)) [العلق : ٦ ، ٧] وقوله : (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) [الشورى : ٢٧] ، فلم يفصل بين عبد وعبد ، ومثل هذه الدلالة غير ثابت في المصلحة ، فبقي على أصل العقل ، وإذا كان هذا هكذا فقد بطل القياس.

فإن قيل : ألسنا ندبنا إلى أن نسأل الله تعالى العصمة والتوفق ، وأن نقول مثلا : اللهم وفقنا لما تحب وترضى وجنبنا عما تكره وتسخط ، وغير ذلك من الدعوات؟ فلو كان الأمر على ما ذكرتموه من أنه ليس في مقدور الله تعالى من الألطاف ما لو فعله بكل أحد لصلح عنده ولاختار الواجب واجتنب القبيح ، لكان يجب أن لا يصح هذا القول وهذا الدعاء والسؤال.

وجوابنا ، أنا إنما ندبنا إلى هذا السؤال مشروطا بأن يكون ذلك في المقدور وإن كان الشرط غير منطوق به ، فالشرط وإن لم ينطق به فهو في حكم المنطوق به ، فهذا جملة ما نذكره في هذه المسألة.

فصل

أورد رحمه‌الله بعد هذه الجملة ، الكلام فيما بنا من النعم من جهة الله تعالى.

وكان ينبغي أن نذكر قبل الشروع في المسألة حقيقة النعمة والمنعم وما يتصل بذلك ، إلا أنا لما فرغنا عنه في أول الكتاب ، لم نعده هاهنا كراهة التطويل ، والذي نذكره هاهنا ما يختص هذا الموضع.

النعم نوعان

اعلم أن النعم على ضربين :

أحدهما ، لا يقدر عليه إلا الله تعالى ، وذلك نحو الإحياء والإقدار وخلق الشهوة والمشتهى وإكمال العقل ، ولا شك في أن ما هذا حاله فإن الله تعالى هو المنفرد به ،

٣٥٥

لأن غيره جل وعز لا يقدر عليه.

والآخر ، يقدر عليه غير الله تعالى ، كما يقدر هو جل وعز عليه.

وذلك ينقسم إلى : ما يصل إلينا من جهة الله تعالى على الحقيقة ، وإلى ما يكون في الحكم كأنه من جهة تعالى.

الأول ، نحو المنافع التي تصل إلينا بطريقة الإرث ، فإنها إنما تصل إلينا من جهة الله تعالى ، فلو شرعت الشريعة على هذا الوجه وإلا كنا نقول : إن المال وقد خلفه صاحبه ، لمن سبق إليه وحازه أولا ، ولا يكون به الأقرباء أولى من الأجانب ، ولا بعضهم أولى من بعض.

والثاني ، هو كالهبات والصدقات والهدايا وغيرها ، فإنها في الحكم كأنها من قبل الله تعالى وإن كان المتولي لها غيره تعالى ، فلو لا خلقه الواهب والموهوب والموهوب له ، وجعل أحدهما بحيث يرغب في الهبة والآخر يقبل منه ذلك ويمكنهما من النفع والانتفاع ، وإلا كان لا يصح من أحد هبته ، ولا يتمكن أحد من قبولها والانتفاع بها ، وإذا كان الواحد منا يكون منعما على الغير بالهبة وإن كان لا يتعلق به إلا من وجه واحد ، فالقديم تعالى بأن يكون منعما بها وقد تعلقت به من كل وجه أولى وأحرى.

فإن قيل : لو كان الأمر على ما ذكرتموه لكان يجب أن يكون القديم تعالى منعما علينا بالتكليف ، فعليه نستحق الثواب وبه نتوصل إليه. قلنا : هكذا نقول ، لأنه لا فرق في النعمة بين أن تكون منفعة يمكن الالتذاذ بها ، وبين أن تكون مؤدية إلى المنفعة ، هذا على ما مر في صدر الكتاب.

فإن قيل : يلزم على هذا أن يكون القديم تعالى منعما علينا بالإيمان ، وأن يستحق من جهتنا الشكر عليه ، قلنا : كذلك نقول ، إلا أنا لا نطلق القول به لأنه يوهم الخطأ. يبين ذلك ، أنه هو الذي خلقنا وأحيانا وأقدرنا وأكمل عقولنا وخلق فينا شهوة القبيح أو نفرة الحسن ، وكلفنا وجعلنا بحيث أمكننا اختيار الإيمان بدلا من الكفر ، والكفر بدلا من الإيمان ، وعرضنا بذلك إلى درجة الثواب ، فكأنه هو الذي خلق فينا الإيمان وأنعم به علينا ، إلا أنا لا نطلق القول بذلك لما ذكرناه من كونه موهما للخطأ ، حتى لو لم يوهم ذلك ، وعرف من حالنا أنا لا نعني به أنه هو الذي خلق الإيمان فينا ، وأنه لا يستحق الشكر عليه نفسه ، وإنما يستحق الشكر على مقدماته ، ولجوزنا إطلاق القول في ذلك ، فهذه طريقة القول في هذا الفصل.

٣٥٦

فصل في القرآن وذكر الخلاف فيه

ووجه اتصاله بباب العدل هو ، أن القرآن فعل من أفعال الله يصح أن يقع على وجه فيقبح ، وعلى وجه آخر فيحسن وباب العدل كلام في أفعاله ، وما يجوز أن يفعله وما لا يجوز.

وأيضا ، فإنه له بما كنا فيه من قبل اتصالا شديدا ، فإنه من إحدى نعم الله بل من أعظم النعم ، فإليه يرجع الحلال والحرام ، وبه تعرف الشرائع والأحكام ، وقد اختلف الناس فيه اختلافا كبيرا.

فقد ذهبت الحشوية النوابت من الحنابلة إلى أن هذا القرآن المتلو في المحاريب والمكتوب في المصاحف غير مخلوق ولا محدث ، بل قديم مع الله تعالى.

وذهبت الكلابية إلى أن كلام الله تعالى هو معنى أزلي قائم بذاته تعالى ، مع أنه شيء واحد توراة وإنجيل وزبور وفرقان ، وأن هذا الذي نسمعه ونتلوه حكاية كلام الله تعالى ، وفرقوا بين الشاهد والغائب ، وما دروا أن ذلك يوجب عليهم قدم الحكاية أو حدوث المحكى ، فإن الحكاية والمحكى لا بد أن يكونا من جنس واحد ، ولا يجوز افتراقهما في قدم ولا حدوث.

وقالوا : إن كلامنا هو الذي نسمعه ، وليس هو بمعنى قائم بذات المتكلم ككلام الله تعالى ، وإلى هذا المذهب ذهب الأشعري ، إلا أنه لما رأى أن قوله أن الذي نتلوه في المحاريب ونكتبه في المصاحف حكاية كلام الله تعالى يوجب أن يكون كلامه أيضا محدثا وأصواتا وحروفا ، لأن الحكاية يجب أن تكون من جنس المحكى ، قال : إن هذا المسموع هو عبارة كلام الله تعالى ، ولم يدر أن العبارة يجب أن تكون من جنس المعبر عنه ، إلا أنه قد جرى على القياس فقال : الكلام معنى قائم بذات المتكلم من دون فرق بين الشاهد والغائب ، فلقد أصاب في خطئه هذا.

وأما مذهبنا في ذلك ، فهو أن القرآن كلام الله تعالى ووحيه ، وهو مخلوق محدث ، أنزله الله على نبيه ليكون علما ودالا على نبوته ، وجعله دلالة لنا على الأحكام لنرجع إليه في الحلال والحرام ، واستوجب منا بذلك الحمد والشكر والتحميد والتقديس. وإذن هو الذي نسمعه اليوم ونتلوه ، وإن لم يكن محدثا من جهة الله تعالى فهو مضاف إليه على الحقيقة ، كما يضاف ما ننشده اليوم من قصيدة امرئ القيس على الحقيقة ، وإن لم يكن محدثا لها من جهته الآن.

٣٥٧

وإذ قد فرغنا عن ذكر شطر الخلاف في هذه المسألة ، نعود إلى الكلام فيها ، ونذكر حقيقة الكلام ، وأنه الحروف المنظومة والأصوات المقطعة.

حقيقة الكلام

إلا أن هذا لا يصح إيراده على طريق التحديد ، لأن الحروف المنظومة هي الأصوات المقطعة ، والأصوات المقطعة هي الحروف المنظومة على الصحيح من المذهب ، الذي اختاره شيخنا أبو هاشم ، فيكون في محد تكرار لا فائدة فيه.

يبين ذلك ، أن الأصوات المقطعة لو كانت أمرا زائدا على الحروف المنظومة لصح فيه طريقة الانفصال إذ لا علاقة ، ولأن الحروف جمع ، وأقل الجمع ثلاثة ، وهذا يقتضي أن لا يكون الحرفان كلاما ، وليس كذلك ، فإن قولنا : مر ، ومس ، وقل ، وكل ، حرفان مع أنه كلام.

فالأولى أن نقول في حده : هو ما انتظم من حرفين فصاعدا ، أو ما له نظام من الحروف مخصوص.

فلا يلزم على هذا أن لا يكون قولهم ق ، وع ، كلاما ، لأن ق ، وع ، حرفان. يبين لك ذلك ، إذا وقفت عليه ، فإنك تقول في الوقف : قه ، وعه. يدلك على هذا هو أنهم نصوا على أنه لا يصح الابتداء إلا بالمتحرك ، ولا الوقف إلا على الساكن ، فلو لا أن : ق وع حرفان ، وإلا فكيف يصح الابتداء به والوقف عليه ، فصح ما قلناه.

ولا يعاب علينا تحديدنا الكلام بما له نظام ، فإن أكثر ما في ذلك أنه تحديد بالمجاز ، وذلك سائغ.

ولا يجب أن يكون مفيدا ، بخلاف ما ذهب إليه شيخنا أبو هاشم ، وإلا كانوا لا يعدون المهمل من أقسام الكلام وقد عرّوه منه.

وأيضا فلو كان الكلام هو ما يفيد على ما يحكى عن أبي هاشم ، لكان يجب في عقد الأصابع والإشارة بالرأس أنه يكون كلاما ، ومعلوم خلافه.

فهذا هو حقيقة الكلام ، ولا فرق بين أن يكون مهملا أو مستعملا ، أو أن لا يكون من حرفين مختلفين على ما مر لأبي هاشم في بعض المواضع ، لأن المركب من حرفين متماثلين قد يكون كلاما أيضا ، ألا ترى أن قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما أنا من دد ولا الدّد مني» كيف كان كلاما مع تركبه من دالتين؟ وهكذا فإنك تسمع الناس يقولون : كذلك ،

٣٥٨

لهذا الحيوان المخصوص ، وشش ، لهذا العدد المخصوص ، وسس للرنة ، وكذلك للبعوض ، وأشباه ذلك أكثر من أن يأتي عليه العدد والحصر. فأما ما يقوله النحويون من أن الكلام هو ما يكون مفيدا ، والمفيد هو ما تركب من حرف واسم أو اسم واسم كقولك زيد قائم ، أو من فعل واسم كقولك قام زيد ، فإنما يعنون به الكلام الاصطلاحي دون اللغوي.

وإذ قد عرفت حقيقة الكلام ، فاعلم أنه من نعم الله تعالى العظام ، لأنه به يتصور الإفهام والاستفهام ، ولا يقوم غيره هذا المقام ، ولا شيء يتسع اتساع الكلام ، لأن الذي يشتبه الحال فيه ليس إلا عقد الأصابع والإشارة بالرأس ، ولا شك أنه لا يتسع اتساعه ، فمعلوم أن الأخرس لا يمكنه أن يدل على توحيد الله تعالى وعدله ، ولا يتأتى منه ذلك على الحد الذي يتأتى من المتكلم ، وأما الكتابة فإنه وإن عظم الانتفاع بها إلا أنها لا تبلغ درجة الكلام ، وأيضا فإن الفائدة به تترتب على الفائدة بالكلام ، فلو لا أنه تعالى بفضله وسعة جوده ألهمنا المواضعة على ذلك ، وإلا كنا لا نتمكن من شيء من هذه الأشياء التي ذكرناها.

وإذ قد تبين لك هذه الجملة في كلامنا ، فكلام الله تعالى المنزل على رسوله أدخل في باب النعمة ، لأن به يعرف الحلال والحرام ، وإليه يرجع في الشرائع والأحكام ، ولذلك قلنا : إن كلام الله تعالى لا يجوز أن يعرى عن الفائدة ، حتى لا يجوز أن يخاطبنا بخطاب ثم لا يريد به شيئا أو يريد به غير ظاهره ولا يبينه ، لأن ذلك يتنزل في القبح منزلة مخاطبة الزنجي بالعربية والعربي بالزنجية ، فكما أن ذلك لا يحسن بل يعد من باب العبث ، كذلك في مسألتنا.

فحصل من هذه الجملة ، أن كلام الله تعالى إنما يكون نعمة إذا كان على الحد الذي ذكرناه ، فأما إذا كان الأمر في ذلك على ما يقوله هؤلاء المجبرة ، فإنه مما لا يثبت فيه شيء من ذلك ، سيما إذا أثبتوه قديما ، فمعلوم أنه لا يصح الانتفاع بالقديم ، خاصة إذا جوزوا عليه الكذب ، وأن يأتي بخطاب لا يريد به شيئا أصلا ، وأن يؤخر بيان المجمل عن الحال الخطاب ، بل عن حال الحاجة.

ونعود بعد هذه الجملة إلى إبطال هذه المذاهب.

إبطال قول من يقول إن القرآن قديم

أما الكلام على الصنف الأول ، الذين قالوا : إن القرآن قديم مع الله تعالى ، فهو

٣٥٩

أن نقول لهم : إنكم قد بلغتم في الجهالة إلى أقصى الغاية ، فإن القرآن يتقدم بعضه على بعض ، وما هذا سبيله لا يجوز أن يكون قديما ، إذ القديم هو ما لا يتقدمه غيره. يبين ذلك أن الهمزة في قوله : الحمد لله ، متقدمة على اللام ، واللام على الحاء ، وذلك مما لا يثبت معه القدم ، وهكذا الحال في جميع القرآن ، ولأنه سور مفصلة وآيات مقطعة ، له أول وآخر ، ونصف ، وربع ، وسدس ، وسبع ، وما يكون بهذا الوصف كيف يجوز أن يكون قديما.

وقد دل الله على ذلك في محكم كتابه فقال : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) [الأنبياء : ٢] والذكر هو القرآن ، بدليل قوله : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٩)) [الحجر : ٩] فقد وصفه بأنه محدث ، ووصفه بأنه منزل ، والمنزل لا يكون إلا محدثا ، وفيه دلالة على حدوثه من وجه آخر ، لأنه قال : (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) فلو كان قديما لما احتاج إلى حافظ يحفظه.

ويدل أيضا على ذلك قوله تعالى : (الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ) [هود : ١] بيّن كونه مركبا من هذه الحروف ، وذلك دلالة حدوثه ، ثم وصفه بأنه كتاب أي ، مجتمع من كتب ، ومنه سميت الكتيبة كتيبة لاجتماعها ، وما كان مجتمعا لا يجوز أن يكون قديما ، ووصفه بأنه محكم ، والمحكم من صفات الأفعال ، وقال بعد ذلك : (ثُمَّ فُصِّلَتْ) ، وما يكون مفصلا كيف يجوز أن يكون قديما.

وأظهر من هذا كله قوله تعالى : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ) [الزمر : ٢٣] وصفه بأنه منزل أولا ، ثم قال : أحسن الحديث ، وصفه بالحسن ، والحسن من صفات الأفعال ، ووصفه بأنه حديث ، وهو والمحدث واحد ، فهذا صريح ما ادعيناه ، وسماه كتابا وذلك يدل على حدوثه كما تقدم ، وقال : متشابها ، أي يشبه بعضه بعضا في الإعجاز والدلالة على صدق من ظهر عليه ، وما هذا حاله لا بد من أن يكون محدثا ، فهذا هو الكلام على الصنف الأول.

إبطال أن كلام الله معنى قائم بذاته

وأما الكلام على من قال إن كلام الله معنى قائم بذاته ، فهو أن نقول : إن هذا دخول منكم في كل جهالة ، لأن الكلام الذي أثبتموه مما لا يعقل ولا طريق إليه ، وإثبات ما لا طريق إليه بفتح باب كل جهالة ، ويوجب عليكم تجويز المحالات ، نحو : أن تجوزوا أن يكون في المحل معان ولا طريق إليها ، وأن يكون في بدن الميت حياة

٣٦٠