شرح الأصول الخمسة

عبد الجبّار بن أحمد الهمداني الأسدآبادي

شرح الأصول الخمسة

المؤلف:

عبد الجبّار بن أحمد الهمداني الأسدآبادي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٧

هذا التعريف أولى من التعريف الذي أورده في العمد :

والأصل في ذلك ، أن المعرفة والدراية والعلم نظائر ، ومعناها : ما يقتضي سكون النفس ، وثلج الصدر ، وطمأنينة القلب.

وهذا أولى مما أورده في العمد : أنه الاعتقاد الذي تسكن به النفس إلى أن معتقده على ما اعتقده عليه ، لأن العلم إنما يتبين عما عداه بما ذكرناه ، فيجب الاقتصار عليه ويحذف ما سواه.

العلم غير الاعتقاد :

وبعد ، فإن ما أورده في العمد فيه لفظ الاعتقاد ، والعلم لا يبين عما ليس بعلم بكونه اعتقادا ، فإن غير العلم يشارك فيه وهو اعتقاد التقليد والتبخيت ، ولأن فيه لفظ المعتقد ، وفي العلوم ما لا معتقد له ، كالعلم بأن لا ثاني مع الله تعالى ، وأن لا بقاء ، ولأن العلم بالحد ينبغي أن يكون علما بالمحدود ، لأنهما عبارتان تقعان على معنى واحد ، والمستفاد بأحدهما هو المستفاد بالآخر ، فيجب فيمن علم أحدهما أن يعلم الآخر ، ومعلوم أن في الناس من علم علما وإن لم يعلمه اعتقادا ، كأبي الهذيل وأصحابه.

معنى سكون النفس :

فإن قيل : ما المراد بسكون النفس؟ قلنا : التفرقة التي يجدها الواحد منا من نفسه إذا رجع إليها ، بين أن يعتقد كون زيد في الدار مشاهدة ، وبين أن يعتقد كونه فيها لخبر واحد من أفناء الناس ، فإنه يجد في إحدى الحالتين مزية وحالا لا يجدهما في الحالة الأخرى ، تلك المزية هي التي عبرنا عنها بسكون النفس.

صلة السكون الحقيقي بمعنى سكون النفس :

فإن قيل : السكون إنما يستعمل حقيقة في المعنى الذي يضاد الحركة ويعاقبها ، فكيف يجوز تحديد العلم به.

قلنا : أقصى ما في الباب أن يكون هذا تحديدا بالمجاز ، وذلك سائغ ، لأن الغرض بالحد دائما إنما هو الكشف والإبانة عن حال المحدود ، فمتى حصل هذا الغرض بالمجاز صار كما لو حصل بالحقيقة ، وصار هذا كما نقوله في النظام ، فإنه إنما يستعمل حقيقة من جوهرين ، ثم يحد به الكلام ، فيقال : الكلام ما انتظم من

٢١

حرفين فصاعدا ، أو ما له نظام من الحروف المخصوصة ، لما انكشف به معنى الكلام ، وأنبأ عن فائدته ، كذلك في مسألتنا.

السكون يقصد منه المعنى الحقيقي إذا كان مطلقا :

وبعد فإن السكون إنما يكون حقيقة فيما يضاد الحركة ويعاقبها إذا كان مطلقا ، فأما إذا قيد بالنفس ، فإنه لا يحتمل إلا ما ذكرناه. وكما إذا قيد بالغضب ، فيقال : سكن غضبه لم يحتمل إلا زواله وارتفاعه ؛ فصار هذا كالنظر ، فإنه يحتمل بإطلاقه ما لا يحتمله إذا قيد بالعين والقلب ، وكالإدراك ، فإنه يحتمل مطلقا ما لا يحتمله مقيدا.

على أن المقصود من هذا كله أن نقف على الغرض المقصود بهذه العبارة إذا وقعت عليه ، فلا مشاقة فيها إن شئت عبرت عنه بسكون النفس ، أو ثلج الصدر ، أو طمأنينة القلب ، أو انشراح الصدر.

معنى الضرورة والمشاهدة :

ثم إنه رحمه‌الله سأل نفسه فقال : إذا قلتم : إن النظر في طريق معرفة الله تعالى أول الواجبات ، لأنه تعالى لا يعرف ضرورة ولا بالمشاهدة ، فما معنى الضرورة والمشاهدة؟

الضرورة معناها في أصل اللغة : الإلجاء :

وأجاب عنه : بأن الضرورة في أصل اللغة هي الإلجاء ، قال الله تعالى : (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) [الأنعام : ١١٩] أي ما ألجئتم إليه ، وفي العرف ، إنما يستعمل فيما يحصل فينا لا من قبلنا ، بشرط أن يكون جنسه داخلا تحت مقدورنا ، ولذلك يقال : حركة ضرورية لما دخل جنسها تحت مقدورنا ، ولم يقل لون ضروري لما لم يدخل جنسه تحت مقدورنا ، هذا إذا كان مطلقا.

إذا قيدت الضرورة فقيل : العلم الضروري.

وإذا أضيف إليه العلم فقيل : علم ضروري ، فالمراد على ما ذكره في الكتاب : العلم الذي يحصل فينا لا من قبلنا ، ولا يمكننا نفيه عن النفس بوجه من الوجوه. وهذا إن أورده على طريق التحديد ، ففيه تكرار مستغنى عنه ، لأن العلم الذي يحصل فينا لا من قبلنا ، هو العلم الذي لا يمكن نفيه عن النفس بوجه من الوجوه ، والعلم الذي لا يمكن نفيه عن النفس بوجه من الوجوه ، هو الذي يحصل فينا لا من قبلنا ، فيجب أن

٢٢

نقتصر على أحد الشقين ليكون الحد تجنبا عن التكرار واللغو أو تحديد آخر.

اعتراض البعض وقبول البعض لتحديد العلم الضروري :

وقد حد العلم الضروري بأنه :

العلم الذي لا يمكن العالم نفيه عن نفسه بشك ولا شبهة ، وإن انفرد.

وهذا الحد قد صححه بعضهم ، واعترضه الباقون.

قول المؤيدين لحد العلم الضروري :

وعلى كل حال ، فقوله : وإن انفرد ، احتراز عن العلم المكتسب إذا قارنه العلم الضروري ، فإنه والحال هذه لا يمكن نفيه عن النفس بشك ولا شبهة وإن كان مكتسبا ، لأن هذه القضية إنما وجبت فيه لمقارنة العلم الضروري ، فلولا هذا الاحتراز لانتقض الحد ، ولا نقض مع اعتباره.

قول المعارضين للحد :

ومن لم يعتمد هذا الحد ، جعل الاعتراض عليه أن النفي إنما يتصور في الباقيات ، والعلوم عندكم مما لا يبقى ، فكيف صح ما ذكرتموه في الحد؟ ويمكن أن يجاب عنه ، فيقال : لسنا نعني بالنفي الذي ذكرناه إلا أن أحدنا لا يمكنه أن يخرج نفسه عن استمرار كونه عالما ، إلا بالنفي الذي يتصور في الباقيات.

وربما يقال : قد ذكرتم في الحد الشك ، والشك ليس بمعنى عندكم. وجوابه : أن لفظة الشك لو حدثت جاز ولم يخل بالحد ، وإذا ذكرت فلأن أكثر العلماء ذهبوا إلى أنه معنى.

وقد حد العلم الضروري بأنه العلم الذي لا يمكن العالم به نفيه عن النفس بوجه من الوجوه ، وهذا صحيح.

واتصل بهذا الكلام في أقسام العلوم الضرورية.

أقسام العلوم الضرورية :

والأصل في ذلك ، أن العلم الضروري ينقسم إلى ما يحصل فينا مبتدأ ، وهو كالعلم بأحوال أنفسنا من كوننا مريدين وكارهين ومشتهين ونافرين وظانين ومعتقدين وما شاكل ذلك ، وإلى ما يحصل فينا عن طريق ، أو ما يجري مجرى الطريق.

٢٣

فما يحصل فينا عن طريق ، فهو كالعلم بالمدركات ، فإن الإدراك طريق إليه. وما يحصل عما يجري مجرى الطريق ، فهو كالعلم بالحال مع العلم بالذات ، فإن العلم بالذات أصل للعلم بالحال ، ويجري مجرى الطريق إلى العلم به ، والفرق بين ما يحصل فينا عن طريق وبين ما يحصل عما يجري مجرى الطريق ، أن ما يحصل عن طريق يجوز أن يبقى مع عدم الطريق إليه ، وليس كذلك العلم الحاصل عما يجري مجرى الطريق ، ولهذا يصح من الله تعالى أن يخلق فينا العلم بالمدركات من دون الإدراك ، ولم يصح أن يخلق فينا العلم بالحال من دون العلم بالذات ، لما كان أصلا فيه وجاريا مجرى الطريق إليه.

أقسام العلم الضروري الحاصل فينا مبتدأ

ثم الحاصل فينا مبتدأ ينقسم إلى : ما يعد في كمال العقل.

وإلى ما لا يعد في كمال العقل.

وأما ما لا يعد في كمال العقل ، فهو كالعلم بأن زيدا هو الذي شاهدناه من قبل ، فإنه علم مبتدأ من جهة الله تعالى ، ثم لا يعد في كمال العقل ، ولذلك تختلف فيه أحوال العقلاء ، ففيهم من إذا شاهده أثبته ، وفيهم من إذا شاهده لم يثبته.

وأما المعروف في كمال العقل ، فإنه ينقسم : إلى ما يستند إلى ضرب من الخبر ، وإلى ما لا يستند إلى ذلك. فالذي لا يستند إلى الخبر كالعلم بأن الذات إما أن يكون موجودا أو معدوما ، والموجود إما قديم وإما محدث. والمستند إلى الخبر ، فهو كالعلم بتعلق الفعل بفاعله ، وما يتصل بذلك من أحكام الفعل من حسن وقبح وغيرهما.

وأما المشاهدة ، فهي الإدراك بهذه الحواس ، هذا في الأصل ، وفي الأغلب إنما تستعمل في الإدراك بحاسة البصر ، هذا إذا كان مطلقا ، فأما إذا أضيف إليه العلم فقيل : علم المشاهدة ، فالمراد به العلم المستند إلى الإدراك بهذه الحواس ، وفي الأغلب إنما يستعمل في العلم المستند إلى الإدراك بحاسة البصر فقط.

الأدلة على أنه تعالى لا يعرف ضرورة ولا بالمشاهدة

ثم إنه رحمه‌الله سأل نفسه فقال : إذا قلتم إن النظر في طريق معرفة الله تعالى واجب لأنه تعالى لا يعلم ضرورة ولا بالمشاهدة ، فمن حقكم أن تثبتوا ذلك ليتم ما قلتم.

والأصل في ذلك أن الكلام في أن الله تعالى لا يجوز أن يعرف مشاهدة ،

٢٤

فموضعه باب نفي الرؤية ، والذي يختص هذا الوضع الكلام في أنه لا يجوز أن يعرف ضرورة.

وهذه مسألة خلاف بين الناس. فعندنا ، أنه تعالى لا يعرف ضرورة في دار الدنيا ، مع بقاء التكليف.

مخالفته للجاحظ والأسواري :

وقد خالفنا في ذلك أصحاب المعارف ، كالجاحظ وأبي علي الأسواري. وقولنا في دار الدنيا مع بقاء التكليف ، هو ، لأن المحتضر وأهل الآخرة يعرفون الله تعالى ضرورة.

مخالفته لأبي القاسم البلخي :

وقد خالف فيه أبو القاسم البلخي وقال : إنه تعالى كما يعرف دلالة في دار الدنيا ، فكذلك في دار الآخرة لأن ما يعرف دلالة لا يعرف إلا دلالة ، كما أن ما يعرف ضرورة لا يعرف إلا ضرورة. وقد حكي عن بعض المتأخرين ، أظنه المؤيد بالله قدس الله روحه ، أنه يجوز أن يكون من المكلفين من يعرف الله تعالى ضرورة في دار الدنيا مع بقاء التكليف ، كالأنبياء والأولياء والصالحين.

عودة إلى الأدلة على أن الله لا يعرف ضرورة :

والذي يدل على أن العلم بالله تعالى ليس بضروري وإنما هو اكتسابي ، ما قد ثبت أنه يقع بحسب نظرنا على طريقة واحدة ووتيرة مستمرة ، فيجب أن يكون متولدا عن نظرنا ، وإذا كان كذلك فالنظر من فعلنا فيجب أن تكون المعرفة أيضا من فعلنا ، لأن فاعل السبب ينبغي أن يكون فاعل المسبب ، فإذا كان من فعلنا لم يجز أن يكون ضروريا ، لأن الضروري هو ما يحصل فينا لا من قبلنا.

ويدل على ذلك أيضا ، هو أنها تقع بحسب قصودنا ودواعينا ، وتنتفي بحسب كراهتنا وصوارفنا مع سلامة الأحوال إما محققا وإما مقدرا فلولا أنها محتاجة إلينا ومتعلقة بنا وإلا لما وجبت فيها القضية ، وهذا أصل دليلنا في خلق الأفعال فإنا نقول بأن تصرفاتنا تقع بحسب قصودنا ودواعينا وتنتفي بحسب كراهتنا وصوارفنا مع سلامة الأحوال إما محققا وإما مقدرا ، فلولا أنها محتاجة إلينا ، ومتعلقة بنا ، وإلا لما وجبت فيها هذه القضية ، كما في تصرف الضرب واللون.

٢٥

فإن قيل على هذا الوجه الأول : إن هذه الطريقة توجب عليكم في اللون الحادث عند الضرب أن يكون من قبلكم لأنه يقع بحسب ضربكم ، يقل إذا قل ، ويكثر إذا كثر. قيل له : ليس ذلك اللون بحادث عند الضرب ، وإنما هو لون الدم انزعج بالضرب ، فلا يشبه مسألتنا.

فإن قيل على وجه الثاني : يلزمكم أن يكون من العلم بمخبر الأخبار المتواترة من قبل المخبرين لأنه يقع بحسب قصدهم ودواعيهم ، قيل له : ليس كذلك ، ذلك علم من جهة الله تعالى يخلقه فينا عند خبرهم على ما سنبينه في موضعه إن شاء الله تعالى.

ومما يدل على أن العلم بالله تعالى لا يجوز أن يكون ضروريا ، هو أنه لو كان ضروريا لوجب في العادم له أن يكون معذورا ، لأن ذلك عند الخصم موقوف على الله تعالى حتى إذا اختار الله تعالى كان وإلا فلا. وهذا يوجب في الكفار كلهم أن يكونوا معذورين في تركهم معرفة الله تعالى وغير ذلك من المعارف. وهذا الوجه معتمد عليه ؛ والخصم عند هذا الكلام إما أن يرتكب كون الكفار كلهم معذورين في تركهم المعارف فيكفر بذلك. أو يقول إنهم إنما لم يعذروا لأنهم جحدوا ما عرفوه ، وهذا الاعتقاد وإن تخلص به من الكفر إلا أنه أظهر فسادا من الأول لأن الجحود إنما يجوز على العدد اليسير. فأما على العدد الكبير والحجم الغفير فلا.

تتمة الأدلة على أنه تعالى لا يعرف ضرورة :

وقد استدل على أنه تعالى لا يعرف ضرورة بوجوه منها :

أنه تعالى لو كان العلم به ضروريا لوجب أن لا يختلف العقلاء فيه كما في سائر الضروريات من سواد الليل وبياض النهار ، ومعلوم أنهم مختلفون فيه ، فمنهم من أثبته ومنهم من نفاه.

ومنها أنه لو كان كذلك لوجب أن لا يمكن نفيه عن النفس بشك أو شبهة. والمعلوم خلافه ، ولهذا فإنك تجد كثيرا ممن برز في الإسلام واشتهر به قد ارتد وكفر ونفى عن نفسه العلم بالله تعالى ، كابن الراوندي وأبي عيسى الوراق إلا أن هذا مما لا يمكن الاعتماد عليه ، لأن لقائل أن يقول : ما أنكرتم أن هذه المعارف مع أن الكل ضرورية ، تنقسم إلى : ما يمكنكم نفيه عن النفس لأن ما يفعله الله تعالى منه أقل مما في مقدوركم من أضدادها ، وإلى ما لا يمكنكم دفعه عن النفس لأن ما يفعله الله تعالى منها أكثر مما في مقدوركم من أضدادها. وصار الحال فيه كالحال في الحركات

٢٦

الضرورية ، فكما أنها تنقسم إلى ما يمكنكم دفعه لأن ما يفعله الله تعالى منها أقل مما في مقدوركم من أضدادها ، وإلى ما لا يمكنكم دفعه لأن ما يفعله الله تعالى منها أكثر مما في مقدوركم من أضدادها ، كذلك في مسألتنا.

ومنها ، أنه لو كان يعلم بالله تعالى ضروريا لوجب أن يشترك العقلاء فيه ، ومعلوم خلافه.

إلا أن لقائل أن يقول : لا تجب هذه القضية في سائر الضروريات ، وإنما تجب في بداية العقول ، ولهذا فإن العلم بالصنائع والحرف ضروري ، ثم لم يشترك العقلاء فيه.

وقد استدل رحمه‌الله على أنه تعالى لا يعرف ضرورة ، بأن قال في الكتاب : لو كان العلم بالله تعالى ضروريا لوجب أن يكون صفة للأمور المشاهدة ، كما في العلم بأن الحلفاء تحترق بالنار ، وأن الزجاج ينكسر بالحديد ، وكالعلم بأن الظلم قبيح والعدل حسن ، ومعلوم خلافه. إلا أن هذا مما لا يمكن الاعتماد عليه ، لأن لقائل أن يقول : أليس الله تعالى يعلم ضرورة في دار الآخرة ، ويعرفه المحتضر وإن لم يكن صفة للأمور المشاهدة ، فهلا جاز ذلك في دار الدنيا؟

ما يتصل بهذا الدليل من الكلام على أصحاب المعارف وأبي القاسم

واتصل بهذا ، الكلام على أصحاب المعارف ، وأبي القاسم البلخي. أما أصحاب المعارف فقد تعلقوا في ذلك بشبه :

منها ، أنه لو لم يكن العلم بالله تعالى ضروريا ، وكان من فعلنا ، لكان يصح من الواحد منا أن يختار الجهل بدلا من العلم في الحالة الثانية من النظر ، لأن من حق القادر على الشيء أن يكون قادرا على جنس ضده إذا كان له ضد ، والمعلوم أنه لا يمكن ذلك ، فليس إلا أن المعرفة ليست من فعلنا وإذا لم تكن من فعلنا كانت ضرورية على ما نقوله.

والأصل في الجواب عن ذلك ، أن الواحد منا إنما لم يمكنه إيقاع الجهل واختياره بدلا من العلم في الحالة الثانية من النظر ، لأن العلم يحصل بسبب موجب ، والجهل يحصل باختياره ، وما يحصل بسبب موجب ، بالوجوب أولى مما يحصل باختيار الفاعلين ، وهذا مما لا شبهة فيه ، فهذا هو الوجه في ذلك لا ما ظنوه.

ومنها ، أنهم قالوا : إن المكلف إذا لم يعرف في نظره أنه نظر صحيح يؤدي إلى

٢٧

العلم ، فإنه يجب أن لا يدخل تحت تكليفه ، ولا يجوز له الإقدام عليه ، لأن الإقدام عليه كالإقدام على الجهل المطلق.

والأصل في الجواب عن ذلك ، أنه لا يجب على المكلف أن يعلم في نظره أنه مولد للعلم ومؤد إليه ، كما أنه لا يجب أن يعلم فيما يتصرف فيه من أحوال معاشه أنه يؤدي إلى المطلوب ، بل يكفي أن يعلم على الجملة في نظره أنه حسن أو واجب. وقد تقرر عندهم ، أنه لو كان يؤدي إلى الجهل لكان لا يحسن ولا يجب ، فعلى هذا الوجه يجوز أن يدخل تحت تكليفه ولا يجب أن يعرف التفصيل الذي قالوه.

ومنها ، أنهم قالوا : إن المكلف لو كان مكلفا بالمعرفة لكان يجب أن يعلم صفتها ، لأن المكلف لا بدّ أن يكون عالما بصفة ما كلفة ، والمعلوم أنه حال النظر لا يمكنه أن يعلم صفة المعرفة ، ولو وقعت المعرفة عند نظره لكان لا تقع إلا حدسا واتفاقا ، فلا يحسن تكليفه بها ، لأن التكليف بما لا يعلم كالتكليف بما لا يطاق في باب القبح.

والجواب عن ذلك ، أن المعرفة إذا اختفت بسبب أو طريق ، وعلم المكلف ذلك السبب وميزه عن غيره صار كما لو علم نفس المعرفة ، إذ المقصود أن يمكنه الإتيان بها ، وذلك ممكن إذا عرف سبب المعرفة كما يمكن إذا عرفها نفسها. وإذا كان كذلك فقد خرج العلم من باب الحدس والاتفاق. فهذا هو الكلام على أصحاب المعارف على حسب ما يحتمله هذا المجمل.

الكلام على أبي القاسم البلخي فيما يتعلق بمعرفة الله ضرورة

وأما الكلام على أبي القاسم البلخي ، فالأصل فيه هو أن يعلم أنه بنى مذهبه على أصل له وهو ، أن ما يعرف استدلالا لا يجوز أن يعرف إلا استدلالا ، كما أن ما يعرف ضرورة لا يجوز أن يعرف إلا ضرورة.

ونحن قبل أن نستدل بإفساد هذه الطريقة نفسد مذهبه ابتداء ، فنقول : إن خلافه لا يخلو إما أن يكون خلافا في الصحة ، أو في الوجوب.

فإن كان خلافا في الصحة ، فالكلام عليه هو أن نقول : قد ثبت أن العلم من أجناس المقدورات فلا يخلو إما أن يدخل جنسه تحت مقدورنا أولا ، فإن لم يدخل جنسه تحت مقدورنا فيجب أن يكون القديم تعالى قادرا عليه وإلا خرج عن كونه

٢٨

مقدورا أصلا ، فإن دخل جنسه تحت مقدورنا ، فالقديم تعالى بأن يكون قادرا عليه أولى ، لأن قدرته على الأجناس إن لم تزد على قدرتنا لا تنقص عنها. وبعد فإن الذي يحصر القدرات في الجنس والعدد إنما هو القدرة ، والقديم تعالى قادر لذاته ، فإذا كان العلم بالله تعالى من المقدورات وجب أن يكون قادرا عليه ، وإذا ثبتت قدرته عليه صح أن يوجده فينا وإذا أوجده فينا كان ضروريا.

وإن كان خلافه في الوجوب فالكلام عليه هو أن نقول : إن أهل الآخرة لا يخلو حالهم من أمرين : إما أن يكونوا من أهل الجنة ، أو من أهل النار. فإن كانوا من أهل الجنة فلا يخلو ، إما أن يعرفوا الله تعالى ، أو لا يعرفوه. فإن لم يعرفوه لم يعرفوا استحقاق الثواب من جهته ، وجوزوا انقطاع ما هم فيه من النعيم ، وذلك يؤدي إلى التنغيص المنفي عنهم ، وإن عرفوا الله تعالى فلا يخلو ، إما أن يكونوا عرفوه اضطرارا أو استدلالا ، لا يجوز أن يعرفوه استدلالا ، لأن النظر والاستدلال يتضمن المشقة ويؤدي إلى التنغيص والتكدير وهما منفيان عنهم ، فلم يبق إلا أن يعرفوه ضرورة على ما نقوله.

ومتى قالوا : إنهم يعرفونه بتذكر النظر والاستدلال فلا يتضمن المشقة ولا يؤدي إلى التنغيص ، قلنا : لا بد من أن تكون هذه المعرفة واقعة منهم باختيارهم ، ولو كان كذلك لوجب أن يختار أحدهم من العلوم ما يبلغ ثوابه ثواب بعض الأنبياء ، والمعلوم خلافه.

هل يكون أهل الجنة ملجئين إلى هذه المعرفة

فإن قيل : هلا جاز أن يكونوا ملجئين إلى هذه المعارف ، فلا يستحقون بذلك مدحا ولا ثوابا؟ قلنا : إن هذا سؤال لا يصح من الخصم ، لأن مذهبهم أنهم مكلفون في دار الآخرة ، والإلجاء مناف للتكليف. وهذه القسمة بعينها تعود في أهل النار ، لأنك تقول : إن حالهم لا يخلو من أحد أمرين : إما أن يعرفوا الله تعالى أو لا فإن لم يعرفوه جوزوا انقطاع ما هم فيه من العقاب وذلك يؤدي إلى الروح والراحة المنفيين عنهم ، فإن عرفوه فلا يخلو ؛ إما أن يعرفوه اضطرارا ، أو استدلالا ، لا جائز أن يعرفوه استدلالا ، لأنا إذا جعلنا العلم بالله موقوفا على اختيارهم للنظر والاستدلال جاز أن لا ينظروا أو لا يتفكروا ، فلا يحصل لهم العلم بالله تعالى فجوزوا انقطاع عقابهم ، وذلك يؤدي إلى الروح والراحة ، وذلك لا يجوز عليهم.

٢٩

وبعد ، فكان يجب في الناظر ومن حقه أن يكون مجوزا أن يجوز في حالة النظر وقبل العلم انقطاع عقابهم ، وذلك يقتضي أن لا يخلص عقابهم عن كل روح وراحة ، وذلك لا يجوز.

ومتى قالوا : إنهم يعرفونه بتذكر النظر والاستدلال ، قلنا : لم يسبق منهم نظر فيتذكروه ، لأن المعلوم من حال كثير من أهل النار أنهم ما نظروا ولا استدلوا فكيف نتصور منهم تذكر.

وبعد فإنا إذا جعلنا ذلك موقوفا على اختيارهم ، جاز أن يختار أحدهم من العلوم ما يبلغ ثوابه قدر ما يكفر عقاب معاصيه ، فيستحق الخروج من النار ، وهذا محال.

وبعد ، فلو كانوا مكلفين بالنظر والاستدلال وبتحصيل المعرفة ، لكان لا بدّ من أن يكون لهم طريق إلى الانتفاع بالتكليف ولن يكون هكذا إلا وتقبل توبتهم إذا تابوا ، فكان يجب وقد علموا أنهم يتخلصون بالتوبة من النار أن لا يعدلوا عنها ساعة واحدة ، وأن يتوبوا ويتخلصوا من النار ، وهذا محال. فهذه جملة دالة على مثال ما يقوله أبو القاسم البلخي ابتداء.

تتمة الرد على اعتراض أبي القاسم البلخي

فأما ما أورده من الشبهة من أن ما يعلم ضرورة لا يجوز إلا أن يعلم ضرورة ، فكذلك ما يعرف استدلالا لا يجوز أن يعرف إلا استدلالا فغير مستقيم ، لأنه جمع بين أمرين من غير علة تجمعهما ، فلا يقبل. على أن فيما نعلم اضطرارا ما يجوز أن يعلم استدلالا ، ألا ترى أن العلم بكون زيد في الدار ، كما يحصل مشاهدة يحصل بخبر منبئ صادق ففسد ما ظنه ، فأما إذا علم ضرورة ، إنما لم يجز أن يعلم استدلالا ، لا لأنه معلوم ضرورة ، بل لأنه معلوم فقط. ولهذا فإنه لو علم استدلالا مرة لا يمكنه أن يعلم استدلالا مرة ثانية ، لوجه معقول وهو ، أن النظر والاستدلال قط لا يجامع القطع والبتات ، لاحتياجه إلى التجويز والتمثيل. على أن العلم بالمشاهدات ، وغيره من الأمور التي قاس عليها ، من كمال العقل والنظر ، والاستدلال لا يتأتى إلا ممن هو كامل العقل ، فلهذا لم يجز في هذه الأمور أن تعلم استدلالا ، وهذا غير ثابت في العلوم المكتسبة ، ففارق أحدهما الآخر.

٣٠

الرد على من يقول : إن الله قد يعرف تقليدا

ثم إنه رحمه‌الله سأل نفسه فقال : كيف يصح قولكم : إنه تعالى إذا لم يعرف ضرورة ولا بالمشاهدة ، وجب أن نعرفه بالنظر والاستدلال ، وفي الناس من قال إنه يعرف تقليدا. وأجاب : بأن التقليد هو قبول قول الغير من غير أن يطالبه بحجة وبينة حتى يجعله كالقلادة في عنقه ، وما هذا حاله لا يجوز أن يكون طريقا للعلم ولهذا لم نذكره في الطرق المذكورة.

والذي يدل على ذلك هو أن المقلد لا يخلو إما أن يقلد أرباب المذاهب جملة ، أو لا يقلد واحدا منهم إذ لا معنى لتقليد بعضهم دون بعض لفقد المزية والاختصاص ، لا يجوز أن يقلد أرباب المذاهب جملة لأنه يؤدي إلى اجتماع الاعتقادات المتضادات ، فلم يبق إلا أن لا يقلد واحدا منهم ، ويعتمد على النظر والاستدلال.

الرد على القول بتقليد الأزهدين

فإن قالوا : نقلد الأزهدين فلتقليدهم مزية على تقليد غيرهم ، قلنا : ليس الزهد والتقشف من أمارات الحق ، ولهذا فإنك تجد كثيرا من رهبانية النصارى قد بلغوا في الزهد الغاية مع كونهم على الباطل ، هذا وجه. ومن وجه آخر ، وهو أن يقال : ما من طائفة إلا وفيها زهاد وعباد ، فلا يخلو ، إما أن يقلد زهاد الطوائف أجمع أو لا يقلد واحدا منهم إذ لا معنى لتقليد بعضهم دون بعض ، لفقد المزية والاختصاص ؛ لا يجوز أن يقلد زهاد الطوائف أجمع لأن في هذا اجتماع الاعتقادات المتضادات ، فلم يبق إلا أن لا يقلد واحدا منهم ويعتمد على النظر والاستدلال.

الرد على القول بتقليد الأكثرين

فإن قالوا نقلد الأكثرين فللكثرة مزية ، قلنا : ليست الكثرة من أمارات الحق ، ولا القلة من علامات الباطل. ولهذا ذم الله الأكثرين بقوله : (وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) [المائدة : ١٠٣](أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) [الزخرف : ٧٨] ومدح الأقلين بقوله جل وعز : (وَقَلِيلٌ ما هُمْ) [ص : ٢٤](وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) [هود : ٤٠](وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ : ١٣]. وقال الشاعر في القليل :

تعيرنا أنا قليل عديدنا

فقلت لها إن الكرام قليل

ولهذا فإن الحارث بن حوط لما قال لأمير المؤمنين علي عليه‌السلام : أترى يا

٣١

أمير المؤمنين أن أهل الشام مع كثرتهم على الباطل وأهل العراق مع قلتهم على الحق ، فقال له : يا جار إنه لملبوس عليك ، الحق لا يعرف بالرجال ، وإنما الرجال يعرفون بالحق ، اعرف الحق تعرف أهله قلوا أم كثروا ، واعرف الباطل تعرف أهله قلوا أم كثروا.

فإن قالوا : أليس قد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «عليكم بالسواد الأعظم» ، فهذا يدل على أن تقليد الأكثرين أولى ، قلنا : إن صح هذا الخبر وثبت فالمراد به أن الأمة متى أجمعت على حكم شرعي يجب متابعتهم ولا يجوز مخالفتهم.

ومن جيد ما يعتمد عليه في فساد التقليد هو ، أن المقلد لا يخلو إما أن يقلد العالم أو غير العالم ، لا يحل أن يقلد غير العالم ، فإذا قلد العالم فلا يخلو ذلك العالم إما أن يكون قد علم ما قد علمه تقليدا ، أو بطريقة أخرى ، لا يجوز أن يكون قد علمه تقليدا ، لأن الكلام فيه كالكلام في الأول فيؤدي إلى ما لا يتناهى من المقلدين ومقلدي المقلدين ، وهذا محال ، وإن علمه بطريقة أخرى ، فلا يخلو إما أن يعلمه اضطرارا أو استدلالا لا يجوز أن يعلمه اضطرارا لما تقدم من الوجوه لأنه كان يجب أن يشاركه فيه ، فلم يبق إلا أن يعلمه ، استدلالا على ما نقوله. وهذا يبين لك فساد التقليد.

ومما يعتمد عليه في فساد التقليد وهو أجود أن المقلد لا يأمن خطأ من قلده فيما يقدم عليه من الاعتقاد وأن يكون جهلا قبيحا ، والإقدام على ما لا يؤمن كونه جهلا قبيحا بمنزلة الإقدام عليه مع القطع على ذلك.

شبهة الخلط بتقليد الرسول

فإن قيل : ألستم جوزتم تقليد الرسول فقد دخلتم فيما عبتم علينا ، قلنا : معاذ الله أن يكون ذلك تقليدا ، لأن التقليد هو قبول قول الغير من غير أن يطالبه بحجة وبينة ، ونحن إنما قبلنا قوله لظهور العلم المعجز عليه.

تقليد العامي للعالم

فإن قيل : ألستم جوزتم للعامي تقليد العالم ، قلنا : إن ذلك ليس بتقليد ، فإنا إنما جوزنا له الرجوع إلى قول العالم لقوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [الأنبياء : ٧] ولأن الأمة اتفقت على أن له الرجوع إليه ، فلا يكون تقليدا. وبعد

٣٢

فإنا إنما سوغنا له ذلك في الفروع ، وفيما يكون طريقه الاجتهاد ، فلا يصح قياس الأصول عليه ، وعلى أنا لم نجوز للعامي أن يعتقد صدق ما يقوله العالم والقطع عليه وعلى أن خلافه كذب ، وإنما الذي سوغناه له أن يعمل بقوله فقط.

الرد على شبهة أن الله لا يجب معرفته أصلا

ثم إنه رحمه‌الله سأل نفسه فقال : كيف يصح قولكم : إنه تعالى إذا لم يعرف من وجه ، وجب أن يعرف من وجه آخر ، وفي الناس من قال : إنه لا تجب معرفته أصلا. وأجاب عنه : بأنا إنما بينا ذلك على أن معرفة الله تعالى واجبة ، وسنبينه في هذا الفصل ، ثم قلنا : الطريق إلى معرفة الله تعالى لا يخلو من أحد أمور ثلاثة ، وقد بطل اثنان منها ، فبقي الثالث ، وهذا صحيح.

الدليل على أن معرفة الله واجبة

ثم الدليل على أن معرفة الله تعالى واجبة هو أنها لطف في أداء الواجبات واجتناب المقبحات ، وما كان لطفا كان واجبا لأنه جار مجرى دفع الضرر عن النفس. وإنما قلنا إنها لطف ، لأن اللطف ليس بأكثر من أن يكون المرء عنده أقرب إلى أداء الواجبات وترك المقبحات ، على وجه لولاه لما كان بهذه المثابة ؛ ومعرفة الله تعالى بهذه الصفة. ألا ترى أن الإنسان إذا عرف أن له صانعا صنعه ومدبرا دبره إن أطاعه أثابه وإن عصاه عاقبه ، كان أقرب إلى أداء الواجبات ، وترك المقبحات. وإن كنا إذا حققنا قلنا : فاللطف هو العلم باستحقاق الثواب والعقاب لأنه الذي يثبت له حظ الدعاء والصرف ، إلا أن ذلك لما ترتب على العلم بالله ، عد العلم بالله تعالى في اللطف لما لم يتم اللطف إلا به.

وقد اختلف كلام قاضي القضاة : في هذا الباب ؛ فمرة أشار إلى ما ذكرناه ، ومرة قال القضاة بل لا شيء من المعارف التي يوجبها على المرء ، إلا وله حظ في اللطف ، ألا ترى أنه لو لم يعلم الله تعالى قادرا عالما ، لم يكن علمه باستحقاق الثواب والعقاب من جهته لطفا له.

فهرس لما ينبغي فيه النظر

ثم إنه رحمه‌الله ألحق بهذا كالفهرست لما يريد أن يذكره من بعد ، فقال : إذا لم يكن بد من النظر ، فينبغي أن ينظر في هذه الحوادث من الأجسام وغيرها ويرى جواز

٣٣

التغير عليها فيعرف أنها محدثة.

رأي أبي الهذيل : وجود المحدث

ثم ينظر في حدوثها ، فيحصل له العلم بأن لها محدثا قياسا على تصرفاتنا في الشاهد ، وهذا أول علم يحصل بالله تعالى على طريقة أبي الهذيل وهو الصحيح.

رأي أبي علي : وجود المحدث المخالف لنا

ثم ينظر في أن ذلك المحدث لا يجوز أن يكون هو ولا مثله ، فيحصل له العلم بأن له محدثا مخالفا لنا وهو الله تبارك وتعالى ، وهذا أول علم يحصل بالله تعالى بالنظر والاستدلال عند أبي علي.

١ ـ أنه قادر

ثم ينظر في صحة الفعل منه ، فيحصل له العلم بكونه قادرا.

٢ ـ أنه عالم

ثم ينظر في صحة الفعل منه على وجه الإحكام والاتساق ، فيحصل له العلم بكونه عالما ، ثم ينظر في كونه قادرا أو عالما ، فيحصل له العلم بكونه حيا.

٣ ـ أنه حي : سميع ، بصير ، مدرك.

ثم ينظر في كونه حيا لا آفة به ، فيحصل له العلم بكونه سميعا بصيرا مدركا للمدركات.

٤ ـ أنه موجود وقديم

ثم ينظر في كونه عالما وقادرا ، فيحصل له العلم بكونه موجودا.

ثم ينظر في أن الحوادث تنتهي إليه وهو لا ينتهي إلى حد ، فيحصل له العلم بكونه قديما.

٥ ـ ليس جسما ولا عرضا ولا يجوز عليه ما يجوز عليهما

ثم ينظر في كونه قديما ، فيحصل له العلم بأنه ليس بجسم ولا عرض ولا يجوز

٣٤

عليه ما يجوز على الأجسام والأعراض من المجاورة والحلول وغير ذلك من الصعود والهبوط والارتفاع والانحدار والانتقال من مكان إلى مكان ولا تجوز الزيادة ولا النقصان.

٧ ـ غني

ثم ينظر في أنه لا يجوز عليه الزيادة والنقصان فيحصل له العلم بأنه غني لا تجوز عليه الحاجة ، إذ الحاجة إنما تجوز على من يجوز عليه الزيادة والنقصان.

٨ ـ لا يرى ولا يبصر ولا يدرك بالحواس

ثم ينظر في أنه لا يجوز عليه ما يجوز على الأجسام من المجاورة والمقابلة والمماسة والحلول ، فيحصل له العلم بأنه لا يرى بالأبصار ولا يدرك بشيء من الحواس.

١٠ ـ واحد لا ثاني له

ثم ينظر في أنه لو كان معه ثان لتمانعا ، وهذا يؤدي إلى الضعف الذي لا يجوز إلا على الأجسام ، فيحصل له العلم بأنه واحد لا ثاني له يشاركه في القدم والإلهية ، فيكون قد حصل له العلم بكمال التوحيد.

١١ ـ أنه عادل

ثم ينظر بعد ذلك في أنه عالم بقبح القبيح ومستغن عنه وعالم باستغنائه عنه فيحصل له العلم بكونه عدلا حكيما ، لا يفعل القبيح ، ولا يخل بالواجب ، ولا يأمر بالقبيح ، ولا ينهى عن الحسن ، وأن أفعاله كلها حسنة.

عودة إلى أن معرفة الله واجبة ليدلل على أن النظر في طريق معرفة الله واجب

فبهذه الطرق يحصل المرء لنفسه علوم التوحيد والعدل ، فهذه جملة أجملها رحمه‌الله ليفصلها من بعد.

ثم إنه رحمه‌الله لما فرغ من المقدمة التي قدمها ، عاد إلى الكلام في أن معرفة الله تعالى واجبة ، ليرتب عليه الكلام في أن النظر في طريق معرفة الله واجب.

٣٥

النظر في طريق معرفة الله ليس مقصودا لذاته

والأصل في ذلك ، أن النظر في طريق معرفة الله تعالى واجب. ثم ليس هو المقصود في نفسه ، وإنما المقصود منه المعرفة ، حتى لو أمكننا تحصيل المعرفة بدونه لكان لا معنى لإيجابه.

مخالفة أصحاب المعارف ومن قال بالإلهام أو طبع المحل

وقد خالفنا في ذلك أصحاب المعارف إلا أنهم افترقوا ، فمنهم من قال : إن المعارف كلها تحصل إلهاما وهؤلاء لا يوجبون النظر البتة ، ومنهم من قال : إن المعارف تحصل بطبع المحل عند النظر ، فيوجبون النظر إليه. ولكن لا على هذا الوجه الذي أوجبنا. فبقي الخلاف بيننا وبينهم.

والأصل في هذا الباب أن يعلم أن وجوب كل نظر يندفع به الضرر عن نفسه مقرر في عقل كل عاقل ، ولا شبهة في ذلك وإنما يشتبه الحال في بعض الأنظار المفصلة هل هو بهذه الصفة أم لا؟.

ثم إذا أردنا أن نعلم وجوب بعض الأنظار المفصلة التي هذا حالها ، نلحقه بالجملة المقررة في العقل ، وصار الحال فيه كالحال في العلم بقبح الظلم على الجملة ، والعلم بأن هذا بعينه ظلم ، فكما أنا عند هذين العلمين نختار منهما علما ثالثا بقبح الظلم المعين إلحاقا بالجملة المقررة في العقل ، كذلك هاهنا. إذا ثبت هذا ، ومعلوم أن النظر في طريق معرفة الله تعالى مما يندفع به الضرر عن النفس ، ثبت وجوبه.

الضرر الذي يندفع بالنظر

فإن قال : وما ذلك الضرر الذي يندفع عن النفس بالنظر في طريق معرفة الله تعالى؟ قيل له : هو الضرر الذي يخاف المرء عند تركه النظر ، فإن المكلف إذا بلغ كمال العقل لا بدّ من أن يخاف من ترك النظر ضررا لسبب من الأسباب.

فإن قال : وما أسباب الخوف؟ قلنا : تختلف ، فربما يكون اختلاطة بالناس وسماع اختلافهم في الأديان وتضليل بعضهم بعضا ، وتكفير بعضهم بعضا ، وقول كل واحد منهم للآخر إن الحق في جانبي ، وإن ما أنت عليه باطل يؤدي إلى الهلاك ، فعند هذا يخاف العاقل إن لم ينظر ولم يتفكر أن يقع في ورطة ومهلكة ، وربما يكون سبب

٣٦

الخوف دعاء الدعاة وقصص القاصين وتخويف المخوفين ، وربما يكون ذلك بخاطر من جهة الله تعالى أو من جهة بعض الملائكة ، وربما يعتريه الخوف بأن ينظر في كتاب فيرى هناك مكتوبا : لا يأمن أن يكون لك صانع صنعك ، ومدبر دبرك ، إن أطعته أثابك ، وإن عصيته عاقبك. فعند هذه الأسباب أو عند بعضها لا بدّ من أن يخاف من ترك النظر ضررا ، حتى لو لم يخف البتة لم يكن مكلفا ولا عاقلا ؛ إذ العاقل إذا خوف بأمارة صحيحة خاف لا محالة. وقد تقرر في العقل أن دفع الضرر عن النفس واجب سواء كان معلوما أو مظنونا ، وسواء كان معتادا أو غير معتاد ، إذا كان المدفوع به دون المدفوع. فثبت وجوب النظر في طريق معرفة الله تعالى.

فإن قيل : ما أنكرتم أن ضرر النظر أكبر من الضرر الذي يندفع به؟ قلنا : لأن الضرر الذي يندفع بالنظر هو ضرر العقاب ولا شبهة في أن ضرر النظر دونه.

هل يدفع الضرر بالتقليد أو الاضطرار أو المشاهدة؟

ومتى قيل : إن ذلك الضرر يمكن دفعه عن النفس بالتقليد أو بأن يعرف الله تعالى اضطرارا أو مشاهدة فلا يحتاج إلى النظر والاستدلال ، قلنا : قد تكلمنا على هاتين المسألتين وبينا فساد التقليد وأنه تعالى لا يجوز أن يعرف اضطرارا ولا بالمشاهدة.

ومتى قيل : إن ذلك الضرر مظنون فلا يجب دفعه ، قلنا : لا فرق بين أن يكون الضرر مظنونا أو معلوما في وجوب دفعه ، ألا ترى أنه لا فرق بين أن يشاهد في الطريق سبعا ، وبين أن يخبر مخبر بذلك ، فإنه يلزمه للتجنب عن سلوك تلك الطريق فعلى هذا يجري الكلام في ذلك.

الربط بين الكلام في أن النظر أول الواجبات وبين وجوب النظر

فصل : ثم إنه رحمه‌الله عطف على الجملة المتقدمة الغرض المقصود بالباب وهو الكلام في أن النظر في طريق معرفة الله تعالى أول الواجبات ، ورتبه على الفصل الذي قبله لما كان ذلك كلام في وجوب النظر ، وهذا كلام في أنه أول الواجبات.

ودل على ذلك بأنه قال : سائر الشرائع من قول وفعل لا تحسن إلا بعد معرفة الله تعالى ، ومعرفة الله لا تحصل إلا بالنظر فيجب أن يكون النظر أول الواجبات.

ونحن قبل إيراد الدلالة على ذلك نبين المراد بهذه العبارة فإن إطلاقها يوهم أنه لا يجوز أن يكون في الواجبات ما يجب على المرء حال توجه التكليف عليه كالنظر ،

٣٧

وليس كذلك. فإن من دخل زرع الغير ثم توجه عليه التكليف يلزمه الخروج عنه كما يجب عليه النظر ، هذا بقلبه ، وذلك بجارحته. وكذلك من كان عليه دين ، أو عنده وديعة ثم توجه عليه التكليف فإنه يلزمه الخروج عن عهده ، وذلك كما يلزمه النظر.

النظر في طريق معرفة الله من الواجبات التي لا ينفك عنها المكلف بوجه من الوجوه

والدليل على ذلك ، أن سائر الواجبات إما أن تتأخر عن معرفة الله تعالى أو يجوز انفكاك المكلف عن وجوبه عليه. وكلامنا فيما لا ينفك المكلف عنه بوجه من الوجوه.

وبيان ذلك : أن الواجبات على ضربين : عقلي وشرعي ، فالعقليات نحو رد الوديعة وقضاء الدين وشكر النعمة ، فما من شيء منها إلا ويجوز انفكاك المكلف عنه بحال من الأحوال ، وأما الشرعيات ، فالشرط فيها إيقاعها على وجه القربة والعبادة إلى الله تعالى ، وذلك لا يحسن إلا بعد معرفة الله تعالى.

فإن قيل : كيف يصح قولكم : إنه لا يجوز أن ينفك عن وجوب شكر النعمة عليه؟ قلنا : لأن النعمة لا يخلو أن تكون من قبل الله تعالى ؛ وشكر نعمة الله تعالى لا تجب إلا بعد معرفته وتوحيده وعدله ، وأنه قصد بذلك الإحسان إليه ، وإما أن تكون من قبل الآدميين ؛ فالآدمي إما أن يكون أجنبيا ولا شك في جواز انفكاكه عن وجوب شكر نعمة الأجنبي عليه ، وبقي أن يقال إنه لا يجوز أن ينفك عن وجوب شكر أبويه عليه ، وهذا فغير ممتنع أن يكون غرضهما بالمقاربة قضاء الوطر وتنفيذ الشهوة فلا يلزمه شكرهما.

فأن قيل : أليس المكلف إذا علم قبح الظلم والكذب وغيرهما من القبائح يلزمه الاجتناب عنهما فهلا جعلتموه أول الواجبات؟ قلنا : كلامنا فيما يلزم المكلف فعله والظلم والكذب وغيرهما من القبائح ليس بهذه المرتبة ، فإن أحدنا يمكنه الاجتناب عن القبائح وإن لم يفعل فعلا.

فإن قال : هذا لا يمكن ، لأن القادر بالقدرة لا ينفك عن الأخذ والترك ، قلنا : هذا أصل فاسد عندنا ، والدليل على ذلك ما ذكره شيخنا أبو إسحاق ابن عياش ، وهو أن أحدنا لا يريد تصرفات الناس في الأسواق ولا يكرهها ، فقد خلا عن الشيء وعن ضده.

٣٨

فإن قيل : إنه يعرض ، فلم يخل عن هذين الضدين إلا إلى ثالث هو الإعراض ، قلنا : الإعراض ليس بمعنى ، لأنه لا يعلم ضرورة ولا طريق إليه.

فإن قال : إن إليه طريقا وهو كونه معرضا ، قيل له : ليس للمعرض بكونه معرضا ، وإلا كان يجد من نفسه ، كما يجد كونه مريدا أو كارها من نفسه ، وقد علم خلافه.

سؤال : هلا جعلتم النظر في وجوب النظر أول الواجبات؟ والرد :

فإن قيل : هلا جعلتم النظر في وجوب النظر أول الواجبات؟ قلنا : إن المكلف إذا بلغ كمال العقل لا بدّ أن يخاف من تركه النظر ضررا لسبب من الأسباب ، وعلم وجوبه عليه ضرورة أو بالرد إلى ما هو معلوم ضرورة فلا يحتاج إلى النظر والاستدلال ، على أنا لم نعين النظر بل أطلقنا وقلنا : النظر في طريق معرفة الله تعالى أول الواجبات ، فلو كان النظر في وجوب النظر نظرا في طريق معرفة الله تعالى ، جاز أن يكون أول الواجبات.

هلا يكون العلم بالله أول الواجبات؟

فإن قيل : هلا جعلتم العلم بالله تعالى أول الواجبات فإنه هو المقصود بالباب؟ قلنا : إنه وإن كان كذلك إلا أنه يتأخر في الحصول عن النظر ولا يحصل إلا به ، فيجب أن يكون النظر أول الواجبات.

فإن قيل : يلزم على هذا أن يكون القصد إلى النظر واختياره أول الواجبات فإن النظر لا يحصل إلا به ، قلنا : ليس كذلك لأن النظر مجرد الفعل ، ومجرد الفعل لا يحتاج إلى القصد والإرادة ، وحيث يقع مع القصد فالقصد يقع تبعا له ، وصار الحال فيه كالحال في إرادة الأكل مع الأكل ، فكما أن الأكل لا يحتاج إلى الإرادة وحيث تقع فيه كالحال في إرادة الأكل مع الأكل ، فكما أن الأكل لا يحتاج إلى الإرادة وحيث تقع معه إنما تقع تبعا للأكل ، والمقصود هو الأكل ، كذلك هاهنا.

وكذلك فإن أحدنا لو كان على شفير الجنة والنار وهو عالم بما في الجنة من المنافع وبما في النار من المضار وسلبه الله تعالى إرادة دخول الجنة وخلق فيه إرادة دخول النار ، فإنه يدخل الجنة لا محالة دون النار من غير قصد وإرادة ، فعلم أن مجرد الفعل لا يحتاج إلى القصد والإرادة.

يبين ما ذكرناه ويوضحه ، أن الواحد منا لو كلف بالنظر ومنع عن المقصود والإرادة ، لكان يحسن تكليفه بالنظر فلو كان النظر يحتاج إلى القصد والإرادة ، لكان

٣٩

تكليفه بالنظر تكليف ما لا يطاق ، وليس كذلك المعرفة لأن المعرفة محتاجة إلى النظر ، حتى لو منع عن النظر لما حسن تكليفه بالمعرفة ، لأن تكليفه بها تكليف ما لا يطاق.

هلا يكون الخوف الذي يحصل عند ترك النظر أول الواجبات؟

فإن قيل : هلا قلتم إن الخوف الذي يحصل عند ترك النظر أول الواجبات ، قلنا : هذا خلف من الكلام وخطل من القول ، لأن الخوف من شرائط التكليف ، فكيف يجعل واجبا على المكلف ، فضلا عن أن يكون أول الواجبات؟ فلو جاز هذا ، لجاز أن يقال : إن كمال العقل أول الواجبات ، وإن كان من شرائط التكليف.

واعلم أن هذا الخوف إنما يكون من قبلنا ، ولا يجوز أن يكون من قبل الله تعالى لأن المرجع به إلى ظن مخصوص ولا حكم للظن إلا إذا صدر من أمارة صحيحة ، والأمارة لا تجوز على الله تعالى لأنه عالم لذاته ، فلو وجد من جهته الظن والحال هذه ، لتنزل منزلة الظن السوداوي ، وذلك مستحيل عليه. يبين ذلك أن الظن لا يخلو إما أن يكون من قبيل الاعتقاد على ما قاله الشيخ أبو هاشم ، أو يكون جنسا برأسه على ما يقوله باقي الشيوخ. فإن كان من قبيل الاعتقاد فلا يخلو إما أن يكون معتقده على ما اعتقده عليه ، أو لا يكون كذلك. فإن كان معتقده على ما اعتقده عليه لم يكن ظنا وكان علما ، وإن لم يكن كذلك كان جهلا قبيحا ، والله تعالى منزه عنه. وإن كان جنسا برأسه ، فإنه لا ينفك عن التجويز الذي هو اعتقاد مخصوص ، فحال ذلك الاعتقاد لا يخلو إما أن يكون معتقده على ما اعتقده عليه ، أو لا يكون كذلك ، فإن كان معتقده على ما اعتقده عليه لم يكن ظنا بل يكون علما ، وإن لم يكن كذلك كان جهلا قبيحا والله تعالى منزه عن الجهل والقبيح.

فحصل من هذا أن الخوف لا بدّ من أن يكون من فعلنا ، ثم لا يمتنع مع ذلك أن يكون من شرائط التكليف.

فإن قيل : لو كان المرجع بالخوف إلى ما ذكرتموه من الظن المخصوص لكان لا يدخل في المعلومات ، والمعلوم أن أحدنا يخاف الموت مع كونه مقطوعا به ، قيل له : إنا لا نخاف الموت ، وإنما خوفنا من الوقت الذي يحدث فيه وينزل وذلك غير معلوم ، فلذلك تحقق الخوف به.

فإن قيل : أليس الملائكة يخافون عذاب الله تعالى ، قال الله تعالى : (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٥٠)) [النحل : ٥٠] مع علمهم بأنهم لا يعذبون قلنا : إنهم لا

٤٠