شرح الأصول الخمسة

عبد الجبّار بن أحمد الهمداني الأسدآبادي

شرح الأصول الخمسة

المؤلف:

عبد الجبّار بن أحمد الهمداني الأسدآبادي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٧

العذاب. فبين استحقاقهم من جهة الله تعالى بهذه المقالة ، وقال بعد ذلك : (هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) [الأنعام : ١٤٨] منبها بذلك أنهم على الضلالة. ثم قال : (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) بين في ذلك أنهم سلكوا في ذلك طريقة التقليد والظن ، وختم الآية بقوله : (وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) [الأنعام : ١٤٨] مقرعا لهم ودالا على كذبهم لأن الخرص إنما هو الكذب ، قال تعالى : (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠)) [الذاريات : ١٠] أي لعن الكذابون فهذه الآية على ما ترى تدل على فساد هذه المقالة من هذه الوجوه كلها.

وما يهذى به أبو بشر الأشعري وغيره ، من أن القديم تعالى إنما ذم هذه المقالة لأنها وردت منهم على طريق الهزء فعدول عن الظاهر ، لأن في الظاهر ما يمنع من ذلك ، لأنه لا يكذب المستهزئ ، ولا يقال له هل عندك من علم فيما تقوله؟ ولا يقال له إن أنت إلا متبع الظن.

أطفال المشركين لا يعذبون بذنوب آبائهم

فصل في أنه تعالى لا يجوز أن يعذب أطفال المشركين بذنوب آبائهم

وقد دخل جملة هذا الكلام فيما تقدم ، غير أنه رحمه‌الله أفرده بالذكر لأن بعض المجبرة قد خالفت في ذلك وتعلقت بشبه ركيكة سنذكرها من بعد إن شاء الله تعالى وبه الثقة.

ونحن قبل الاشتغال بالدلالة على هذه المسألة نذكر حقيقة التعذيب.

اعلم أن التعذيب إيصال العذاب إلى الغير ، والعذاب هو الضرر الخالص المستحق على طريق الاستخفاف والإهانة ، إذا ثبت هذا ، فالذي يدل على أنه تعالى لا يجوز أن يعذب أطفال المشركين بذنوب آبائهم ، هو أن تعذيب الغير من غير ذنب ظلم والله تعالى لا يجوز أن يكون ظالما باتفاق الأمة ، ولأنه قبيح ، والله تعالى لا يفعل لعلمه بقبحه وبغناه عنه.

وقد استدل رحمه‌الله بالسمع على هذه المسألة تنبيها على أن الدلالة السمعية من الكتاب والسنة توافق ما ذهبنا إليه واعتقدناه في ذلك.

فمما يدل على ما ذكرناه من كتاب الله ، قوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء : ١٥] ومعلوم أن الأطفال لم تبعث إليهم الرسل ، فيجب أن لا يعذبهم الله

٣٢١

تعالى على ما نقوله ، وقوله : (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨)) [المدثر : ٣٨] والطفل لم يكتسب إثما حتى يعذب.

ومن السنة ، ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «رفع القلم عن الصبي حتى يبلغ» فبيّن أن القلم مرفوع عنه ، ولن يكون كذلك إلا ولا يحسن تعذيبه ، فصح أن تعذيب أطفال المشركين ظلم ، وأنه تعالى لا يختاره.

فإن قيل : إن ذلك وإن كان صورته صورة الظلم ، فإنه لا يقبح من الله تعالى ، قلنا : الظلم إذا قبح فإنما يقبح لوقوعه على وجه متى وقع على ذلك الوجه قبح من أي فاعل كان ، سواء وقع من الله تعالى أو من غيره.

فإن قيل : ما أنكرتم أن ذلك لا يقبح منه لأنه مالك الرقاب وللمالك أن يفعل في ملكه ما شاء ، بخلاف الواحد منا.

قيل له : إنا كما نعلم قبح الظلم على الجملة اضطرارا ونعلم أنه إنما قبح لكونه ظلما ، نعلم أنه لا يختلف باختلاف الفاعلين له سواء كان مالكا أو لم يكن مالكا.

وبعد ، فإنا لا نسلم أن للمالك أن يتصرف في ملكه كيف شاء ، فإن أحدنا لو أنفق عمره في بناء دار ، وزخرفها وزينها وبذل الجهد في تزويقها وتحسينها ثم أخذ في هدمها ، فإنه يمنع من ذلك ويزجر ولا يمكن منه وكذلك لو حمل نفسه على المشاق العظيمة حتى حصل لنفسه رزمة من البرسيم ثم أراد أن يحرقها ، فإنه يمنع من إحراقها وإشعال النار فيها ولا يمكن من ذلك ، بل يصفع دونه.

فإن قيل : إن أحدنا إنما يمنع من هذه الأمور ولا يحسن منه ذلك لأنه ليس بمالك حقيقة ، قلنا : المالك ليس بأكثر من أن يجوز له التصرف فيه لا على طريق النيابة ، وهذه حال الواحد منا ، فكيف يمنع من كونه مالكا؟

فإن قيل : إن هذه الأمور إنما تقبح من الواحد منا لأجل النهي وهو غير ثابت في الله تعالى. قيل له : إنا قد ذكرنا أن النهي لا تأثير له في قبح شيء من الأشياء ، لو لا ذلك وإلا كان يجب فيمن لا يعرف النهي ولا الناهي أن لا يعرف قبح هذه المقبحات من الظلم وغيره ، ومعلوم أن هؤلاء الملحدة يعرفون قبح الظلم مع إنكارهم للأوامر والآمر والناهي ، ومتى قالوا : إنهم لا يعرفون قبح الظلم على الحقيقة وإنما يعتقدونه ، قلنا : هذا محال ، ولو أمكن أن يقال ذلك هاهنا ، لأمكن أن يقال مثله في التفرقة بين السواد والبياض ، فيقال : إنهم لا يعرفون ذلك وإنما يعتقدونه ، وقد عرف خلافه ، ووجه

٣٢٢

الجمع بينهما ، هو لأن سكون النفي في أحدهما ، كسكون النفي في الآخر ، فهذه جملة الكلام في ذلك.

شبه المخالفين وللمخالف في هذا الباب شبه :

من جملتها ، قولهم : إن الكفار أذنبوا فلهذا يحسن تعذيب أطفالهم.

قلنا : إن تعذيب الغير من غير ذنب ظلم ، والله يتعالى عن أن يفعل الظلم وقد نوه نفسه عن ذلك بقوله : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [الأنعام : ١٦٤] وقال : (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) [الكهف : ٤٩].

وبعد ، فلو كان الأمر كما ذكرتموه لكان يجب أن يعذبوا في الدنيا بذنوب آبائهم ، وقد علم خلافه.

وربما يوردون هذا الكلام على وجه آخر فيقولون : إن الولد كالجزء من الوالد ، فلذلك يحسن تعذيبه بذنب والده. قيل له : إن هذا خلف من الكلام وخطل من القول ، إذ لا شبهة في كونهما حيين متغايرين ، ولا يألم أحدهما بألم الآخر ولا يلتذ هو به ، ولو أمكن هذا في دار الآخرة لأمكن مثله في دار الدنيا ، فكان يجب أن يجلد الولد بتصرف والده ، وأن تقطع يده بسرقته ، ومعلوم خلافه.

ومما يتعلقون به ، قولهم : إن تعذيب أولاد الكفرة كتعذيب آبائهم ، لأن الكافر إذا رأى قرة عينه يعذب بين أطباق النيران كان أشد عليه من أن يعذب نفسه ، فيحسن تعذيبهم لهذا الوجه. وجوابنا : أنه وإن كان على ما ذكرته إلا أنه لا يخرج من أن يتضمن تعذيب من لا ذنب له ، وتعذيب من لا ذنب له قبيح ، والله تعالى لا يفعل القبيح على ما مر.

وبعد ، فلو جاز ذلك في الآخرة للعلة التي ذكرتموها لجاز في دار الدنيا مثله ، فكان يجب إذا زنا أبوه أن يرجم هو ، وإذا سرق أن تقطع يده ، وإذا قذف أن يجلد ، وقد عرف خلاف ذلك.

وأحد ما يقولونه ، أنه تعالى إذا علم من حالتهم أنهم إذا بلغوا كفروا ويحسن تعذيبهم. وجوابنا : أن هذا ثابت في أطفال المسلمين فيجب أن يحسن تعذيبهم ، ومعلوم خلافه.

وبعد ، فإذا جوزتم أن الله تعالى يعذب أطفال المشركين لأنه علم من حالتهم

٣٢٣

أنهم إذا بلغوا كفروا ، فهلا جوزتم أن يخلق الله تعالى كثيرا من الأحياء في نار جهنم ويعذبهم فيه ويحسن ذلك منه ، لأنه علم من أحوالهم أنهم إذا خلقوا وكلفوا كفروا ، وقد عرفنا فساده ، وبعد فكان يحب أن تقام عليهم هذه الحدود على وجه العقوبة ، لأن المعلوم من حالهم أنهم لو بلغوا ارتكبوا هذه الكبائر من القذف والزنا والسرقة ، ومعلوم خلافه.

ومن بله المجبرة من قال : إن الله تعال؟ يأمر أطفال المشركين يوم القيامة بدخول النار فلا يأتمرون ويعصون الله تعالى ، فيستوجبون العقوبة بذلك. وجوابنا : لم خصصتم هذا بأولاد الكفرة ، وهلا قلتم ذلك في غيرهم من الأطفال؟ على أن هذا يوجب أن تكون دار الآخرة دار تكليف ، والدلالة قد دلت على خلافه.

الاستدلال بالأخبار

وربما يتعلقون بالأخبار فيقولون : أليس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لما سألته خديجة عن أطفال لها كانوا في الجاهلية : «لو شئت لأسمعتك في النار» وجوابنا أن هذا الخبر من أخبار الآحاد ، ومسألتنا طريقها العلم.

وبعد ، فلو صح هذا الخبر فالمراد بالأطفال : والطفل قد يذكر ويراد به البالغ ، قال الشاعر :

عرصت بعامر والخيل تردى

بأطفال الحروب مشمرات

وأحد ما يتعلقون به في هذا الباب ، أن حكم أطفال المشركين حكم آبائهم في الاسم والحكم ، فيجب أن يكون حكمهم حكم آبائهم في التعذيب.

وجوابنا ، أنا لا نسلم أن حكمهم حكم آبائهم في الاسم ، لأن المعلوم الذي لا يشكل أن ابن يومين لا يسمى مشركا ولا يهوديا ولا نصرانيا ، وأما في الحكم فإنهم لا يذمون على كفر آبائهم ، ولا تؤخذ منهم الجزية ، وغير ذلك من الأحكام ، وأما المنع من المناكحة والموارثة والدفن في مقابر المسلمين ، فلكي يكون تمييزا بينهم وبين أطفال المسلمين لا غير.

قالوا : كيف يصح هذا ، ومعلوم أن حكمهم حكم آبائهم في السبي والقتل؟ قلنا : أما السبي فليس هو على طريق العقوبة ، وإنما يكون على طريق الابتلاء والامتحان من جهة الله تعالى ، والله تعالى يعوضهم على ذلك أعواضا عظيمة موفية على ذلك ، وصار

٣٢٤

الحال فيه كالحال في الآلام النازلة بالأطفال وغير الأطفال ، وأما القتل فلا نسلمه فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن قتل أولاد الكفرة والنساء والبهائم ، ومتى تستروا بأولادهم فإنما يجوز قتلهم لأن ذلك ليس بعقوبة لهم وإنما هو تشديد على الكفرة ، والله تعالى يعوضهم على ذلك أعواضا توفى عليها.

فإن قيل : أليس قد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كل مولود يولد على الفطرة وإنما أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه» قلنا : هذا الخبر يدل على صحة ما نذهب إليه ولا تعلق لكم بهذا الخبر ، ففيه أن كل مولود يولد على الفطرة ، ومن مذهبكم أن بعض المولودين يولدون على الفطرة والبعض الآخر يولدون على الكفر ، فكيف يصح قولكم ذلك؟

وأيضا ، فيه أن أبويه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ، ومن مذهبكم أنه تعالى المتولى كل ذلك ، وأنه على الحقيقة يهوده ويمجسه وينصره. ثم نقول : إن المراد بالخبر أن أبويه يلقنانه اليهودية والنصرانية والتمجس لا أنه يصير ذلك ، فعلى هذا يجري الكلام في هذا الفصل.

فصل في الآلام

اعلم ، أن للجهل بوجه حسن الآلام وقبحها ضل كثير من الناس.

واعتقد بعضهم أن الآلام قبيحة كلها ، والملاذ حسنة كلها ، فأثبتوا لذلك فاعلين ، لما اعتقدوا أن الفاعل الواحد لا يجوز أن يكون فاعلا لها جميعا ، وهم الثنوية.

واعتقد آخرون أن الآلام لا تحسن إلا مستحقة وقصروا حسنها على هذا الوجه ، ثم لما رأوا وصول هذه الآلام إلى الأطفال والبهائم الذين لا يستحقونها تحزبوا :

فقال بعضهم : إنهم كانوا في قالب آخر فعصوا الله تعالى فيه فنقلهم إلى هذا القالب وعاقبهم بهذه العقوبات ، وهم أصحاب التناسخ ، فنفوا أن يكون الحي والحساس هذه الجملة المشار إليها وأثبتوا غيرها.

وآخرون استصغروا هذه المقالة من أهل التناسخ ، فدفعوا المحسوسات ، وقالوا : إن الأطفال والبهائم لا يحسون شيئا من هذه الآلام البتة ، وهم البكرية وينسبون إلى ابن أخت عبد الواحد.

واعتقد الجبرية أن الآلام يعتبر حسنها وقبحها بحال فاعلها ، فإن كان فاعلها القديم جل وعز يحسن منه سواء كان ظلما أو اعتبارا ، وإن كان فاعلها الواحد منا لا

٣٢٥

يحسن ، واعتلوا لذلك بأنه تعالى مالك ، وللمالك أن يفعل في ملكه ما يشاء. ونحن نمهد قبل الشروع في المسألة أصلا يمكن تخريج كلام هؤلاء المخالفين عليه ، فنقول :

إن الآلام كغيرها من الأفعال في أنها تقبح مرة وتحسن أخرى ، فإذا حسن فإنما يحسن لوجه ، متى وقع على ذلك الوجه حسن من أي فاعل كان ، وهكذا في القبيح ، وجملة ذلك أن الألم إنما يحسن إذا كان فيه نفع أو دفع ضرر أعظم منه ، واستحقاق ، أو الظن لأحد الوجهين المتقدمين ، فإن ظن الاستحقاق لا يقوم مقام العلم خلافا لما حكى عن شيخنا أبي هاشم ، لأن من آلم غيره لظن الاستحقاق ، لا يأمن أن يكون مقدما على ظلم قبيح ، والإقدام على ما لا يأمن كونه قبيحا بمنزلة الإقدام عليه مع القطع ، فلا يمكن إنكار ما قلناه من أن في الآلام ما يقبح وفيها ما يحسن ، لأن كل عاقل يعلم بكمال عقله قبح كثير من الآلام كالظلم الصريح وغيره ، وحسن كثير منها كذم المستحق للذم وما يجري مجراه.

إذا ثبت ذلك ، فالذي يوضح أن الحسن منها إنما يحسن لما ذكرناه من النفع ودفع الضرر والاستحقاق ، هو أن كل عاقل يستحسن بكمال عقله تحمل السفر ومعاناة السهر طلبا للأرباح ، والآداب ، ولا يستحسن ذلك إلا لما يرجوه من النفع ، وهكذا فإنه يستحسن شرط الأذنين والحجامة والفصد ، وإنما يستحسن لما يعتقد فيه من ارتفاع الضرر ، ويستحسن منه ذم من أساء إليه ، ولا وجه لحسنه إلا الاستحقاق ، فحصل من ذلك أن الألم متى حصل على وجه من هذه الوجوه التي ذكرناها حسن لا محالة ، ومتى خرج عن هذه الوجوه لم يحسن بل يكون قبيحا. ولسنا نجعل الوجه في حسنه حصول النفع ودفع الضرر على كل حال ، بل إن حصل ذلك فهو الوجه في حسنه ، وإن لم يحصل فإن ظن ذلك يكون وجها في حسنه ، والدليل عليه أن أحدنا يحسن منه تكلف المشاق وتحمل الأسفار طلبا للعلوم والآداب وغير ذلك مع أنها كلها مظنونة ، وكذلك فقد يحسن منه القصد ، وإن لم يقطع على أنه يندفع به ضرر عنه ، فإذن إنما يحسن منه ذلك للظن.

وإذا تقررت هذه الجملة ، فقد بطل ما قالته الثنوية من أن الآلام كلها قبيحة لنفور الطبع عنها ، وإن كنا قد أبطلنا مقالتهم هذه في موضع آخر وأوردنا عليهم المسائل التي أوردها الشيوخ عليهم ، فلا طائل في تطويل الكلام.

وبطل أيضا قول أهل التناسخ ، القائلين بتنقل الأرواح في الهياكل ، فقد بينا أن الألم قد يحسن للنفع ولدفع الضرر كما يحسن للاستحقاق.

٣٢٦

وبطل أيضا قول البكرية.

وفسد أيضا قول المجبرة ، حيث قالت : إن الاعتبار في حسن الآلام وقبحها لحال الفاعل فإن كان الفاعل هو الله تعالى حسن وإلا لم يحسن ، لما ذكرناه من أن الألم إنما يحسن لهذه الوجوه التي ذكرناها ويقبح لتعريه عن هذه الوجوه ، فلا يختلف الحال في ذلك بحسب اختلاف الفاعلين.

ونعود بعد هذه الجملة فنقول : إنما يفعله الله تعالى من الآلام لا يخلو ، إما أن يوصله إلى المكلف أو إلى غير المكلف ، فإن أوصله إلى غير المكلف فلا بد من أن يكون في مقابلته من الأعواض ما يوفى عليه ، وأن يكون فيه اعتبار المكلفين ، ليخرج بالأول عن كونه ظلما ، وبالثاني عن كونه عبثا ، فإن أوصله إلى المكلف فلا بد فيه من الأمرين جميعا : العوض والاعتبار ، إلا أن الاعتبار هاهنا إما أن يكون اعتبارا له فقط ، أو لغيره ، أو له ولغيره جميعا ، وإن استبعد قاضي القضاة أن يكون اعتبارا لغيره ، ولا يكون اعتبارا له مع أنه أخص به. وهذا وجه له ولمكانه يحسن من الله تعالى الإيلام ، وقد يحسن لوجه آخر وهو الاستحقاق على ما نقوله في العقاب ، فأما إذا خرج عن هذين الوجهين فلا ، حتى أنه لا يحسن من الله تعالى لدفع الضرر ، لأن الله تعالى قادر على أن يدفع ذلك الضرر من دون هذا الألم ، فالإيلام والحال هذه يكون عبثا لا فائدة فيه.

إلا أن هذه الطريقة يمكن سلوكها في النفع ، فيقال : إنه تعالى قادر على إيصال هذا القدر من النفع إليه فلا معنى للإيلام لكي يوصله إليه ، ومتى قلنا : إن مع النفع اعتبارا كان له أن يجنب بمثله ، فالأولى أن نقول : إن ذلك الضرر إما أن يكون مصلحة أو مفسدة ، فإن كان مصلحة فلا سبيل إلى دفعه بل يجب فعله ، وإن كان مفسدة فلا سبيل إلى فعله لقبحه ، فكيف يحسن من الله تعالى الإيلام لئلا يفعل قبيحا.

هذا إذا كان كل واحد من الضررين من جهة الله تعالى.

فأما إذا كان الضرر المدفوع من جهة غير الله تعالى فلا يخلو ، إما أن يكون من جهة المكلف أو من جهة غير المكلف ، فإن كان من جهة المكلف فلا يخلو إما أن يكون مصلحة أو مفسدة ، فإن كان مصلحة فلا سبيل إلى دفعه ، وإن كان مفسدة فالواجب أن يدفعه الله تعالى بالنهي والوعيد ، فأما أن يؤلمه ليندفع به عنه ذلك الضرر فلا ، وهكذا إذا كان من جهة غير المكلف ، فإنه إما أن يكون مصلحة فلا سبيل إلى

٣٢٧

دفعه ، أو يكون مفسدة فالواجب أن يمنعه الله تعالى من ذلك ولا يمكنه منه ، لا أن يؤلمنا لمكانه ، فصح أنه تعالى لا يصح أن يفعل الإيلام لدفع الضرر وإن حسن منه فعله للنفع والاستحقاق على ما تقدم.

إذا ثبت هذا ، فقول من قال إن الألم لا يحسن إلا إذا كان مستحقا لا يخلو ، إما أن يريد به أنه لا يحسن إلا للاستحقاق سواء كان من جهة الله تعالى أو من جهة غيره ، وذلك فقد أبطلناه بما تقدم ، فلقد ذكرنا أنه يحسن للنفع ولدفع الضرر كما يحسن للاستحقاق ، وإما أن يريد به أنه وإن حسن من العباد لهذه الوجوه فلا يحسن من الله تعالى إلا مستحقا ، فالكلام عليه هو أن نقول : لو كان الأمر على ذكرته لكان يجب ألا يحسن من الله تعالى إيلام من لا يستحق الإيلام ، ومعلوم أن الأنبياء مع أنهم لا يستحقون ذلك ربما تصيبهم الآلام العظيمة.

فإن قالوا : ما أنكرتم أنهم يستحقون الألم لكبائر ارتكبوها قبل البعثة؟ قلنا : إن الأنبياء لا تجوز عليهم الكبائر لا قبل البعثة ولا بعدها.

وأيضا ، فلو كان كذلك لكان يجب إذا تاب المريض أن يبرأ ، لأن التوبة تزيل العقاب وتسقطه ، ومعلوم خلافه.

ومما يوضح ذلك فساد أصحاب النقل القائلين بأن هذه الأرواح تنتقل بهذه الهياكل وأن الإنسان متى عصى الله تعالى في قالب نقله إلى قالب آخر وعذبه فيه ، هو أنه لو كان كذلك لكان يجب أن يتذكر أحدنا ما كان يجري عليه من الأمور العظيمة ، نحو المصيبة بالوالدين ، والمصادرة بالرغائب والأموال النفيسة ، ونحو الرئاسة والقضاء والتدريس وما جرى مجراه وهو في ذلك القالب ، لأن ما ذكرناه من كمال العقل ، والمعلوم أن أحدا من الناس لا يتذكر شيئا من هذه الأحوال وهو في هذا القالب ، ففسد ما قالوه.

ومتى قالوا : إن تخلل زوال العقل يمنع من ذلك فليس الأمر على ما ظنوه ، فإن قاضي بلدة أو رئيس محلة لو جنّ مدة من الزمان ، ثم أفاق وثاب إلى عقله ورجع إليه لبه ، لتذكر أنه كان قاضي تلك البلدة أو رئيس تلك المحلة ، وهذا هو الجواب إذا قالوا إنما لا يذكر ما يجري عليه لطول المدة ، لأن طول المدة مما لا يؤثر في مثل هذه الأمور العظام. وإنما تأثيره فيما لا خطر له. فقد بطل قول أصحاب التناسخ.

ودخل فساد قول البكرية أيضا تحت هذه الجملة ، على أنهم لجهلهم أخرجوا

٣٢٨

أنفسهم من حد من يكلم ، فإن غاية ما على المرء أن ينهى الكلام بخصمه إلى ما يعلمه ضرورة ، فمن دفع المشاهدات ، وأنكر المعلومات ، وجحد الضروريات ، فلا سبيل إلى مكالمته.

ومن أقوى ما نورده على هؤلاء أن يقال : إن التكليف ابتداء ، معلوم أنه لا ينفك عن المشقة ، فكيف يحسن مع هذا ، القول بأن الألم لا يحسن إلا مستحقا؟ وهذا كما يمكن إيراده على القائلين بالنقل ، يمكن إفساد كلام البكرية أيضا به.

ثم إنه رحمه‌الله ، سأل نفسه عن كلامنا الأول من أنه لا يحسن منه الإيلام إلا للعوض والاعتبار والاستحقاق ، فقال إذا كان الله تعالى هو الذي خلقنا ، وخلق فينا الحياة والقدرة والشهوة والسمع والبصر ، فهلا جاز له أن يؤلم من دون العوض أو الاستحقاق على الحد الذي ذكرتموه؟

وهذا السؤال يمكن أن يورد على وجهين :

أحدهما ، أن يقال : إذا كان الله تعالى هو المنعم المتفضل الذي خلقنا وخلق فينا الحياة والقدرة والشهوة والمشتهى ، فإن له أن يسترد هذه النعم أو واحدة منها كما في الشاهد فإن للمعير أن يسترد العارية ، فكذلك سبيل القديم تعالى مع هذه النعم التي هي الحياة والقدرة وغيرهما لأنهما كالعواري ، وعلى هذا قالوا :

إنما الدنيا هبات وعوار مستردة

شدة بعد رخاء ورخاء بعد شدة

والثاني ، أن يقال : إنه تعالى إذا كان أنعم علينا بهذه الضروب من النعم فله أن يمتحننا بهذا القدر من الإيلام ، وصار الحال فيه كالحال في الوالد إذا أنعم على ولده بضروب من النعم ، ثم قال له مرة : ناولني الكوز ، أو اسقني الماء ، فكما أن ذلك يحسن منه فلا يجب أن يكون في مقابلته عوض ولا استحقاق ، كذلك هاهنا.

والجواب : أما الأول فلا يصح ، لأنه ليس للمنعم سلب النعمة على الإطلاق ، بل لا بد من أن يكون مشروطا بأن لا يتضمن ضرر المنعم عليه ضررا يجحف بحاله ويقع الاعتداد به ، وهكذا نقول في استرداد العارية من جهة العقل ، على أن الشرع أباح لنا استردادها وإن اغتم المستعير بردها ، وضمن له في مقابلة ما يلحقه من النعم أعواضا موفية عليه.

٣٢٩

وأما الثاني ، فلا يصح أيضا ، لأنه ليس للمنعم على غيره أن يؤلمه لمكان نعمته ، فمعلوم أن من تصدق على غيره بدرهم ، لا يجوز له أن يكلفه من بعده التكاليف الشاقة ، كأن يأخذه مثلا بتطيين سطوحه والقيام بعمارة دوره ، إلى غير ذلك ، بل للمنعم عليه أن ينكر عليه ذلك ويقول له : كان من سبيلك أن لا تتصدق علي بذلك الدرهم ، ولا تؤذيني اليوم لمكانه ، وأما حديث الوالد مع ولده ، فهو يحسن منه ما يأمره بهذا القدر لأن ذلك مما لا يقع الاعتداد به ، ولو كان من باب ما يقع الاعتداد به فإنما يسوغ له ذلك شرعا ، وقد ضمن الله تعالى للولد في مقابلته ما يوفي عليه حيث أباح للوالد ذلك.

فصل

اعلم أن من مذهب عبّاد أن الإيلام يحسن من الله تعالى دون العوض ، وتجعل الوجه في حسن ذلك الاعتبار.

والذي يدل على فساد مذهبه ، هو أن هذا الألم ، إما أن يوصله الله تعالى إلى المكلف ، أو إلى غير المكلف.

فإن أوصله إلى غير المكلف كان ظلما لأنه لا يعتبر ، ومتى قال : إن في إيلامه اعتبارا للمكلفين كان لا يخرج بذلك عن أن يكون ظلما ، لأنه ما من ظلم إلا وفيه منفعة للظالم أو لغيره. يوضح ذلك ، أن الظلم ليس بأكثر من أن لا يكون فيه للمظلوم نفع ولا دفع ضرر ولا استحقاق ولا الظن لأحد الوجهين المتقدمين ، وهذا صورة ما جوزه عباد.

وإن أوصله إلى المكلف فإنه لا يخرج أيضا عن كونه ظلما ، لأنه وإن كان يجوز أن يعتبر به ، إلا أن النفع الذي يصل إليه هو في مقابلة ما أتى به من الواجبات واجتنبه من المقبحات ، فيقع حسه الألم خلوا عما يقابله ، فيكون ظلما قبيحا تعالى الله عن ذلك.

وله في هذا الباب شبهتان اثنتان :

إحداهما ، أن أحدنا يستحق ما يستحقه ثوابا أو عوضا بفعل نفسه ، والإيلام من فعل الله تعالى ، فلا يجوز أن يستحق عوضا.

والثاني ، هو أنه لو كان يحسن من الله تعالى الإيلام للعوض لكان يحسن منا

٣٣٠

الألم للعوض ، سيما على مذهبكم أن الحسن والقبيح إنما يحسن ويقبح لوقوعه على وجه متى وقع على ذلك الوجه قبح أو حسن من أي فاعل كان.

والجواب : أما الأول ، فلا يصح ، لأن الاستحقاق ينقسم إلى : ما لا يثبت لأحدنا إلا على فعل نفسه نحو المدح والتعظيم وغير ذلك ، والثواب من هذا القبيل ، وإلى ما لا يستحقه إلا على فعل الغير ، وذلك كأروش الجنايات وقيم المتلفات ، فإن ذلك لا يستحق إلا على فعل الغير ، ولهذا فإن من فرق على غيره ثوبه يستحق عليه قيمته ، ولو مزقه على نفسه لم يستحق العوض ، نظيره في الشاهد قيم المتلفات ، ففسد ما ظنوه.

وأما الثاني ، فإنا نعارضهم أولا بالاعتبار ، فنقول : لو حسن من الله تعالى الإيلام للاعتبار لحسن منا أيضا كذلك والمعلوم خلافه ، ثم نفصل الجواب عن ذلك فنقول :

إن ما يفعله الواحد منا من الآلام إما أن يفعله بنفسه أو بغيره ، وإذا فعله بغيره فإما أن يكون مفعولا بالمكلف أو بغير المكلف. فإن فعله بنفسه فإنه يحسن للنفع ولدفع الضرر ، ألا ترى أنه يحسن تحمل المشاق طلبا للعلوم والآداب ، وكذلك فإنه يحسن منه الفصد والحجامة ونحو ذلك ، ولا وجه في حسنه إلا النفع أو دفع الضرر على ما ذكرناه قبل. ولسنا نعني بذلك أنه لا بد من حصول النفع ودفع الضرر ، فقد بينا أنه لا يفترق الحال في ذلك بين أن يكون معلوما وبين أن يكون مظنونا ، وإن فعله بغير المكلف فإنه يحسن للعوض ودفع الضرر.

فلا خلاف في هذا بين أبي علي وأبي هاشم ، وإنما الخلاف في أن حسن ذلك هل يعلم عقلا أو شرعا ، فعند أبي علي أنه يعلم شرعا ، وعند أبي هاشم أنه يعلم عقلا وهو الصحيح ، فإن الواحد منا يستحسن بكمال عقله ركوب البهائم في تعهدها ، من سقيها وتحصيل العلف عليها وغير ذلك. وبهذا أجاب أبو هاشم من سأله عن ركوب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم البهائم قبل البعثة وأنه لو لم يكن متعبد بشريعة من قبله لكان لا يستحسن ذلك ، فقال : إن ركوب البهائم لمصالحها والمنافع العائدة إليها مستحسنة عقلا ، فلا وجه لما ذكرتموه ، وإن فعله بالمكلف فإنه يحسن للنفع ودفع الضرر والاستحقاق ، ولا شك في أنه يحسن من أحدنا إيلام الغير لمكان الاستحقاق ، فإن المساء إليه يذم المسيء ويؤلمه بذمه ويحسن منه ذلك ، لا لوجه سوى الاستحقاق.

فإذن لا كلام في هذا ، وإنما الكلام في أنه هل يحسن منه إيلامه للنفع ولدفع الضرر من دون اعتبار رضاه أم لا.

٣٣١

فعند أبي علي أن ذلك لا يحسن ، وإن بلغ النفع ودفع الضرر مبلغا عظيما إلا برضاه.

وقال أبو هاشم : إن النفع ودفع الضرر إذا عظم لم يعتبر برضاه ، بل يحسن منا إيلامه لمكانه أراد المؤلم ذلك أم كرهه ، وهو الصحيح من المذهب الذي نختاره فإن أحدنا لو قال لغيره : قم من هذا المكان ولك ألوف دنانير ، ثم لم يختر هو ذلك ، فإن له أن يجبره على القيام ويقيمه ثم يدفع إليه الدنانير الألوف.

إذا ثبت هذا وتقرر ، قلنا : إن القديم تعالى لسعة جوده وكرمه ، ولعلمه بتفاصيل ما يوصله إلينا من الآلام ، وكمية ما يستحق أحدنا من الأعواض في مقابلته ، يحسن منه أن يؤلمنا من دون اعتبار رضانا بذلك ، وليس كذلك حال الواحد منا ، فإن نفسه لا تطاوعه على بذل الرغائب في مقابلة إقامة الغير من مقامه من دون أن يكون له في ذلك نفع يقابله ، أو دفع ضرر أعظم منه ، ولا يعلم بتفاصيل ما يصل إليه من أجر الآلام ، ولا كمية ما يستحقه عليه من العوض ، فلذلك افترق الحال فيما أورده بين الشاهد والغائب ، حتى لو قدرنا أن يكون الحال في أحدنا كالحال في الغائب ، لحسن منا الإيلام للعوض كما حسن من الله تعالى.

فصل

واعلم أن من مذهب أبي علي ، أن الألم يحسن من الله تعالى لمجرد العوض ، لما اعتقد أن العوض بصفة لا يجوز التفضل به ولا الابتداء بمثله.

وقال أبو هاشم : لا بد فيه من غرض آخر وهو الاعتبار ، وهو الصحيح.

والذي يدل على صحته ، هو أن العوض لا يبلغ حدا إلا ويجوز أن يتفضل به ويبدأ بمثله ، وإذا كان كذلك والقديم تعالى قادر على أن يبتدئ بالعوض من دون هذا الألم ، فالإيلام لمكانه والحال هذه يكون عبثا قبيحا ، وصار الحال فيه كالحال فيمن استأجر أجيرا ليصب الماء من نهر إلى نهر من دون أن يتعلق له بذلك غرض ثم يعطيه الأجرة ، فكما أن ذلك يقبح منه ، كذلك هاهنا.

فإن قال : إن للاستحقاق مزية ، قلنا : لو حسن من الله تعالى ذلك لمزية الاستحقاق ، لحسن منا الاستئجار على الحد الذي ذكرناه لهذه العلة ، ومعلوم خلافه ، على أن الاستحقاق إنما يكون له مزية في الشاهد ، لأن أحدنا ربما يستنكف من قبول نعمة الغير ويلحقه بذلك أنفة وغضاضة ، وهذا غير ثابت فيما بيننا وبين الله عزوجل

٣٣٢

فلا يمكن قياس أحدهما على الآخر.

فصل

في أحكام العوض وما يتصل بذلك.

وجملة ذلك أنه لما مر قطعة من الكلام في الآلام ، أردفه رحمه‌الله بالكلام في العوض.

وقبل الشروع في المسألة نذكر حقيقة العوض ، لأن من البيع أن نذكر حكم الشيء ولا ندري ما هو.

اعلم ، أن العوض كل منفعة مستحقة لا على طريق التعظيم والإجلال ، ولا يعتبر فيه الحسن وغير ذلك لكي يضطرد وينعكس ويشمل ويعم ، وصار الحال فيه كالحال فينا إذا سئلنا عن حقيقة العبادة ، فقلنا : هي النهاية والغاية في التذلل والخضوع للغير ، ولا يعتبر فيه الحسن لكي يشتمل على سائر العبادات ، عبادة الرحمن وعبادة الشيطان جميعا ، وذلك مما لا بد منه ولأن من حق الحد أن يكون جامعا مانعا لا يخرج منه ما هو منه ، ولا يدخل فيه ما ليس منه.

إذا ثبت هذا ، فاعلم أنه لا يحسن من الله تعالى أن يؤلمنا من غير اعتبار رضانا إلا إذا كان في مقابلته القدر الذي لا تختلف أحوال العقلاء في اختيار ذلك الألم لمكانه ، لأن المعلوم أن أحدنا لا يختار أن يمزق عليه ثوبه لكي يقابل بثوب مثله ، أو ما يزيد عليه زيادة متقاربة ، وإذا لم يحسن ذلك في الشاهد فكذلك في الغائب.

العوض عند أبي هاشم لا يستحق على طريق الدوام

وإذا صحت هذه الجملة ، فاعلم أن العوض لا يستحق على طريق الدوام عند أبي هاشم ، وهو الصحيح ، خلاف ما يقوله أبو علي وأبو الهذيل وقوم من البغدادية ، ويحكى عن الصاحب الكافي أيضا أنه قال : يستحق على طريق الدوام ، وحكى عن أبي علي الرجوع عنه إلى ما ذكرناه.

والذي يدل على صحته ، هو أن نظير العوض في الشاهد قيم المتلف وأروش الجنايات ، ومعلوم أن ذلك لا يستحق على طريقة الدوام ، فإن من مزق على غيره ثوبه لا يلزمه أن يعطيه كل يوم ثوبا جديدا ، وأيضا فلو كان كذلك لكان يجب أن لا يحسن في الواحد منا تحمل المشاق طلبا للأرباح والمنافع المنقطعة ، ومعلوم خلاف ذلك.

٣٣٣

فإن قيل : إن ذلك إنما يحسن من الواحد منا لأن القديم تعالى قد ضمن في مقابلته أعواضا دائمة ، قلنا : لو كان كذلك لكان يجب في من لا يعلم أن القديم تعالى قد ضمن في مقابلته أعواضا دائمة أن لا يحسن منه ذلك ، والمعلوم أن أحدنا يستحسن بكمال عقله تحمل المشاق في الأسفار طلبا لمنافع منقطعة وإن لم يخطر بباله دوام العوض ، ففسد ما ظنوه.

فإن قيل : أليس الواحد منا يرد الوديعة ويقضي الدين ويترك الظلم وإن لم يخطر بباله دوام الثواب ويحسن منه ذلك ، فهلا جاز أن يتحمل المشاق ويحسن منه ذلك ، وإن لم يخطر بباله دوام العوض؟ وجوابنا أن الفرق بين الموضعين ظاهر ، فإنك قد جعلت الوجه في حسن تحمل الواحد منا المشاق في الأسفار دوام العوض ، فقلنا : فكان يجب فيمن لم يعلم ذلك وجوز انقطاعه أنه لا يعلم حسنه ، وليس كذلك الحال في رد الوديعة وقضاء الدين ، فإن وجه وجوبه ليس هو دوام الثواب ، بل الوديعة إنما يجب ردها لكونها ردا للوديعة ، وكذلك الكلام في قضاء الدين ، فكيف يقاس أحدهما على الآخر؟

وأيضا فلو استحق العوض على طريقة الدوام ، لكان يبلغ حال اللصوص في بعض الأوقات إلى حال المثاب بحيث لا يمكن الفصل بينهما ، وذلك يقدح في حسن التكليف في الثواب ، لأنه ما من قدر من العوض إلا ويجوز التفضل به والابتداء بمثله ، فكان يجب مثله في الثواب ، وذلك يوجب قبح التكليف على ما ذكرناه. فهذه جملة ما يدل على أن العوض لا يستحق على طريقة الدوام.

شبه المخالفين

وللمخالف في هذا الباب شبه.

من جملتها ، هو أنهم قالوا : إن القول بانقطاع العوض يدخلكم في القول بدوامه على أقبح الوجوه ، لأن المعوّض إذا انقطع عن العوض يلحقه بذلك ألم وغم ويستحق بذلك الألم عوضا آخر ، والكلام في ذلك العوض كالكلام في هذا فيدوم ولا ينقطع على ما ذكرناه.

والجواب عن ذلك : ليس يجب إذا انقطع عنه العوض أن يلحقه بذلك ألم وغم لأنه يعلم القدر الذي يستحقه في العوض ، فإذا وصل ما يستحقه وزيادة لا يغتم إذا انقطع عنه ولا يتألم به ، وصار الحال فيه كالحال في الثواب ، فإن المثاب إذا رأى

٣٣٤

ثواب من فوقه في المنزلة لا يغتم ولا يلحقه بذلك حزن ، لأنه يعلم قدر ما يستحقه من الثواب ولا يتمنى الزيادة عليه ويرضى بحظه ، كذلك هاهنا. وعلى أن هذا ينبني على أنه لا يتصور انقطاع العوض إلا على حد يتألم به المعوض ، وليس كذلك ، فإن من الجائز أن يزيل الله تعالى حياة بعضهم على حد لا يتألم بذلك ، بأن يغافص حياته وينقله إلى صورة مستحسنة يسر أهل الجنة بالنظر إليه ، وإذا كان ذلك جائزا فقد فسد ما تعلقوا به.

فإن قيل : كيف يجوز ذلك ومعلوم أن ما يفعله تعالى فلا بد من أن يكون له فيه غرض ولا غرض في ذلك ، وأيضا فقد اتفقت الأمة على أن لا موت بعد الحشر ، وقد روى في ذلك الأخبار «خلود ولا موت» ، قيل له : يجوز أن يكون غرض القديم تعالى في ذلك زيادة سرور أهل الجنة وغم أهل النار ، فإن أهل الجنة إذا رأوا انقطاع عوض بعض الحيوانات وقد علموا دوام ما هم فيه من النعم ازدادوا بذلك فرحا وغبطة.

وهكذا الحال في أهل النار ، فإن الكافر إذا رأى أن بعض الحيوانات وقد أزيل حياته مغافصة ونقل إلى صورة يلتذ بها وبالنظر إليها ، وهو يعلم دوام ما هو فيه من العقاب ، يتمنى حاله ، ولهذا حمل بعض المفسرين قوله : (يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) [النبأ : ٤٠] على أن الكافر يشاهد ذلك فيتمنى تلك الحالة.

أما قولهم : لا موت بعد الحشر فكذلك ، غير أن كلامنا في التجويز ، وإذا كان ما ذكرناه من باب المجوز لم تسلم لهم الشبهة التي جعلوها دلالة في المسألة.

وبعد ، فليس يجب في العوض أن يعلم أن ما يصل إليه من المنافع أعواضا يستحقها ، بل إذا علم أنه تعالى عدل حكيم لا يبخس حقه بل يوفر عليه ما يستحقه إما في الأوقات أو دفعة واحدة أو كما يرى الصلاح فيه ، كفى ، فإذا كان هكذا ، فليس يمتنع أن يوفر الله على المعوض ما يستحقه من الأعواض في دار الدنيا وإن لم يشعر به ولا علم أنه هو الأعواض التي يستحقها عليه تعالى ، وأيضا ، فليس يجب في المعوض إذا انقطع عنه العوض أن يتألم بانقطاعه على كل حال ، سيما والقديم تعالى إنما يوفره عليه مفرقا على الأوقات على حد ينتفع به ويقع له الاعتداد بمكانه ثم يقطعه عنه على حد لا يؤثر في حاله ولا يعتد به ، إذ ليس يمتنع في النفع إذا حصل أن يقع به الاعتداد ، وأمكن به الانتفاع ، وإذا انقطع لم يقع بذلك اعتداد ، ولا كان به مبالاة ، فإن من اعتاد أكل جملة من الأطعمة الشهية كل يوم وزيادة لقمة ، فإنه متى تناول تلك اللقمة التذ الالتذاذ اللائق بها ، ولو أنه انقطعت عنه لم يعتد بها ولا أثرت ، كذلك

٣٣٥

الحال هاهنا ، على أن من الجائز أن ينقطع عنه ما يستحقه من الأعواض ويتفضل الله تعالى بمقدار ما كان يصل إليه من العوض حتى لا يتنغص عليه عيشه ، ولا تؤثر في حاله ، وليس ذلك من دوام العوض.

ومما يذكرونه في ذلك ، هو أنه لو لم يكن العوض دائما لكان لا يجوز أن يؤخره إلى الآخرة إلا لوجه ، وليس ذلك الوجه إلا لكونه لا مستحقا على طريق الدوام كالثواب.

والأصل في الجواب عن ذلك ، أن هذا ينبني على أن العوض لا بد من أن يؤخر إلى الآخرة ، ونحن لا نسلم ذلك ، بل المجوز أن يوصله الله تعالى إليه في دار الدنيا إما في وقت واحد ، أو في أوقات كثيرة ، وليس في ذلك ما يدل على دوام العوض البتة. على أن في الأعواض ما لا يمكن فيه إلا التأخير إلى الآخرة ، وهو كالعوض المستحق بالإماتة ونحوها ، فكيف يصح القول بأن تأخير العوض لا وجه له إلا استحقاقه على الدوام؟

ومما يقولونه في ذلك أيضا ، هو أن الألم لا بد من أن يثبت فيه الاعتبار والعوض جميعا ، ثم إن النفع بالاعتبار مستحق دائما ، وكذلك العوض ينبغي أن يكون دائما.

والأصل في الجواب عن ذلك ، أن هذا جمع بين أمرين من غير علة جامعة فلا يصح ذلك ، ويوضحه ، أن النفع بالاعتبار إنما يستحق لأدائه الواجبات ولاجتنابه المقبحات ، فلذلك استحقه الواحد منا على طريقة التعظيم والإجلال ، ونظير ذلك في الشاهد المدح والذم ، والمدح والذم إنما يستحقان على طريقة الدوام ، وليس كذلك العوض فإنه لا يستحق على طريقة التعظيم والإجلال ، ونظيره في الشاهدة أروش الجنايات وقيم المتلفات ، وشيء من ذلك لا يستحق على طريقة الدوام بالاتفاق.

ومما يتعلقون به في هذا الباب ، قولهم : إن العوض لو لم يستحق دائما لكان يصح توفيره على المستحق دفعة واحدة لأن كونه متناهيا منقطعا يقتضي ذلك وذلك يوجب أن يحسن من الله تعالى أن يمرض أحدنا سنة كاملة لمنافع يصح توفيرها عليه في وقت واحد ، والمعلوم أن عاقلا من العقلاء لا يختار مرض سنة لمنافع تصل إليه في وقت واحد ، وإن بلغ النفع ما بلغ.

وجوابنا على ذلك ، أن هذا لو قدح في شيء فإنما يقدح في حسن إيصال الله

٣٣٦

تعالى الأعواض إلى المعوض على هذا الحد ، ونحن لا نجوز ذلك ، بل نقول : لا بد من أن يفرقه على الأوقات ، ويوصل إليه على حد يقع له الاعتداد به ، فأما أن يجمعه جميعا ويوفره عليه دفعة واحدة فإن ذلك لا يحسن ، فمن أين يقتضي ما ذكرتموه دوام العوض.

يبين ذلك ويوضحه ، أن سبيل العوض من جهة الله تعالى ليس هو سبيل قيم المتلفات حتى تعتبر المقابلة ، بل لا بد من أن يبلغ في الكثرة حدا لا تختلف أحوال العقلاء في اختيار الألم لمكانه ، وإذا كان الأمر بهذه الصفة فما من عاقل إلا ويستحسن بكمال عقله تحمل المشاق العظيمة لتلك المنافع ، فكيف يصح ما ذكرتموه؟

شبهة الملاحدة في أصل الأعواض

وبعد ذلك شبهة تتعلق بها الملحدة في أصل الأعواض ويشنعون بها علينا.

وجملة ذلك ، هو أنهم قالوا : لو كان الأمر على ما ذكرتموه لكان يجب عوض كل معوض من جنس ما ألفه في الدنيا واعتاد الانتفاع به هاهنا ، وذلك يوجب أن يخلق الله تعالى لنا في الجنة من الأطعمة الشهية ما كنا ألفنا في دار الدنيا ، وأن يخلق للبهائم الحشائش والأتبان ، وذلك خلف من الكلام وخطل من القول ، إذ لا خطر لشيء من هذه الأشياء.

وجوابنا أن الشّنعة مما لا وجه له ، بل الواجب على العاقل أن ينظر فيعلم أن الله تعالى إذا آلمنا فلا بد من أن يضمن في مقابلته من الأعواض ما يوفى عليه ، وأن يكون له فيه غرض آخر وهو الاعتبار ، ليخرج بالعوض عن كونه ظلما ، وبالاعتبار عن كونه عبثا على ما ذكرناه في غير موضع.

ثم نقول لهم : ليس يجب في عوض كل معوض أن يكون من جنس ما ألفه واعتاد أكله والانتفاع به إذ لا وجه يوجب ، وفارق الحال في ذلك الحال في الثواب إنما يستحق بطريقة الترهيب والترغيب ولا يتصور إلا فيما يعتاد في دار الدنيا ، وليس كذلك العوض فليس يستحق بطريقة الترغيب ، وإن كان الأقرب أن يكون عوض المكلفين من جنس ما ألفوه وعوّدوا أكله على ما تقدم ، على أنه لا يمتنع أن يخلق الله تعالى للبهائم من الأتبان والحشائش ما نستحقه ، لأن قدرته تعالى أوسع من ذلك ولا إشكال في هذا ، وإن المشكل أن يقال في السباع الضارية وشهواتها متعلقة به في دار الدنيا أن يمكنها الله تعالى من افتراس بعضها لبعض ، فشهواتها مقصورة عليه ، وذلك

٣٣٧

قبيح من القول ، فالأول أن لا نسلم ، ونقول : ليس يجب في العوض أن يكون من جنس المنافع التي كانوا ألفوها وتعودوا الانتفاع بها ، فلا يمتنع أن يصرف الله تعالى شهواتها إلى منافع أخر غير ذلك. على أنه تعالى قادر على أن يخلق للسباع من اللحوم ما يغنيها عن افتراس الحيوانات وإيذائها ، فلا يصح ما قالوه بوجه ، فعلى هذا يجري الكلام في هذا الفصل.

فصل ، لما مر جملة من الكلام في الآلام الحاصلة من جهة الله تعالى ، والأعواض المستحقة في مقابلتها ، ذكر جملة من الكلام في الآلام الحاصلة من جهتنا.

وجملة القول في ذلك ، أن ما يفعله الواحد منا من الآلام لا يخلو ، إما أن يفعله بنفسه أو بغيره.

وإذا كان مفعولا بنفسه فإما أن يكون حسنا أو قبيحا ، فإن كان قبيحا ، نحو أن يقتل نفسه أو يشج رأسه أو يقطع عضوا من أعضائه ، لم يستحق عليه العوض أصلا على الله ولا على غيره ، وإن كان حسنا ، فعلى ضربين : أحدهما ما يستحق عليه العوض ، والآخر ما لا يستحق العوض ، الأول : هو كأن يشرب من الأدوية الكريهة المرة المنفرة دفعا للألم الحاصل من جهة الله تعالى ، فإنه يستحق بذلك العوض على الله تعالى لما أحوجه إليها ، والثاني : فهو كأن يتجرع الدواء الكريه ليزيد في شهوته وسمنه وما جرى مجراه ، فإنه لا يستحق بذلك العوض أصلا لا على الله ولا على غيره ، إذ لا حاجة به إليه ، هذا إذا كان مفعولا بنفسه.

وأما إذا كان مفعولا بغيره فإنه لا يخلو ، إما أن يكون قبيحا أو حسنا ، وإذا كان قبيحا فإنه يكون ظلما ، ويستحق المظلوم من الظالم العوض لما أوصله إليه من الآلام ، إما بالاغتصاب أو بقتل ولده أوشج رأسه أو غير ذلك ، ولا تعتبر فيه الزيادة ، لأنه لو زاد لخرج عن كونه ظلما وللحق بكونه إحسانا ، فإن من هزق على غيره ثوبه ليعطيه في مقابلته عشرة أثواب لم يكن بذلك ظالما إن لم يكن محسنا. وأما إذا كان حسنا فعلى ضربين : أحدهما يستحق عليه العوض ، والآخر لا يستحق ، الأول ، هو كإقامة الحد على التائب ، فإن التائب يستحق بذلك العوض على الله تعالى حيث أمر الله تعالى الإمام بإقامة الحد عليه امتحانا ، وأوجب ذلك عليه ، والثاني ، فكالحدود التي يقيمها الإمام على مستحقيها على سبيل الجزاء والنكال ، فإن ذلك إيلام حد ، ولا يستحق المؤلم في مقابلته العوض أصلا لا على الله ولا على غيره.

٣٣٨

فقد حصل من ذلك أن العوض قد ينتقل من فاعل الألم إلى غيره كما ذكرناه.

إن التائب إذا أقيم عليه الحد فإنما يستحق العوض على الله تعالى لا على الإمام مع أنه هو الذي آلمه ، ولذلك أخذنا في الوجوه الذي ينتقل بها العوض من فاعل الألم إلى غيره.

انتقال العوض من فاعل الألم إلى غيره

وجملة ذلك ، أن العوض ينتقل من فاعل الألم إلى المبيح ، والنادب ، والموجب ، والملجئ ، ولكل من ذلك مثال نذكره.

أما مثال الإباحة ، فهو كذبح البهائم ، فإن البهائم إنما تستحق العوض على الله تعالى إذا ذبحناها ، دوننا ، من حيث أنه هو المبيح لذلك.

ومثال الندب ، هو كالأضاحي فإنها تستحق العوض على الله تعالى ، دوننا ، لما كان الله تعالى هو الذي ندبنا إليه.

ومثال الإيجاب ، فهو كالهدايا ، فإنه لما كان تعالى الموجب لذبحها استحقت العوض عليه تعالى ، دوننا.

ومثال الإلجاء ، هو أن يلجئ أحدنا صاعقة أو برد حتى يعدو على زرع غيره فيفسده ، فإن صاحب الزرع يستحق العوض ، إلا أنه إنما يستحقه على الله تعالى ، دون من يعدو على زرعه ، لأن الله تعالى هو الذي ألجأه إلى العدو.

ولا يختلف الحال في هذه الوجوه بيننا وبين القديم ، فإن أحدنا لو أباح أو أوجب أو ألجأ غيره إلى إيلام الغير ، لكان العوض ينتقل إليه على الحد الذي انتقل إلى الله حين أوجب أو ألجأ ، ولهذا فإن سبعا لو ألجأ أحدنا إلى العدو على زرع الغير ، فإن صاحب الزرع إنما يستحق العوض على السبع إذ السبع هو الملجئ إلى ذلك ، وإن كنا نعتبر في الملجئ أن لا يكون ملجأ ليستحق العوض عليه ، لأنه لو كان ملجأ كان العوض على من ألجأ الأول.

فإن قيل : كيف يصح استحقاق العوض على السبع مع أنه غير كامل العقل؟ وجوابنا : إن كمال العقل غير معتبر في ذلك لأنه جار مجرى أروش الجنايات ، وفي أروش الجنايات لا يعتبر كمال العقل ، فإنك تعلم أن صبيا لو مزق على غيره ثوبه يجب أن يدفع إليه قيمة الثوب من ماله مع كونه غير كامل العقل ، فبطل ما أورده.

٣٣٩

فصل في المستحق للعوض والمستحق عليه

وجملة ذلك هو أن المستحق للعوض لا يخلو ، إما أن يكون مكلفا أو غير المستحق للعوض مكلف.

فإن كان مكلفا فلا يخلو ، إما أن يكون من أهل الثواب أو من أهل العقاب.

فإن كان من أهل الثواب فلا يخلو ، إما أن يكون مستحقا على الله تعالى ، أو يكون مستحقا على غير الله تعالى. فإن استحقه على الله تعالى. فإنه تعالى يوصله إليه ويوفره عليه بتمامه وكماله مفرقا على الأوقات ، بحيث يقع الاعتداد به ، على ما مر.

وإن استحقه على غير الله تعالى ، فإنه تعالى يأخذ من ذلك الغير العوض مكلفا كان أو غير مكلف ، ويوفره عليه بحيث لا يكون لأحد منهما كلام.

وإن كان من أهل العقاب فلا يخلو ، إما أن يستحق العوض على الله تعالى أو على غيره ، فإن استحقه على الله تعالى فإنه يوفره الله تعالى عليه إما في دار الدنيا وإما في دار الآخرة ، قبل دخول النار أو بعدها ، بحيث لا يقع له الاعتداد به ولا يلحقه بذلك سرور ولا فرح ، خلاف ما قاله أبو علي من أن بالعقاب يسقط العوض وينحبط. وإن استحقه على غير الله تعالى ، فإنه تعالى يأخذ من المستحق عليه مكلفا كان أو غير مكلف ، ويوصله إليه على الوجه الذي ذكرناه.

هذا إذا كان الكلام في المكلف ، فأما إذا كان في غير المكلف فلا يخلو ، إما أن يستحق العوض على الله تعالى أو على غيره. فإن استحقه على الله تعالى يوفر عليه بكماله وتمامه ، وإذا انقطع عوضه نقله إلى صورة يلتذ أهل الجنة بالنظر إليها على ما مر ، وإن كان الأقرب أنه تعالى يديم الفضل عليه بعد ذلك ، فقد اتفقت الأمة على أن لا موت بعد الحشر.

هذا هو القول في المستحق للعوض.

المستحق عليه العوض

وأما المستحق عليه فلا يخلو ، إما أن يكون هو الله تعالى أو غيره ، فإن كان الله تعالى فإنه يوفر على المستحق ما يستحق من عنده ، وإن كان من غيره فإنه تعالى يأخذ منه العوض ويوفره على المستحق ، سالكا في ذلك طريقة الانتصاف ، فحال القديم تعالى في هذا الباب كحال ولي الأيتام ، فكما أنه إذا وقعت منه جناية قابلها بالأرش ،

٣٤٠